القصة الرابعة: مركز البريد
القصة
الرابعة: مركز البريد
رأيت،
حين دنوت من المكان، رجلاً مسناً يرتدي معطف الجنود. كان جالساً على منحدر أمام
الفندق، فلاح لي أنه سكران، فسلمت عليه قائلاً: هل يمكنني أن أطلب من أحد السماح
لي بقضاء ليلتي هنا؟ فهتف الشيخ: ومن يمكنه السماح لك بالدخول غيري؟ أنا الآمر هنا
والناهي. إني ناظر مركز البريد، فههنا محطة تبديل الخيل والاستراحة.
–
اسمح لي إذن يا سيدي بالمبيت عندك.
–
هل لديك جواز سفر على الأقل؟ أرني أوراقك! فناولته جواز سفري. وإذا به، وكان
الجواز بيده، يأخذ بالصراخ: أين جواز سفرك؟
فأجبته:
هو معك، في يدك.
–
طيب! هيا بنا داخل البيت. ووضع نظارتيه وتأمل جواز سفري ثم قال: كل هذا، على ما
أرى نظامي، يمكنك أن تبقى هنا. أرأيت؟ أنا إنسان طيب. اسمع، سأجلب لك كأس خمر.
فأجبته: أنا لا أشرب أبداً!
–
لا بأس! ولكن تعش معنا على الأقل! وجلس للطعام مع الطباخة. وكانت امرأة فتية، قد
شربي من الخمر غير قليل أيضاً. وجلست معهما. وما توقفا أبداً، ونحن نأكل، عن
التخاصم والعتاب، وتطور هذا، آخر الأمر، إلى شجار حقيقي. وذهب الناظر لينام في بيت
المؤونة، وبقيت الطباخة تغسل الصحون والملاعق وهي تلعن رفيقها وتشتمه.
كنت
ما أزال جالساً، وأدركت أنها لن تهدأ بوقت قصير فقلت لها: أين يمكنني النم يا
أختي؟ قد نال مني التعب لطول ما سرت.
–
لحظة! سأهيئ لك فراشاً يا عم.
ووضعت
بنكاً إلى جانب البنك المثبت تحت النافذة الأمامية وفرشت عليهما حراماً من لباد مع
وسادة. فاستلقيت وأغلقت عيني متظاهراً بالنوم. وطال بعد هذا غدو الطاهية ورواحها
في القاعة، وأخيراً أنهت عملها فأطفأت الضوء واقتربت مني. وفجأة، انهارت كل
النافذة الموجودة في زاوية الواجهة بصوت مرعب: إطارها والزجاج والأصداغ تناثرت
حطاماً، وفي نفس اللحظة سمعنا في الخارج أنيناً وصراخاً وجلبة وعراكاً. فركضت
المرأة إلى وسط الغرفة لشدة هلعها وهوت على الأرض. وأما أنا فقفزت من فراشي أحسب
أن الأرض انشقت تحتي. وفجأة رأيت سائقي خيل يحملان إلى العربة رجلاً تلطخ بالدماء
حتى أن وجهه ما كان يرى لغزارة ما سال عليه من دماء، مما زاد من شعوري بالقلق. كان
الرجل حامل بريد الدولة الرسمي، وكان عليه تغيير خيله هنا. إلا أن سائق العربة لم
يوجه الخيل كما يجب أن توجه للدخول إلى الاستراحة، فخرق جدار العربة النافذة، وكان
هناك حفرة أمام العربة، فانقلبت المركبة وانجرح رأس الرسول على وتد مسنن في أسفل
المنحدر. وطلب الرسول شيئاً من الماء والكحول لغسل جرحه، ثم بلله بالعرق وشرب
كأساً منه ونادى: إلي بالأحصنة!
فاقتربت
منه وقلت له: كيف يمكنك السفر وأنت على هذه الحال؟ فأجاب: ليس أمام رسول الملك
متسع يكون فيه مريضاً. وانصرف.
جر
السائقان المرأة إلى ركن من أركان الغرفة، قرب المدفأة وغطياها بحصيرة وقال
أحدهما: إنه الخوف أفقدها الرشد.
أما
ناظر المحطة، فصب شيئاً من الخمر في كأس شربه ثم عاد إلى نومه، وبقيت أنا وحدي.
نهضت
المرأة بعد قليل وراحت تتمشى من طرف الغرفة إلى طرفها الآخر كمن يسير في أثناء
نومه، ثم خرجت من مبني مركز البريد. فصليت وغفوت قبل الفجر بقليل وقد أحسست
بالتعب.
وفي
الصباح، ودعت ناظر المحطة وسرت على الطريق رافعاً صلاتي بإيمان ورجاء وشكران نحو
أب المراحم والتعزية الذي نجاني من شر مستطير.
ومضت
على هذا الحادث ست سنوات… مررت يوماً بعدها بدير للراهبات، فدخلت كنيسته للصلاة.
واستقبلتني الرئيسة بلطف ومحبة، بعد الصلاة، وقدمت لي الشاي. وإذا بمن يخبرها
بقدوم ضيوف عابرين، فاعتذرت وذهبت لملاقاتهم وتركتني مع الراهبات اللواتي كن
مقيمات بالخدمة. وشاء فضولي أن أسأل إحداهن، وقد رأيتها تصب الشاي بتواضع: أأنت في
هذا الدير منذ زمان يا أخت؟
فأجابت:
خمس سنين. ولم أكن سليمة العقل عندما أتوا بي إلى هذا المكان، لكن الله ترأف بي.
وقد جعلتني الأم الرئيسة بقربها، أعيش معها في حجرتها، وقدمت النذور على يديها.
فسألتها: وكيف فقدت عقلك؟
–
من شدة الخوف. كنت أعمل في أحد مراكز البريد وبينما كنت نائمة، في إحدى الليالي،
حطمت أحصنة عربة البريد إحدى النوافذ، فجننت لما أصابني من رعب شديد. ولقد قادني
أهلي طوال عام إلى كثير من الأماكن المقدسة، إلا أني لم أشف إلا هنا.
فاغتبطت
داخلياً لسماعي هذه الكلمات ومجدت الله الذي يحول كل الأشياء إلى ما فيه خيرنا.