اللاهوت الدفاعي

الفصل الحادي والعشرون



الفصل الحادي والعشرون

الفصل
الحادي والعشرون

تطوّر
الفكر البولسي
من أولى
تسالونيكي إلى رسائل الأسر

تتضمّن
المجموعة البولسية أربع عشر رسالة إذا حسبنا معها الرسالة إلى العبرانيين، هذه
الرسالة التي كان لها دومًا وضع خاص منذ زمن آباء الكنيسة الذين لم يعتادوا على
طرح أسئلة ترتبط بصحة نسبة الرسالة إلى رسول من الرسل. في الغرب، تأخّرت في الدخول
إلى قانون (لائحة) الكتب المسيحيّة. مثلاً، لم تجد لها مكانًا في لائحة (قانون
موراتوري)(1) الذي هو وثيقة رومانيّة يعود زمنها إلى نهاية القرن الثاني، على ما
يقول البحّاثة بشكل عام. وفي الشرق الذي لم يشكّ يومًا بقانونيّتها، فإنّ كتّابًا
مثل أوريجانس ارتابوا منذ القرن الثالث بأن يكون بولس هو كاتبها.

أما
الرسائل الثلاث عشرة الأخرى، فلم يُطرح سؤال حولها قبل العصور الحديثة. لم يُطرح
سؤال حول قانونيّتها التي اعترف بها الجميع، بل حول صحّة نسبتها البولسيّة. هناك
سبع رسائل يعتبرها الشرّاح اليوم بشكل عام من عمل بولس وهي: روم، 1و2 كور، غل، فل،
1تس، فلم. وهناك ثلاث لا يقرّ الشرّاح بشكل عام بنسبتها إلى بولس وهي: أف، 1تم،
تي. وما زال الجدال قائمًا بالنسبة إلى كو، 2تس، 2تم(2) وصحّة نسبتها إلى بولس.
أما في ما يخصّني، وبالنسبة إلى الاسئلة التي نهتمّ بها هنا، فإني أعتبر أن كو هي
من تأليف بولس، وأن أف هي عمل تلميذ استعاد أفكار كو الرئيسيّة وقدّمها إلى عدّة
كنائس مسيحيّة آتية من العالم الوثنيّ.

ومهما
تكن الآراء حول صحّة نسبة هذه الرسائل إلى بولس، فهناك أمر أكيد يشكّل ظاهرة فريدة
في مجموعة العهد الجديد، وهو أن تدوين الرسائل، امتدّ على خمس عشرة سنة، أي منذ
سنة 50 حتى موت بولس الذي حصل سنة 64 أو 67. إذن، نستطيع أن نكتشف تطوّرًا في
الأفكار التي عبّرت عنها هذه الرسائل.

 

1
– أسباب هذا التطوّر

ما
هي أسباب هذا التطوّر؟ هي ثلاثة على الأقلّ.

الأول
وهو الذي يرد حالاً إلى الفكر، هو تطوّر شخصيّ لدى الرسول. إذا كان بولس وُلد
حوالي سنة 6 ب م، وهو رأي تأخذ به شريحة واسعة من الشرّاح وإن لم تكن لنا إشارة
دقيقة لكي نحدّد تاريخ ولادته، فقد كان عمره 35 سنة حين دوّن 1تس. ومات وهو في
الستين من عمره. إذن، نجعل مجمل رسائله داخل زمن نضوجه. ولكن كانت حياته متحرّكة
مضطربة. وهذا أقلّ ما يمكن أن يقال فيها. فأسفاره وصعوباته في عمل التبشير،
وصراعاته مع تيّارات أخرى في المسيحيّة الأولى لعبت بلا شك دورًا كبيرًا في تطوّر
بولس. إذا كان كل فكر بشريّ عرضة للنموّ والتطوّر، فبالاحرى فكر بولس الذي كان
يغلي غليانًا.

غير
أن التطوّر الشخصيّ لم يكن العامل الوحيد. فيجب أيضًا أن نأخذ في عين الاعتبار
أوضاعًا جديدة تعرّض لها الرسول. نفكّر هنا في فشله أكثر من مرّة، فنشير مرارًا
إلى فشل أثينة، الذي لا يجب أن نضخّمه، في رأيي(3). نفكّر بالاحرى بالمعارضة التي
لاقاها في الكنائس التي أسَّسها، وحيث قاوم مبشّرون آخرون مضمون شهادته: كنائس
غلاطية. وخصوصًا كنيسة كورنتوس التي نعرفها بشكل أفضل(4). ونفكّر أيضًا في أن
الرسول بشَّر، انطلاقًا من رحلته الرسولية الثانية، مدنًا لا جماعة يهوديّة فيها.
وهكذا وُلدت بفضله، وبشكل تدريجيّ، كنائسُ مسيحيّة جاءت كلها من العالم الوثني.
مثلاً، كنائس غلاطية. هذا ما قاده إلى اتّخاد المواقف التي نعرفها تجاه الختان
وسائر الممارسات اليهودية، وإلى اجتذاب حذر الكنيسة الأم في أورشليم. وحين دوّن
الفصول الأخيرة من الرسالة إلى رومة، خاف أن لا تُقبل التبرّعات التي جمعها لها،
فيُجبر على العودة أدراجه مع ماله (روم 15: 30-31). لو حصل هذا لكان نال الإهانةَ
العظمى.

والسبب
الثالث والأخير في تطوّر الفكر البولسي هو أن العلاقات التي أقامها مع كنائس بعث
إليها برسائله، اتّخذت بشكل تدريجي وجهًا جديدًا. فرسائل بولس الأولى توجّهت إلى
جماعات أسّسها هو نفسه: تسالونيكي، كورنتوس، غلاطية. وتبدّل الوضع بعد الرسالة إلى
رومة: فبولس ما ذهب بعدُ إليها. كتب إلى أشخاص لا يعرف وجوههم، ولم تكن له معهم
علاقة شخصيّة. وكان الوضع مماثلاً في كولسي، التي هي مدينة صغيرة بشّرها ابفراس
(كو 1: 7؛ 4: 12)، فما زارها بولس يومًا (كو 2: 1). تضمّن هذا الوضعُ الجديد
أسلوبًا آخر في العلاقات الرسائليّة، وعملَ، بشكل لا يستهان به، على تبديل في
التعبير عن فكر الرسول.

سنحاول
أن نتتبّع تطوّر الفكر البولسي، فنسير عبر الرسائل حسب التسلسل الزمنيّ لتدوينها
(بقدر معرفتنا): نبدأ مع 1تس فنصل إلى كو. ونتوقّف عند موضوعين يتواتران في قلمه:
الاسكاتولوجيا أو نهاية الأزمنة، والمعمودية.

 

2
– تطوّر الاسكاتولوجيا البولسيّة

في
ما يتعلّق بالاسكاتولوجيا، أو ما يرتبط بنهاية الأزمنة، تشكّل 1تس أفضل نقطة
انطلاق. فهذه الرسالة التي هي أول ما كتبه بولس، وأول ما كُتب في العهد الجديد
كله، توخّت بشكل جزئيّ أن تجيب على قلق القرّاء في ما يخصّ موتاهم. نالوا انجيل
قيامة يسوع، فاستخرجوا من هذه القيامة، على ما يبدو، نتائج غير مناسبة لهم،
فاعتبروا أنهم أعدّوا للدخول في رفقة الربّ يسوع دون أن يمرّوا في الموت. ولكن، ما
إن مرّ وقت قصير على انطلاق بولس من تسالونيكي، حتّى اختبروا أن بعضًا منهم مات.
ما رأي بولس في ذلك؟ هل يُستبعد هؤلاء الموتى من القيامة؟ أما ينالهم خسران وإجحاف
بالنسبة إلى الأحياء ساعة مجيء يسوع في المجد، وهو مجيء اعتبره التسالونيكيون
قريبًا في الزمن، شأنهم شأن أكثريّة المسيحيين في الجيل الأول؟

خصّص
بولس لهذه المسألة مقطعًا قصيرًا من الرسالة. نحاول أن نقدّم عنه ترجمة حرفيّة
(1تس 4: 13-18):

(13)
ثم لا نريد، أيها الأخوة، أن تجهلوا من جهة الراقدين. لكي لا تحزنوا كالباقين
الذين لا رجاء لهم.

(14)
لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك أيضًا الراقدون، بيسوع سيقودهم الله معه
(= مع يسوع).

(15)
فنقول لكم هذا، في كلمة الربّ، نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الربّ، لا نسبق أبدًا
الراقدين.

(16)
لأن الرب نفسه، بهتاف، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، سوف ينزل من السماء، والموتى
في المسيح سيقومون أولاً.

(17)
ثم نحن الأحياء الباقين، سنُخطف جميعًا معهم في السُحب لملاقاة الرب في الهواء.
وهكذا نكون كل حين مع الربّ.

(18)
لذلك، عزّوا بعضكم بعضًا بهذه الكلمات.

لن
نحلّل النصّ بالتفصيل. ومع ذلك، نودّ أن نلاحظ عدّة نقاط تُبرز التعليمَ الذي
وجّهه بولس إلى قرّائه، ونبدأ فنتوقّف عند البنية الأدبيّة. في حديث سابق، أشرنا
إلى أن بولس استعمل بعض المرات البلاغة الساميّة، وهذا ما قاده إلى أن يجعل
التوازيات تتلاعب في نصّه. ونجد هنا بعض التوازيات الواضحة. فعبارة (نحن الأحياء
الباقين) تعود مرتين (آ 15 وآ 17) فتدلّ في آية مركزيّة (آ 16) على مرمى الجواب
الذي وجّهه بولس إلى التسالونيكيين القلقين على موتاهم: إن أحداث النهاية ستنطبع
بنزول الرب الذي يأتي ليطلب البشر. وهذا يبدأ بقيامة الموتى. ولا يُعنى النصّ
بالاحياء إلاّ في زمن ثان. ثم يصعد الجميع إلى السماء، تحملهم السحب. سواء كانوا
أمواتًا، أو كانوا أحياء. وبعبارة أخرى، لن يُغبَن الموتى. تلك هي الطريقة التي
بها يُطمئن بولس قرّاءه. لهذا يستعمل، في كلامه عن الموت، صورة كلاسيكيّة هي صورة
الرقاد(5). استعمل مرّة واحدة في كلامه عن الموتى لفظ (مائت)(6)، في آ 17. ومن
يقول (رقاد) يقول في الوقت عينه حالة نستعدّ للخروج منها.

ونلاحظ
أيضًا أننا أمام سيناريو (مخطّط مسرحّي) فيه تلعب حواس الجسد دورًا كبيرًا جدًا.
أولاً، حاسة السمع تُستدعى في الدرجة الأولى وفي ثلاثة أزمنة: الهتاف(7). وهو لفظ
يذكرنا بصرخات تُطلق في المهن القاسية جدًا. كالجذّاف والحوذي، وساحب المركب، وذلك
لإعطاء علامة لمجموعة رجال أو بهيمة داجنة. ثم يُسمع صوت رئيس الملائكة، الذي هو
على الأرجح ميخائيل، ذاك الذي ربطه سفر دانيال بأحداث النهاية (دا 10: 13، 21؛ 12:
1). وأخيرًا، وفي زمن ثالث، يُسمع صوتُ بوق الله، الذي هو أيضًا إعلان تقليدي عن
نهاية الأزمنة(8). أما الطريقة التي بها تسير الأمور، فهي تتوجّه إلى حاسة النظر:
يُنشر أمامنا سيناريو عظيم جدًا، وهو يأخذ صوَرَه من المجيء (باروسيا) كما في
العالم الهلنستي، من جهة، كما يأخذها من جهة أخرى من الحضارة اليهودية. وليس
بمستحيل أن تكون تيوفانية (ظهور إلهي) سيناء التي صوّرها خر 19، قدّمت النماذج
المرتبطة بالنظر والسمع. ونجد في هذا النصّ نزول الرب، البوق، الصوت، الغمام،
موضوع اللقاء، حركة صاعدة لمجموعة من البشر(9).

ونلاحظ
أخيرًا في كلام حول مسائل بهذه الدقّة، أن بولس لا يتكلّم من عندياته. بل هو يعود
بشكل واضح إلى كلمة من كلمات الربّ (آ 15). تساءل الشرّاح كثيرًا حول هويّة
القول(10) المشار إليه، فما وجدوا ما يقابله كل المقابلة في الأناجيل. إذن، أي قول
يمكن أن يكون ينبوع هذا الاعلان الذي يتضمّن موضوعين اثنين: موضوع الموتى الذين
يقومون، وموضوع الأحياء الذين لا يقومون؟ وقُدِّمت فرضيّة تقول إننا أمام كلام
يسوع كما احتفظ العهد الجديد بآثاره هنا في 1تس 4: 15 وفي يو 11: 15-26. إليك
هاتين الآيتين اليوحناويتين حيث نضع بين عاكفين ما جعله يوحنا في نصّه الخاص:

(25)
[أنا القيامة والحياة]

من
[يؤمن بي وان] مات، يحيا.

(26)
وكل من يحيا [وآمن بي) لا يموت أبدًا(11).

حين
نلخّص ببضع كلمات الجواب الذي حمله بولس هنا إلى قلق التسالونيكيين، نلاحظ أنه
جواب كرستولوجيّ، جواب يرتبط بيسوع المسيح. وما يؤسِّس هذا الجواب هو قول يسوع
الذي يُصبح الفاعل الرئيسيّ بعد العلامات الصوتيّة السماويّة: ينزل، يأخذ الموتى
الذين عادوا إلى الحياة والاشخاص الذين ما زالوا أحياء، فيحملهم على السحاب. ويكون
هؤلاء كلهم معه بشكل نهائيّ. وصفٌ ملموس جدًا وإن كان فيه بعض السذاجة مع
(آلياته)(12) التي تذكّرنا بما نشاهد على المسرح. ولكن كيف نستطيع بكلمات بشريّة،
أن نتكلّم عمّا سيحدث، في وقت من تاريخ العالم يتعدّى مستوى الكلام، بحيث لا نملك
عنه أي سند اختباريّ؟ فإنه وإن أعلنت هذه الأحداث على أنها قريبة في الزمن، إلاّ
أنها تنتمي إلى عالم آخر يتجاوز العالم الحاليّ.

ومن
المفيد أن نقابل هذا الوصف للسيناريو الاسكاتولوجيّ الذي نجده في 1تس، مع وصف
تُقدّمه 1كور، جوابًا على سؤال يختلف بعض الاختلاف عن السؤال الذي طُرح في 1تس.
يبدو أن الكورنثيين لم يكونوا مهتمّين بموتاهم اهتمامًا يتفوّق على اهتمامهم
بالآخرين. فقد كان بعضهم يشكّ في واقع قيامة البشر. لماذا؟ هذا ما زال موضوع سؤال
لدى الشرّاح. وقد أعطيت أربع أو خمس فرضيّات مختلفة، تنطلق من نظرة إلى العالم
كوّنتها الانتروبولوجيا (دراسة الجنس البشري) اليونانيّة التي فيها يخسر الجسد
قيمته(13)، إلى نظرات سابقة للغنوصيّة(14) تتحدّث عن اتحاد بالله بالمعرفة وطقوس
التنشئة، أو مواقف حماسيّة انخطافيّة(15) تعتبر أننا دخلنا منذ الآن في حقبة الروح
الاسكاتولوجيّة.

اعتبر
بولس أن هذه الانحرافات جدّية جدًا، فكرّس لها فصلاً كاملاً هو 1كور 15. بعد أن
ذكر الكرازة الاولى (1كور 15: 3-5)، وعالج جدالاً مكثّفًا حول العلاقة بين قيامة
المسيح وقيامتنا، راح يصف الأحداث الاسكاتولوجيّة وصفًا يذكّرنا بعض التذكير بوصف
1تس. وهذا ما يفرض علينا أن نقابل بين النصّين لنكتشف التشابهات والاختلافات (1كور
15: 51-52). ونقدّم هنا أيضًا ترجمة حرفيّة للنصّ.

(51)
هوذا سر أقوله لكم: لا نرقد كلّنا، ولكنّا كلنا نتغيّر.

(52)
في لحظة. في طرفة عين، وببوق أخير، فإنه سيبوَّق، فيُقام الأموات عديمي الفساد،
ونحن نتغيّر (نتحوّل).

هذا
الكلام يجعلنا أمام سيناريو أكثر تحفّظًا من سابقه، سيناريو لا يتضمّن عمليًا أي
عنصر يقابل حاسة النظر. لا شكّ في أنه سيكون ثلاثة عناصر منبئة بالآخرة، وفي أن
العنصر الأخير هو الذي نقرأه في 1تس. وهذا العنصر هو البوق. ولكن يبقى أن العنصرين
الباقيين بعيدان عن الملموس. كما لا نجد حركة صعود ونزول. ولا يُذكر الربّ يسوع،
الذي ليس جزءًا من المشهد. فالنصّ لا يعود إلى قول من أقوال الرب. بل يتكلّم بشكل
لاهوتيّ، لا كرستولوجيّ، عن (سرّ)، أي عن واقع خفيَ في الله منذ البدايات، ويجب أن
يعرفه البشر في أزمنة الوحي الأخير. وها هو بولس يكشفه الآن.

وعى
بولس دومًا أن هذه الأحداث الاسكاتولوجيّة هي قريبة على المستوى الزمني: (لا نرقد
كلنا). وبعبارة أخرى، يبدو كأنه يقول: بعض منا سيكونون بعدُ أحياء، حين يحدث ذلك.
وبالنسبة إلى الموتى الذين يسمّون أيضًا (الراقدين)، فمن الضرورة أن ينهضوا (كما
من رقاد)، أن يقوموا. أما الكلمة الرئيسية في الوصف والتي تعني جميع البشر، فهي الفعل
(تبدّل، تحوّل). فبالنسبة إلى الأحياء، كما إلى الأموات، هم يحتاجون جميعًا إلى
أكثر من نهوض بسيط، أكثر من انتقال مكاني بسيط، من الأرض إلى السماء. سيكون
التحوّل ضروريًا، لأن الجسد النهائيّ لا يتماهى مع الجسد الأرضيّ، كما أن النبتة
لا تتماهى مع البذرة التي خرجت منها (1كور 15: 35-44).

لا
شكّ في أن هذه الاستعارة، استعارة البذرة والنبتة، التي استعملها بولس في آيات
سابقة من ف،15 تعفيه بعض الاعفاء من سيناريو تسيطر عليه الصور. وإذا قابلنا 1كور
مع 1تس مع الوصف السطري والمهيب الذي تقدّمه، فهي تستعمل لغة مصفّاة تسندها
استعارة لا تقدّم وصفًا، بل تشبيهًا بعيدًا يرضى عنه الفكر الحديث.

في
الرسائل التالية، لن يستعيد بولس بشكل مباشر هذه المسائل، لأن قرّاءه لم يطرحوها،
على ما يبدو، في الألفاظ عينها. فيظهر أن زمن المجيء (باروسيا) صار في تفكيرهم،
بعيدًا في الزمن. فاعتادت الجماعات المسيحيّة على العيش في الوقت الحاضر اليوميّ.
ففي الرسالة إلى رومة، ميّز بولس تمييزًا واضحًا (التبرير) الذي هو الوضع الحاضر
الذي يبلغ إليه المؤمنون بالايمان بالمسيح، وهذه حالة تمتدّ في الزمان، من
(الخلاص) والبلوغ إلى (المجد) اللذين هما واقعان مُقبلان ينعشهما الرجاء. بالنسبة
إلى البشر، كلهم مدعوّون إليهما،ولكن لا تُذكر مهلة زمنيّة طويلة أو قصيرة(16).

وبرزت
قفزة في رسائل الأسر التي تمثّل مرحلة لاحقة في الفكر البولسي، سواء كانت هذه
الرسائل بولسيّة في المعنى الحصري أو حُدّد موقعُها بشكل إجمالي في تيّار بولسيّ
حمله تلاميذ الرسول. في ذلك الوقت، حين نقرأ كو التي تستعيد أف تعابيرَها، إن لم
يعد يظهر بشكل واضح التمييز بين تبرير يتمّ الآن وخلاص يتمّ فيما بعد، فالخلاص
واقع إجماليّ. لهذا استطاع الكاتب أن يقول: (متّم) (في صيغة الاحتمال، في
الماضي)(17). ويقول: (أنهضتم مع المسيح) (في صيغة الاحتمال أيضًا)(18). وإذ أراد
أن يتجنّب الدمج التام ساعة ركّز الزمن في شبه حاضر أبديّ، حاضر الخلاص، ظلّ مع
ذلك يميّز الأمكنة. فمع أن حياة قرّائه ظلّت أرضيّة في تجلياتها، لبث الهدفُ وحده
سماويًا. ولكن الأزمنة تبدّلت تبدّلاً كبيرًا منذ 1تس. أو هو بولس بدا وكأنه يشدّد
على الطابع المقبل للقيامة مع أنها قريبة.

 

4
– ثوابت وتنوّعات في لاهوت المعموديّة لدى بولس

وهناك
موضوع آخر يستحقّ أن ندركه في مسيرته عبر رسائل بولس: هو موضوع المعمودية. تحدّث
عنه الرسول مرارًا، وهذا ما لم يفعله بالنسبة إلى عشاء الربّ. غير أنه لم يكرّس له
بشكل عام توسّعات طويلة، ما عدا في روم 6: 1-14. لا نستطيع أن نتوقّف عند جميع
النصوص. بل فقط عند تلك التي تدلّ على مراحل لها معناها في تطوّر الفكر البولسيّ.

لا
نجد شيئًا عن المعموديّة بحصر المعنى في 1تس، كما وجدنا عن الاسكاتولوجيا. ويجب أن
نصل إلى 1كور لكي تُذكر المعمودية ذكرًا صريحًا(19). فالفعل (عمَّد)(20) والموصوف
(العماد)(21) يُستعملان مرارًا في 1كور 1: 13-17. نحن هنا في بداية الرسالة. تأسّف
بولس في هذا المقطع لوجود الانقسامات التي استقرّت بين المسيحيين في كورنتوس، بحيث
ارتبطت كل مجموعة بوجه رسوليّ جعلته شعارًا لها: (أنا لبولس. أنا لابلوس. أنا
لكيفا. أنا للمسيح) (1كور 1: 12). وإذ أراد بولس أن يبيّن اللافائدة من هذه
الانقسامات، طرح في آ 13 ثلاثة أسئلة متعاقبة تبدو مترادفة بعض الشيء.

هل
انقسم المسيح؟

ألعلّ
بولس صُلب لأجلكم؟

أو
هل باسم بولس اعتمدتم؟

والجواب
الذي يعطيه بولس على هذه الاسئلة الثلاثة هو بلا شك: كلا. ثم إن السؤالين الأخيرين
بدأا بأداة يونانيّة
mh تستعمل عادة حين يكون الجواب المنتظر نفيًا. إذن، تسجّلت ثلاثة
تأكيدات ضمنيّة داخل هذه الأسئلة الثلاثة: لا، ليس المسيح مقسومًا. والمسيح هو
الذي صُلب لأجلكم. وأنتم قد اعتمدتم باسم المسيح. وهناك تقابلٌ بين هذه التأكيدات
الثلاثة، ولا سيّما بين التأكيدين الأخيرين اللذين يردّان على سؤالين بدأا مع
الأداة السؤالية
mh. وبعبارة أخرى، ذاك الذي باسمه اعتمد المؤمنون هو المسيح
نفسه الذي صُلب لأجلهم. واقتبال المعمودية يجعل المعمّد مرتبطًا بالمسيح الذي صُلب
لأجله.

ونلاحظ
أيضًا أن اللفظة المرتبطة بحرف الجرّ (ب) (باسم)، جاءت في اليونانيّة في شكل
eis to ovoua. هي عبارة
تعود إلى عالم التجارة في اليونانيّة، فتدلّ على انتساب وانتماء(22). فالمعمَّد
يصبح بالمعمودية مُلك المسيح الذي مات لأجله. وهذا ما تعبّر عنه 1كور فيما بعد
بألفاظ تكاد تكون مبتذلة: (اشتُريتم بثمن) (1كور 6: 20؛ 7: 23). فالعلاقة المقامة
هي انتماء المعمّد إلى المسيح المصلوب. ظلَّ بولس هو هو في هذا المجال، فاستعمل
دومًا حرف الجرّ
eis (بشكل عام ودون أن يستعمل ovoma فبنى جملة تربط المعمَّد بالمسيح أو بذلك الذي يلعب دورًا
مماثلاً(23).

ونجد
نظرة مشابهة لهذه النظرة في الرسالة إلى رومة. والسبب الذي لأجله عالج بولس هنا
مسألة العماد ليس هو هو. نحن في داخل البرهنة(24). ردّ بولس على اعتراض طرحه على
نفسه، على اثر تأكيد فيه بعض المفارقة: (حيث كثُرت الخطيئة، هناك فاضت النعمة)
(روم 5: 20). نلاحظ كيف أن أصحاب الأفكار الملتوية استخرجوا حالاً من هذا القول ما
يفيدون منه: إذا كانت الخطيئة الطريقَ إلى النعمة، فلماذا نحاربها. هذا ما يشير
إليه بولس بشكل سؤال: (أنبقى في الخطيئة لتكثر النعمة) (روم 6: 1)؟

وإذ
أراد بولس أن يردّ بالنفي (كلاّ) على هذا السؤال ويؤسّس جوابه، دُفع إلى الكلام عن
المعموديّة (روم 6: 3- 4).

(3)
أتجهلون أننا كلنا المعتمدين ليسوع(25) المسيح، اعتمدنا لموته(25).

(4)
إذن دُفنا معه في المعموديّة للموت(25)، حتّى كما أقيم المسيح من الأموات لمجد
الآب، هكذا نسلكُ نحن أيضًا في جدّة الحياة.

ما
نقرأ هنا من مفهوم للمعموديّة هو ما قرأناه في 1كور، غير أنه توضّح. فالمعمّد
يُجعل دومًا في علاقة مع موت المسيح، (يغطّس في الموت). هكذا نعود بفعل (عمّد) إلى
معناه الحرفيّ. وهذا (الغطس) تحدّده لفظة تشير هي أيضًا إلى إقامة تحت البحر أو
تحت الأرض، هي صورة الدفن. تُذكر قيامة المسيح بعد دفنه. وبها يُدعى المعمَّد، بعد
عماده، لأن يسلك مثل المسيح القائم من الموت، في جدّة الحياة.

غير
أن هذه هي مرحلة بعدعماديّة. لن نكون واضحين_إن قلنا، كما يقال مرارًا، إننا في
نظر بولس، نغطَّس بالمعموديّة في موت المسيح وقيامته. كلا ثم كلا. فبالعماد نغطّس
في الموت. تلك هي مرحلة الدفن. وبالتالي نُدعى إلى أن نحيا حياة طبعتْها القيامةُ
بطابعها. إن العماد يقابل المرحلة التي تحمل الموت، في مسيرة التلميذ. ويجب أن
نلاحظ أن بولس لا يربطه بإيجابيّة الوضع المسيحيّ. وبشكل خاص يختلف بولس عن سفر
الأعمال إذ لا يكون العماد، بالنسبة إليه، طقسًا به ينال المؤمن الروح القدس(26).

جاءت
الرسالة إلى كولسي، بضع سنوات بعد الرسالة إلى رومة، فعالجت مرّة أخرى الموضوع
نفسه. وفي كلام عن المسيح، دوّن الكاتب (كو 2: 11-13):

(11)
وبه أيضًا خُتنتم ختانًا غير مصنوع بيد، في خلع جسم البشر (جسم اللحم والدم)، في
ختانة المسيح.

(12)
وإذ كنتم أمواتًا بالمعاصي (أو في المعاصي) وغُلف بشركم (لحمكم). أحياكم (= الله)
معه (مع المسيح) مسامحًا لكم بجميع الخطايا.

لم
تعُد تُوضَّح العلاقة بين العماد والموت. ولكن صورة الدفن العمادي التي تحدّثت
عنها روم، ما زالت حاضرة. إذن، المعموديّة هي دومًا بجانب الموت. وبناء النصّ الذي
نقدّمه، يحدّد موقعَ مضمونه في تواصل مع الرسالة إلى رومة، بقدر ما المعموديّة
تناسب دومًا مرحلة الموت في المسيرة المسيحيّة. فقيامة المؤمن بالايمان هي
بعدعمادية(27).

غير
أننا نلاحظ جديدين هنا. الأول جاء متماسكًا مع ملاحظات قيلت فيما قيل حول
الاسكاتولوجيا البولسيّة. النصّ هنا هو صدى اسكاتولوجيا تحقّقت: فالقيامة جزء من
الماضي المسيحيّ. والثاني يقيم توازيًا بين العماد والختان، فيكون أول شهادة
كرونولوجيّة في العهد الجديد. لا شكّ في إن إطار كنيسة كولسي قد أتاح ذلك.
فالكولسيون اختلفوا عن الغلاطيين، فما حاولوا أن يختتنوا. غير أنه من المفيد، على
المستوى التاريخيّ، أن نلاحظ أن المعموديّة دُعيت (ختان المسيح). إن الدور الذي
يلعبه الختان في العالم اليهوديّ، إذ يدلّ على الهويّة والانتماء، هو ذاك الذي
تلعبه المعموديّة داخل هذه المجموعة الجديدة التي استقلّت الآن كل الاستقلال عن
العالم اليهوديّ الذي وُلدت فيه، فاتخذت اسم (المسيحيّة). حين كان جميع المسيحيين
من أصل يهوديّ، لم تكن حاجة إلى علامة انتماء أخرى سوى الختان. ولمّا لم يعد
العنصر اليهوديّ هو الاكثريّة، وجب عليهم أن يجدوا علامة أخرى: سيلعب العماد هذا
الدور ولزمن طويل.

خاتمة

حاولنا
أن ندرك، في مسيرة كرونولوجيّة، موضوعين عالجتهما الرسائل البولسية هما: الاسكاتولوجيا
أو نهاية الأزمنة، والمعموديّة. وانكشفت في كل مرّة ثوابت، كما ظهرت أيضًا على مرّ
الزمن تغيّرات فرضها بدون شكّ تطوّرٌ داخليّ لدى بولس، كما فرضتها عوامل خارجيّة.
كان من السهل علينا أن نتحرّى العوامل الخارجيّة، لأن مقاطع الرسائل التي درسناها،
أتاحت لنا أن نبلغ إلى وضع الكنائس التي توجّهت إليها هذه الرسائل، بلوغًا لم نحصل
عليه للولوج إلى داخليّة الكاتب. أما بالنسبة إلى نصوص أخرى أخذت من غل أو من
الفصول الأخيرة في 2كور، فانعكس الوضع. فخمس عشرة سنة زمن طويل، ولا سيّما في حياة
رجل من العصور القديمة كان نشيطًا مثل بولس، وفي حياة كنائس كانت في ملء
انطلاقتها: فقد انطبعت حياة بولس كما انطبعت هذه الكنائس بأزمات مختلفة عرفت طلعات
وارتدادات.

والطريق
التي سرنا فيها، أتاحت لنا كما يبدو لي، بأن نعي أن لاهوت بولس هو لاهوت يرتبط
بإطار حياتيّ، ولاهوت انطبع بأسئلة طرحتها كنائس تسلّمت هذه الرسائل، كما انطبع
بالتاريخ العام لمسيحيّة فتيّة. وبشكل خاص، كوّن العبورُ من جماعات مسيحيّة آتية
من العالم اليهودي أو من جماعات آتية كلها من العالم الوثني، خطًا هامًا على مستوى
القطيعة والانفصال. هذا يعني أنه يصعب، بل يستحيل علينا أن نقدم لاهوتًا بولسيًا
يرد في نظرة شاملة. فالمحاولات التي قام بها الأب برا(28) والمونسنيور لوسيان
سرفو(29) في وقتهما، لم تعد ممكنة. مع أنها استحقت المديح. فبعد اللاهوت
اللاهوت(30)، أرادوا أن يكتبوا لاهوت البيبليا، ثم لاهوت العهد الجديد، وأخيرًا
لاهوت القديس بولس. بعد ذلك، نكتشف أن مثل ذلك اللاهوت مستحيل إذا كان (صنع)
اللاهوت البولسيّ يعني أن نعتبر الرسائل مجموعة لا تباين فيها(31).

يجد
المفسّر نفسه بين إفراطين يحملان الضرر. من جهة، تفكيك فكر بولس من رسالة إلى
رسالة. ومن جهة ثانية، تقديم لاهوت بولسيّ إجماليّ. فلا يبقى له سوى امكانية رسم
مدارات تأخذ بعين الاعتبار تطوّر فكر عبّرت عنه الرسائل على التوالي. هذا ما
حاولنا أن نقوم به. والمستقبل يقول إن كان هذا الطريق يحمل الخصب والثمار.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى