علم

القصة الثانية: قصة مأمور الاحراج



القصة الثانية: قصة مأمور الاحراج

القصة
الثانية: قصة مأمور الاحراج

سرت
هكذا زمناً طويلاً إلى أن انتهى بي التطواف إلى منطقة مقفرة لم أر فيها أية قرية
خلال ثلاثة أيام. وكنت قد أكلت كل زادي من الخبز فجعلت أتساءل قلقاً ماذا عساي
أفعل لكي لا أموت جوعاً، غير أني ما إن باشرت بالصلاة الفكرية حتى تبدد قلقي
واستسلمت لمشيئة الله فداخلني الفرح والطمأنينة.

 

كنت
أسير منذ مدة وجيزة على طريق عبر غابة كبيرة وإذا بي أبصر أمامي كلب حراسة يخرج من
بين الأشجار. ناديته فأتى وديعاً يتقبل مداعبتي، ففرحت وقلت: يا لكرم الله! لا شك
أن في الغابة قطيعاً يرتعي، وهذا هو كلب الراعي أو لعل صياداً يلاحق بعض الطرائد
في هذه الأنحاء، سوف أتمكن، في كل حال، من طلب شيء من الخبز، فها قد مضى علي يومان
دون طعام أو لعلني أسأل فيما إذا كان هناك من قرية قريبة. فدار الكلب حولي، ولما
رأى أن ليس معي ما يأكله فر إلى الغابة من نفس الدرب الذي قفز منه إلى الطريق.
فتبعته ورأيته من خلال الأشجار بعد مسافة مئتي متر قابعاً في وكر، يخرج رأسه منه
نابحاً.

مقالات ذات صلة

 

رأيت
من ظلال الأشجار قروياً يقترب، نحيفاً شاحب اللون متوسط العمر. سألني كيف توصلت
إليه فسألته عما يعمل في هذا المكان المقفر الموحش، وتبادلنا بعض الأحاديث الودية.
ثم دعاني القروي إلى دخول كوخه وقال لي أنه مأمور الاحراج، وكان عليه حراسة هذه
الغابة التي ستقطع أشجارها عما قريب. وقدم لي الخبز والملح ودار الحديث بيننا. قلت
له: أحسدك على ما أنت فيه من عزلة فلست مثلي دائم الرحلة كثير الاتصال بالناس.

 

فقال:
بوسعك، إن تشأ، أن تعيش هنا. يوجد، بالقرب منا، كوخ قديم كان يسكنه حارس قبلي. إنه
متهدم بعض الشيء، لكنه في الصيف صالح للسكن. لديك جواز سفر. ولدي من الخبز ما يكفي
شخصين، ففي كل أسبوع يؤتى إلي بشيء منه من القرية. وها قربنا الجدول الذي لا ينضب
ماؤه أبداً. لقد مضى علي عشر سنين، أيها الأخ، اقتصر مأكلي فيها على الخبز ومشربي
على الماء. ولكن في الخريف، عند انتهاء العمل في الحقول، سيأتي هنا مئتا رجل لقطع
الأشجار ولن يكون لي بعد ما أفعله هنا، ولن يسمح لك بالبقاء.

 

لما
سمعت هذا، اشتد بي الفرح إلى حد كدت معه أنطرح على قدمي محدثي. ولم أدر كيف أشكر
الله على تحننه ورحمته.

 

ها
قد توفر لي فجأة كل ما أشتهيه وكل ما شغل بالي. وما زال أمامنا أربعة أشهر حتى
منتصف الخريف، ويمكنني أن أفيد في هذا الوقت من السكون والهدوء لدراسة الصلاة
الفكرية المستديمة مستعيناً بالفيلوكاليا. ولذا قررت الإقامة في الكوخ المشار
إليه. وتابعنا حديثنا، فروى لي هذا الأخ البسيط حياته وأفكاره، قال:

 

لم
أكن آخر أهل قريتي، فقد كان لي مهنة: كنت أصبغ الأقمشة حمراء وزرقاء وكنت في سعة
من العيش ولكن ليس بدون لوم. فقد كنت أغش زبائني وأحلف في كل مناسبة، وكنت فظاً
سكيراً مشاغباً. وكان في القرية مرتل مسن عنده كتاب قديم. قديم جداً عن يوم
الدينونة {يرجح أنها إحدى عظات أفرام السرياني التي يصور فيها يوم القيامة بصورة
رهيبة مؤثرة}. وكثيراً ما كان المرتل يتردد على المؤمنين ليقرأه على مسامعهم وكان
الناس يجودون عليه ببعض المال لذلك. وكان أحياناً يجيء عندي أيضاً. كانوا يعطونه،
في غالب الأحيان. بعض الدريهمات فيقرأ حتى صياح الديك. وفي ذات مرة، كنت أشتغل
وأنا أصغي إليه: كان يقرأ مقطعاً عن عذابات الجحيم وعن قيامة الموتى وكيف سيدين
الله الناس وكيف ينفخ الملائكة في الأبواق وعما سيكون من نار وقطران وكيف يأكل
لدود الخطأة. وإذا بخوف مرعب ينتابني فجأة، فقلت محدثاً نفسي: لن أنجو من هذا
العذاب! أواه! سأبدأ بالسعي لخلاص نفسي وربما توصلت إلى التكفير عن خطاياي. ففكرت
طويلاً وعزمت على ترك مهنتي. فبعت بيتي. ولما كنت أعيش وحدي، صرت حارس أحراج لا
أطلب راتباً إلا خبزاً وغطاء ألتحف به وشمعاً أشعله عندما أصلي.

 

صار
لي أكثر من عشر سنين أعيش هنا، لا آكل إلا مرة واحدة في اليوم ولا أتناول إلا
الخبز والماء. كل ليلة، أنهض عند صياح الديك، وأركع وأسجد وأصلي حتى شروق الشمس.
وأشعل، عندما أصلي سبع شمعات أمام الأيقونات. وفي النهار، حين تجوالي في الغابة
أحمل سلاسل تزن خمسة عشر كيلوغراماً على جلدي. لست أحلف الآن ولا أشرب البيرة أو
الخمر ولا أخاصم أحداً ولا أعرف أبداً النساء أو بنات الهوى.

 

كنت
في البدء راضياً من عيشي على هذا النحو، إلا أني فيما بعد ازدحمت فيّ أفكار لم
أستطع طردها. والله يعلم إن كنت سأكفر عن خطاياي، لكن حياتي كانت صعبة شاقة. وبعد،
هل ما رواه الكتاب صحيح؟ كيف للإنسان أن يقوم من الموت؟ الذين ماتوا من مئة سنة أو
أكثر اختفى حتى ترابهم. ومن يدري: أهناك جحيم أم لا؟ وعلى كل حال، لم يعد أحد
أبداً من العالم الآخر: فحين يموت الإنسان ينتن جسده وينحل ولا يبقى له من أثر.
هذا الكتاب، ربما كتبه رجال الدين أو موظفو الدولة لإرهابنا نحن الأغبياء ولكي
نزداد لهم خضوعاً. هكذا نشقى بحياتنا على الأرض ولا تعزية لنا، وفي الحياة الثانية
لن يكون شيء! ففيم التقى إذن وفيم الزهد؟ أو ليس من الأفضل أن يصيب الإنسان شيئاً
من اللهو في هذه الحياة؟ أن يتمتع بها؟ ثم أضاف: إن هذه الأفكار تطاردني وأخشى أن
أضطر إلى العودة إلى مهنتي الأولى.

 

رثيت
للرجل وأشفقت عليه وجالت بخاطري هذه الأفكار: يزعم الناس أن العلماء وحدهم
والمثقفون يلحدون فلا يؤمنون بشيء، ولكن إخوتنا الفلاحون البسطاء، في أي كفر هم
أيضاً يتورطون! لا شك في أن قوات الظلام تطال الجميع، ولعلها تجد من السهل عليها
أن تطاول البسطاء. علينا أن نستعمل عاقلتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن نتحصن
بكلمة الله من حيل إبليس وملائكته.

 

أردت
تشديد هذا الأخ بعض الشيء وتثبيت إيمانه، فأخرجت الفيلوكاليا من كيسي وفتحتها في
الفصل التاسع بعد المئة للمغبوط ازيخيوس {(المغبوط ازيخيوس كاهن أورشليم). هو كاهن
وشارح للكتاب المقدس من القرن الخامس على الأرجح، ألف شروحات للعهد القديم والجديد
على طريقة رمزية، حاذياً في ذلك حذو أوريجنس}. فقرأت الفصل وبينت لرفيقي أن
الإنسان لا يعف عن الخطيئة لمجرد خوفه من العقاب، فالنفس لا يمكنها أن تنعتق من
الأفكار الشريرة إلا بتيقظ الروح وطهارة القلب، وإنما يكتسب ذلك كله بالصلاة
الداخلية، وأضفت قائلاً:

 


إذا سلك الإنسان طريق التقشف لا خوفاً من عذاب الجحيم الأليم بل حتى رغبة في ملكوت
السماء فهو يعمل كما يعمل الأجير، على حد تشبيه الآباء وهم يقولون: إن الخوف من
العذاب طريقة العبد والطمع في الثواب طريقة الأجير. لكن الله يريدنا أن نأتي إليه
كأبناء، يود أن تدفعنا المحبة والغيرة إلى السلوك اللائق والتمتع بالاتحاد التام
به بالروح وفي القلب {راجع كتاب (حياة موسى) لغريغوريوس النيصصي (330- 394)، ترجمة
الأب دانيلو صفحة 174. (فالكمال إنما هو حقاً في ألا نترك حياة الخطيئة خوفاً من
العقاب، على ما يفعل الأجراء ولا أن نقوم بفعل الخير رجاء بالثواب، بل… أن نخشى
شيئاً واحداً فحسب: أن نخسر محبة الله، وألا نعتبر إلا أمراً واحداً ذا قيمة
ومرغوباً فيه: أن نصير أحباء الله)}. عبثاً تنهك قواك وتفرض على نفسك أقسى إماتات
الجسد وعذاباته، فلن تكون في مأمن من أفكار السوء ما لم يكن الله دوماً في فكرك
وصلاة يسوع في قلبك، بل تكون دائماً وشيك الوقوع في الخطيئة عند أول فرصة. فباشر
أيها الأخ بترديد صلاة يسوع دون انقطاع: إنه أمر عليك سهل في عزلتك هذه، وسرعان ما
تلمس فائدة هذه الصلاة، فستتلاشى أفكار الكفر، ويتجلى أمامك الإيمان بيسوع المسيح
ومحبته، وستفهم كيف يمكن أن يقوم الموتى وتظهر لك الدينونة العتيدة على حقيقتها.
سيحل في قلبك من الروح والسرور ما سيدهشك، ولن يصيبك الملل أو القلق بسبب حياة
التوبة التي ستعيشها.

 

ثم
شرحت له ما استطعت موضحاً كيفية القيام بصلاة يسوع حسب الوصية الإلهية وتعاليم
الآباء. وبدا عليه أن هذا كان جل مراده وخف قلقه. عندها ابتعدت عنه ودخلت الكوخ
القديم الذي دلني الحارس عليه.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى