اللاهوت الدفاعي

الفصل الحادي عشر



الفصل الحادي عشر

الفصل
الحادي عشر

وحدة
الكنيسة
في الرسالة إلى أفسس

مقدّمة
عامة

تشكّل
الرسالة إلى أهل أفسس عصارة اللاهوت البولسيّ. تتميّز بغناها اللاهوتي وعمقها
الروحيّ وآفاقها الكونيّة. سُكبت نصوصها كلّها سكبًا واحدًا موحّدًا، أكثر من أي
رسالة أخرى، فجاءت لوحة أدبيّة ولاهوتيّة رائعة الحسن والجمال! أفكارها اللاهوتيّة
جسد يربط بين الفكر الكتابي اليهوديّ والفكر الفلسفي الهلينيّ؛ نظرتها كونيّة
شاملة إلى الكنيسة بكونها جسد المسيح السريّ
to
6wma autou
(أف 1: 23) وملؤه plhrwma tou cri6tou
(أف 4: 13)، وإلى المسيح بكونه رأس الكنيسة الموحّد
kejalh
th ekklh6ia
 (أف 1: 22)، وإلى
الأقانيم الإلهيّة الثلاثة بكونها حاضرة وفاعلةً في كل حدث من تاريخ الخلاص (أف 1:
3-14). هذه النظرة الكونيّة الجديدة للخلاص، دفعت بعض العلماء إلى الاعتقاد بأن
هذه الرسالة لم تكن في الأصل خاصة بكنيسة أفسس أو اللاذقيّة (في تركيا)، بل كانت
رسالة عامة أرسلت إلى كنائس عدّة في آسيّة، (رسالة دوّارة) أو كما يسمّيها
M. CARREZ: (Encyclique circulaire). وإلاّ كيف يُعقل أن يكتب بولس إلى مؤمني أفسس فيقول لهم: (فلذلك
أنا أيضًا، وقد سمعت بإيمانكم بالربّ يسوع) (1: 15)، على علمنا أن بولس قضى ثلاث
سنوات في أفسس (أع 20: 31)؟ أو كيف يُعقل أن يتحدّث بولس إلى الأفسسيّين كأنه غريب
عنهم وهو الذي أسّس كنيستهم (أع 19: 1-20: 38)؟ أو كيف يُعقل أن لا يذكر أي حدث
وقع معه في أفسس وأن لا يسلّم في خاتمة رسالته على أحد باسمه من الاخوة المؤمنين
في أفسس، بينما يسلّم على عشرات الاخوة في باقي رسائله (روم 16: 1-16؛ 1 كور 16:
13-24)؟ أضف إلى ذلك أن بولس لم يعالج في رسالته مشاكل كنسيّة أو مواضيع لاهوتيّة
محليّة كما نرى في باقي رسائله، بل جاءت أفكاره مسكوبة سكبًا في قالب كونيّ وآفاق
مسكونيّة شاملة.

مقالات ذات صلة

ولكن
هل بولس هو كاتب الرسالة؟ لغزٌ لم يُحلّ بعد!! لقد أثار هذا الموضوع جدلاً طويلاً
وخلافًا كبيرًا بين العلماء لأسباب عقائديّة وأدبيّة. في الواقع إن مفردات الرسالة
وأسلوبها وأفكارها اللاهوتيّة تشير إلى كاتب غير بولس الرسول، كما أنها تستعين
بمفردات ونصوص من الرسالة إلى كولسيّ(1). كل هذا دفع بالعالم
E.J. Goodspeed أن يستنتج أن كاتب الرسالة هو تلميذ لبولس، جمع الرسائل البولسيّة
في نهاية القرن الأول وكتب الرسالة إلى أفسس مستندًا إلى معرفته الشخصيّة للرسول
ولرسائله، خصوصًا لرسالته إلى كولسيّ. وإمّا وُجد تلميذ إلى جانب بولس كتب الرسالة
بأمر من معلّمه! هذه النظريّة لم تحلّ المشكلة!

لكنّ
علماء كثيرين دافعوا عن أصالتها البولسيّة، وعلى رأسهم الأب العالم
P. Benoît الذي يرى أن بولس كتب معظم نصوص هذه الرسالة، ثمّ ترك لأحد
تلاميذه أن يصوغها صياغة نهائيّة شاملة. فإن كان اللمس لمس عيسو، فالصوت صوت
يعقوب!

إنّ
دراسة رسائل بولس تقودنا إلى التمييز بين إتّجاهين عنده في شأن الإكليزيولوجيا
(أو: كلام عن الكنيسة). أمّا الاتّجاه الأول فيختصّ بما نسمّيه اليوم (الكنيسة
المحليّة
L’Eglise locale)، أي كنيسة كورنتس ورومة.. وغيرها من الكنائس. وأمّا الاتّجاه
الثاني فيختصّ بما يسمّيه قانون الإيمان (الكنيسة الجامعة
L’Eglise Universelle). فقد تعمّق بولس نفسه في تفهّمه سرّ الكنيسة. ففي المرحلة الأولى
نظر إلى الكنيسة من النظرة الواقعيّة الملموسة، الكنيسة في هذه المدينة أو تلك.
ففي رسالته إلى أهل رومة (كتبت سنة 58م.) عرض بولس تعليمه وفق الانجيل الذي بشرّ
به بغير كلل كما كتب خلاصة لاهوتيّة عن دور الانجيل الخلاصيّ. ففي القسم الأول من
الرسالة (روم 1-11)، يعلن بولس أنّ الانجيل هو قوّة خلاص لكل مؤمن (1: 16-17) ثمّ
يوسّع هذا الموضوع في أربع مراحل متتالية، من أربع زوايا متكاملة، شارحًا في كلّ
مرحلة، في لوحين سلبيّ وإيجابيّ، الشقاء بدون الانجيل، في لوح، والخلاص بالانجيل،
في لوح ثان: شقاء الوثنيّين واليهود بدون الانجيل (1: 18-3: 20)، ثمّ خلاص الجميع
بالانجيل (3: 21-5: 11). شقاء الانسان المتضامن وآدم الخاطئ (5: 12-21)، ثمّ خلاص
الانسان المتضامن ويسوع، آدم الثاني البار (6: 1-23). شقاء الانسان في قيد الشريعة
(ف7) ثمّ خلاص المؤمن السالك في نعمة الروح القدس (ف8). شقاء اسرائيل الرافض
للمسيح (9-10)، ثمّ خلاص إسرائيل المؤمن بالمسيح (ف11). وأخيرًا يعطي إرشادات في
شأن الحياة المسيحيّة (ف12-16). وفي الرسالة الأولى إلى كورنتوس سنة 57 م. طُرحت
على بولس مشاكل متنوّعة معقّدة: التحزّبات والانقسامات (1: 10-4: 21)، فجور ودعاوى
في جماعة المؤمنين (ف5-6)، أسئلة حول البتوليّة والزواج (ف7) واستعمال ذبائح
الأوثان (8: 1-11: 1)، أسئلة حول التقاليد في الاجتماع الليتورجيّ (11: 2-14: 40)
– أدب النساء، عشاء الربّ، مواهب الروح – أسئلة حول قيامة الربّ وقيامة المؤمنين
(15). إنطلاقًا من هذه الأوضاع الملموسة والمسائل العمليّة، ألقى بولس الضوء على
وجهات جوهريّة في الفكر المسيحيّ والحياة المسيحيّة. وفي الرسالة إلى غلاطية
(57-58 م.) يعالج بولس موضوع المتهوّدين. فبعد أن قَبلَ أهل غلاطية بُشرى الانجيل
على يد الرسول (4: 10)، طرأ تغيير جذريّ مفاجئ عليهم: عودة سريعة إلى شريعة موسى
والختانة، وعودة إلى الماضي الوثني، عودة إلى حياة الجسد بعد أن بدأوا بالروح (3:
3)، ورجوع من الحريّة إلى العبوديّة. ثمّ اتّهموا الرسول بأن ليس له سلطة رسوليّة
كالرسل الإثنيّ عشر، بل هو رسول من كنيسة إنطاكية، إنتهازيّ، يفسّح للوثنيّين من
شريعة موسى حتى يكسب عطفهم ويسهّل انضمامهم إلى الكنيسة (1: 10). لكن مجمع الرسل
في أورشليم (أع 15) أنصف بولس!

وفي
الرسالة الأولى إلى تسالونيكي عالج بولس موضوعًا لاهوتيًا: الاسكاتولوجيا. لقد كان
يخامر المؤمنين ريبٌ في شأن قيامة الموتى ومشاركتهم في مجد المسيح المنتظر،
فيظنّون أنّ الخلاص محصور بمن سيبقى في قيد الحياة إلى مجيء الربّ الأخير. أمّا
الأموات الراقدون فقد حُرموا نهائيًا من نعمة الخلاص، من الشركة في مجد المسيح (4:
13-18). وكان أيضًا في الجماعة، في تسالونيكي، خطأ ثان، ظهر في تصرّف بعض المؤمنين
الذين راحوا يُهملون أشغالهم، فيمكثون بطّالين عن العمل منتظرين يوم مجيء الربّ
العاجل (4: 11-12). وفي الرسالة الثانية إلى تسالونيكي عالج بولس موضوع مجيء الربّ
وعلامات مجيئه.

باختصار،
ركّز بولس في المرحلة الأولى من حياته التبشيريّة على معالجة مواضيع لاهوتيّة
ورعائيّة طرأت على الكنائس المحليّة المنتشرة هنا وهناك. هذا ما يسمّى ب
(الاكليزيولوجيا البولسيّة الخاصّة
L’Ecclésiologie
singulière de St Paul
).
لكن في مرحلة ثانية، وعلى ضوء أزمة كولسيّ(2)، توسّعت الآفاق الاكليزيولوجيّة
تدريجيًا عند بولس، وأصبحت نظرته إلى الكنيسة نظرة سرّية أكثر شموليّة، كجسد يكون
المسيح رأسه، كما نرى في الرسالتين إلى كولسيّ وأفسس، وهذا ما يسمّى: ب (الاكليزيولوجيا
البولسيّة الشاملة
L’Ecclésiologie
Universelle de St Paul
).

لقد
استفاد بولس من هذه القفزة النوعيّة والتوسّع العميق لأفكاره اللاهوتيّة، خاصة
الاكليزيولوجية، فأعاد قراءة مواضيعه اللاهوتيّة السابقة، ففنّدها وعمّقها واستأصل
منها كل تعليم بدائي (
Théologie
archaïque
) وسكبها في قالب لاهوتي
أكثر شموليّة، فجاءت تعليمًا مسكونيًا (
Universelle
كونيًا.

طبعًا،
إن السبب الأساسي لهذا التحوّل في فكر بولس هو: قيامة الربّ من بين الأموات.
فبالقيامة جمع المسيح كل شيء في شخصه وأصبح كلّ الكوسموس
(ko6mos، الكون) تحت سلطة القائم من الموت كما قال في الرسالة إلى
أفسس: (فيجمع في المسيح تحت رأس واحد
(anakejalaiow = فعل يوناني يعني في آن معًا: جمع – دمج – رفع تحت رأس واحد؛
راجع روم 13: 9) كلّ شيء
(ta panta) ما في السماوات وما على الأرض) (أف 1: 10). فبالقيامة عاد
المسيح فجمع في شخصه وتحت سلطانه كونًا أفسدته الخطيئة وبعثرته أشلاء، فصار جسمًا
بلا رأس. لكن المسيح عاد وأحكم تركيبه، فأمّن ترتيبه وتماسكه، وصار هو نفسه الرأس
الجامع الموحّد لجسم الكون كلّه (أف 1: 20-21).

لهذا،
ترك بولس فكرة (مجيء الربّ) (في المستقبل) التي طرحها في الرسالتين إلى تسالونيكي،
وأخذ يتحدّث عن (الاسكاتولوجيا الحاضرة
L’Eschatologie présente):
(ومعه أقامنا
(6unegeirw= أقام مع؛
في
Imparfait) وأجلسنا 6unkaqizw = أجلس مع؛ في Imparfait) في السماوات في المسيح يسوع) (أف 2: 6)، أو كما جاء في كولسيّ:
(فدُفنتم معه في المعموديّة
(6umqaptw = دُفن مع؛ في صيغة الماضي) وفيها معه أُقمتم (6unegeirw = أقام مع؛
في صيغة الماضي) (كو 2: 12)(3). هذه الاسكاتولوجيّا الحاضرة تواصل وجودها بواسطة
الكنيسة. وموضوع (القوات الروحيّة) المقاومة لله، الملائكيّة والانسانيّة، والتي
تحدّث عنها بولس في رسالته الأولى إلى كورنتوس (1 كور 15: 24) بأنها ستخضع في آخر
الزمن لله، قد أصبحت الآن خاضعة في الحقيقة، كما قال الرسول في أفسس وكولسي (أف 1:
1؛ كول 1: 16 و2: 15). فكل تلك المراتب والرئاسات والقوات الفلكيّة الملائكيّة
التي كان الأقدمون يعتقدون أنها تُدير الأكوان، طبيعيًا وروحيًا، وتحرس شريعة موسى
(غل 3: 19)، ونظامها (كو 2: 15)، قد خضعت الآن كليًا لله بموت وقيامة المسيح (كو
2: 10). ثمّ إنّ (قيامة المعمّدين) لم تعد في المستقبل (روم 6: 5)، ولكنّها أصبحت
الآن في الحاضر (كو 2: 12؛ أف 2: 6)(4). على ضوء هذا اللاهوت العميق والمتفائل
بعالم جديد رُكّز بموت وقيامة الربّ، أعاد بولس طرح موضوع معلّق في رسالته إلى
الرومانيّين وهو: وحدة الكنيسة ومصالحة العالمين الوثني واليهودي (روم 9-11). ولكن
يبدو من الرسالة إلى أفسس أنّ موضوع المصالحة ووحدة الكنيسة قد تمّ (أف 2: 11-22)
وحلّ السلام بين الشعبين المتخاصمين، مكان جدار العداوة.

في
هذا التفاؤل بإسكاتولوجيّة تحقّقت، وبمصالحة تمّت بين اليهود والأمم، وبكوسموس
أُخضع كليًا لله وحده، يتأمّل بولس ويجعلنا نتأمّل باندهاش معه في (وحدة البشريّة
في كنيسة واحدة)، في (كنيسة كونيّة
Cosmologique تجمع كل شيء في المسيح رأسها)، في كنيسة يدعوها بولس: plhrwma tou cri6tou
= ملء المسيح) (أف 4: 13؛ 3: 19). فالكنيسة هي (ملء المسيح)، لأنها جسده السريّ
وتضمّ كل الخلق الجديد الخاضع للمسيح (مالئ الكلّ) (أف 1: 23). فالمسيح نفسه يمتلئ
من الآب، مصدر الحياة الإلهيّة (كو 2: 9-10)، ويملأ الكنيسة (أف 1: 22-23)،
والكنيسة تملأ الكون
(ko6mos). وهكذا تُصبح الكنيسة مدى الكون، والكون يذوب فيها خلاصًا
ونعمة.

 

1
– وحدة الكنيسة

الوحدة
هي ثمرة المحبّة! والبغض يزرع الخصومات والانشقاقات! من الخطيئة التي هي رفض لله
ورفض للقريب، تلد المنازعات والتفرقة، ولكنّ الاتحاد بالربّ والبشريّة يقود إلى
الخلاص. هذه الجدليّة تؤلّف العامود الفقري للكتاب المقدّس.

من
خطيئة آدم نشأ الانشقاق(5)، فآدم طُرد من الفردوس الأرضيّ وأصبح بعيدًا عن الخالق.
ثمّ تكاثرت الشرور، وتكوّنت هوّة عظيمة بين الله والجنس البشريّ انتهت بالطوفان
(تك 6: 5-9: 17). وعلى أثر الانشقاق بين الخالق والمخلوق، انقسمت البشريّة على
نفسها، فقتل قايين أخاه هابيل (تك 4: 1-16)، ورأى نسلُ نوح عجرفة برج بابل الذي
أُجهض مُخطّطه بالتشتّت والبلبلة. كل هذه الانشقاقات أصابت أهل الأرض، ولكن هل
طالت أهل السماء؟ هل حرّضت العالم الملائكيّ على التمرّد على الخالق؟ الأسفار
القانونيّة للعهد القديم تتحدّث بطريقة خجولة عن الموضوع، لكن الكتابات اليهوديّة
على عتبة العهد الجديد، خاصّة النصوص القمرانيّة، تأتي على ذكر ذلك! ولقد ألمح مار
بولس إلى تمرّد تلك الأرواح الشرّيرة حين قال في رسالته إلى أفسس: (فليس صراعنا مع
اللحم والدّم، بل مع أصحاب الرئاسة والسلطان وولاة هذا العالم، عالم الظلمات،
والأرواح الخبيثة في السموات) (أف 6: 12). ودعا المؤمنين إلى حرب روحيّة ضدّ تلك
الأرواح الشرّيرة. وفي أف 2: 1-3 يذكّر بولس المؤمنين بماضيهم المظلم ووضعهم
الخاطئ اللذين كانا تحت سلطة الخطيئة: (وأنتم (أي الوثنيّون) وقد كنتم أمواتًا
بزلاّتكم وخطاياكم التي سلكتم فيها من قبل وفق إله هذا العالم، وفق رئيس سلطان
الهواء، الروح العامل الآن في أبناء المعصية، ونحن (أي اليهود) أيضًا جميعنا قد
تصرّفنا بينهم من قبل في شهوات جسدنا.. وكنّا بالطبيعة أولاد غضب كالباقين). آيات
تصف الواقع الخاطئ لدى اليهود والأمم. فالعالمين، اليهوديّ والوثنيّ، كانا تحت
الحكم والغضب: (إذًا، ماذا؟ هل نحن أفضل منهم؟ كلاّ! فإنّا قد بيّنا من قبل أن
الجميع، يهودًا ويونانيّين، هم تحت الخطيئة) (روم 3: 9).

ولقد
بيّن بولس في رسالته إلى أهل رومة (روم 1: 18-3: 20) أنّ البشريّة كلّها، يهودًا
ووثنيّين، قد حادت عن طريق الخلاص، وفقدت نعمة البرّ. وبرهن عن هذا الحيد والفقدان
منطلقًا من الوضع الدينيّ الذي آل إليه العالم الوثنيّ: يشدّد بولس على طاقة العقل
البشريّة الجدير بأن يعرف، من خلال المخلوقات(6)، قدرة الله الخالقة وألوهته (روم
1: 18-20)، ولا يعذر إنسانًا لا يعرف الله، أو يعرفه ولا يعبده ولا يشكره (روم 1:
21-22)، أو يستبدله بأصنام فاسدة (روم 1: 23)(7). لقد عرف الوثنيّ الّله، لكنّه لم
يعبده، بل عبد أصنامًا (روم 1: 18-23)، واستسلم لكل رذيلة (روم 1: 24-32) كنتيجة
حتميّة لضلاله الدينيّ. إذ ليست معرفة الله في عقل الانسان معرفة نظريّة مجرّدة،
بل هي التزام أدبيّ عمليّ واجتماعيّ. متى أنكر الانسان خالقه، فقدَ اتّزانه
الطبيعيّ، وفسد رأيه، فأمسى جديرًا بارتكاب أقبح الرذائل: (لذلك أسلمهم الله في
شهوات قلوبهم إلى النجاسة، تحقيرًا لأجسادهم في ذاتها) (روم 1: 24). يرى بولس في
هذا الاستسلام للشهوات قصاصًا من الله للوثنيّ الغير المؤمن بالله.

وبعد
وصف قاتم لواقع الوثنيّين (روم 1: 18-32)، ينتقل بولس إلى وصف مماثل لواقع اليهود
(1: 18-32). فهؤلاء أيضًا ضلّوا طريق الخلاص (2: 1-3: 20) ولا عذر لهم (2: 1):
اليهودي الذي يدين الوثنيّ يقضي على نفسه، لأن حكم الله يشمله هو أيضًا (2: 1-11)؛
والذي يتعدّى شريعة الله يأثم أكثر من الوثنيّ (2: 17-24). واليهود الذين لم يؤمنوا
بعد بالانجيل، هم، بدون الانجيل، كالوثيّين أيضًا خطأة (3: 1-20)(8).

نستخلص
من ذلك، أن الفساد عمّ البشريّة أجمع، يهودًا ووثنيّين، بلا استثناء (روم 3:
11-18)، وعمّ الانسان كلّه، في كل أعضائه وحواسه: في حنجرته، ولسانه وشفتيه، وفمه،
ورجليه، وعقله وعينيه (روم 3: 13-18). لقد ملكت الخطيئة على كل البشريّة، وصار
الخلاص مستحيلاً دون الانجيل وتدخّل الله العجيب في شخص يسوع المسيح (روم 3: 21-5:
11).

هذا
الواقع المأساويّ للبشريّة أدمى قلب بولس (روم 9: 2)! فهل يبقى اليهوديّ رافضًا
لبشارة الانجيل (روم 9-10)؟ وهل يبقى الوثني غارقًا في صنميّته؟ وهل في ذلك فشل
لمخطّط الله الخلاصيّ؟ وهل وحدة البشريّة باتت من عالم المستحيلات؟ الجواب الأول
لبولس هو أن مخطّط الله لم يفشل أبدًا!! ففي الرسالة إلى الرومانيّين (9-11) يعالج
الرسول موضوع خلاص إسرائيل وتوبة العالم الوثنيّ. فبعد لوح سلبيّ يصف شقاء إسرائيل
رافضًا مسيحه (روم 9-10)، يأتي لوح إيجابي يصف توبته وخلاصه وتوبة الأمم (روم 11).
ويسأل بولس: هل كانت عثرة الشعب اليهوديّ، أي رفضه للمسيح يسوع، سقطة لا نهوض
منها، أم هي سقطة فيها رجاء بالنهوض (روم 11: 11)؟ يُجيب الرسول بأن كفر اليهود الحالي
ورفضهم للمسيح فرصة أتاحت للأمم أن يتوبوا ويؤمنوا بالمسيح (روم 9: 22؛ 11: ،12،25
30). ويرى في إيمان الأمم الحالي فرصة سوف تتيح لليهود أن يتوبوا أيضًا ويؤمنوا:
فالله يُغيرهم الآن بالأمم (روم 10: 19) لكي يخلصوا.

لقد
اهتمّ بولس كثيرًا بارتداد إسرائيل في الرسالة إلى الرومانيّين، واعتبر أن
الوثنيّين قد ارتدّوا. ولكن في الرسالة إلى أفسس، بدا الرسول أكثر تفاؤلاً، فاعتبر
أن إسرائيل قد حصل على الخلاص! فهل تغيّر فكر بولس بالنسبة لارتداد إسرائيل، من
الرومانيّين إلى أفسس، أم اعتبر أن إسرائيل سيرتدّ في المستقبل إلى المسيح؟!

بالنسبة
إلى الرسالة الأفسوسيّة، الموضوع قد انتهى! والعالمان اليهوديّ والوثنيّ قد تصالحا
وأصبحا (إنسانًا واحدًا جديدًا) (أف 2: 15). ولقد عبّر بولس عن تفاؤله في هذه
المصالحة إذ قال: (فإنه هو سلامنا، هو جعل الاثنين واحدًا، وفي جسده نقض
العداوة،.. ويصالح مع الله كليهما في جسد واحد بالصليب.. لأنّا به نلنا كلانا في
روح واحد الوصول إلى الآب. إذًا فما أنتم بعد غرباء ولا نزلاء، بل أنتم أهل مدينة
القدّيسين، وأهل بيت الله) (أف 2: 14-22). لقد انقلب الوضع، وأصبح البعداء
والأقرباء جسدًا واحدًا، بشريّة جديدة، كنيسة جديدة تجمع الوثنيّين واليهود في
هيكل واحد، مكرّس لعبادة الربّ الكاملة، على أساسه الرسل والأنبياء، وحجارته
المؤمنون على الأرض، ورأس البناء هو يسوع المسيح الممجّد في السماء. فالكنيسة على
الأرض، ما تزال مشدودة أبدًا إلى المسيح الممجّد في السماء (أف 2: 19-22).

ولكن
كيف تمّت هذه المصالحة؟ أو كيف انتقلت البشريّة من عالم التفرقة إلى عالم الوحدة؟
يُجيب بولس: (بدم المسيح) (أف 2: 13)! فدمّ المصلوب جمع الوثنيّ واليهوديّ! العهد
القديم، أي الختانة، فرّقت البشريّة، أما العهد الجديد بدمّ يسوع، فقد جمع الشعوب
كافّة، وثنيّين ويهودًا بعضهم مع بعض (أف 2: 14-15)، وجميعهم مع الله أبيه (3:
16-18).

هذا
العمل الخلاصيّ، موت وقيامة المسيح، قد أعاد الوحدة إلى البشريّة المشرذمة. ولقد
تحدّث بولس عن عدّة طرق لهذه الوحدة: فتارة يتحدّث عن (الفداء
apolutrw6i6) (أف 1: 7)
كطريق للوحدة. هذا الفداء حرّرنا من عبوديّة الخطيئة وجعلنا أحرارًا في ملكوت
الابن: (هو الذي نجّانا من سلطان الظلام، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبّته الذي لنا
فيه الفداء، مغفرة الخطايا) (كو 1: 13-14). وطورًا يتحدّث عن (التبرير أو النعمة
المبرّرة
cari6) (أف 2: 8-10). فالخلاص ليس من صنع الانسان، بل هو عطيّة
مجانيّة من الله
(qeou to dwron) (أف 2: 8)، تُقبل بالإيمان. فالمسيح برّرنا بموته وقيامته
وجعلنا جميعًا بشريّة جديدة مبرّرة بالنعمة. وتارة أخرى يتحدّث عن (المصالحة
apokatalla66w) (أف 2:
14-18). فالمصالحة هي عمل المسيح الفادي، وهذه المصالحة هي سلام كامل شامل (آ 14)؛
سلام بين اليهود والوثنيّين (آ 15-16) وسلام مع الله (آ آ 17-18).

لكنّ
الفكرة الأساسيّة التي تعبّر أصدق تعبير عن هذه المصالحة هي عبارة (الخلق الجديد
La recréation) (أف 2: 15؛ 4: 24). في بدء البشريّة خُلق الانسان ليكون في اتّحاد
مطلق مع الله والمخلوقات ومع ذاته والكون أجمع، لكنّ الخطيئة أفسدت الخلق الأوّل
وجعلت تناغمه فوضى بابليّة. فقرّر الله إصلاح الخلق الفاسد ب خلق جديد): (ليخلق
الاثنين فيه إنسانًا واحدًا جديدًا
ena kainon
anqrwpon
) (أف 2: 15)، و(لبستم
الانسان الجديد
endu6a6qai ton kainon anqrwpon) (أف 4: 24؛ كو 3: 10). الانسان الجديد، هو المسيح القائم
ممجّدًا، آدم الجديد (1 كور 15: 45) رأس البشريّة الجديدة، وقد أعاد الله فيه
الخلق كلّه (2 كور 5: 17). جمع المسيح في شخصه العالمين اليهوديّ والوثنيّ، ودفقَ
فيهم حياةً جديدة.

لقد
استأصل المسيح بموته وقيامته حاجز العداوة بين اليهود والوثنيّين وخلق من الاثنين،
في شخصه، شخصًا واحدًا جديدًا (أف 2: 14-15). وكما أن المسيح المائت والقائم هو
جالس عن يمين الآب، هكذا كل البشريّة المتجدّدة به، لاقت طريقها إلى الآب (أف 2:
16-18).

ولكن
البشريّة المتصالحة مع ذاتها والمتجدّدة بموت وقيامة المسيح، ليست هي كلّ الكون
(ko6mo6). فماذا حلّ
بباقي الخلق بعد عودة البشريّة إلى ذاتها وإلى الله؟؟ أو ما كان مصير عالم المادة
وعالم الأرواح والملائكة والقوات؟؟ موضوع هام تطرّق إليه بولس في الرسالتين إلى
الرومانيّين وكولسيّ، وختمه في الرسالة إلى أفسس.

ففي
نظر بولس، كما يعلّم اللاهوت البيبليّ في سفر التكوين (تك 1-3)، الخليقة الماديّة
كلّها تشكّل الاطار المباشر لحياة البشريّة، وهذا الاطار الماديّ مرتبط إرتباطًا
كيانيًا ومصيريًا بالبشريّة كلّها! وهكذا أصبح مصير الخليقة كلّها خاضعًا لمصير
البشريّة!

ففي
الرسالة إلى الرومانيّين، يتحدّث بولس في مقطع رؤيوي إسكاتولوجيّ (روم 8: 19-25)
نابع من تفكير كتابيّ عميق ولاهوت ناضج عن (الانتظار الاسكاتولوجيّ) (روم 8: 19؛
23؛ 25). فالجماعة المسيحيّة الأولى انتظرت المسيح الديّان الآتي في نهاية الزمن؛
أمّا هنا في روم 8: 19-25)، فموضوع الانتظار النهيويّ هو (التبنّي الالهيّ للإنسان
h uioqe6ia) (روم 8: 23) بالمسيح. ويصف بولس هذا الانتظار بتعابير تنمّ
عن ألم شديد، وتمخّض، وأنين، وصبر طويل: (نحن أيضًا نئنّ
(6tenazw
= أنّ) في أنفسنا(9)
منتظرين التبنّي
(uioqe6ian فداء جسدنا) (روم 8: 23). إنتظار نشيط مُضن، يرجو (التبنّي
الالهيّ) والولادة الجديدة من الصليب. ويشدّد بولس على التضامن الكامل، في
الانتظار، بين الانسان والخليقة، بين البشريّة والكون كلّه
(ko6mo6). فالعالم
الماديّ مخلوق من أجل الانسان وهو يشارك الانسان في مصيره. فبسبب الانسان الخاطئ
(تك 3: 17)، أخضعت الخليقة كلها إلى الباطل (روم 8: 20) وأصبحت كالانسان في حالة
انتظار (روم 8: 19)! وهي تئنّ إلى يوم الخلاص: (إن الخليقة نفسها ستحرّر من
عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله. ونعلم أن الخليقة كلّها تئنّ وتتمخّض
إلى الآن) (روم 8: 21-22). لقد علّم الأنبياء أن العالم الماديّ، في زمن الخلاص
الاسكاتولوجيّ، سيشاطر شعب الله مجده (أش 55: 3؛ 65: 17). أما العهد الجديد (وبولس
هنا)، فيعلّم أن العالم الماديّ قد بدأ يشاطر المؤمن مجده (روم 8: 17). فمن خلال جسد
الانسان الممجّد، الانسان الحرّ والعائش في مجد التبنّي الالهيّ، يتمجّد الكون
كلّه. فبسبب الانسان المبرّر والممجّد صار الكون كلّه
(ko6mo6) شريكًا في مجد أبناء الله (روم 8: 21). نادى الفلاسفة
اليونان قديمًا بتحرير الروح من المادة. أما المسيحيّة فتنادي بتحرير المادة
نفسها. فالخلاص، بالمسيح الممجّد، يشمل كلّ الخلق المادّي والانسانيّ والملائكيّ
(كو 1: 20؛ أف 1: 10؛ 2 كور 5: 17؛ رؤ 21: 1-5).

فالرسالة
إلى الرومانيّين (روم 8: 19-25) ترى في الانسان الجديد، المبرّر والممجّد، خليقة
ماديّة جديدة ممجّدة أيضًا، خاضعة، كالانسان الجديد، إلى المسيح الممجّد.

هذا
التجديد، غيّر وجه العالم المادّي الفاسد، فحوّله إلى عالم حرّ مبرّر يشترك في مجد
أبناء الله. ولكن، هل من تحرّر وتمجيد مماثل لعالم الأرواح والملائكة والقوات؟

لقد
تعرّض مؤمنو كولسيّ لخطر المعتقدات الضالّة والتعاليم المضلّة الجديدة، فطلب بولس
منهم بأن يتجنّبوا تعليمًا يسمّيه (فلسفة
th6
jilo6ojia6
) (كو 2: 8) مع ممارسات
خاصّة به (كو 2: 16؛ 2: 18-21)(10). فيحرّضهم لكي يعيشوا مؤمنين متجذّرين في
المسيح (يستعمل الفعل
blepw = رأى، نظر.. في صيغة الأمر: (إحذروا أن يخلبكم أحد..) (2: 8).
والعبارة (يخلبكم) فعل يوناني
6ulagwgew  مركّب من فعلين: 6ulaw = نهب أو عرّى، و = قاد) مبتعدين عن كلّ (خداع باطل kenh6 apath6) (كو 2: 8). فالمؤمن لا يبحث عن ملء آخر سوى ملء المسيح الذي
يشاركه في حياته بواسطة العماد. أمّا القوات والأرواح والسلاطين فقد عُرّيت من كلّ
سلطان لها بواسطة موت وقيامة المسيح الذي (فيه يحلّ كل ملء اللاهوت جسديًا) (كو 2:
9). يستعمل النصّ صيغة الحاضر للفعل
katoikew = حلّ: لا يلمّح النصّ إلى يسوع الأرضيّ ليؤكّد أن اللاهوت سكن
(في الماضي) في جسده (ضدّ البدعة الظاهريّة
Docétisme
بل يتحدّث عن يسوع القائم من الموت في الزمن الحاضر. ولكن كيف نفسّر (جسديًا
6wmatikw6 إنّ عبارة
(ملء اللاهوت جسديًا)، تعني جسد المسيح القائم من الموت، الحامل فيه الخلق أجمع،
الانسانيّة المباشرة، والكون كلّه بصورة غير مباشرة، يحوي (ملء اللاهوت كلّه). فيه
تتجمّع الحياة الالهيّة، ومنه تتدفّق قوّة خلاصيّة على الانسانيّة كلّها وعلى
الكون أجمع. فالمؤمنون ينالون الملء من المسيح الذي يحيي الجسد: (وإنكم فيه مملؤون
peplhrwmenoi (كو 2: 10). فعلى المؤمنين أن يقتربوا من هذا الملء: (ملء اللاهوت
plhrwma th6 qeothto6) يسوع المسيح، دون اللجوء إلى قوات روحيّة وإلى ممارسات
تُفرض عليهم.

فالمسيح
الممجّد جمع في جسده (كل شيء في السماوات وعلى الأرض

(en autw ekti6qh ta panta en toi6 ouranoi6 kai epi th6 gh6 (كول 1: 16)

أي
الخلق والكون أجمع وكلّ المراتب السماويّة والقوات الفلكيّة الملائكيّة. لذلك
يشدّد بولس على ظفر المسيح، في موته وقيامته، على تلك القوات غير المنظورة، وعلى
خضوعها خضوعًا تامًا كاملاً ونهائيًا لجسده الممجّد الحال فيه ملء اللاهوت كلّه.
وهكذا، يشترك المؤمن في (ملء المسيح) (كو 2: 11-13) بكونه عضوًا حيًا في جسده (كو
1: 19؛ أف 1: 23)، فيصبح باتّحاده بالمسيح، أسمى من الرئاسات والسلاطين والقوات
السماويّة كافّة (كو 2: 14-15).

لقد
أكدّ بولس في الرسالة إلى الرومانيّين أن (العالم الماديّ)، بما فيه البشريّة
كلّها، قد تحرّر من (عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله) (روم 8: 21-22).
وفي الرسالة إلى كولسيّ، أكّد أيضًا أن (عالم الأرواح والقوات والسلاطين) قد أخضع
هو بدوره أيضًا إلى المسيح الممجّد القائم من الموت. وهكذا فالمسيح المائت والقائم
جمع في جسده الممجّد عالم المادة وعالم الأرواح والسلاطين، كما أشار إلى ذلك في
الرسالة إلى أفسس: (فيجمع في المسيح تحت رأس واحد
(anakejalaiow = جمع – دمج – رفع تحت رأس واحد هو المسيح) كلّ شيء (ta panta) ما في
السماوات وما على الأرض) (أف 1: 10). هكذا يعبّر عن الفكرة الرئيسيّة في الرسالة
إلى أفسس: المسيح الممجّد هو الذي عاد فجمع في شخصه وتحت سلطانه كونًا أفسدته
الخطيئة. لكن المسيح عاد فأحكم تركيبه، وصار هو نفسه الرأس الجامع الموحّد لجسم
الكون كلّه (عالم المادة وعالم الأرواح والسلاطين).

لقد
أصبحت الكرستولوجيّا البولسيّة، في الرسالتين إلى كولسيّ وأفسس، سوتيريولوجيّة
(حاملة الخلاص). فالمسيح الممجّد الذي يحلّ فيه (الملء كلّه
pan to
plhrwma
(مع أل التعريف) (كو 1:
19) أو (فيه يسكن ملء الألوهة
(pan to plhrwma
th6 qeothto6
) كلّه جسديًا) (كو 2:
9)، صار رأس القوات الملائكيّة كافة، والخلق أجمع؛ لا بل الكون قاطبة. فالكون كلّه
صار معنيًا بالفداء والخلاص والمجد، كما كان معنيًا بالخطيئة والضلال. وبالقيامة
من الموت صار المسيح رأس الكنيسة التي هي (جسده).

كما
أخذت الكرستولوجيّا بُعدًا سوتيريولوجيًا – كوسمولوجيًا، هكذا أخذت الاكليزيولوجيا
البولسيّة بُعدًا خلاصيًا – كونيًا في الرسالتين إلى كولسيّ وأفسس أيضًا، ولكن مع
بعض الفرق بينهما. ففي الرسالة إلى كولسيّ يتحدّث بولس عن الكنيسة كجسد حيّ للمسيح
الممجّد الذي هو رأسها: (وهو رأس الجسد، الكنيسة
ekklhtia6
kai auto6 e6tin h kejalh ton 6wmato6 th6
) (كو 1: 18؛ راجع أف 1: 22-23؛ 4: 15-16؛ 5: 23؛ روم 8: 29؛
1 كور 15: 20). الكنيسة هي (الجسد
ton 6wmato6 (مع أل التعريف أيضًا) (كو 1: 18)، والمسيح هو (الرأس.h kejalh
فالاثنان لا يفترقان. فالكنيسة – الجسد في ارتباطها الأساسيّ، تشهد لسيادة الابن
الفريدة عليها. إنها ككل جسم، واقع عضويّ يحيا وينمو.. المهمّ هنا ليس الكنيسة فيس
واقعها العضويّ كوحدة في الكثرة وتكامل الأعضاء، بل ارتباطها بالابن ووحدانيّة هذا
الارتباط.

أما
في الرسالة إلى أفسس فيتحدّث بولس عن الكنيسة (كملء المسيح): (وهي جسده، ملء
المالئ الكلّ في الكلّ
tou ta panta
en pa6in
(مع to plhrwma  أل
التعريف) (أف 1: 23؛ راجع 3: 19؛ 4: 13؛ كول 1: 19) (ملء المسيح
plhrwma tou cri6tou) (أف 4:
13). يدعو بولس الكنيسة (ملء) المسيح)، لأنها جسده السريّ (1 كور 12: 12)، فتضمّ
كل الخلق الجديد الخاضع للمسيح (مالئ الكلّ). ففي كولسيّ، المسيح هو: (ملء
الألوهة) (كو 2: 9) أو يحلّ فيه (الملء كلّه). أما هنا في أفسس، فالكنيسة هي (ملء
المسيح). فالمسيح نفسه يمتلئ من الآب، مصدر الحياة الالهيّة (كو 2: 9-10)، ويملأ
الكنيسة، والكنيسة تملأ العالم، كما يرى الانجيليّ يوحنا: الآب في الابن، والابن
في التلاميذ، والتلاميذ في العالم (يو 17: ،11 20-26).

فالكنيسة
التي هي ملء المسيح الممجّد، أصبحت مثل سيّدها ممتدّة امتداد الكون. فكما أن
المسيح الممجّد القائم من الموت جمع الخلق والكون كلّه في شخصه، هكذا الكنيسة التي
هي ملؤه، أصبحت كنيسة واحدة موحّدة، أصبحت كنيسة الخلق والكون أجمع، لا بل محور
الكون (أف 1: 22-23).

 

خلاصة

قلنا
إنّ دراسة رسائل بولس تقودنا إلى التمييز بين اتّجاهين عنده. فالاتّجاه الأوّل
يقودنا إلى ما نسمّيه (الكنيسة المحليّة) (كورنتوس، رومة، غلاطية..). وأما
الاتّجاه الثاني فيختصّ بما نسمّيه (الكنيسة الجامعة). ففي المرحلة الأولى، نظر
إلى الكنيسة من النظرة الواقعيّة الملموسة، الكنيسة في هذه المدينة أو تلك. وفي
المرحلة الثانية، وسّع تدريجيًا آفاقه (خاصة في الرسالتين إلى كولسيّ وأفسس) ونظر
إليها نظرة سريّة أكثر شموليّة وكونيّة كجسد للمسيح وملئه.

ففي
المرحلة الأولى، وجّه بولس رسائله (.. إلى جميع الذين في رومة) (روم 1: 7) (إلى
كنيسة الله في كورنتوس) (1 كور 1: 2 و2 كور 1: 1)، (إلى كنائس غلاطية) (غل 1: 2)،
(إلى.. الذين في فيلبّي) (فل 1: 1).. ويمكن تلخيص فكره في هذه المرحلة (روم، كور،
غل..) في ثلاث ركائز للكنيسة كجسد واقعيّ ملموس ظاهر للمسيح: المعموديّة، مائدة
الربّ، مواهب الروح القدس

 

أ
– المعموديّة

ليست
المعموديّة عند بولس طقسًا كما درجت العادة عند رهبان قمران وكما مارسه يوحنا
المعمدان. وليست فعلاً قانونيًا يدخل يه شخص إلى جماعة (كرهبان قمران) أو إلى شعب
معيّن (كالختان عند اليهود). وليست هي توبة تعدّ الانسان للملكوت فقط كما دعا
إليها المعمدان ويسوع نفسه في بداية رسالته. فالمعموديّة التي تكوّن الكنيسة جسدًا
للمسيح، هي أوّلاً ارتباط بالمسيح، (إهتداء إليه، أي
(metanoia) (هذه العبارة: metanoia = إهتداء، تعني (تغييرًا في الفكر) بحسب العقليّة اليونانيّة،
و(تغييرًا في القلب) بحسب العقليّة اليهوديّة)، نحوه، إذ إنه يغفر الخطايا ويوحّد
بموته وقيامته المؤمنين به في الكنيسة.

ونحن
نعرف أن المعموديّة في بداية المسيحيّة كانت تُمنح (باسم يسوع) (أع 2: 38؛ 8: 16؛
10: 48؛ 1 كور 13-15؛ غل 3: 27؛ روم 6: 3)، بمعنى أنّ يسوع يمتلك المعمّد، فيُصبح
ليسوع سلطة عليه. وهكذا يشترك المعمّد في حياة المسيح وفي موته وقيامته، كما يشترك
في البنوّة للآب مع المسيح ويصبح مسكنًا للروح القدس. فالمعموديّة تجعل الانسان
(خلقًا جديدًا) و(إنسانًا جديدًا) (روم 6: 3-6؛ 2 كور 5: 17؛ غل 3: 27؛ تي 3: 5).
بل إن المعمّد يحيا (في المسيح) (العبارة:
ei6 = في داخل، ترد/164/مرّة
في رسائل مار بولس)، إنه يحيا حياة المسيح.

وإنّ
الارتباط بالمسيح الذي يكوّن الكنيسة كجسد له يوحّد المؤمنين فيما بينهم ويجعلهم
جسدًا واحدًا، فيجعلهم الكنيسة بتمام معنى الكلمة، أي جماعة المؤمنين التي تؤمن
بيسوع المسيح: (إعتمدنا في روح واحد لنكون جسدًا واحدًا) (1 كور 12: 13).

فالمعموديّة
إذًا هي واقع يندرج في قطبين لا يتجزّآن: إنها تدمج في شخص المسيح، وبالتالي تدمج
في جسده وهو الكنيسة.

 

ب
– مائدة الرب

إنّ
مائدة الربّ أيضًا تكوّن الكنيسة المحليّة وتجعلها جسدًا للمسيح: (أليست كأس
البركة التي نباركها مشاركة في المسيح؟ أليس الخبز الذي نكسره مشاركة في جسد
المسيح؟ فنحن جسد واحد لأنه ليس هناك إلاّ خبز واحد) (1 كور 10: 16ي).

فالاشتراك
في جسد المسيح ودمه يكوّن حقًا جسده، كنيسته (في كورنتوس، في رومة، في غلاطية..).
فلمائدة الربّ بُعدان، شأنها شأن المعموديّة: إنها توحّد بالمسيح وتوحّد المشتركين
بعضهم ببعض:

ويعبّر
بولس عن الاتّحاد بالمسيح باستخدام عبارة:
(6un  مع): (صُلب – مع 6un6taurow) (روم 6: 6؛ غل 2: 19)؛ (تألّم – مع 6unpa6cw) (روم 8: 17؛ 1 كور 12: 27)؛ (مات – مع 6unapoqnh6kw) (2 كور 7: 3؛ 2 تيم 2: 11)؛ (دفن – مع 6unqaptw) (روم 6: 4؛ كو 2: 12)؛ (قام – مع 6unegeirw) (أف 2: 6؛ كو 2: 12؛ 3: 1)؛ (يحيا – مع 6uzaw) (روم 6: 8؛
2 كور 7: 3)؛ (يرث – مع
6ugklhronomoV) (روم 8: 17)؛ (يملك – مع 6umba6ileuw) (1 كور 4: 8)؛ (تمجّد – مع 6undoxazw) (روم 8: 17). هكذا تتّحد الكنيسة وتتكوّن باشتراكها في
الجسد والدمّ (1 كور 10: 16-21). وبناءً على الاتّحاد بالمسيح، يتّحد المشتركون
فيما بينهم، فيصبحون واحدًا في الجسد والدمّ الواحد (1 كور 10: 17). وهذا ما
يُظهره لوقا في سفر الأعمال عندما يصف الجماعة بأنها كانت قلبًا واحدًا (أع 2:
42ي). فالاتّحاد بالمسيح أساس الاتّحاد بين المشتركين، وأساس (الشركة
koinwnia) بينهم(11).

ج
– مواهب الروح القدس

إن
كان بولس يبني تأسيس الكنيسة وتكوينها ونموّها على شخص المسيح، إلاّ أنه يبنيها
كجسد المسيح على عمل الروح القدس أيضًا. فالروح القدس يبني الكنيسة بمواهبه.
فيستخدم بولس في سبيل ذلك صورة الجسد الذي يتكوّن من أعضاء مختلفة تكوّن جسدًا
واحدًا. فكنيسة المسيح واحدة مع تعدّد أعضائها ومواهبهم (1 كور 12: 12-13).

باختصار،
تقوم الكنيسة المحليّة، بحسب بولس، على ثلاث ركائز: المعموديّة، مائدة الافخارستيّا
ومواهب الروح القدس، أو على المسيح والروح القدس: المسيح في (الأسرار) والروح
القدس في (المواهب). فالأسرار والمواهب تنمي الجسد الكنسيّ وتعطيه الكيان.

إ
ن كان ما وجّهه مؤمنو هذه المدينة أو تلك من تساؤلات تتعلّق بشأن أوضاع الكنيسة
المحليّة ومشاكلها الواقعيّة الخاصّة، فإنّ تساؤلات كنيستيّ أفسس وكولسيّ مختلفة.
فقد كانت إشكاليّتهما حول الكنيسة الكونيّة! ومصير الكون بأجمعه والعالم بأسره من
الخلاص الذي حقّقه يسوع المسيح. فهل خُلّصت الخليقة كلّها بموت وقيامة الربّ
يسوع؟! فالإشكاليّة مختلفة تمامًا بين الرسائل الأولى (رومة، كورنتوس، غلاطية..)
ورسالتيّ كولسيّ وأفسس. في الرسائل الأولى، يبيّن بولس أن الكنيسة المحليّة مبنيّة
على المسيح (المعموديّة ومائدة الافخارستيّا) ومواهب الروح القدس، الأمر الذي يفرض
على أعضاء الجسد أن يكونوا واحدًا في وفاق ومحبّة. أمّا الرسالتان إلى كولسيّ
وأفسس فتتمحوران حول علاقة المسيح المخلّص الكونيّ مع جسده الشامل، أي كنيسته
الجامعة.

ولكن
إن كان بولس قد استعمل لفظة (رأس
kejalh) للمسيح ولفظة (جسد 6wma) للكنيسة، فلكي يؤكّد أن المسيح والكنيسة لا يتجزّآن أبدًا
(أع 9: 4؛ 22: 7؛ 26: 14). فالمسيح هو السيّد
(kurioV والكنيسة تظلّ جماعة المؤمنين التي تتّجه نحوه (أف 4: 15)،
كما أنه هو المبدأ، مبدأ نموّ الجسد (كو 2: 19؛ 1: 18)، فينمو الجسد نحو الرأس،
وينمو الجسد نحو الداخل بنموّ الإيمان والمعرفة والمحبّة (كو 1: 24)، كما أنه ينمو
نحو الخارج بالبشارة والاعلان، بحيث تصبح الكنيسة (ملء
plhrwma) الذي يملأ الكلّ في الكلّ (أف 1: 23).

فإن
خصّص بولس للكنيسة تسمية (ملء المسيح
cri6tou
plhrwma tou
) (أف 1: 23؛ 3: 19؛ 4:
13)، فلأن الكنيسة هي الأداة للمصالحة الكونيّة النهائيّة، والخضوع الكونيّ له،
وذلك عن طريق بشارتها بالانجيل ورسالتها في العالم (كو 1: ،18 24؛ 2: 19؛ 3: 15؛
أف 1: 22ي). فالكنيسة هي الموضوع الذي إليه يحمل المسيح ملء عمله الخلاصيّ وحياته.

هذا
هو معنى (الكنيسة ملء المسيح). فهي موضع تدخّل الله التام الكامل، لأن فيها يجتمع
كل عمله الخلاصيّ.

فإن
كانت البشريّة والخليقة كلّها واحدة في الأصل (تك 1-2)، فهما أيضًا واحدة في
هدفهما وغايتهما. وهذا ما نسمّيه (الوحدة الاسكاتولوجيّة) أي وحدة البشريّة والخلق
أجمع في الله الذي يصبح (كل شيء في كلّ شيء) بعد أن يكون المسيح بموته وقيامته
(أخضع كل شيء له
upotagh autw ta panta) (1 كور 15: 28).

وهذا
هو قصد الله الأزليّ (سرّ مشيئته
to mu6thrion
tou qelhmatoV
) (أف 1: 9)،
ألا وهو أن (يجمع – يدمج – يرفع تحت رأس واحد هو يسوع المسيح
(anakejalaiow) كلّ شيء (ta panta en tw cri6tw) ممّا في السموات وعلى الأرض) (أف 1: 10). فيصبح المسيح نفسه
(هو كل شيء وفي كلّ شيء) (كو 3: 11)، فيتّحد الكون بأجمعه في شخص المسيح، فيصبح
واحدًا معه وفيه وبه، أي نهاية كلّ شيء وهدف كل شيء، فيتمحور حوله الكون كلّه
ويتّجه نحوه.

والكنيسة
التي هي (ملء المسيح) تصبح علامة لوحدة البشريّة والكون أجمع، كما قصدها الله منذ
البدء (أف 1: 3-14). لا بل تصبح (آية
6hmeion) حقيقيّة لوحدة البشريّة والكون كلّه. فوحدة الكنيسة إنما هي
من أجل وحدة البشريّة والكوسموس كله، ولكي تفهم البشريّة أن دعوتها الإلهيّة هي
الوحدة، ال
plhrwma. وعلى نقيض ذلك، فإن انقسامات الكنيسة تُضعف دعوة الكنيسة
إلى وحدة البشريّة. لذلك، فالانقسامات في الكنيسة لا تمسّ وضعها الداخليّ وكيانها
فحسب، بل رسالتها الخلاصيّة الخارجيّة ودعوتها أن تكون (ملء المسيح).

– يقول العالم M. Goguel في (Esquisse
d’une solution nouvelle du problème, de l’Epître aux Ephésiens) RHR, 1935, p.
254-284; 1936, p. 73-99

إنّه
على /115/ آية في الرسالة إلى أفسس يوجد /73/ آية موازية في الرسالة إلى كولسيّ.
فالعلاقة بين الرسالتين وثيقة جدًا. وإن ثلث مفردات الرسالة إلى كولسيّ موجودة في
الرسالة إلى أفسس. وهذا ما دفع العالم البروتستانتي
M. CARREZ
إلى القول بأن: (
L’Epître aux
Ephésiens est tout simplement La Colossienne amplifiée
)

– كُتبت الرسالة
إلى كولسيّ بين سنة 58 و60 ميلاديّة. أما الظرف المباشر لكتابتها فكان الخطر الذي
يهدّد مؤمني كولسيّ، أي معتقدات ضالّة جديدة أخذت تنتشر في صفوف المسيحيّين (2:
4-8)، يمكن تلخيصها في نقطتين: الأولى نظريّة، تتعلّق ب (أركان العالم) (2: 8)، أي
القوات الروحانيّة الكونيّة، وهي في معتقدهم أسمى مرتبة وجوهرًا من المسيح يسوع،
وهي كائنات متسلسلة يتجلّى فيها ملء الألوهة، وهي على أساس الخلق كلّه (1: 16-17)،
تتحكّم بمصير الانسان، ولها تجب عبادة لائقة (12: 18)؛ والثانية عمليّة، ممارسات
تتعلّق بالطهارة الخارجيّة، وفق الشريعة، وبحفظ أيام وأعياد وسبوت، وامتناع عن بعض
المآكل والمشارب (2: 16-23)، أمور كلّها وفق وصايا البشر وتعاليمهم (2: 22). (راجع
مقدّمة الرسالة إلى كولسيّ، في إونجليون – الرسائل والرؤيا، ص 904 – الكسليك –
لبنان)

– يعتبر بولس أن
المعموديّة هي مشاركة في موت المسيح وقيامته. عبّر بولس عن الحقيقة عينها في روم
6: 1-11، مع هذا الفارق أن التعبير هناك عن الموت مع المسيح هو في صيغة الماضي،
وعن القيامة في صيغة المستقبل. أما هنا في كولسيّ فالتعبير عن الموت والقيامة
كليهما جاء في صيغة الماضي، لأن كل مؤمن قد تحرّر منذ الآن بالمسيح في المعموديّة
من كلّ سلطان ورئاسة، وحصل نهائيًا على الخلاص الأبديّ (أف 2: 5-6)، وهذا ما يسمّى
ب (الاسكاتولوجيا الحاضرة) في اللاهوت البولسيّ.

– لاحظ التغيّر في
اللاهوت الاسكاتولوجيّ البولسيّ: إنتقل من (الاسكاتولوجيا المستقبليّة) (روم 6: 5)
إلى (الاسكاتولوجيا الحاضرة) (أف 2: 6؛ كو 2: 12).

– إن البنية
الأساسيّة في تك 2، هي إظهار الخطيئة الأولى كسبب هام لتغيير عميق في الكون كلّه.
قبل الخطيئة كانت كل المخلوقات حسنة، الله ذاته صنعها حسنة (ترد عبارة (ورأى الله
أنّه حسن) سبع مرات في رواية الخلق الأولى الكهنوتيّة، تك 1: 1-2: 4أ). العدد سبعة
هو عدد الكمال، وبالتالي، فكل شيء خلقه الله هو كامل في الحسن والجمال. وكان
الانسان ينعم في الفردوس (تك 2) بالصداقة الالهيّة. وأكثر من ذلك، إن الكاتب
الملهم، أراد بدون شكّ ترسيخ الوحدة الحميمة، وربّما الحتميّة، بين كل الخليقة
والمخلوقات فيما بينها. فكلّ الكائنات المخلوقة، الانسان، وكائنات البحر والبرّ
والأرض متّصلة ببعضها وتشكّل وحدة عميقة هي (الكون
co6mos والانسان في وسطه. لهذا، فإن خطيئة الانسان الأوّل، لم
تشوّه الانسان وتعكّر علاقته مع الله وحسب، بل كان لهذه الخطيئة انعكاسات على
المخلوقات الأخرى أيضًا، وعكّرت بالتالي، العالم كلّه.

سقطة
الانسان أدّت إلى سقطة الخليقة كلّها (راجع تك 3: 17: (ملعونة الأرض بسببك..) أي
بسبب الانسان الخاطئ). فبعد (النظام الكونيّ المتناغم
L’harmonie Cosmique)، سادت النزاعات، وبعد السلام الشامل سادت حالة الحرب (تك 3: 15)،
والكون المنظّم
L’univers
harmonieux
أفسح المكان للفوضى
والعدميّة
Le Chaos.

– يقول المجمع
الفاتيكانيّ الثاني: (إن العقل البشريّ يستطيع بنوره الطبيعيّ أن يعرف الله، مبدأ
كل شيء وغايته، معرفة أكيدة، وذلك عن طريق المخلوقات (روم 1: 20)؛.. إن ما في
الإلهيات من أمور ليست بحدّ ذاتها صعبة المنال على عقل الانسان، يستطيع الجميع،
حتى في ظروف الجنس البشريّ القائمة، أن يعرفوها بسهولة وأن يتيقّنوا منها يقينًا
ثابتًا لا يخالطه غلط) (دستور عقائديّ في الوحي الالهيّ، الفصل الأول، رقم 6).

– أجمع أباء
المجمع الفاتيكاني الأوّل على أن بولس يثبت، في هذه الآيات: (روم
1: 18-23)، طاقة
العقل البشريّ على الاقرار بوجود الله ووحدانيّته وشخصانيّته، ولو نظريًا، مهما
أنكر ذلك وما أقرَّ به عمليًا.

– على رغم الشريعة
والختانة والمواعيد التي ائتمن عليها، يبقى اليهوديّ تحت حكم الله، ولن يتبرّر
إلاّ بالانجيل.

– يعني الفعل 6tenazw = أنّ، توجّع
من شدّة الألم والتعب والبؤس والسبيّ وطول الانتظار (راجع أش 3: 26؛ 16: 7؛ 19: 8؛
21: 2؛ مز 38: 8؛ 42: 5؛ 77: 3؛ أي 24: 12؛ أع 7: 34؛ 2 كور 5: 2؛ يع 5: 9؛ رؤ 8:
22).

10ً
– لم ترد كلمة (فلسفة
jilo6ojia) في العهد الجديد إلاّ هنا. هي لا تعني مذهبًا فلسفيًا
نظريًا معينًا، بل مبدأً دينيًا عمليًا يتعلّق ب (أركان العالم
kata ta 6toiceia tou ko6mou) (كو 2: 8) وعلاقتها المصيريّة بحياة البشر على الأرض. ولقد
كان المعتقد، بأن (أركان العالم)، أي القوّات الروحانيّة الكونيّة، هي التي تدير
حركة الكواكب والأفلاك وتتحكّم بمصير الشعوب، والتي يجب أن تقام لها العبادات
والسجود.

11ً
– يصبح المؤمنون في الجسد والدمّ جسدًا واحدًا، هو جسد المسيح. فكما أن المعموديّة
تكوّن الجسد وتوحّد المعمّدين في كنيسة واحدة هي جماعة المسيح، كذلك مائدة الربّ
فإنها تنمّي الوحدة فيما بينهم. لذلك أوصى يسوع بترك القربان والذهاب إلى الخصم
لمصالحته قبل تقديم القربان (مت 5: 23-24). وشدّد بولس على أنه لا يجوز أن يوجد
أيّ انشقاق بين الاخوة عند مشاركتهم الجسد والدمّ (1 كور 11: 17-34).

12ً
– بالإضافة إلى الركائز الثلاث التي أشار إليها بولس، يبني لوقا البشير الكنيسة
المحليّة على: التعليم (تعليم الرسل)، والأسرار (المعموديّة وكسر الخبز والصلوات)
والحياة المشتركة
(koinwnia) (أع 2: 42-47؛ 4: 32ي). وهذه العناصر الثلاثة هي من مهمّات
الأسقف (والكاهن) بحسب المجمع الفاتيكانيّ الثاني: الوظيفة التعليميّة، الوظيفة
التقديسيّة، والوظيفة الراعويّة (في نظام السلطة الكنسيّة، الفصل الثالث، عدد
21-27). وإذا جمعنا بين نظرة بولس ولوقا، توصّلنا إلى معرفة العناصر التي تكوّن
الكنيسة المحليّة وهي: التعليم – الأسرار – مواهب الروح القدس – الحياة المشتركة.

13ً
– عندما استخدم بولس كلمة (رأس
kejalh) للمسيح، كانا متأثّرًا بعقليّتين مختلفتين: اليهوديّة
واليونانيّة الرومانيّة. فتأثّره بالعقليّة اليهوديّة يظهر في أنه يرى اتّحاد
المسيح – الرأس بالكنيسة – الجسد اتّحادًا عضويًا بالأعضاء. وأما تأثّره بالعقليّة
اليونانيّة الرومانيّة ففي أنه يرى أن الرأس يؤثّر في الجسد لأن فيه العقل والفكر،
وبالتالي فالرأس مصدر الحركة (المسيح يحرّك الكنيسة) والقيادة (المسيح يقودها)
والحكم (المسيح يحكمها)، والحياة (المسيح يحييها) والوحدة (المسيح يوحّد أعضاءها)
والقداسة (المسيح يقدّسها).

14ً
– وعندما استخدم بولس كلمة (جسد
6wma) للدلالة على الكنيسة، كان متأثّرًا هنا بالعقليّتين
المذكورتين: في العقليّة اليهوديّة، الجسد (ب ش ر) هو حقيقة الشخص، وظهور للخارج،
وعمله وعلاقاته. فباستخدامه كلمة (كجسد) بهذا المعنى، أراد بولس بولس أن يقول إن
الكنيسة هي حضور المسيح للعالم، في أنّها حقيقته وظهوره وعمله وعلاقاته بعالم
البشر. وأما في العقليّة اليونانيهة فالجسد
6wma هو وحدة أعضاد مختلفة مرتبطة فيما بينها ارتباطًا قويًا، وهذا هو
حال الكنيسة جسد المسيح.

15ً
– (هل من علاقة بين الكنيسة المحليّة والكنيسة الجامعة؟ لقد شدّد بولس في النظرة
الأولى على العلاقة بين المؤمنين كأعضاء في الجسد الواحد بناءً على علاقتهم
بالمسيح. بيد أنه يشدّد في النظرة الثانية على العلاقة بين المسيح والكنيسة،
كالرأس والجسد. فهناك تكامل بين النظرتين: إن الأولى أشدّ تركيزًا على علاقة الجسد
في أعضائه. وأما الثانية فتركّز على علاقة الجسد بالرأس، وهو أمر أكثر شموليّة
وكيانًا، يختصّ بكيان الكنيسة وأساسها. وكنيسة المسيح هي الاثنان معًا: هي في
علاقة رأسيّة مع المسيح وأفقيّة مع البشر. ففي الكنيسة المحليّة تظهر وتحضر
الكنيسة الجامعة الكونيّة، وأما الكنيسة الجامعة الوحيدة، فهي تفترض الكنائس
المحليّة ولا وجود لها إلاّ في الكنائس المحليّة). (الأب فاضل سيداروس، من أنت
أيتها الكنيسة؟ المطبعة الشرقيّة، بيروت، لبنان).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى