علم الله

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل الثاني

الثالوث
الأقدس
في تعاليم الآباء والمجامع المسكونيّة

أوّلاً-
في القرنين الأول والثاني

1-
الثالوث الأقدس في سرّي المعمودية والافخارستيّا

مقالات ذات صلة

تتّضح
لنا عقيدة الكنيسة الأولى في الثالوث الأقدس ليس فقط في تعاليم الآباء بل في
ممارسة الأسرار المقدسة، ولا سيّمَا سرَّي المعمودية والإفخارستيّا. إنّ إيمان
الكنيسة الأولى بالثالوث الأقدس قد انطلق من خبرة الرسل الذين عاشوا مع المسيح ابن
الله واختبروا عمل الروح القدس في المسيح وفيهم من بعد قيامه المسيح. وهذا
الاختبار هو الذي نقلوه إلى جميع المؤمنين بالمسيح عبر الأسرار المقدّسة، ولا
سيّمَا سرَّي المعمودية والافخارستيّا. فمَا آمنوا به عبّروا عنه في الأسرار. لذلك
نجد علاقة وثيقة بين كرازة الإيمان وممارسة الأسرار. وتلك العلاقة واضحة في وصية
يسوع لتلاميذه بعد قيامته: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب
والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” متى 28: 19-
20). فالتعليم يسبق المعمودية، والمعموديّة تعبّر عن قبول التعليم وصدق الإيمان.
والعلاقة ذاتها نجدها في إنجيل مرقس: “إذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا
بالإنجيل للخليقة كلها، فمن آمن واعتمد يخلص” (مر 16: 15- 16). وهنا أيضاً
التعليم والإيمان يسبقان المعمودية.

ء)
المعمودية

لذلك
ينطلق تعليم الكنيسة الأولى في عقيدة الثالوث الأقدس من الكرازة التي كانت تهيّئ
الموعوظين لتقبّل سرّ المعمودية. ففي تلك الكرازة كانت تفسّر لطالبي العماد معاني
هذا السر وأبعاده ومضمون الإيمان الجديد الذي سوف يعتنقونه. وقبل المعمودية وفي
طريقة منح السر ذاتها، كان يُطلب من المعتمدين إعلان إيمانهم.

نقرأ
في “العقليد الرسولي” لهيبوليتوس الروماني، الذي كُتب سنة 215، أنّ
الأسقف، أو الكاهن، يقف بجوار الماء، بينما ينزل الشماس في الماء مع طالب العماد.
ويضع الأسقف يده على رأس المعتمد، ويسأله:


“هل تؤمن باله الآب القدير؟”، فيجيبه المعتمد: “إنّي أومن به”،
فيغطسه إِذّاك في الماء مرة أولى. ثم يضع من جديد يده على رأسه ويسأله ثانية:


“هل تؤمن يسوع المسيح ابن الله، الذي وُلد بفعل الروح القدس من مريم العذراء،
ومات وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وجلس عن يمين الآب، وسوف يأتي
ليدين الأحياء والأموات؟”، فيجيبه المعتمد: “إنّي أومن به”، عندئذ
يغطسه في الماء مرة ثانية. ثم يسأله ثالثة:


“هل تؤمن بالروح القدس، وبالكنيسة المقدسة، وبقيامة الجسد؟”، فيجيب
المعتمد: “إنّي أومن”. وإذّاك يغطسه مرة ثالثة. ثم يخرج المعتمد من
الماء.

وتلك
العادة كانت منتشرة في معظم الكنائس المسيحية، كما تشير إلى ذلك مؤلفات يوستينوس،
وديونيسيوس الاسكندريِّ، وترتوليانوس، وكبريانوس، وسِيَر الشهداء التي تعود إلى
القرن الثالث.

إن
إعلان الإيمان هذا، في أثناء رتبة المعمودية، هو شهادة لموجز العقيدة المسيحية،
و”قانون الإيمان” الكنيسة الأولى. ويبدو لنا الاعتراف بالثالوث الأقدس،
الآب والابن والروح القدس، الركن الأساسي في تلك العقيدة.

ب)
الافخارستيا

في
الافخارستيا، سرّ الشكر، تحتفل الكنيسة بعظائم الله وتشكر له كلّ ما صنعه لأجلنا،
ولا سيّمَا إرساله إلينا ابنه يسوع المسيح وروحه القدوس. لذلك يرد ذكر الأقانيم
الإلهية الثلاثة في إقامة. كل افخارستيا، لدى تقدمة القرابين وتقديسها (ما يُدعى
باليونانية الأنافورا).

يروي
هيبوليتوس الروماني في التقليد الرسولي كيف كانت الكنيسة الأولى تحتفل بهذا السر:

“يقدّم
الشمامسة القرابين إلى الأسقف، فيضع يده عليها، ويتلو عليها الصلاة التالية: “نرفع
لك الشكر، يا الله، بابنك الحبيب يسوع المسيح، الذي أرسلته إلينا في تمَام الأزمنة
مخلّصاً وفاديًا ومبلغًا إيانا ارادتك”. وبعد ذكر كلام الرب على الخبز والخمر،
يتابع قائلاً: “نطلب إليك أن ترسل روحك القدوس على تقدمة الكنيسة المقدّسة،
وأن تجمع النفوس لتوطيد الإيمان في الحق”. ويختم بالتمجيد: “ولذا نريد
أن نسبّحك ونمجّدك بابنك يسوع المسيح، الذي به نرفع إليك التمجيد والإكرام، أيها
الآب والابن والروح القدس، في الكنيسة المقدّسة، الآن وإلى دهر الداهرين.
آمين”.

على
هذا المثال كانت تُتلى كل صلاة افخارستيّة: فالصلاة تتوجّه إلى الآب، الذي أرسل
ابنه المخلّص، وتطلب إليه الآن أن يرسل روحه القدوس على القرابين ليكرّسها ويجعلها
جسد المسيح ودمه، وكل الشعب كله ليقدّسه ويوطده في الإيمان ويجمعه في الوحدة.

2- الثالوث
الأقدس في تعليم الآباء

لم
يكتف الآباء في تعليمهم بترداد. أقوال العهد الجديد في الثالوث الأقدس، بل حاولوا
توضيح علاقة الأقانيم بعضها ببعض، وذلك في تفسير العقيدة المسيحية للمسيحيين،
والدفاع عنها إمّا ضد الوثنيين وإمّا ضد الغنوصيين.

ء)
الآباء المناضلون

يستقي
الآباء المناضلون دفاعهم عن الإيمان المسيحي وعقيدتهم اللاهوتية من الكتاب المقدس
ومن إيمان الكنيسة الأولى. إلاّ أنهم يعبّرون عن هذا الإيمان بتعابير مستقاة من
الفلسفة اليونانية، وذلك في سبيل إيصال الإيمان المسيحي إلى اليونانيين المتشرّبين
تلك الفلسفة.

لكن
التعبير عن الإيمان المسيحي بمفاهيم الفلسفة اليونانية له مخاطره، اذ يمكن أن
يؤثّر اللجوء إلى تلك المفاهيم على العقيدة نفسها. ولم يقو اللاهوت المسيحي على
إزالة كل تلك المخاطر إلا تدريجيًّا.

لذلك
نلاحظ عند الآباء المناضلين، من أمثال القديس يوستينوس، وتاتيانوس، وأثيناغوراس،
والقديس ثيوفيلوس أسقف أنطاكية، بعض الالتباس في تأكيد أزليّة الابن والروح القدس
ووحدتهما في الجوهر مع الآب. وقد تأثروا، في هذا الموضوع، بالنظرة الافلاطونية لله
التي تضع بين الله الأسمى والإنسان قافلة من الكائنات التي تحتلّ مرتبة وسطًا بين
الله والإنسان، لأن الله، في نظرها، بعيد كلّ البعد عن العالم المخلوق، ولا يمكنه
أن يتصل به إلا بواسطة تلك الكائنات. والكلمة (باليونانية “لوغوس”) هي
أعظم تلك الكائنات، وبالكلمة خلق الله العالم. فالخطر، في اللاهوت المسيحي، يكن في
اعتبار ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وكلمة الله، كائنًا وسطًا بين
الله والإنسان. وفي هذا الموضوع لا تخلو كتابات الآباء المناضلين من الالتباس.
يقول مثلاً يوستينوسِ:

إنّ
ابن الله، الوحيد الذي يدعى ابنًا بالمعنى الحقيقي، والكلمة الذي، قبل كل الخلائق،
كان مع الله، وولد عندما صنع الآب، به، في البدء، كل شيء ونظّمه” (دفاع 2: 1،
2).

فكأن
كلمة الله لم يولد الا عندما صنع الله الكون. وكذلك يقول ثيوفيلوس:

“لمّا
أراد الله أن يصنع ما قرّره، ولد هذا الكلمة، لافظاً إيّاه بكر كل خليقة، اذ لم
يحرم ذاته من الكلمة، بل ولد الكلمة، وكان بتحدّث دومًا معه” (كتاب إلى
اوتوليكوس 2: 22).

يميّز
ثيوفيلوس بين الكلمة الباطني، القائم منذ الأزل في الله، الذي هو فكر الله وعقل
الله وعلم الله؟ والكلمة الملفوظ أو المنطوق به، الذي ولده الآب لمّا لفظه ونطق به
قبل الخلائق، وبمساعدته صنع الكون:

“ان
الله، اذ فيه كلمته الباطني، ولده مع حكمته، لافظًا إيّاه قبل كل شيء” (2: 10).
“قبل ان يخلق أيّ شيء، كان الكلمة الباطني موجودًا على الدوام في قلب الله.
لقد كان له مشيرًا، هو عقله وفكره” (2: 18).

يؤكد
هؤلاء الآباء الوهية الابن والروح، اذ يميّزون بين “صنع الخلائق”،
وولادة الابن، ووحدة الجوهر الإلهي بهن الآب والابن والروح القدس. يقول اثيناغوراس:

“إنّ
ابن الله هو كلمة الآب بالفكر والقدرة. اذ فيه وبه كوّن كل شيء، لأن الآب والابن
هما واحد فالابن هو في الآب، والآب هو في الابن في وحدة الروح وقدرته. إنّ ابن
الله هو عقل الآب وكلمته. واذا أردتكم، بحكمتكم السامية، أن تعرفرا ما معنى
“الابن”، سأقوله لكم ببضع كلمات: إنه وُلد من الآب، لا بمعنى أنه صُنع.
فالله، منذ البدء، هو عقل أزلي، وبمَا أنه عاقل منذ الأزل، كان معه كلمته (الذي هو
عقل الله)”.

سترفض
الكنيسة في ما بعد التمييز بين الوجودين لكلمة الله: الوجود الباطني في الله،
والوجود الخارجي الذي حصل عندما لفظ الله الكلمة ونطق به. ففي هذا التمييز التباس
بالنسبة إلى تأكيد ازلية الكلمة، وخطر الانحراف نحو الاعتقاد بتطوّر كلمة الله
وتبدّله من حال إلى حال. إلا أن لاهوت الآباء المناضلين في الثالوث الأقدس قد سار
منذ البدء في الاتجاه الصحيح، الذي يؤكّد في آن معًا تثليث الأقانيم ووحدة الجوهر.
وهذا ما سيعبّر عنه بوضوح أكثر القديس ايريناوس.

ب)
القديس إيريناوس، أسقف ليون (140- 202)

توسّع
ايريناوس في عقيدة الثالوث الأقدس في كتابيه: “ضد الهراطقة”،
و”تبيين الكرازة الرسولية”. فالكتاب الأوّل موجّه ضد الغنوصيين الذين
كانوا يفرّقون بين الإله الأسمى البعيد عن الكون والذي لا علاقة له بأيّ من
الكائنات، والإله الأدنى الذي انبثق عن الإله الأسمى، وسقط بالتالي من جوهر
الالوهة، وبه خلق الإله الأسمى الكون. فالخالق هو إذًا، في نظرهم، الإله الأدنى.
والكتاب الثاني هو عرض بسيط شعبي للعقيدة المسيحية وتبيين أسسها الرسولية.

معرفة
الله: يؤكد إيريناوس أنّ الإله الأسمى هو نفسه الإله الخالق، وأنه لا وجود لآلهة
أدنين سقطوا من جوهر الالوهة. فالإله واحد، وهذا الإله قد عرّف ذاته لجميع الناس
معرفة أولى بواسطة الخلق. ثم أوحى ذاته تدريجيًّا بواسطة الأنبياء، وأخيرًا بواسطة
ابنه وكلمته يسوع المسيح.

أما
بشأن إمكانية توصّل الناس إلى معرفة الله، فكان الغنوصيون يقسمون الناس إلى ثلاث
فئات: المادّيين، أبناء الشيطان، الذين لا يمكنهم الوصول إلى معرفة الله،
والنفسيين، أبناء الإله الأدنى، الذين يرتفعون بالمعرفة ثم يسقطون عنها، وأخيرًا
الروحيين، أبناء الله، الذين يعرفون الله منذ الآن معرفة ثابتة بحَدْسهم الطبيعي.
وهؤلاء فقط يمكنهم القول أنهم يعرفون الله معرفة كاملة.

جوابًا
على هذه النظرة يؤكّد إيريناوس أنّ جميع الناس متساوون إزاء سر الله، الذي لا يمكن
كشفه كشفًا تامًا بواسطة العقل، بل بواسطة الوحي الذي أتانا به ابن الله.

والكلمة،
اذ يظهر الله للناس، لا يظهره بشكل يتيح لهم رؤيته رؤية مباشرة، وذلك لئلاّ يصل
الإنسان إلى احتقار الله، وليكون دومًا أمامه هدف يحثّه على التقدّم” (ضد
الهراطقة 4: 20، 7).

وحتى
في السماء لن يزول هذا التقدّم في معرفة الله. يقول إيريناوس:

“ان
كانت هناك، حتى في عالمنا المخلوق، أمور يحتفظ بها الله وأمور يستطيع علمُنا البلوغ
إليها، فهل من الغريب أن نجد في الكتاب المقدس الذي هو روحي بمجمله، مسائل يمكننا
حلّها بنعمة الله، ومسائل أخرى يحتفظ بها الله لنفسه، ليس في هذا العالم وحسب، بل
أيضاً في العالم الآخر، وذلك لكي يبقى الله دوما يعلَمنا، ويظلّ الإنسان على
الدوام يتعلّم على يد الله” (ضد الهراطقة 2: 28، 2- 3).

*
المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس

يؤكّد
ايريناوس أنّ معرفة الله لدى المسيحيين تبدأ بالمعمودية التي ينالونها على اسم
الآب والابن والروح القدس. يقول في “تبيين الكرازة الرسولية”:

“إليكم
ما يؤكده لنا الإيمان، كما سلّمنا إياه الكهنة، تلاميذ الرسل. انه يذكّرنا أوّلاً
أننا نلنا المعمودية لمغفرة الخطايا باسم الله الآب، وباسم يسوع المسيح ابن الله
الذي تجسّد ومات وقام، وفي روح الله القدوس.. عندما نولد من جديد بالمعمودية التي
تُعطى لنا باسم هذه الاقانيم الثلاثة، نغتني في هذه الولادة الجديدة من الخيرات
التي في الله الآب بواسطة ابنه، مع الروح القدس. فالذين يعتمدون ينالون روح الله،
الذي يعطيهم للكلمة، أي للابن، والابن يأخذهم ويقدّمهم للآب، والآب يمنحهم عدم
الفساد. وهكذا بدون الروح، علينا رؤية كلمة الله، وبدون الابن لا يستطيع أحد الوصول
إلى الآب. فان معرفة الآب هي الابن، ومعرفة ابن الله نحصل عليها بواسطة الروح
القدس. ولكن الابن هو الذكي من شأنه توزيع الروح، حسب مسرّة الآب، على الذين
يريدهم الآب، وعلى النحو الذي يريد” (الكرازة الرسولية 3 و7).

*
الإيمان بالثالوث الأقدس أساس خلاصنا

يتّضح
لنا من خلال النص السابق أنّ الإيمان بالثالوث الأقدس لا يمكننا البلوغ إليه إلاّ
انطلاقًا من تدبير الله الخلاصي. لذلك يعتبر هذا الإيمان أساس خلاصنا وركن بنائه.
يقول في كتابه ضد الهراطقة:

“هوذا
تعليم إيماننا المنهجي وأساس خلاصنا وركن بنائه: إنّه الله الآب الذي لم يُخلق ولم
يولد ولا يرى، الإله الأوحد، خالق كل شيء، هذا هو البند الأول من إيماننا. أما
البند الثاني فهو التالي: إنّه كلمة الله، وابن الله، ربنا يسوع المسيح، الذي ظهر
للأنبياء في الشكل الذي وصفوه به في نبؤاتهم ووفق تدبير الآب الخاصّ، الكلمة الذي
كوّن كلّ شيء، والذي في ملء الأزمنة، صار إنسانًا ليعيد كلَ شيء ويضبطه، فوُلد من
البشر، وسار منظورًا وملموسًا ليبيد الموت ويظهر الحياة، ويعيد الوحدة بين الله
والإنسان. أما البند الثالث فهو الروح القدس الذي نطق بالأنبياء، وعلّم آباءنا
الأمور الإلهية، وقاد الصديقين في طريق البر. وهو الذي، في ملء الأزمنة، أفيض بشكل
جديد على البشرية، فيمَا كان الله يجدّد الإنسان على الأرض كلّها” (الكرازة
الرسولية 3 و6)

وهذا
الإيمان هو إيمان الكنيسة الجامعة منذ الرسل:

“إن
الكنيسة، وان تكن منتشرة في المسكونة كلّها حتى أقاصي الأرض، قد تسلّمت من الرسل
وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض والبحار وكل ما
فيها؛ وبيسوع المسيح الواحد، ابن الله، الذي تجسّد لأجل خلاصنا؛ وبروح قدس واحد
نطق بالأنبياء معلنًا تدابير ربنا الحبيب يسوع المسيح، ومجيئه وميلاده البتولي
وآلامه وقيامته من بين الأموات، وصعوده بالجسد إلى السماوات، ومجيئه الثاني عندما
سيظهر من السماوات، عن يمين الآب، ليعيد كلّ شيء ويقيم كلّ جسد من جميع البشر، لكي
تجثو أمام ربنا يسوع المسبح وإلهنا ومخلّصنا وملكنا، وفق إرادة الآب الذي لا يُرى،
كل ركبة ممّا في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف به كلّ لسان..

هذه
هي الكرازة التي تسلّمتها الكنيسة. وهذا هو إيمانها، على ما قلنا، ومع أنها منتشرة
في العالم أجمع، فهي تحافظ على تلك الكرازة باعتناء، كما لو كانت تقيم في منزل
واحد، وتؤمن بها باتّفاق، كما لو كان لها نفس واحدة وقلب واحد. وبوحدة رأي تكرز
بها وتعلّمها وتسلّمها، كما لو كان لها فم واحد” (فقد الهراطقة 1: 10، 2).

ويعلن
ايريناوس ضد الغنوصيين، الساعين وراء معرفة الله جديد يكتشفون سرّه بتنظيرهم
العقليّ، أن لا الله إلاّ الإله الذي ظهر لنا في المسيح وفي الروح القدس:

“عندما
سيبلغ كل شيء كماله في السماء، لن نرى آبا آخر غير الآب الذي نودّ أن نراه..، ولن
نشاهد مسيحًا آخر ابن الله غير ذاك الذي ولد من مريم العذراء، وتألم، الذي به نؤمن
وإيّاه نحب..، ولن نحصل على روح قدسٍ آخر غير ذاك الذي معنا والذي يصرخ فينا: “أبّا
أيّها الآب. فبهم سنواصل السعي والتقدم، متمتعين بمواهب الله، ليس بعد من خلال
الرموز وكما في مرآة، بل وجهًا إلى وجه” (ضد الهراطقة 4: 9، 2).

*
وحدة الجوهر الإلهي والطبيعة الإلهية

لا
يكتفي إيريناوس بذكر الأقانيم الثلاثة، بل يوضح وحدتها في الألوهة.

فيقول
عن الآب والابن: “الآب ربّ، والابن ربّ، الآب إله والابن إله، لأن الذي ولد
من الله هو إله. وهكذا، وإن كان هناك، حسب تدبير فدائنا، ابن وآب، نبيّن أن ليس
إلاّ إله واحد، في جوهر كيانه بالذات وطبيعة هذا الكيان” (الكرازة الرسولية،
47).

ويؤكّد
ألوهيّة الابن: “إنّ الابن، الذي هو موجود دومًا مع الآب، يوحي الآب منذ
البدء للملائكة ورؤساء الملائكة والقوات ولكل من يريد الله أن يوحي له ذاته”
(ضد الهراطقة 3: 9)، “لقد بيّنّا بوضوح أن الكلمة موجود منذ البدء لدى الله..
وهكذا أرغمنا على الصمت أولئك الذين يقولون: بمَا أن المسيح ولد، فهذا يعني أنّه
لم يكن قبلاً. فقد برهنّا أن وجوده لم يبدأ بولادته، بمَا أنه موجود دائمًا لدى
الآب” (3: 18، 1).

لا
يتكلم كثيرًا إيريناوس عن ألوهيّة الروح القدس، لأن موضوع النقاش في الكنيسة
الأولى لم يكن الروح القدس بل الابن. ومع ذلك بشير إلى ألوهية الروح القدس في ذكر
وحدة العمل الإلهي بين الآب والابن والروح القدس:

“الآب
يسرّ ويأمر، والابن يعمل ويخلق، والروح يغذّي وينمي، والإنسان يتقدّم رويدًا
ويرتقي إلى الكمال، أي إنه يتقرّب من الله غير الخلوق، لأنّ من هو غير مخلوق، فهو
كامل، وهذا هو الله” (ضد الهراطقة 4: 38).

غن
الروح يغذّي الإنسان بغذاء الله وينميه في معرفة الابن والآب. فهو واحد مع الابن
والآب. ويدعو إيريناوس الابن والروح “اليدين” اللتين بهما خلق الآب
العالم ولا يزال يعمل بهما متابعًا عمل خلاص الإنسان ليصل به إلى ملء حياة الله:

“إنّ
الإنسان، الذي جبلته في البدء يدا الله، أي ابنه وروحه، يصير في كل وقت على مثال
الله وصورته” (ضد الهراطقة 5: 28، 3).

لقد
رأى البعض في تشبيه “اليدين” انتقاصا لوحدانية الله، أو عدم مساواة بين
الأقانيم الإلهية. إلاّ أن ايريناوس لا يرى في هذا التشبيه سوى صورة للتأكيد على
وحدة الأقانيم الإلهية في الطبيعة الإلهية وفي عمل الله في الكون. وكذلك القول عن
العبارات التالية التي توضح عمل الأقانيم الثلاثة في خلاص الإنسان:

“إن
الرب قد أفاض روح الآب على الإنسان ليوحّده بالله ويدخله في شركة معه، بمنحه الله
للإنسان بالروح القدس” (ضد الهراطقة 5: 6، 6).

“بالروح
يرتقي التلاميذ إلى الابن، وبالابن إلى الآب، والابن يسلّم عمله إلى الآب”
(ضد الهراطقة 5: 36، 8).

“إن
الذين يحملون في ذواتهم روح الله يُقادون إلى الكلمة، والابن يأخذهم ويقدّمهم إلى
أبيه، والآب يمنحهم عدم الفساد” (الكرازة الرسولية، 7).

لا
نجد أروع من هذه التعابير لتفسير عمل الأقانيم الثلاثة في تاريخ الخلاص، بيد أن
إيريناوس يقتصر في لاهوته في عقيدة الثالوث الأقدس على هذا العمل، دون الخوض في
موضوع كيان الله في ذاته وعلاقة الأقانيم الثلاثة ضمن حياة الله الباطنيّة.

ثانياً-
في القرن الثالث

1-
البدع الثالوثية: بين الشكلانية والتبعية

إن
الفكر اللاهوتيّ في عقيدة الثالوث الأقدس كان في القرن الثالث يحتلّ مرتبة وسطًا
بين تيّارين متناقضين: تيّار يميل إلى إزالة التمييز بين الأقانيم، فيرى في
الثالوث الأقدس إلهًا واحدًا ظهر لنا في ثلاثة أشكال مختلفة، وتيار يميل إلى رفض
المساواة بين الأقانيم، فيعتبر أن الآب وحده هو إله بالمعنى الحقيقي. أما الابن
والروح، فليسا من جوهر الآب الواحد. التيّار الأول يدعوه اللاهوت الشكلانيّة،
والتيّار الثاني يدعوه التبعيّة.

ء)
الشكلانية

ينطلق
هذا التيّار من وحدانية الله. فيقول إنّ الإله واحد وهو الآب، كما يؤكّد ذلك
الكتاب المقدس في كلا العهدين ولكن المسيح، حسب العهد الجديد، هو أيضا إله.
فالمسيح إذن هو نفسه الله الآب. ولتفسير ذلك، يقولون إنّ الله قبل التجسّد، كان
فقط آباً، ولمّا تجسّد صار هو نفسه ابنًا، وتألم وصلب ومات وقام. وكذلك الروح
القدس غير متميّز عن الآب. فهو الآب نفسه الذي يملأ الكون، والذي، في التجسّد، حلّ
على مريم العذراء وولد منها ابنًا. فالآب هو ذاته الابن وهو ذاته الروح.

إنّ
تلك النظرة إلى الثالوث تزيل كل تمييز في الذات الإلهية، اذ تجعل من الأقانيم
الإلهية الثلاثة أشكالاً خارجية لا تتميّز إلا بالنسبة إلينا نحن البشر، أما
بالنسبة إلى الله، فهي أشكال مختلفة لأقنوم واحد. وينتج من تلك النظرة إزالة كلّ
سموّ في الله، فالله أقنوم واحد، وهذا الأقنوم هو ذاته قد تجسّد وتألّم ومات وقام
وحلّ على التلاميذ يوم العنصرة.

لقد
رفضت الكنيسة هذا المفهوم للثالوث الأقدس، حرصاً منها على احترام حموّ الله عزّ
وجلّ الذي لا يمكن أن يكون عرضة للتحوّل والتغيّر والتبدّل في عمق ذاته الإلهية.
تؤمن المسيحية أنَّ التجسد هو اتّحاد الله بالإنسان اتّحادًا شخصيًا، لكنّها
تتمسّك في الوقت ذاته بسموّ الله، لذلك تعتقد أن أقنوم الابن هو الذي تجسّد وليس
أقنوم الآب. وهذا ما ستؤكّده أيضاً في إعلانها التمييز بين الطبيعة الإلهية
والطبيعة الإنسانية في المسيح. فالكلمة، الذي هو من ذات جوهر الآب، قد اتّخذ طبيعة
بشرية كاملة واتّحد بها اتّحادًا جوهريًا، وفي هذه الطبيعة البشرية تألم وصلب ومات.
إلاّ أنه في طبيعته الإلهية لم يزل غير متألم وغير مائت.


إنّ ما تقصده الكنيسة في إيمانها بطبيعة المسيح في سر التجسّد هو عينه ما تقصده في
إيمانها بتثليث الأقانيم في سر الثالوث الأقدس. أعني به المحافظة كل أمرين معًا: سموّ
الله وتعاليه من جهة، واتحاده بالإنسانية اتحادًا شخصيًا وجوهريًا من جهة أخرى.
فسمو الله تؤكّده بقولها إنّ الآب هو أقنوم متميّز عن أقنومي الابن والروح القدس،
وإنّ أقنوم الابن وحده هو الذي تجسّد. واتحاد الله بالإنسانية اتحادًا شخصيًا
وجوهريًا، تؤكّده بقولها إنّ الابن الذي تجسّد هو من طبيعة الله الواحدة ومن ذات
جوهر الله الواحد.

ب)
التبعيّة

التيار
الثاني الذي رفضته الكنيسة ودعاه اللاهوت “التبعيّة” يعتبر الله الآب
وحده إلهًا بالمعنى الحقيقيّ، أي إنّه الله منذ الأزل وفيه ملء جوهر الألوهة وملء
الطبيعة الإلهية. أمّا الابن والروح فهما، في نظر هذا التيّار اللاهوتي، تابعان
للآب وخاضعان له، وليسا من جوهر الآب ذاته ولا هما أزليّان معه.

لقد
سلكت هذا الطريق في تفسير الثالوث الأقدس بدعتا التبنّوية والآريوسية، اللتين
توسّعنا في تاريخها وتعاليمهما في معرض حديثنا عن ألوهية المسيح. فالتبنّوية لا
ترى في المسيح سوى إنسان تبنّاه الله أو اتّحد به كلمة الله اتّحادًا عرضيّا.
والآريوسيّة تعتبر الكلمة كائنًا وسطًا بين الله والخلائق. وكلتا البدعتين أرادتا
في نظرتهما إلى الثالوث المحافظة على وحدانيّة الله.

إن
الكنيسة قد حرمت كلتا البدعتين، اذ رأت فيهما إنكارًا لتجسّد الله وإنكارًا لاتّحاده
اتّحادًا جوهريًا بالإنسانية، وعودة إلى الأساطير القديمة التي تتحدّث عن وجود إله
أعظم ينبثق منه آلهة أدنَوْن ويقيم إلى جانبه رهط من أنصاف الإلهة.

ليست
عقيدة الثالوث الأقدس عقيدة تعود بالفكر البشريّ إلى تعدّد الإلهة، بل عقيدة تنطلق
من ظهور الله، الإله الواحد الذي لا الله سواه، ظهورًا ذاتيًّا في شخص ابنه يسوع
المسيح وروحه القدوس، وتؤكد أ،ه من خلال هذا الظهور الخلاصيّ، يمكننا معرفة الذات
الإلهية المثلّثة الأقانيم. هذا ما سيعمل على توضيحه اللاهوت الناشئ ابتداء من
القرن الثالث.

2- اللاهوت الناشئ

في
القرن الثالث صار اللاهوت علمًا قائمًا بذاته، وحاول آباء الكنيسة واللاهوتيون
التوسعّ في عقيدة الثالوث الأقدس، فأكّدوا وجود الأقانيم الثلاثة، الآب والابن
والروح القدس، في وجه اليهوديّة التي تعترف باله واحد دون تمييز في الأقانيم وتنكر
التجسّد. كما سعوا في إظهار وحدة الأقانيم في الألوهة والكرامة إزاء الوثنية التي
تقول بتعدّد الإلهة.

إلاّ
أنّهم، في تفكيرهم اللاهوتي، لم ينظروا إلى الثالوث الأقدس في ذاته وفي كيانه
الأزليّ بقدر ما نظروا إليه في ارتباطه بالعالم. وقد تأثّروا، في عرضهم للعقيدة،
بالفلسفات اليونانية التي كانوا متشرّبين منها. لذلك لم يبلغوا إلى إزالة كل
التباس في تعليمهم، وقد نرى في تعليم ترتوليانوس وأوريجانوس بعضًا من التبعيّة في
كلامهما عن علاقة الابن والروح القدس بالآب.

ء)
ترتوليانوس

ترتوليانوس
هو أوّل لاهوتيّ في الكنيسة الغربيّة توسّع في عقيدة الثالوث الأقدس، واستخدم
للتعبير عنها ألفاظًا ستثبت حتى يومنا هذا، ولا سيّمَا لفظتي “جوهر”،
وأقنوم أو شخص.

لقد
تأثّر ترتوليانوس بالفلسفة الرواقيّة الحلوليّة، التي كانت ترى في مبدإ الكون
جوهرًا واحدًا حيًّا يجمع في ذاته بين الروحيّ والجسديّ، ويبرز خارج ذاته في تعدّد
الخلائق، دون أن يفقد وحدته.

لذلك
ينطلق ترتوليانوس، في عرضه لسر الثالوث الأقدس، من الجوهر الإلهي الواحد الذي ظهر
بثلاثة أقانيم في الخلق والخلاص. فالأقانيم الإلهية هي، في نظره، ثلاثة أنواع من
العلاقات يرتبط من خلالها الإله الواحد بالعالم، وتتساوى في جوهر الالوهة، غير
أنها تتفاوت في الظهور. فالآب هو منذ الأزل، و”هو الجوهر كلّه” (ضد
براكسياس، 9). أما الابن والروح فيشاركان الآب في جوهر الألوهة، إنّما بدرجة أدنى.

كذلك
القول عن أزلية وجود الابن والروح جمع الآب. فهما أزليان مع الآب، ولكن ليس
كأقنومين متميّزين عن أقنوم الآب، انما كصفتين في الذات الإلهية. ولم يتميّزا
كأقنومين إلاّ في الزمن، أي لدى خلق الكون ولدى حلول الروح القدس على التلاميذ يوم
العنصرة. يقول ترتوليانوس:

“أن
الله كان وحده.. ومع ذلك لم يكن، إذّاك، وحده بالمعنى الحقيقيّ. فقد كان معه العقل
الذي فيه. إن الله عاقل، والعقل كان فيه منذ البدء، وبه كان كلّ شيء. هذا العقل
يدعوه اليونانيون “لوغوس” (ضد براكسياس، 5).

ويميّز
ترتوليانوس، كما فعل يوستينوس قبله، بيت الكلمة الذي هو فكر الآب وعقله منذ البدء،
والكلمة الذي نطق به الآب لدى خلق العالم:

“إن
الله لم ينطق بكلمته منذ البدء بيد أن كلمته كان فيه مع العقل ذاته وفي العقل ذاته،
مفكراً في ما سوف يعبّر به بكلمته ومنظّمًا إيّاه” (ضد براكسياس، 5).

إن
العقل والكلمة الذي قبل الخلق هو صفة خاصّة بالله، ولكنّه ليس أقنوم الابن. فعندما
قال الله “ليكن نور”، وُلد منه كلمته، إذّاك ظهر الابن الوحيد المولود
من الآب، والمتميّز عنه. فالابن لم يظهر في الوجود متميّزًا عن الآب إلاّ لدى خلق
العالم، والروح لم يظهر متميّزًا عن الآب والابن إلاّ لدى حلوله على التلاميذ.
وكما أن الابن أخذ وجوده من الآب، كذلك الروح القدس أخذ وجوده من الابن الذي طلب
إلى الله الآب بعد صعوده إلى السماء أن يرسل الروح القدس على التلاميذ. وهذا ما
يعنيه ترتوليانوس بالتعبير الذي صار تقليديًّا في اللاهوت الغربي: “الروح
ينبثق من الآب والابن”.

هكذا
نلاحظ أن تعليم ترتوليانوس اللاهوتي في عقيدة الثالوث الأقدس، رغم عمقه وتأكيده على
وجود “ثلاثة أقانيم في الألوهة الواحدة”، ينقصه التوازن والانسجام في
الربط بين التثليث في الأقانيم والوحدة في جوهر الألوهة من جهة، ومن جهة أخرى بين
ظهور الأقانيم الثلاثة ووجودها منذ الأزل في الإله الواحد.

ب)
أوريجانوس

تأثّر
أوريجانوس، في عرضه لعقيدة الثالوث الأقدس، بالأفلاطونية الحديثة. كيف كانت تلك
الفلسفة تنظر إلى الالوهة؟

كانت
الأفلاطونية الحديثة ترى في الألوهة ثلاث درجات متفاوتة. فالكائنات كلها تستق
كيانها من الواحد الذي يعلو كل كيان، ولا يستطيع أي كائن بشريّ إلا حاطة به. وهذا
الواحد المتسامي يظهر لذاته في كلمته الذي هو صورته وظهور كل صفاته وكمالاته.
فالكلمة هو وحي الله. لذاته، هو فكر الله، وهو الإله الثاني الذي ينتقل بواسطته
كيان الله من الواحد إلى تعدّدية العالم. لكن وجود العالم يبقى في فكر الله إلى أن
يتحقّق بواسطة المبدأ الثالث الذي تدعوه الأفلاطونيّة الحديثة “روح
العالم”، وهو الذي يمنح العالم الحياة والوجود. تلك المبادئ الثلاثة تحمل في
ذاتها جوهر الألوهة، إلاّ أنّ الألوهة فيها على درجات متفاوتة.

تأثّر
أوريجانوس بتلك النظرة، فرأى في الآب صفات الكائن الإلهي الأوّل، وفي الابن صفات
الكلمة الإله الثاني، وفي الروح القدس صفات الإله الثالث وروح العالم. فنتج في
رؤيته للثالوث الأقدس المسيحيّ تدرّج في الألوهة بين الآب والابن والروح، ومع ذلك
فقد أكّد، على خلاف ما سيعتقده آريوس، المساواة في جوهر الألوهة بين الأقانيم
الثلاثة، وأزليّة وجود الابن والروح مع الآب.

فالابن
هو، في نظره، ضياء النور الأزليّ، فيقول:

“كما
أن النور لا يمكن أن يكون دون ضياء، كذلك الابن لا يمكن أن تنظر إليه منفصلاً عن
الآب، هو الذي ندعوه ختم الجوهر، والكلمة، والحكمة. فكيف يمكن القول إنه كان زمن
لم يكن فيه الابن؟ من يقول هذا القول يؤكّد أنه كان زمن لم تكن فيه حقيقة ولم تكن
حكمة ولم تكن حياة. هذا كلّه من جوهر الله الآب، ولا يمكن أن بنزع عنه ولا أن يفصل
عن جوهره”

إلاّ
أن أوريجانوس، مع تأكيده وحدة الجوهر بين الآب والابن والروح، يعلن أن الآب أعظم
من الابن، وأن الابن أعظم من الروح القدس. فالابن هو ملء لاهوت الآب، إلا أنّه
باتّصاله بالعالم يمتدّ إليه ظلّ العالم. الآب هو الواحد، أمّا الابن فيتأثّر
بالتعدّديّة، الآب هو واحد وبسيط، أمّا الابن فهو “مثال المثل وجوهر
الجواهو” ومبدأ كلّ خليقة، وهو أقنوم الحكمة الذي يتضمّن كلّ إمكانات الخلائق
المستقبلة وتصاويرها: “انه يحوي المبادئ أو التصاوير أو الأوجه لكلّ ما هو
مخلوق”. فالابن هو الحكمة، أمّا الآب فهو فوق الحكمة، الابن هو مبدأ الوحي
للعالم، أمّا الآب فهو فوق الحكمة؛ الابن هو مبدأ الوحي للعالم، أمّا الآب فهو
الإله الخفيّ.

والابن
أعظم من الروح القدس، لأنه يسبقه في الكيان، مع أنّ أوريجانوس يشير إلى أنّ من
يتّصل بالروح القدس، فكأنه اتّصل بالآب والابن.

إن
فكر أوريجانوس اللاهوتي في عقيدة الثالوث الأقدس لا يزال يشوبه بعض الالتباس، وإنْ
كان في عمقه منسجمًا مع الإيمان القويم.

ثالثاً-
من القرن الرابع حتى القرن الثامن

1-
الآباء الشرقيّون في القرن الرابع

إن
لاهوت الثالوث الأقدس لم يبلغ الوضوح والدقة في التعبير إلاّ في القرن الرابع، مع
القديس أثناسيوس الاسكندري، وبنوع خاصّ مع الكبّاذوكيّين، وفي الغرب مع القديس
أوغسطينوس.

ء)
القديس أثناسيوس الاسكندريّ

كان
همّ أثناسيوس الأكبر، في عرض عقيدة الثالوث الأقدس، الدفاع عن الإيمان القويم ضدّ
آريوس. لذلك ركّز على الوحدة في الجوهر بين الآب والابن، فصرّح أن الابن هو صورة
من ذات جوهر الآب، وأن الروح القدس هو صورة الابن، كما أن الابن هو صورة الآب: “ففي
الابن يمكننا رؤية الآب. وعندما نستنير بالروح، فالمسيح نفسه هو الذي ينيرنا
به”. “واحد هو التقديس الذي نحصل عليه من الآب بالابن في الروح. فكما
أنّ الابن هو ابن وحيد، كذلك الروح، الذي يمنحه ويرسله الابن، هو واحد.. الآب يرسل
الابن، والابن يرسل الروح.. الابن يمجّد الآب، والروح يمجّد الابن”.

يركّز
أثناسيوس تعليمه على عمل الابن والروح في تقديس الإنسان، دون التوسّع في علاقة
الروح القدس بالآب وانبثاقه منه في حياة الثالوث الباطنية، مع أنّه يؤكّد هذا
الانبثاق. لذلك يبقى عرضه لسرّ الثالوث ناقصاً في نواح متعددة.

ب)
الكبّاذوكيون

يعود
للكبّاذوكيين، باسيليوس الكبير وأخيه غريغوريوس النيصيّ، وغريغوريوس النزينزي،
الفضل في رسم النهج الواضح للاهوت الثالوث الأقدس، وقد سار عليه اللاهوتيون في
الشرق ثم في الغرب.

فقد
ميّزوا أوّلاً بين الأقنوم، والجوهر. فالأقانيم الثلاثة، الآب والابن والروح القدس،
لهما جوهر واحد، أو طبيعة إلهية واحدة. وما يميّز الأقانيم أحدها عن الآخر هو
العلاقة الخاصّة التي تربط كلا منها بالآخر. فالأبوّة هَي ميزة الآب، والولادة مَن
الآب هي ميزة الابن، والانبثاق من الآب هي ميزة الروح القدس.

والأقانيم
الثلاثة لها الكرامة ذاتها، لأن مساواتها هي في الجوهر وفي الأزلية. فالابن مولود
من الآب منذ الأزل، والروح منبثق من الآب منذ الأزل. يقود غريغوريوس النزينزي:

“إنّهما
ليسا بدون بداية، ولكن، في آن واحد وعلى نحو ما، هما بدون بداية. لا تناقض في هذين
القولين إلا في الظاهر، لأنهما ليسا دون بدابة على صعيد العلّة والسبب.. إنّما هما
دون بداية على صعيد الزمن”.

ويبين
غريغوريوس النيصيّ، في مقالته “ليس هناك ثلاثة آلهة”، أنّ كل عمل يقوم
به أحَد الأقانيم الثلاثة خارج الثالوث، إنّما يقوم به بالاشتراك مع الأقنومين
الآخرين، مع أن كلّ أقنوم يقوم بالعمل نفسه على نحوه الخاصّ، فيقول:

“في
الطبيعة الإلهية لا يعمل الآب شيئاً ما إلاّ مع الابن، وكذلك الابن لا يقوم بعمل
ما منفصلا عن الروح القدس، بل كلّ عمل يمتدّ من الله إلى الخليقة، ويمكننا تمييزه
وفق مفاهيمنا، إنّما أصله في الآب، ويأتي من الابن، ويجد كماله في الروح
القدس”.

ويؤكّد
غريغوريوس النبيصيّ وحدة الطبيعة الإلهية والفرق به الأقانيم، جاعلاً هذا الفرق في
العلّة والسبب فالآب هو علّة وجود الابن والروح، غير أنّ الابن يولد مباشرة من
الآب، أما الروح فينبثق من الآب بواسطة الابن. لذلك يدعى الروح القدس في الكتاب
المقدّس روح الله الآب و”روح المسيح”، كما جاء في قول بولس: “من
ليس فيه روح المسيح فهو ليس له” (رو 8: 9). ثمّ يضيف:

“إن
الروح الذي هو من الله هو إذًا أيضاً روح المسيح. أمّا الابن فهو من الله وليس من
الروح، ولا يقال عنه كذلك. وترتيب العلاقات هذا ثابت، ولا يمكن أن يعكس، فيقال
مثلا: إن المسيح هو مسيح الروح، كما يقال إن الروح هو روح المسيح”.

*
ألوهية الروح القدس

لقد
اهتمّ الكباذوكيون اهتماماً خاصّاً بتبيين ألوهيّة الروح القدس ضد مكدونيوس
وأفنوميوس وأتباعه.

اغتصب
مكدونيوس كرسيّ القسطنطينية بأيدٍ من الملك قسطنديوس بعد إنزال أسقفها القانونيّ
بولس. إلا أنه لم يعتّم أن خلع عن كرسيّه سنة 360. وكان مكدونيوس من أتباع
الآريوسية المعتدلة التي كانت تعظّم الابن غير الخلوق، إلاّ أنها تنكر عليه أن
يكون “من ذات جوهر الآب”. أمّا عن الروح القدس، فكان مكدونيوس يقول
“إنّه أحد الأرواح الخادمة، وإنّه لا يختلف عن الملائكة إلا بالرتبة”.
فكان إنكار ألوهيّة الروح القدس ضلاله الرئيس، لذلك دعي أتباعه “محاربي
الروح”.

أمّا
إفنوميوس وأتباعه فكانوا من الآريوسيين المتطرّفين. فكتب باسيليوس مقالة “ضد
أفنوميوس”، وأخرى “في الروح القدس”. ففيمَا كان يقول أفنوميوس: “إنّ
الروح القدس هو ثالث بالكرامة والمرتبة، لذلك هو ثالث بالطبيعة”، يجيب
باسيليوس إنّ الروح القدس، وإن احتلّ المرتبة الثالثة في الكرامة بعد الآب والابن،
إلا أنه من جوهرهما الإلهي الواحد. يقول:

“فكما
أن الابن يحتلّ المرتبة الثانية بعد الآب، لأنه من الآب، ويحتلّ المرتبة الثانية
في الكرامة، لأن الآب هو المبدأ والعلّة، وليس هو مع ذلك ثانيًا في الطبيعة، لأنّ
الألوهة في كليهما واحدة، كذلك، وإن كان الروح القدس يلي الابن في الرتبة والكرامة،
إلاّ أنّ ذلك لا يجيز لنا القول إنّ الروح القدس هو من جوهر آخر”.

ورغم
كل هذه البراهين لم يجرؤ باسيليوس أن يقول عن الروح القدس إنه إله، لأنه لم يجد
هذا القول في الكتاب المقدس، بك كان يكتفي بالقول إنه إلهيّ.

أما
غريغوريوس النزينزي فيؤكّد أنّ الروح القدس هو إله، ويبيّن ألوهيّته مع الآب
والابن:

“ماذا
إذن؟ هل الروح القدس هو إله؟- دون جدل.- ماذا إذن؟ ومن الجوهر الواحد؟- نعم، بمَا
أنه إله”.

“لنرتعد
أمام عظمة الروح الذي هو أيضا إله. فبالروح عرفنا الله. إنّه إله بأجلى بيان، هو
الذي يؤلّهني، وكلّي القدرة وموزّع المواهب الإلهية، يعطي الحياة للكائنات
السماوية والأرضية، هو الذي يحيا في الأعالي، وينبثق من الآب. إنّه القوة الإلهية،
ومع ذلك يعمل من تلقاء نفسه. ليس هو بالابن، لأنّ للآب السماويّ ابنًا وحيدًا
مملوءًا من صلاحه، ولكنّه ليس بغريب عن الإله غير المنظور، بل يتمتعّ بمجد مماثل
لمجده”.

أمّا
الفرق بين ولادة الابن وانبثاق الروح فيبقى في نظره سرًّا، ويكتفي بالقول: الابن
والروح هما من جوهر الآب، إلاّ أنّهما يتميّزان أحدهما عن الآخر، كما أنّ أناسًا
من البشرّية ذاتها يرتبطون بعضهم ببعض بعلاقات قرابة مختلفة.

وكذلك
غريغوريوس النبيصيّ، في عظته “ضدّ المكدونيّين”، يبيّن ألوهيّة الروح
القدس انطلاقًا من عمل الروح، الذي لا ينفصل عن عمل الآب والابن. فالنعمة الإلهية
تأتينا من الآب بالابن والروح. فكيف يمكن أن يكون الروح مخلوقاً، وهو الذي يحيينا
بالمعمودية؟ إن ما يعطى لنا هو مسحة الابن الملكيّة، بيد أنّ هذا الملك الإلهي
الذي ينزل مع المسيح على الأرض ويمنحه الروح هو ملك أزليّ: فلا بدّ أن يكون الروح
أزليّاً.

لقد
تميّز الكباذوكيّون، في عرضهم لعقيدة الثالوث الأقدس، بثلاث ميزات:

1)
ينطلقون من تثليث الأقانيم، ويبيّنون أنّ الأقانيم الثلاثة متّحدون في جوهر واحد،
هو جوهر الألوهة، والطبيعة الإلهية. 2) يرون في الكتاب المقدس أساس تثليث الأقانيم
ووحدة الجوهر: فالآب ظهر بالابن وبالروح، وعمل الآب والابن والروح هو عمل واحد
بالنسبة إلى تقديس الإنسان وتأليهه. فعلى السؤال الذي يمكن طرحه: لماذا نؤمن أنّ
الإله الواحد هو في ثلاثة أقانيم وليس أكثر، نجيب انطلاقًا من هذه النظرة: لأن
الله ظهر لنا في الوحي الكتابيّ ثالوثًا، وهذا الظهور هو كمال وحي الله لذاته. 3)
الميزة الثالثة تقوم على الترتيب الذي يضعونه بين الأقانيم تأكيد وحدة الجوهر: فالأب
هو المصدر الذي منه وُلد الابن، ومنه انبثق الروح. بيد ان هذا الترتيب هو فقط
بالنسبة إلى المبدأ والعلّة، لا بالنسبة إلى الجوهر ولا بالنسبة إلى الأزليّة..
فالابن والروح هما من ذات جوهر الآب، وهما أزليّان معه.

لذلك
يرتكز التوحيد، أي إن الله واحد، في لاهوت الكبّاذوكيّين ومن بعدهم في اللاهوت
الشرقيّ عامّة، على دعامتين: وحدة الجوهر، أي وحدة جوهر الألوهة أو وحدة الطبيعة الإلهية،
ووحدة المصدر والمبدإ والينبوع.

2-القديس
أوغسطينوس

في
حين ينطلق الآباء الشرقيّون، في نظرتهم إلى الثالوث الأقدس، من الأقانيم الثلاثة
للوصول إلى الجوهر الواحد، ينطلق أوغسطينوس، على غرار ترتوليانوس، من وحدة الجوهر،
ثم ينتقل إلى الأقانيم الثلاثة فالجوهر الإلهيّ، في نظره، يسبق منطقياً الأقانيم
الثلاثة. ويعبّر عن ارتباكه إزاء لفظة أقنوم التي يستعملها مرغمًا لعدم توفّر لفظة
أفضل. ويشير إلى أن الله ليس ثلاثيًا وحسب، بل ثلاثي الوحدة.

ومن
الوحدة في الجوهر تنتج نظرة أوغسطينوس إلى علاقة الثالوث الأقدس بالعالم. فلا
يكتفي بالقول، على غرار الكبّاذوكيين، إنّ الأقانيم الثلاثة بعضها غير منفصل عن
بعض في أعمالها تجاه العالم، بل يذهب إلى القول إن الأقانيم الثلاثة مرتبطة
بالعالم كمبدإ واحد.

غنيّ
عن البيان أنّ الكتاب المقدس يتكلّم لغة أخرى. وهذا ما رآه جليًّا الكبّاذوكيون الذين
يؤكّدون أن كل أقنوم متميّز في عمله عن عمل الآخرين، دون أن يكون منفصلاً عنهما.
أمّا أوغسطينوس فيعتبر أن هذا التمييز بين عمل الأقانيم هو في الواقع مجرّد تعبير
بشري يدعوه “التخصيص”، أي إننا نحن البشر نخص كلاًّ من الأقانيم
بالأعمال التي تتوافق أكثر مع مصدره، مع ان كلّ تلك الأعمال هي في الواقع من عمل
الأقانيم الثلاثة.

أمّا
ما يميّز الأقانيم فهو فقط العلاقة التي تربط الواحد بالاثنين الآخرين وهذه
العلاقة هي علاقة محبة. ولقد استند أوغسطينوس إلى تعريف الله كما ورد عند يوحنا
الإنجيلي: “الله محبة” (1 يو 4: 16)، ورأى في الأقانيم الثلاثة العناصر
الثلاثة الضروريّة التي تكوّن المحبة: المحبّ، المحبوب، والمحبة ذاتها. فالآب هو
الذي يحبّ الابن، والابن هو الذي يحبّه الآب، والروح القدس هو المحبة ذاتها، كما
جاء في قول بولس الرسول: “إنّ محبّة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس
الذي أعطيناه” (رو 5: 5). فالروح القدس هو علاقة المحبة التي تربط الآب
بالابن والابن بالآب، هو المحبة المتبادلة بين الآب والابن. وهذا ما يفسّر، في رأي
أوغسطينوس ما ورد في العهد الجديد عن الروح القدس من أنّه تارة “روح
الآب” وتارة “روح الابن”.

وانطلاقًا
من هذا التفسير لعلاقة الروح القدس بالآب والابن، يؤكّد أوغسطينوس أنّ الآب والابن
هما للروح القدس بمثابة مبدإ واحد. فيقول إنّ الروح القدس “ينبثق من الآب
والابن” (في الثالوث 5: 12). ثم يضيف “كمن مبدإ واحد” (5: 15).
لكنّ دور الآب في انبثاق الروح هو أهمّ من دور الابن، فانّ المبادرة في المحبة
تأتي من الآب. لذلك يعود أوغسطينوس في مواضع أخرى فيقول إنّ الروح ينبثق من الآب
والابن، إلاّ أنّه ينبثق من الآب “بشكل رئيس”. وهكذا يحافظ على فكرة
“المبدأ الواحد” بين الأقانيم الثلاثة، تلك الفكرة التي ركّز عليها
الآباء الشرقيّون إلى جانب تأكيدهم وحدة الجوهر في الآب والابن والروح القدس.

3- القديس
يوحنا الدمشقي

إنّ
القديس يوحنا الدمشقي هو آخر الآباء الشرقيِّين، وقد عمل في لاهوته على عرض أفكار
الآباء اللاهوتيّة في منهج تعليميّ. لذلك، في موضوع الثالوث الأقدس، لا تختلف
نظرته عن نظرة الآباء الكباذوكيّين. ولقد أوجزها في الفصل الثامن من القسم الأوّل
من كتابه “المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ”.

ء)
ينطلق من الإيمان بالإله الواحد فيقول:

“إذاً
نؤمن بإله واحد، بدءٍ واحد لا بدءَ له، غير مخلوق ولا مولود، لا يزول ولا يموت،
أبديّ، لا يُحصر ولا يُحدّ، ولا يحاط به، لا تُحصر قوّته، بسيط وغير مركّب.. صانع
كل المخلوقات مايرى منها وما لا يرى.. مترفّع عن كلّ جوهر لجلال جوهره، وكائن فوق
كلّ الكائنات. فائق اللاهوت وفائق الصلاح وفيّاض. هو النور بالذات والصلاح بالذات
والحياة بالذات والجوهر بالذات، لأن وجوده ليس من غيره ولا من كلّ الموجودات، لأنه
هو ينبوع الوجود لها كلّها، وينبوع الحياة للأحياء والنطق للمتمتّعين بالنطق وعلّة
جميع الخيرات للجميع. هو عالم بكلّ الأشياء قبل كيانها، وهو جوهر واحد ولاهوت واحد
وقوّة واحدة ومشيئة واحدة وفعل واحد ورئاسة واحدة وسلطة واحدة، وتؤمن به كل خليقة
ناطقة وتعبده”.

ثم
يضيف، مؤكّداً اتّحاد الأقانيم رغم تمييزها:

“فالأقانيم
متّحدون دون اختلاط، ومتميّزون دون انقسام- وهذا أمر غريب-. هم آب وابن وروح قدس،
بهم اعتمدنا. فإنّ الربّ قد أوصى تلاميذه أن يعمّدوا على النحو التالي قائلاً: “معمّدين
إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19).

ب)
ثم ينتقل إلى التمييز بين الأقانيم، مبتدئًا من التمييز بين الآب والابن، فيقول:


نؤمن بآب واحد، مبدإ الجميع وعلّتهم. لم يلده أحد وهو وحده أيضاً غير معلول ولا
مولود، صانع الكلّ، وأب بالطبيعة لمن هو وحده “الابن الوحيد”، ربنا
وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح. وهو مصدر الروح القدس.

“ونؤمن
بابن الله الواحد والوحيد، ربنا يسوع المسيح، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور
من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، من ذات جوهر الآب، الذي به كان كل شيء.
فبقولنا إنّه قبل الدهور، نبيّن أنّ ولادته لم تكن في الزمن ولم تيتدئ، لأنّ ابن
الله لم ينتقل من العدم إلى الوجود فهو بهاء المجد.. الذي كان دائماً مع الآب وفي
الآب، مولود من ولادة أزلية لا بدء لها. فإنّه ما كان قطّ زمن لم يكن الابن فيه،
بل حيثما الآب فهناك الابن المولود منه، لأنه بدون الابن لا يسمّى آباً. وإذا لم
يكن له الابن، فليس هو آباً. وهذا أفظع من كلّ كفر. وعليه لا يمكن القول إنّ الله
خالٍ من الخصب الطبيعي. والخصب هو أن يلد المِثْلَ من ذاته -أي من جوهره الخاصّ-
مثيلاً له في الطبيعة”.

ويوضح
لماذا يدعى الابن “ابن الله الوحيد”:

“فهو
الوحيد، لأنّه وُلد وحده من الآب ولادة وحيدة. فليس من ولادة أخرى تساوي ولادة
الابن من الله، وليس من ابن الله سواه”.

ثم
يتابع موضحًا الفرق بين الابن والروح:

“أمّا
الروح القدس، فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق. وطريقة الوجود الأخرى هذه
لا تدرك ولا تعرف، شأنها شأن ولادة الابن. لذلك كل ما هو للآب هو أيضاً للروح، ما
عدا اللاولادة التي لا تشير إلى جوهر أو رتبة مختلفين، بل إلى طريقة الوجود. فإنّ
آدم مثلا هو غير مولود لأنّه جبلة الله وشيتًا مولود لأنّه ابن آدم، وحواء منبثقة
من ضلع آدم وهي غير مولودة. ولا يختلف واحدهم بالطبيعة عن الآخر، لأنّهم بشر، بل
يختلفون في طريقة وجودهم”.

ج)
ثم يوضح كيف أن الثلاثة إله واحد:

“إن
كلاًّ من الأقانيم هو في الآخر، لئلاّ نصير إلى كثرة وجمهرة في الإلهة. لذلك نقرّ
بعدم تركيب الأقانيم الثلاثة وبعدم اختلاطهم، ولذلك أيضا نعترف بوحدة الأقانيم في
الجوهر، وبأنّ كلّ واحد منهم هو في الآخر، وبأنها هي هي مشيئتهم وفعلهم وقوّتهم
وسلطتها وحركتهم- إذا صحّ التعبير، وبأنّهم إله واحد غير منقسم. فإنّ الله واحد
حقاً، وهو الله وكلمته وروحه.


إني لا أقول بتشابه، بل بوحدة هوّية، ووحدة انطلاق الحركة. فالجوهر واحد والصلاح
واحد والقوّة واحدة والمشيئة واحدة والفعل واحد والسلطة واحدة، بل هي واحدة وهي هي
نفسها، لا ثلاثة أمثال بعضهم في بعض، بل حركة واحدة وهي هي في الأقانيم الثلاثة.
فلكلّ منهم، بالنسبة لغيره، ليس أقلّ مما له بالنسبة لنفسه، أي إن الآب والروح
القدس واحد في كلّ شيء، ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق. وهذا التمييز بكون
بفعل التفكير، فنعرف الله واحدا، ونعرف في وحدة خواصّه الأبوّة والبنوّة والانبثاق.
ونفهم الفرق على حسب العلّة والمعلول وكمال كل أقنوم، أي طريقة وجوده. فلسنا
نستطيع القول بانفصال مكانيّ- كما هو الحال عندنا- في اللاهوت غير المحدود، لأنّ
الأقانيم هم أحدهم في الآخر، لا على طريقة الاختلاط، بل التواجد، على نحو قول الرب
القائل: “أنا في الآب.. والآب فيّ” (يو 14: 11).

“ولسنا
نقول باختلاف في الإرادة أو الرأي أو الفعل أو القوّة أو أي شيء آخر، الأمر الذي
يُحدث الانقسام الفعليّ الذي فينا في كلّ شيء. لذلك لا نقول بآلهة ثلاثة، آب وابن
وروح قدس، بل بالأحرى بإله واحد، الثالوث المقدّس، مرجعُ الابنِ والروحِ فيه إلى
علّة واحدة بدون تركيب ولا اختلاط – ذلك ضد هرطقة صابيليوس- فإنهم متّحدون، كما
قلنا، لا للاختلاط بل للتواجد بعضهم في بعض ونفوذ أحدهم في الآخر، بدون امتزاج،
ولا تشويش، ولا انفصال، ولا انقسام- ذلك ضد هرطقة آريوس”.

يؤكد
يوحنا الدمشقيّ في هذا النصّ، وحدة الجوهر، أي وحدة الألوهة ووحدة الخواص الإلهيّة:
الصلاح والقوّة والمشيئة والفعل والسلطة. لذلك لا نقول بآلهة ثلاثة، بل بإله واحد.
لكن الإله الواحد الذي نؤمن به هو في ثلاثة أقانيم غير مختلطين، أي متميّزين (وذلك
ضد صابيليوس والبدعة الشكلانية)، وغير منفصلين ولا منقسمين (وذلك ضد آريوس). ثم
يوضح هذا التمييز بين الأقانيم في الإله الواحد، فيقول:

وإذا
وجب الاختصار نقول: إنّ اللاهوت لا يمكن أن يُقسم إلى أقسام، وهو على نحو ما يصير
في ثلاثة شموس متواجدة بعضها في بعض وهي لا تنفصل، فيكون مزيج النور واحداً
والإضاءة واحدة إذاً عندما ننظر إلى اللاهوت، على أنه العلّة الأولى، والمبدأ
الواحد، والواحد، وحركة اللاهوت ومشيئته الواحدة- إذا صحّ القول-، وقوّة الجوهر
وفعله وسيادته ذاتها، فالذي يتصوّر في ذهننا هو الواحد. أما عندما ننظر إلى مَنْ
فيهم اللاهوت أو- بعبارة أدق- إلى مَنْ هم اللاهوت، لا سيما إلى الصادرَين من
العلّة الأولى بلا زمن والمساويَين لها في المجد وعدم الانفصال- أعني الابن
والروح-، فالمسجود لهم ثلاثة: الآب آب واحد وهو لا مبدأ له- أي لا علّة له-، لأنّه
ليس من أحد. والابن واحد وهو ليس بلا مبدإ- أي بلا علّة- وهو من الآب. وإذا اعتبرت
البدء انطلاقاً من الزمن، فالابن لا بدء له، لأنّه صانع الأزمان وهو ليس تحت الزمن.
والروح القدس روح صادر من الآب وذلك ليس بالولادة بل بالانبثاق، لأن الآب لم بنفكّ
أن يكون غير مولود- فإنّه قد ولد الابن- والابن لن ينفكّ أن يكون مولوداً- لأنه
وُلد من غير المولود-، فكيف إذاً؟ والروح القدس لا يستحيل إلى الآب أو إلى الابن،
لأنه منبثق ولأنّه إله. فإنّ خاضته لا تتحرّك، وإلاّ كيف تبقى خاصّة إذا تحرّكت
واستحالت؟ فإذا صار الآب ابناً، فلا يكون آباً بالحقيقة- لأنّ الآب واحد حقاً-
وإذا صار الابن آباً فلا يكون ابناً بالحقيقة، لأن الابن واحد حقاً. والروح القدس
واحد.


واعلم أننا لا نقول إنّ الآب من أحد، بل نقول إنّه أبو ابنه، ولا نقول إنّ الابن
علّة أو آب، بل نقول إنّه من الآب وإنّه ابن الآب. ونقول أيضاً إنّ الروح القدس من
الآب، ونسمّيه روح الآب. ولا نقول إنّ الروح القدس من الابن، ومع ذلك نسميه روح
الابن. يقول الرسول الإلهي: ” إن كان أحد ليس فيه روح المسيح فهو ليس
منه” (رو 8: 9). ونعترف أنّ الابن يظهره ويمنحه لنا، فقد قال: “نفخ في
تلاميذه وقال لهم: خذوا الروح القدس” (يو 20: 22). فكما أن الشعاع والنور من
الشمس- وهي ينبوع الشعاع والنور- كذلك يمنح لنا إشراق نوره بواسطة الشعاع، فينيرنا
به ويكون متعتنا. ولسنا نقول إن الابن ابن الروح ولا إنه من الروح”.

إنّ
تشبيه الأقانيم الثلاثة في الجوهر الواحد بالشمس وشعاع الشمس ونور الشمس هو تشبيه
قديم في اللاهوت المسيحي. وهو يوضح أنّ الشمس لا يمكن أن تكون شمساً دون شعاع ودون
نور. كذلك الآب لا يمكن أن يكون آباً دون ابن ودون روح. وكما أنّ الشمس لا تأتي
إلينا كلّها، بل فقط بشعاعها ونورها، كذلك الله الآب لا يأتي إلينا إلاّ بابنه
وروحه. وكما أنّ الشعاع والنور هما من ذات جوهر الشمس، كذلك الابن والروح هما من
ذات جوهر الآب. فإذا حدّدنا الجوهر بقولنا إنه الجواب على السؤال: “ما
هذا؟”- والأقنوم بأنه الجواب على السؤال: “من هذا؟”، نقول إنّ مما
يأتي إلينا، في التجسد هو الله في جوهره الإلهي، أما مَنْ يأتي إلينا فهو ليس
أقنوم الآب، بل أقنوم الابن وأقنوم الروح القدس.

تلك
هي تعاليم القديس يوحنا الدمشقيّ في الثالوث الأقدس، وقد استفضنا فيها بعض الشيء،
لكونها توجز تعليم الآباء الشرقيّين في هذا الموضوع الأساسيّ في الإيمان المسيحيّ.

4- المجامع
المسكونية

إستناداً
إلى الكتاب المقدس وتعاليم الآباء منذ الرسل، التأمت المجامع المسكونية وحدّدت
عقيدة الكنيسة في موضوع الثالوث الأقدس، وذلك على مراحل مختلفة.

ء)
المجمع المسكونيّ الأول (نيقية- 325)

أعلن
هذا المجمع، ضد آريوس، أنّ “الابن هو من ذات جوهر الآب”، فهو متميّز عن
الآب، لكونه ابنه الوحيد، إلاّ أنه غير منفصل عنه في جوهره الإلهي. لذلك هو
“مولود غير مخلوق”، مولود من الآب قبل كل الدهور”. وقد أوجز إيمان
الكنيسة بالثالوث الأقدس في “قانون الإيمان النيقاويّ”، وهو قانون
الإيمان الذي لا نزال نتلوه اليوم، منذ مطلعه “نؤمن باله واحد..” حتى
عبارة “.. وبالروح القدس”.

في
هذا القانون إعلان إيمان واضح بالثالوث الأقدس: “الآب الضابط الكل.. وابن
الله الوحيد.. والروح القدس”، ولكن دون توسّع في علاقات الأقانيم بعضهم ببعض.
أما الفقرة الأكثر توسّعا فهي الفقرة المتعلّقة بالابن، وذلك جواباً على بدعة
آريوس التي التأم المجمع للنظر فيها.

ونلاحظ
أيضاً، في طريقة عرض الإيمان المسيحي بالثالوث، أنّ وحدانيّة الله، أو ما يدعى
بالتوحيد، ترتكز أولاً على وحدانيّة الآب: “نؤمن بإله واحد آب ضابط
الكل”. فالإله الواحد هو الآب. أمّا الابن فهو “الرب الواحد يسوع المسيح
ابن الله الوحيد..”. ووحدانيّة الله ترتكز ثانياً على الوحدة في الجوهر بين
الآب والابن. فالابن “مساوٍ للآب في الجوهر”، أو “من ذات جوهر
الآب”.

ب)
المجمع المسكونيّ الثاني (القسطنطينية- 381)

يعزو
التقليد إلى المجمع المسكونيّ الثاني إضافة العبارات المتعلّقة بالروح القدس إلى
قانون الإيمان النيقاويّ. فجمع نيقية اكتفي بالقول إنّنا نؤمن بالروح القدس”،
أما مجمع القسطنطينية فأضاف إلى هذه العبارة الموجزة التوضيح التالي: “الرب
المحي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجّد، الناطق
بالأنبياء”. وقد أتت هذه الإضافة جواباً على بدعة المكدونيّين الذين كانوا
ينكرون ألوهيّة الروح القدس. وقد أكّد المجمع تلك الألوهيّة، فنسب أولاً إلى الروح
القدس لفظة “الرب”، في حين لم يكن في نظر المكدونيّين، سوى أحد الأرواح
الخادمة، ثم أعلن أنه منبثق من الآب، في حين أن المكدونيّين يقولون إنّه خليقة
الابن. كما حدّد أنه ينبغي له السجود والعبادة مع الآب والابن. وكذلك في القول
إنّه هو “الناطق بالأنبياء” إشارة إلى ألوهيّته. فكلّ نبيّ ينطق باسم
الله ويعلن إرادة الله.

قد
يبدو أن ما قاله المجمع المسكونيّ الثاني عن الروح القدس غير كافٍ. ويتساءل
المؤرّخون لماذا لم يستعمل المجمع، لتأكيد ألوهيّة الروح القدس، تعابير تضاهي
بوضوحها التعابير التي استعملها لتأكيد ألوهيّة الابن: “إله حقّ من إله
حقّ”، أو “من ذات جوهر الآب”. نلاقي الجواب عند ساويروس الأنطاكيّ
الذي أشار إلى أنّ آباء المجمع اكتفوا بتلك التعابير المعتدلة، “لا لأنّهم
مالوا إلى معتقدات المكدونيّين، بل ليخفّفوا من النزاعات ولا ينفّروا الضعفاء في
الإيمان”.

ان
تحديد المجمع المسكونيّ الثاني، الذي أضيف إلى قانون الإيمان النيقاويّ، قد أكّد
ألوهيّة الروح القدس، بيد أنّه لم يوضح علاقات الروح القدس بالآب والابن، ولم يقل
إنّ الروح القدس هو من ذات جوهر الآب. وهذا النقص في الوضوح سيكون سبباً للخلافات
التي ستنشأ في ما بعد بين الشرق والغرب، ولا سيما في موضوع انبثاق الروح القدس.
ففي حين اكتفى المجمع بالقول إن الروح القدس “منبثق من الآب”، سيضيف
الغرب المسيحيّ أنّه “منبثق من الآب والابن”، كما سنرى في فقرة لاحقة.

ج)
المجمع المسكونيّ الثالث (أفسس- 431)

أعلن
هذا المجمع، ضدّ نسطوريوس، أنّ المسيح يسوع هو نفسه ابن الله وكلمته، المولود من
الآب قبل كل الدهور. لم يوضح هذا المجمع أيّ شيء عن الثالوث الأقدس في ذاته، بل
اقتصر على الوحدة الشخصيّة بين ابن الله والإنسان يسوع المسيح.

د)
المجمع المسكونيّ الرابع (خلقيدونية- 451)

لم
يتطرّق هذا المجمع إلى عقيدة الثالوث في ذاتها، بل أعلن أنّ المسيح هو شخص واحد في
طبيعتين تامّتين: طبيعة إلهيّة وطبيعة إنسانية، “متحدتين دون اختلاط ولا
تحوّل ولا انقسام ولا انفصال”.

رابعاً-
معضلة انبثاق الروح القدس

إنّ
موضوع “انبثاق الروح القدس” قد شغل اللاهوتيين طوال خمسة عشر قرناً، ولا
يزال اليوم المسيحيون على اختلاف فيه.

1- في العهد
الجديد

نقرأ
في إنجيل يوحنا قول يسوع لتلاميذه: “متى جاء المعزّي الذي أرسله إليكم من لدن
الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي” (يو 15: 26). واستنادا إلى
هذه الآية أقرّ آباء المجمع المسكوني العبارة التالية وأضافوها إلى قانون الإيمان:
“وبالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب..”. بيد أنّ هذه العبارة
تبدو لنا اليوم ناقصة لأنّها لا توضح دور الابن في انبثاق الروح.

هناك
نظرتان إلى هذا الموضوع، فإمّا أن ننظر إلى انبثاق الروح في الزمن في تاريخ الخلاص
بعد صعود يسوع إلى السماء، وإمّا أن ننظر إلى انبثاق الروح منذ الأزل ضمن الثالوث
الأقدس ذاته.

إنّ
يسوع، في توله “روح الحق الذي ينبثق من الآب”. لا يشير إلى انبثاق الروح
القدس منذ الأزل ضمن الثالوث، بل إلى انبثاق الروح من الآب ليحلّ على التلاميذ
وليعمل في العالم. وهذا واضح من قوله: “المعزّي الذي أرسله إليكم من لدن الآب..”.
فالحديث يدور حول إرسال الروح القدس إلى التلاميذ، وليس حول انبثاق الروح منذ
الأزل ضمن الثالوث. أمّا لفظة “ينبثق” المستعملة في اليونانية فتعني
“يخرج”، “يصدر”.

كذلك
نقرأ في سفر الرؤيا: “ثمّ أراني نهر ماء الحياة صافياً كالبلّور، خارجاً من
عرش الله والحمل” (رؤ 22: 1). فنهر ماء الحياة هو إشارة إلى الروح القدس، كما
ورد في إنجيل يوحنا: “إن عطش أحد فليأت إليّ ويشرب. من آمن بي، فكما قال
الكتاب، ستجري من جرت أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به
مزمعين أن يقبلوه” (يو 7: 37-39). والحمل هو المسيح الفادي. فالروح يخرج من
عرش الله، أي من الآب، ومن المسيح الفادي. هذا النصّ يشير أيضاً إلى خروج الروح من
الآب والابن في إطار تاريخ الخلاص.

ثم
إنّ إنجيل يوحنا، عندما يتكلّم عن إرسال الروح القدس في تاريخ الخلاص، يعزو هذا
الإرسال تارة إلى الآب: “وأنا أسأل الآب فيعطيكم معزّياً آخر” (14: 16)،
“الروح القدس الذي سيرسله الآب باير” (14: 26)، وتارة إلى الابن: “ومتى
جاء المعزّي الذي أرسله إليكم من لدن الآب” (15: 26).

أمّا
انبثاق الروح القدس منذ الأزل ضمن الثالوث الأقدس فلا نجد له أيّ توضيح في نصوص
العهد الجديد. إلاّ أنّ المجمع المسكوني الثاني في قوله “بالروح القدس الرب
المحيى المنبثق من الآب” يشير إلى انبثاق الروح منذ الأزل من الآب، ولا
يخبرنا شيئاً عن دور الابن في هذا الانبثاق.

2- آباء الكنيسة

إنّ
دور الابن في انبثاق الروح القدس منذ الأزل ضمن الثالوث الأقدس قد أكّده الشرق
والغرب معًا وإن بعبارات مختلفة. فأوغسطينوس، كما رأينا، يقول “إنّ الروح
القدس منبثق من الآب والابن كمن مبدأ واحد”، و”منبثق من الآب بشكل
رئيس”. ونجد تعبيراً مماثلاً عند كيرلّس الإسكندري الذي يقول إنّ الروح
القديس “يصدر من الآب والابن”، “من كليهما معًا”. إلاّ أنّ
معظم الآباء الشرقيين يؤكّدون انبثاق الروح القدس من الآب “بالابن” أو
“بواسطة الابن”، أو يقولون، على ما نقرأ في كتابات يوحنا الدمشقي الذي
أوجز لاهوت الآباء الذين سبقوه:

“الروح
القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب والمستريح في الابن.. الإله مع الآب والابن..
في كلّ شيء شبيه بالآب والابن الذي بنبثق من الآب ويوزعه الابن، فتقبله كل الخلائق،
وهو الذي يخلق من ذاته ويعطي الأشياء كيانها ويقدّسها ويجمعها. إنّه موجود في
أقنومه الخاص، غير منفصل ولا منقسم عن الآب والابن، له كل ما للآب والابن ما عدا
ميزة الغير المولود والمولود. فالآب غير مولود وهو مبدأ كلّ شيء.. والابن مولود من
الآب. وكذلك الروح القدس هو من الآب، ولكن ليس بالولادة بل بالانبثاق. لقد عرفنا
أنّ هناك فرقاً بين الولادة والانبثاق، إلاّ أنّنا لا نعلم قوام هذا الفرق، ولكنّ
ولادة الابن وانبثاق الروح هما من الآب”.

أمّا
عن دور الابن في انبثاق الروح فيقول الدمشقي:

“نقول
إن الروح القدس هو من الآب وندعوه روح الآب، ولكنّنا لا نقول إنه من الابن. ومع
ذلك ندعوه روح الابن، بحسب قول الرسول الإلهي: “من ليس فيه روح المسيح فهو
ليس له” (رو 8: 9). ونعترف أنّ الابن قد أظهره ووزّعه، كما كتب: فنفخ فيهم
وقال: خذوا الروح القدس” (يو 20: 29). وذلك على مثال الشعاع والضياء في الشمس.
فالشمس الواحدة هي مصدر الشعاع والضياء، ولكن الضياء يوزَّع علينا بواسطة ()
الشعاع، وهذا الضياء هو الذي ينيرنا وفيه نشترك. إلاّ أنّ ذلك لا يتيح لنا القول
إنّ الابن هو خاصة الروح أو منه”.

حتى
القرن الثامن لا نجد أيّ تناقض بين التعابير الشرقية والتعابير الغربية في توضيح
دور الابن في انبثاق الروح القدس، وقد قبل الآباء كلّ تلك التعابير كأنّها مترادفة،
على ما أكّده القدّيس مكسيموس المعترف، المناضل الجريء عن الإيمان القويم، في
رسالة بعث بها سنة 655 إلى مارينوس القبرصي، يفسّر العبارة التي كان الغربيون
يستعملونها: “الروح القدس المنبثق من الآب والابن”. يقول:

“إنّهم
يرتكزون على شهادات الآباء اللاتينيين المتّفقة وعلى شهادة كيرلّس الإسكندري (في
تفسيره لإنجيل يوحنا). وقد بيّنوا أنّهم لا يعتبرون الابن علّة أو سبباً للروح
القدس، إذ يعلمون أنّ الآب وحده هو علّة الابن والروح: الابن بالولادة، والروح
بالانبثاق. فما يقصدونه هو أنّ الروح ينبثق بالابن، مشيرين إلى الوحدة والمساواة
التامة في الجوهر”.

3- إضافة
“والابن” على قانون الإيمان

إنّ
معضلة انبثاق الروح القدس قد بدأت في الواقع عندما أضاف الغرب في تلاوة قانون
الإيمان لفظة والابن (
Filioque)، فأخذ يقول: “وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب
والابن”. ويبدو أنّ تلك اللفظة أضيفت أوّلاً في إسبانية في أواخر القرن
السادس، تأكيداً لألوهية الابن ضدّ الهراطقة المتشرّبين الآريوسية الرافضين تلك
الألوهية. فالقول بأنّ الروح القدس منبثق من الآب والابن يؤكّد وحدة الابن مع الآب
في الجوهر. وقد قبل الغرب إضافة تلك اللفظة لأنّها تنسجم مع طريقة تعبيره عن سرّ
الثالوث الأقدس وعن وحدة الألوهية، منذ أغوسطينوس في القرن الرابع. ومع ذلك فقد
تردّد في إضافة عبارة يرفضها الشرق في قانون إيمان صاغه الشرق والغرب معاً في
المجمع المسكوني الأوّل(325) والثاني (381).

فسنة
809 أمر الإمبراطور شارلمان بإضافة تلك اللفظة إلى قانون الإيمان، ولكنّ البابا
لاون الثالث أعلن سنة 810 في رومة أنّه، وإن كانت تلك العبارة غير مناقضة للإيمان،
فلا يجوز إضافتها إليه. وحفر قانون الإيمان النيقاوي، دون إضافة
“والابن”، باللغتين اليونانية واللاتينية، على لوحتين من فضة في كنيسة القدّيس
بطرس في رومة حيث لا تزالان محفوظتين حتى الآن.

4- فوتيوس

إلاّ
أنّ شارلمان وسائر الأباطرة الغربيين الذين خلفوه ظلّوا يضيّقون على الباباوات
لإضافة “والابن” إلى قانون الإيمان، ولم يفلحوا في ذلك إلاّ بعد مئتي
سنة من أخذ وردّ بين رومة والقسطنطينية، سنة 1009، عندما أرسل البابا سرجيوس
الرابع إلى القسطنطينية نصاً لقانون الإيمان يحوي تلك الإضافة، وسنة 1014 مع
البابا بندكتوس الثامن الذي أدخل رعياً في قانون الإيمان لفظة “والابن”،
بضغط من الإمبراطور هنري الثامن. أمّا السنوات الصاخبة في تلك الفترة الطويلة فهي
السنوات التي كان فيها فوتيوس بطريرك القسطنطينية ونيقولاّوس الأوّل بابا رومة، من
سنة 858 إلى سنة 886. فقد كان البطريرك والبابا يتراشقان الحرم، وإمبراطور بيزنطية
تارة يقيل فوتيوس وتارة يعيده إلى منصبه. ولم يكن موضوع انبثاق الروح القدس السبب
الرئيس للخلاف، فقد كانت هناك أسباب أخرى سياسية وتبشيرية، منها النزاع بين رومة
والقسطنطينية على بلغاريا، إذ كانت كلّ من البطريركيتين تحاول بسط سلطتها الدينية
على تلك البلاد.

في
هذه السنوات وضع فوتيوس كتاباً عن الروح القدس هاجم فيه الغرب لكونه أضاف وحده
لفظة إلى قانون إيمان حظّرت المجامع المسكونية إدخال أيّ تعديل عليه، وانتقد من
ثمّ التعديل ذاته، معتبراً أنّ القول “بأنّ الروح منبثق من الآب والابن”
هو إعلان لمبدأين في الثالوث الأقدس، في حين أنّ الآب وحده، بحسب التقليد القديم،
هو مبدأ الابن والروح. لذلك إن كان هناك من إضافة على قانون الإيمان فيجب القول
“الروح القدس المنبثق من الآب وحده”. أمّا العبارات الأخرى التي نجدها
عند الآباء الغربيين من أمثال أمبروسيوس وأغوسطينوس الذين كان فوتيوس قد قرأ كلّ
كتبهم، فيقول عنها إنّها طريقة في التعبير ملتبسة لا يروم من خلالها الآباء إعلان
عقيدة انبثاق الروح من الآب والابن بل تأكيد ألوهية الابن.

إنّ
قول فوتيوس وبعض اللاهوتيين الشرقيين “إنّ الروح القدس ينبثق من الآب
وحده” يصحّ بالنظر إلى وجود الروح في ذاته وكيانه، أي إنّ الروح ينبثق من
الآب وحده، بمعنى أنّ الآب وحده هو مصدر الروح، كما أنّ الآب وحده هو مصدر الابن.
فالمصدر في الثالوث هو واحد، وهو الآب.

ولكن
الآب هو آب لأنّ له ابناً مولوداً منه منذ الأزل، وغير منفصل عنه. لذلك لا بدّ من
تأكيد دور الابن في انبثاق الروح من الآب، وفي العلاقة الأزلية التي تربط الروح
بالآب. ودور الابن هذا قد عبّر عنه الآباء الشرقيون بقولهم إنّ الروح القدس ينبثق
من الآب “بالابن”، أو “بواسطة الابن”، أو “ينبثق من الآب
ويستريح في الابن”.

5- المعضلة اليوم

إنّ
خطأ الغرب يقوم على أنّه، دون الرجوع إلى الشرق، أضاف إلى قانون الإيمان المشترك
بينهما عبارة ملتبسة ناقصة كان الجدال اللاهوتي لا يزال قائماً حولها. وهذا ما
حاول إصلاحه مجمعا الاتحاد اللذان انعقدا الأوّل في ليون سنة 1274 والثاني في
فلورنسة سنة 1438-1439. ففي هذين المجمعين وافق مندوبو الكنيسة الأرثوذكسية على
القول إنّ الروح القدس منبثق من الآب والابن، ولكن مع الإشارة إلى نه ينبثق من
الاثنين “كمن مبدأ واحد”. إلاّ أنّ هذين المجمعين قد رفضتهما الكنيسة
الأرثوذكسية لدى عودة مندوبيها إلى القسطنطينية. وبعد سقوط هذه المدينة سنة 1453،
لم تفلح اللقاءات القليلة التي جرت بين الشرق والغرب في الوصول إلى صيغة واحدة.

إنّ
معظم اللاهوتيين من الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية متّفقون اليوم
على أنّ موضوع انبثاق الروح القدس لا يشكّل عقبة في طريق الوحدة المسيحية. ولكنّ
المطلوب قبلاً من جميع الكنائس المسيحية العودة في تلاوتها قانون الإيمان إلى
الصيغة الأولى التي أقرّها المجمع المسكوني الثاني سنة 381، أي من دون إضافة
“والابن”، ليتاح لجميع المسيحيين إعلان إيمانهم المشترك بفم واحد وقلب
واحد. ومن ثمّ يتابع البحث اللاهوتي المشترك لإيجاد التعابير الملائمة، في سبيل
مساعدة المسيحيين على النمو في معرفة الثالوث الأقدس وفي الحياة المسيحية التي هي
اتّحاد بحياة الآب والابن والروح القدس.

لقد
عاش الغرب والشرق في شركة إيمان حتى القرن الحادي عشر بالرغم من الاختلافات في
التعبير عن دور الابن في انبثاق الروح القدس. فلا شيء يمنع الآن استعادة الوحدة
المسيحية استناداً إلى قانون الإيمان الواحد الذي أعلن في المجمع المسكوني الثاني
من دون إضافة لفظة ما عليه، على أن يتركْ الباقي لتفسيرات اللاهوتيين، فهو، كما
يقول اللاهوتي الأرثوذكسي الروسي سيرج بولجاكوف، “لم يبلغ بعد درجة من النضج
كافية فيكون موضوع تحديد عقائدي. وهذا لن يتمّ في المستقبل القريب”.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى