علم المسيح

الفصل السابع



الفصل السابع

الفصل
السابع

الصليب

153-”
فحينئذ أسلمه إليهم ليُصلب”

+
فحينئذ أسلمه إليهم ليُصلب. فأخذوا يسوع ومضوا به”
(يو 16: 19)

ما أن
نطق بيلاطس بهذه الجملة حتى تسارع الجنود واليهود على السواء يتصارعون في السبق
بالتشفِّي والفتك بفريستهم: الرومان بإحساس من غطرسة الجنس الروماني المتفوِّق
المتعصِّب لسيادته؛ واليهود، خاصة الرؤساء، للانتقام من الذي صغَّر نفوسهم بأعماله
الفائقة.

والملاحَظ
أن بيلاطس لم ينطق بالجملة الرسمية للصلب، ولكنه اكتفى بأن سلَّمه لهم، وكانت
محاولة منه لاختزال الإجراءات الخاصة بهذه القضية التي أثارت أحاسيسه وخيَّبت
آماله في إقامة العدل. إذ كما يفيدنا ق. متى: “فلمَّا رأى بيلاطس أنه لا ينفع
شيئاً، بل بالحري يحدث شغبٌ، أخذ ماءً وغسل يديه قدَّام الجمع قائلاً: إني بريء
من دم هذا البار. أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا.

(مت 27: 24و25)

ويُلاحَظ
أيضاً أن الإنجيل لم يقل إن بيلاطس: “أسلمه إليهم ليصلبوه” كما يعطيهم
حق الصلب، بل جعل النطق مبنياً للمجهول، إذ قال: “ليُصلب”. وهذه هي
الإشارة التي قيلت في سفر الأعمال: “وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه” (أع
23: 2). وذلك يعني: بأيدي الأُمم، بمعنى أنهم هم المسئولون عن صلبه، ولكن تمموا
الصلب بواسطة الأُمم. ويقول ق. مرقس: “وبعدما استهزأوا به، نزعوا عنه
الأرجوان (الثوب الأحمر) وألبسوه ثيابه، ثم خرجوا به ليصلبوه.” (مر 20: 15)

154- طريق
الآلام:
VIA DOLOROSA

+
فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يُقال له: “موضع الجمجمة”
(باليونانية “كرانيون”) ويُقال له بالعبرانية: “جلجثة”
(وباللاتينية: “
Calvaria“).”
(يو 17: 19)

“خرج”
هنا لها رنين نبوي، فهو خروج خارج أُورشليم التي توازي خارج المحلة، حيث تُحرق
ذبيحة الكفَّارة!! وهو الاصطلاح الذي تكلَّم به موسى وإيليا مع المسيح في رؤيا
التجلِّي: “وتكلَّما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمِّله في
أورشليم” (لو 31: 9). أمَّا حمله الصليب، فهو الموازي في أعمال النبوَّة لحمل
إسحق حطب المحرقة، لذلك يصر إنجيل ق. يوحنا أن المسيح حمل الصليب: “فخرج وهو
حامل صليبه” (يو 17: 19). ولكن التقليد يقول: إنه سقط تحت الصليب مما جعل
الجند يسخِّرون إنساناً كان آتياً من الحقل أعطى القديس مرقس اسمه وهو: سمعان
القيرواني، وكان ق. مرقس يعرفه فقال: إنه أبو ألكسندرس وروفس. ويبدو أنهما صديقان
للقديس مرقس، والعائلة كلها من القيروان وعلى قرابة، بل ويُقال إنه كان يسكن في
بيت مرقس. ويؤكِّد العلماء أن سمعان هذا هو المصدر الذي أخذ عنه الإنجيليون قصة
الصليب بدقائقها، ولكن الذي نعتقده أن ق. مرقس نفسه هو الذي تتبع المسيح من العلية
إلى المحاكمة في السنهدرين، لأنه كان معروفاً أيضاً عند رئيس الكهنة، وهو الذي قام
بترجمة الحوار بين بيلاطس والمسيح ورؤساء الكهنة، لأنه الوحيد في التلاميذ الذي
كان يتقن اللاتينية.

أمَّا
طريق الآلام
VIA DOLOROSA، فهو
الطريق الذي سار فيه المسيح وهو حامل الصليب، ويقول التقليد إنه لم يستطع حمله
إلاَّ إلى باب المدينة، إذ يقول ق. متى ما يفيد أن المسيح حمله حتى باب المدينة
فقط: “وفيما هم خارجون وجدوا إنساناً قيروانياً اسمه سمعان، فسخَّروه
ليحمل صليبه” (مت 32: 27). ويُقال إن المسيح سقط به ثلاث مرات على هذا الطريق
الضيِّق الممتد من قلعة أنطونيا عبر الطريق المرتفع الذي يُقال له: جباثا أي
البلاط إلى خارج المدينة، وكان مقرَّراً أن يعبر في كل الطرق المهمة في المدينة(
[1])، حيث قابلته النسوة بالنواح
واللطم، فرد عليهن المسيح: “يا بنات أُورشليم، لا تبكين عليَّ بل ابكين على
أنفسكن..” (لو 28: 23). علماً بأن القانون اليهودي كان يمنع البكاء وتشييع
المجرمين للقتل(
[2]).وهكذا وهو في
منتهى ضعفه احتفظ بمستواه الإلهي الملكي، فليس هو الذي يُبْكَى عليه.

وحتى
بعد أن أخذوا الصليب عن كاهله، يبدو من كلمة قالها ق. مرقس (مر 22: 15) إنه لم
يقدر على السير من شدة ضعفه وآلامه، “فحملوه
fšrousin aÙtÒn([3]) التي تُرجمت: ” جاءوا
به”،
وهي نفس الكلمة التي تُرجمت: “حَمَل”، وليس: “جاء
به” كما في الآية الخاصة بالمفلوج: “وإذا برجال يحملون
fšrontej على
فراش إنساناً مفلوجاً.” (لو 18: 5)

ولا يزال هذا الطريق أحد المزارات العالمية، والذي يُقام
فيه مسيرة يوم الجمعة الكبيرة من كل سنة تذكاراً لمسيرة المسيح فيه، وتقف المسيرة
في أربع عشرة نقطة، بعضها مأخوذ اسمه من الكتاب المقدَّس، والآخر من التقليد.
وينتهي طريق الآلام الآن عند كنيسة القبر المقدَّس، حيث تُقام صلاة احتفالية كبرى
بواسطة الفرنسيسكان (انظر
الصورة في كتاب شرح إنجيل ق. يوحنا ج 2 صفحة 1197).

وكان المكان الذي صلبوه فيه أي الجلجثة قريباً من باب
المدينة (يو 20: 19).

 

155-” حيث صلبوه، وصلبوا اثنين آخرين معه من هنا ومن هنا”

§ [الصليب أكثر
العقوبات ترويعاً وقسوة في وسائل قتل الإنسان نقمة على الإنسان.]
شيشرون

§ [إنه موت
الازدراء.]

تاسيتوس

وقد
خرج وراء الموكب رؤساء الكهنة وسط رعاع الشعب. ولم يوجد من تلاميذه ولا واحد إلاَّ
ق. يوحنا يرقبه من بعيد وهو حامل صليبه. ولم يكمِّل المسيرة معه حتى الجلجثة، لذلك
سجَّل فقط أنه رأى المسيح حاملاً الصليب، أي قبل أن يسخِّروا سمعان القيرواني لحمل
الصليب. كذلك فإن منظر تقديم الخل والمر للمسيح قبل الصليب، لم يذكره ق. يوحنا،
لأنه ذهب ليحكي للقديسة مريم القصة كلها، ورافقها عائداً إلى الجلجثة وكان قد
انفضَّ من حوله الجماعات التي رافقته في المسيرة. وكان مع مريم العذراء بقية
النسوة الآتيات من الجليل وراء المسيح، فتركها ق. يوحنا بعيداً وذهب ووقف بجوار
الصليب.

أمَّا
موضع الجلجثة، فهو المكان الذي اكتُشف بواسطة الملك قسطنطين في مكانه المعروف الآن
الذي بُني فوقه كنيسة. ويقص ذلك المؤرِّخ جيبون المشهور(
[4]). وهذه الكلمة
“جلجثة”، هي ترجمة عبرية لكلمة جمجمة. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم في
شرح إنجيل ق. يوحنا (عظة 84): إنها المكان المتوارث حيث دُفن آدم، لكي يمتلك
الحياة عِوَض الموت.

وكان
من عادة المحكمة الرومانية(
[5]) أن المتهم الذي يُحكم عليه
بالصلب يخرج، بينما تتقدَّمه لوحة يحملونها أمامه مكتوب عليها اسمه، وسبب الصلب.
فانتهز بيلاطس هذه الفرصة لينتقم من اليهود بأن كتب على اللوحة: “يسوع
الناصري ملك اليهود” وبالثلاث لغات: العبرانية، واليونانية، واللاتينية.
فلمَّا رآها رؤساء الكهنة، ذهبوا ليعاتبوا بيلاطس على أساس أنه هو الذي قال هذا
وليس هم. فردَّ عليهم بجفاء: “ما كتبت قد كتبت.” (يو 22: 19)

والمسيح
لم يذهب إلى الجلجثة وحده، بل رافقه في المسيرة اثنان من اللصوص. ويقول العالم
ليتفوت(
[6]): إن ذلك كان إغاظة لليهود،
لأن القانون اليهودي كان لا يسمح بالصلب إلاَّ لواحد فقط في اليوم.

وتبعه جمهور كثير من الشعب،
والنساء اللواتي كُنَّ يلطمن أيضاً وينحن عليه” (لو 27: 23). وعلى العموم لم
يجد من يعزيه أو يرثى لحاله.

+
“العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة فلم تكن، ومعزِّين فلم أجد.” (مز
20: 69)

+
“وكان المجتازون يجدِّفون عليه وهم يهزُّون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل
وبانيه في ثلاثة أيام، خلِّص نفسك! إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب! وكذلك رؤساء
الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلَّص آخرين وأمَّا نفسه فما
يقدر أن يخلِّصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! قد اتكل
على الله، فلينقذه الآن إن أراده! لأنه قال:
أنا ابن الله!” (مت 27: 39
43)

وكانت
عملية الصلب عملية مروعة. وكان الصالبون وهم عسكر الرومان، يوزِّعون ملابس المحكوم
عليهم قبل الصليب. وفي توزيع ملابس المسيح، كان هناك ثوب ثمين منسوجٌ قطعة واحدة،
هذا ألقوا عليه القرعة فيما بينهم. ويقول ق. إيسيذوروس الفرمي: إن القديسة مريم هي
التي نسجته له بيديها (الرسالة 74: 1)، وكذلك ذهبي الفم (شرحه لإنجيل ق. يوحنا عظة
84).

وكان
الصلب يتم بربط الجسد بحبال، ثم دق المسامير بعد ذلك لتثبيت الجسد على الصليب ولكي
يساعد النزيف على استنزاف الحياة أيضاً. وكان من المعتاد تقديم مشروب مخدِّر
للمصلوب حتى يزيل بعضاً من آلامه، وذلك بواسطة بعض النساء من الشعب. ولكن المسيح
لمَّا ذاقه رفض أن يشرب ليستقبل الآلام بكامل وعيه: “أعطوا مُسكراً لهالك
وخمراً لمرِّي النفس. يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد” (أم 31: 6و7). وهذا
ما تمَّ بالفعل، ففي كامل وعيه صلِّي لغفران أعمال صالبيه، وتكلم مع ق. يوحنا ومع
أُمه العذراء القديسة، واستودع روحه بالصلاة.

وكانوا
قد علَّقوا فوق رأسه اللوحة التي حملها والمكتوب عليها: يسوع الناصري ملك اليهود،
بالثلاث لغات: العبرانية واليونانية واللاتينية.

ويقول
ق. مرقس وق. متى: إنهم صلبوا معه لصين واحداً عن يمينه وواحداً عن يساره، لكي يتم
القول بإشعياء النبي: “وأُحصي مع أثمة” (إش 12: 53). ويختص ق. لوقا
بتسجيل الحديث الذي دار بينهما، والمتكلِّم هو اللص التائب يرد على الآخر الذي كان
يعيِّر المسيح كالباقين: “أَوَلاَ أنت تخاف الله” (لو 40: 23)، ثم عاد
يوجِّه الكلام للمسيح: “اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك” (لو 42: 23)،
وهو النشيد الذي تردِّده الكنيسة طوال يوم الجمعة الحزينة، (واسم اللص في التقليد
ديماس اللص). فما كان من المسيح إلاَّ أن ردَّ عليه: “الحق أقول لك: إنك
اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 43: 23)، مما يكشف لنا ضمناً أن بالصليب
افتتح المسيح باب الفردوس الذي كان قد أُغلق منذ آدم، وكان أول مَنْ دخل هو ديماس
اللص التائب.

وفي
تقليد ق. لوقا كان نُطْق المسيح هذا هو النطق الثاني بعد: “يا أبتاه، اغفر
لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.” (لو 34: 23)

[“ إلهي إلهي لماذا تركتني..،

كل
الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه،

وينغضون
الرأس، قائلين: اتكل على الرب فلينجِّه

لينقذه
لأنه سُرَّ به..،

كالماء انسكبتُ. انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع،

قد
ذاب في وسط أمعائي، يبست مثل شقفة قوتي

ولصَقَ
لساني بحنكي..،

جماعة
من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يديَّ ورجليَّ،

أحصي
كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرَّسون فيَّ،

يقسمون
ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون”] (مز
22: 118)

 

156-”
وكانت واقفات عند صليب يسوع،

أُمه، وأخت
أُمه، (و) مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية”

هؤلاء
كُنَّ واقفات من بعيد، ولكن بعد أن خفَّت الجمهرة من الشعب والجنود ورؤساء الكهنة
والرعاع المأجورين للهتافات، وتفرَّق رؤساء الكهنة لأن الساعة التاسعة من النهار
كانت من أحرج الساعات التي يتحتَّم أن يكونوا فيها في الهيكل يؤدون وظائفهم
بالصلوات وذبح خراف الفصح وإعدادها. فلمَّا ابتعد كل هؤلاء، اقتربن من الصليب،
ووقف ق. يوحنا معهن يحرسهن. وكانت المجموعة تضم أقرب المقرَّبين من المسيح: أولاً
مريم أُمه القديسة وأختها، ثم مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية. هذا التقسيم أخذ
به العالم وستكوت(
[7]). وكانت هناك نساء أُخريات
كثيرات جئن معه سائرات على أقدامهن من الجليل. على أن أم ابني زبدي، وهي سالومة،
تمتّ بقرابة كثيرة لمريم العذراء، ويُعتقد أنها أختها الوحيدة. والأمر المحيِّر
للعلماء هو مجيء اسم مريم المجدلية مفاجأة باعتبارها شخصية معروفة دون ذكر أي
إشارة عنها قبل ذلك في الأناجيل.

+” فلمَّا رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه
واقفاً، قال لأُمه: يا امرأة، هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أُمك. ومن تلك
الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته”
(يو 19: 26و27)

وقفت
العذراء تنظر إلى ابنها، وكما قال لها سمعان الشيخ بالنبوَّة: “وأنتِ أيضاً
يجوز في نفسكِ سيف” (لو 35: 2). وها قد جاء ميعاد هذا السيف، إذ وقفت أمام
الصليب مصلوبة تشخص نحو ابنها وقلبها يتقطَّع حزناً وألماً لا يُطاق وأشد أنواع
الحزن هو الذي لا يكون له عزاء. وإن كان المسيح قد سبق ووعَّاها تماماً بكل ما
سيجوزه، لذلك وقفت صامتة. وقد حرص ق. يوحنا أن لا تحضر مريم القديسة إلاَّ في آخر
مشاهد الصليب لتسمع كلمة الوداع، وكان القديس يوحنا هو التلميذ الوحيد الذي رآه
المسيح تحت الصليب.

وقول
المسيح لأُمه: يا امرأة هوذا ابنكِ، على يوحنا التلميذ الذي كان يحبه، هو الدليل
القاطع والنهائي أنه لم يكن للعذراء أبناء إلاَّ المسيح. على أن القديسة مريم هي
الصلة القائمة والدائمة بالجسد بالآباء والأنبياء والسماء أيضاً. فكان تسليم
القديسة مريم إلى ق. يوحنا لتكون أُمه فكأنما يسلِّمه ميراث العهد القديم بآبائه
وأنبيائه وقديسيه لتكون أُمَّا ليوحنا والكنيسة كلها، ليكون ميراث العهد القديم
كله لنا كالعذراء للمسيح، صلة حيَّة ثابتة دائمة كميراث وتراث. لذلك يُحسب تسليم
المسيح أُمه ليوحنا وكأنه ومضة نور ربطت العهدين.

ولقد
أسرع بعدها ق. يوحنا بأخذ مريم من أمام الصليب لكي لا تشاهد الساعة الأخيرة.

157-
النهاية: ” قد أُكمل”

§ [الله يسألني أن
أقبل قضاء الله علىَّ في موت المسيح، وأن أحيا بنعمته في قيامته.]
([8])

+”
ويكون في ذلك اليوم، يقول السيد الرب: إني أغيِّب الشمس في الظهر وأقتم الأرض
في يوم نور”
(عا 9: 8)

+”
إذ نحسب هذا: أنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذاً ماتوا. وهو مات
لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام”
(2كو
5: 14و15)

+” لكي يذوق
بنعمة الله الموت لأجل كل واحد”
(عب 9: 2)

الآن
بلغت الساعة السادسة نصف النهار.

الظلام
وسط النهار:

لم يكن خسوفاً، فالقمر في أكثر استدارته، ولكن انحجب النور
بسبب ستار كثيف من الظلمة التي بقيت ثلاث ساعات. تصادف أن بدأ ذلك بعد أن صرخ
المسيح بصوت عظيم: “إلهي إلهي لماذا تركتني” فالظلمة كانت في هذا
الميعاد مقصودة روحياً للتعبير عن مأساة موجعة اقترفها إنسان الأرض في حق السماء،
وكأن الطبيعة تبكي سيدها، والشمس أخفت أشعتها بسبب ظلم الإنسان الذي فقد رؤية
النور. والأناجيل سجَّلتها دون تعليق، ولكن بطولها ولمدى ثلاث ساعات: “وكان
نحو الساعة السادسة، فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة. وأظْلَمَتْ
الشمس” (لو 23: 44و45). ونداء المسيح: “إلهي إلهي لماذا تركتني”
كان أيضاً لانحجاب وجه الآب عن المسيح لتكميل غضب الله على المسيح حامل خطايا
البشرية بصفته الإنسان المذنب المستحق العقوبة وهو يجوزها. فلم تكن تمثيلية
سمائية، بل كان تحقيق غضب وهجران وتأديب لتكميل عقوبة تمهيداً لوقفها. ولولا
انحجاب وجه الآب وتركه للمسيح المصلوب ما استطاع أن يموت، لأن الصلة بالآب تمنع
جواز الموت على الابن بأي حال من الأحوال. فالموت على الصليب، كان حسب مشيئة الله،
وقد ابتدأ من فوق وليس من الأرض: “أمَّا الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن، إن
جعل نفسه ذبيحة إثم” (إش 10: 53)، أمَّا هو فقد “سكب للموت نفسه”
(إش 12: 53) لتكميل مشيئة الآب، لأنه “حمل خطايا كثيرين” (إش 12: 53).
“فالمسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا.” (غل 13: 3)

انشقاق
الحجاب الحاجز بين قدس الأقداس والقدس:

وانشق حجاب الهيكل” (لو
45: 23)، وهو الحجاب الذي يفصل قدس الأقداس حيث يدخل رئيس الكهنة مرَّة واحدة في
السنة ليقدِّم دم ذبيحة الكفَّارة. هذا انشق بدون يد من أعلى إلى أسفل. وكان معناه
ظاهراً أن الله قد أصبح بلا قيد لجميع الناس. لأن الحجاب كان يرمز إلى الخطية
كفاصل بين الله والناس، والخطية رُفعت بالعقوبة على الصليب والموت. وقد شرحها
بغاية الوضوح سفر العبرانيين هكذا:

+
“فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرَّسه لنا
حديثاً حيًّا، بالحجاب، أي جسده.. لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان.” (عب
10: 19و20و22)

وحسب
إنجيل ق. متى: “الأرض تزلزلت، والصخور تشقَّقت، والقبور تفتَّحت، وقام كثير
من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة
المقدَّسة، وظهروا لكثيرين.” (مت 27: 5153)

وبعد
صرخته أحس بالعطش الشديد، فهو النزع الأخير. ولمَّا قال أنا عطشان، رفع الجندي قصبة في طرفها اسفنجة مشبَّعة
بشراب البوسكار وهو
خمر حامض؛
ولكن المسيح لمَّا أخذ الخل، قال: قد أُكمل، ونكَّس رأسه وأسلم الروح.

فقد
أُكملت العقوبة، وبها أُكمل الفداء!! فالذي لم يجد لرأسه راحة كل أيام حياته،
أراحها على الصليب. ومات ودخل إلى راحته الكبرى!

158- شهادة
قائد المائة

+”
ولمَّا رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح، قال: حقا كان
هذا الإنسان ابن الله!”
(مر 39: 15)

وكانت
الساعة قد صارت قرب الغروب الساعة الثالثة بعد الظهر. فلكي لا تبقى الأجساد على
الخشبة، كانت عادة الرومان أن يكسروا سيقان المحكوم عليهم لينهوا على البقية من
حياتهم. فكسروا ساقيْ اللص الأول والثاني، ولمَّا جاءوا إلى المسيح وجدوه قد فارق
الحياة، ولكي يستوثقوا من موته أخذ أحد الجنود- واسمه في التقليد لونجينوس- الحربة
وطعنه في جنبه اليمين، وللدهشة خرج من جنبه دم وماء. وقد سجَّل هذه الحادثة ق.
يوحنا في إنجيله، وكانت غير مفهومة عنده، ولكن
أراد أن يؤكِّدها، فقال: إنه شاهدها بنفسه. ويُقال إنها طبيًّا تحكي عن انفجار حدث
في
القلب وتكوَّنت منه كميات كبيرة من الدم والماء خرجت عندما نفذت الحربة
في الكيس المغلِّف للقلب(
[9]).

159- يوسف
الرامي وإنزال الجسد

كان
يوسف الرامي من أعضاء السنهدرين، وكان “مشيراً” رجلاً صالحاً باراً.
وكان ينتظر تعزية إسرائيل واستعلان الملكوت. وكان من الرامة في الجليل، ويقول ق.
يوحنا إنه كان تلميذاً ليسوع. وكان غير راضٍ عن أعمال السنهدرين بمعنى رفض إدانة
المسيح وصلبه. هذا انتهز الفرصة وتقدَّم إلى بيلاطس يطلب جسد يسوع ليقوم بواجب
دفنه، فأعطاه التصريح بذلك. ولكن بيلاطس تعجَّب، إذ كيف مات بهذه السرعة! ولكنه
استفسر من قائد المئة فعرف الحقيقة. وكان يوسف قد اشترى كتَّاناً، ويقول ق. يوحنا
إنه قد جاء معه نيقوديموس أيضاً؛ وهو عضو السنهدرين، وهذا جاء ومعه مزيج مر وعود نحو مائة مَناً. فأخذا جسد يسوع
ولفَّاه بأكفان مع الأطياب كما لليهود عادة أن
يُكفِّنوا.

وكان
في الموضع الذي صُلب فيه بستان، هو ملك ليوسف الرامي، وقد حفر لنفسه فيه قبراً
جديداً لم يوضع فيه أحد- فهناك وضعا جسد يسوع لسبب الاستعداد لأن القبر كان
قريباً. وكانت تتبعهم نساء ونظرن القبر وكيف وُضِع الجسد.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى