اللاهوت العقيدي

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل الثاني

صلوات الإفخارستيا والقداس اليوم ومقارنتها بالصلوات
المماثلة في العهد القديم

سوف نقدِّم في هذا
الفصل صورة للصلوات في العهد القديم، كما جاءت على فم الآباء والأنبياء؛ ثم نوضح
كيف تبلورت هذه الصلوات العامة المتفرقة منذ زمن موسى ويشوع، ودخلت كأساس لصلوات
الهيكل وصلوات المجمع اليومية، وصلوات الشعب العامة التي تُتلى في البيوت على
الولائم الرسمية، ثم نعرض لآخر صورة من هذه الصلوات كما صلَّى وسبَّح بها المسيح
داخل المجمع وعلى العشاء الأخير.

لأنه في هذه الصورة
سيتضح لنا كيف ظلت كلمة الله ووصيته وعهده القائم مع الآباء والشعب هي الينبوع
الدائم لكل الطقس القديم. ومن عرضنا لدقائق هذه الصلوات ومعانيها وترتيبها ينكشف
لنا عمق الأساس الذي تقوم عليه الصلاة التي تقُدَّم في الكنيسة اليوم؛ كما يتضح
أمامنا معنى كل صلاة وسببها وأهدافها، والروح التي صاغتها، وقوة الوعد التي تعطيها
فعاليتها.

مقالات ذات صلة

غير أنه لن يكون من
الصعب اكتشاف الفارق الكبير بين صلوات العهد القديم وطقوسها وبين صلوات الكنيسة
اليوم وطقوسها، إذ بينما يتشابه الوضع والكلمة أحياناً، يبقى الأساس الإلهي الجديد
شامخاً بالمسيح، عميقاً بسر الصليب، متسعاً بالنعمة، حيًّا بالروح، كما هو حادث
تماماً في الفارق بين العهد الجديد والعهد القديم على وجه العموم.

 

1 ‑ مضمون الصلاة
في العهد القديم

والصلوات قديماً سواء
التي جاءت حرَّة على أفواه الآباء والأنبياء، أو التي استخلصها الربيون وحكماء إسرائيل وأدخلوها كطقس ثابت داخل الهيكل
والمجمع، تقوم أساساً على نوعين من
الصلاة:
النوع الأول: اسمه ومضمونه هو صلاة البركة، والنوع الثاني: اسمه
ومضمونه هو صلاة التضرُّع.

ولا يزال هذان النوعان
من الصلاة يكوِّنان الهيكل العام لصلاة الإفخارستيا أي القداس.

وأول مَنْ فرَّق بين
صلاة البركة وصلاة التوسُّل عملياً وجعل لكل منهما ألفاظاً واضحة ومحدَّدة، هو
سليمان النبي، في زمن اكتمال الهيكل.

وقد جاءت صلاة البركة
باسمها العبري «بِرَاخُوث»، وتُرجمت في الترجمة السبعينية إلى
eÙlog…a أولوجية، ووضح فيها عنصر الشكر والتسبيح
والتمجيد.

أمَّا صلاة التضرُّع
فجاءت باسمها العبري
«تِفِلاَّه»([1]) Tephillah، وهي تقرب من معنى الشفاعة وكلها توسُّل.

وكمثال لصلاة البركة،
أي الأولوجية، التي قالها سليمان، نقدِّم:

+ » وقف سليمان
أمام مذبح الرب تجاه كل جماعة إسرائيل وبسط يديه إلى السماء وقال: أيها
الرب إله إسرائيل ليس إله مثلك في السماء
من فوق ولا على الأرض من أسفل، حافظ العهد
والرحمة
لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم …، مبارك الرب الذي أعطى
راحةً لشعبه إسرائيل حسب كل ما تكلَّم به ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح
الذي تكلَّم به عن يد موسى عبده.
«(1مل 8: 22و23و56)

ويُلاحَظ في صلاة
البركة هذه:

أولاً: أنها تحوي
مباركة الله،

ثانياً: أنها صلاة
قائمة على أساس العهد القائم،

ثالثاً: أن مضمونها
مأخوذ من كلمة الله المنطوقة بفمه التي هي أصلاً
» اسمع يا
إسرائيل الرب إلهنا ربٌ واحدٌ…
«(تث 4: 6)،

رابعاً:
أنها
مقدَّمة على أساس الطاعة المطلقة لله
» السائرين أمامك بكل
قلوبهم
«

خامساً: أن وضعها
الخارجي يكون برفع الأيدي.

وكمثال لصلاة التضرُّع Tephillah قال سليمان:

+ » فالتفتْ إلى
صلاة عبدك وإلى تضرُّعه أيها الرب إلهي، واسمع الصراخ والصلاة التي
يصليها عبدك أمامك اليوم، لتكن عيناك مفتوحتين على هذا البيت الذي
قلتَ إن اسمي يكون فيه … اسمع تضرُّع عبدك وشعبك إسرائيل الذين يصلُّون
في هذا الموضع … وإذا سمعت فاغفر … إذا أخطأوا إليك ثم رجعوا إليك
واعترفوا
باسمك وصلُّوا وتضرَّعوا إليك نحو هذا البيت فاسمع أنت من السماء واغفر خطية شعبك إسرائيل وارجعهم
إلى الأرض التي أعطيتها لآبائهم.

وكان لمَّا انتهى
سليمان من الصلاة إلى الرب بكل هذه الصلاة والتضرُّع أنه نهض من أمام مذبح
الرب من الجُثُوِّ على ركبتيه، ويداه مبسوطتان نحو السماء، ووقف وبارك كل
جماعة إسرائيل بصوتٍ عالٍ.
«(1مل 8: 28 30 و33و34 و54و55)

وهنا يعطينا سليمان
النبي كل الشروط الأساسية لصلاة التضرُّع:

أولاً: إنها يلزم
أن تقوم على أساس ارتباط تعهُّدي مع الله، أي علاقة تبعية
» أيها الرب
إلهي
«

ثانياً: إن الأمر
المتضرَّع عنه هو على اسم الرب أو يحمل اسم الرب
» اسمي يكون
فيه
«

ثالثاً: إن التضرُّع
قائم على أساس توبة، أي رجوع القلب إلى الله.

رابعاً:
إن
التوبة قائمة على أساس الاعتراف باسم الرب.

خامساً: إن الطلب
المقدَّم له أساس في وعد الله
» التي أعطيتها لآبائهم «

سادساً: إنها بصراخ
وتذلُّل.

سابعاً: إنها بركوع وسجود أمام الله.

وهذه كلها جاءت في
تضرُّع سليمان.

ونلاحظ في صلاة سليمان
وتضرُّعه أنه كان باستمرار يقول: «اسمع صلاة عبدك وتضرُّعه»، أي أن صلاة
البركة (أو تمجيد الله) لابد أن تسبق صلاة التضرُّع والتوسُّل والسؤال.

وهذا الترتيب الطقسي لا
يزال متَّبعاً بحرفيته في كل صلاة تُقام في الكنيسة حتى اليوم!

ويُلاحَظ دائماً في
صلوات العهد القديم أنه لا يمكن أن تُقدَّم ذبيحة أو تقدمة إلى الله أو أن يأكل
منها إنسان إلاَّ بعد أن يصلِّي عليها صلاة البركة، وهكذا نجد أن سليمان النبي بعد
أن بارك الله والشعب ذبح الذبائح أمام الله ثم قدَّم الوليمة للشعب.
وهكذا نجد
أن كلاًّ من التقدمة والأكل مرتبط ارتباطاً شديداً بصلاة البركة، كطقس ثابت ودائم
في العهد القديم.

كذلك من عجب الطقس
القديم أن صلاة البركة التي تُتلى على الذبائح التي يأكل منها الشعب، أي المعتبرة
أنها وليمة، كان لابد أن يُذكر عليها أي على الذبيحة
دعاء ورجاء من أجل بيت داود وعودة المُلك إليه! أي أن كل وليمة كانت تأخذ صبغة
مقدَّسة باعتبارها
» وليمة المسيا الآتي «وكأنها تشير
إلى الإفخارستيا من بعيد.

لذلك نجد أنه حتى في
صلاة سليمان على الذبائح التي قُدِّمت لله والتي سيأكل منها الشعب، لم تخلُ من
إشارة إلى المسيَّا الآتي وملكوت الله!!
» وذهبوا إلى
خيامهم فرحين وطيبي القلوب لأجل الخير الذي عمله الرب لداود عبده
«(1مل 66: 8)، (مع أن داود كان قد مات، فالإشارة هنا ليست لسليمان
وحده بل للمسيَّا الذي سينتهي إليه مُلْك بيت داود).

كذلك فالمعروف منذ
البدء أن صلاة البركة والتضرُّع كانتا لا تُقدَّمان بصورة طقسية إلاَّ ويُرفع
معهما بخور أمام الله:
» لتستقم صلاتي كالبخور
قدامك
«(مز 2: 141)، لأنه
توجد علاقة سرية بين الاثنين، أي بين البخور والصلاة. هذه العلاقة ظلت قائمة منذ
العهد القديم حتى إلى سفر الرؤيا أي الصلاة في السماء (رؤ 8: 5).

 

2 مفهوم
البركة في العهد القديم

وصلوات البركة في العهد
القديم غزيرة ومتنوعة، فقد وردت كلمة
» البركة «كمفهوم صلاة
ما يقرب من 400 مرة، تُرجمت إلى اليونانية في الترجمة السبعينية إلى كلمة
eÙlog…a بمشتقاتها.

وجمع بركة » بِرَاخوث «باللغة
العبرية، والفعل منها «بِيرَخ». أمَّا في اللغة العربية فللأسف الشديد بقيت
الكلمة هي هي بالعبرية بدون ترجمة. فكلمة
» بركة «ليست عربية،
لذلك ظلت مُبهمة المعنى ليس لها أي قياس ومغلقة بالنسبة للفكر العربي. ومما زاد في
تعقيد فهم كلمة
» بركة «ارتباطها بكلمة عكسية
وهي
» اللعنة « وفي الحقيقة قد أساء الناس فهم » البركة «على ضوء إساءتهم لفهم » اللعنة « ولو فُهمت الأُولى على حقيقتها لفُهمت الثانية
وتجرَّدت من مضمونها السحري.

لذلك فالحاجة ماسة جداً
لفهم كلمة
» بركة «فهماً كتابياً
ولاهوتياً صحيحاً، حتى تتنقَّى العبادة عموماً من شوائب كثيرة، ويتعدَّل ميزان
التقدير الروحي في العلاقات مع الله ومع الناس وحتى مع الأشياء والمقتنيات. إذ لابد أن يتبدَّد المفهوم الخاطيء الذي يحيط بهذه
الكلمة من جهة التفاؤل
والتشاؤم،
والاستسلام للقضاء والقدر، والتعلُّق بمفهوم الحظوظ، وعمل السحر، واستخدام الأحجبة
والطواطم.

والذي يحتِّم علينا
دراسة هذه الكلمة بالتفصيل وقوعها في صُلب الإفخارستيا، فأساس الصلاة التي صلاَّها
المسيح على الخبز والخمر هي كلمة
» بارك « كذلك في صلوات القداس الإلهي، نجد أن كلمة » بارك «ومشتقاتها
وردت 66 مرة، وعلى أساسها تقوم كل
» الأواشي «تقريباً.
فما هو المعنى الروحي لكلمة
» بركة «وما هو «فعلها»؟
وما هي القوة التي تُلازم البركة؟ هل هي قوة سرية أم هو تأثير خفي، أم هو فعل
مادي؟

ثم كيف يباركنا الله؟
وكيف يجوز أن نبارك الله؟ وكيف نبارك نحن الناس، وكيف يبارك الله الأشياء، وكيف
نبارك نحن هذه الأشياء؟

 

3 مفهوم
البركة واستخداماتها في العهد القديم

لكي نسهِّل على القارىء
فهم معنى البركة في العهد القديم، رأينا أنه من الأفضل أن نقدِّم أولاً
استخداماتها كما جاءت في المواضع والمواقف التي ذُكرت فيها، حتى ينتبه الذهن إلى
العمق والاتساع الهائل الذي غطَّته هذه الكلمة الروحية في كافة العلاقات التي تربط
الإنسان بالله وبالآخرين وبكل شيء في العالم!

 

استخدامات البركة في
العهد القديم

أولاً: الله يبارك
الإنسان والخليقة:

العهد القديم في كل
أسفاره يحرص على أن يقدِّم الله دائماً باعتباره هو الوحيد الذي يملك البركة
ويعطيها، فهو
» المبارَك وحده «» حيٌّ هو
الرب ومبارَك
«(مز 46: 18)، » مبارَكٌ
اسمُ مجدِه إلى الدهر
«(مز
19: 72)،
» مبارَكٌ أنتَ يا رب «(مز 12: 119)، » مبارَكٌ مجد الرب من
مكانه
«(حز 12: 3)، » أأنت
المسيحُ ابنُ المبارَك؟
«(مر 61: 14)

وبهذه الآية الأخيرة
سأل رؤساء الكهنة المسيح عن علاقته بالله حيث استخدموا صفة
» المبارَك «للكناية عن
الله باعتبارها الصفة الشخصية المميزة تمييزاً مطلقاً لله وحده. وكان هذا تعبيراً
عن مضمون الفكر المقدَّس السائد في كل العهد القديم عن الله.

فكل بركة هي مستمدَّة
من الله وعائدة إليه بالضرورة، والإنسان مسئول عن كل بركة بارَك الله بها الخليقة،
يثبت وجودها ويحافظ عليها وينمِّيها وينتفع بها شخصياً، إنما لتمجيد الله!! فالإنسان يتقبَّل بركة الله لكل المخلوقات لنفسه،
ولكن على أساس أن يجعلها تعمل لمجد الله وتؤول إليه!

ولكن هذه البركة التي
يمنحها الله للإنسان والخليقة إنما يمنحها بحرية إرادته الذاتية كفعل إلهي يكشف عن
أعماق تحننات الله، بقصد أن تنجح الخليقة وينجح الإنسان في كل عمله لتكميل مشيئة
الله ومسرَّته! ولكن ليس جزافاً أو بدون شرط، بل إن الله دائماً أبداً يجعل بركته
رهن شروط ينبغي أن يلتزم بها الإنسان بمحض إرادته الحرة!
» يفتح لك
الرب كنزه الصالح السماء ليعطي مطر أرضك في حينه وليبارك كل عمل يدك … إذا سمعت
لوصايا الرب إلهك التي أنا أوصيك بها اليوم، لتحفظ، وتعمل.
«(تث 28: 12و13)

يُلاحظ هنا أن البركة
التي يمنحها الله للإنسان تأتي إليه عن طريق الخليقة الطبيعية:
» يُعطي مطر
أرضك في حينه
«

أمَّا شرط البركة
الأساسي هنا فهو:
» إذا سمعت لوصايا الرب، … تحفظها وتعمل بها «

وفي حين أن بركة الله
للإنسان استلزمت دائماً شروطاً معيَّنة، نجد أن بركة الله للخليقة غير العاقلة
أصدرها الله بدون شروط، بسبب أن الخليقة الجامدة وغير العاقلة فاقدة لحرية الإرادة،
لذلك أصبحت بركة الله للخليقة كقانون يعمل تلقائياً وكقوة طبيعية تعمل وتتحكم في
سير الخليقة بدون وعي منها:
» وباركها الله قائلاً: أثمري
وأكثري واملئي المياه في البحار وليكثر الطير على الأرض
«(تك 22: 1)، حيث البركة هنا تتعلَّق بنموها الطبيعي وتكاثرها.

ولكن نظراً لأن البركة
التي يمنحها الله للخليقة هي أصلاً لحساب الإنسان ومنفعته، أصبحت بركة الله
للخليقة محسوبة بصورة غير مباشرة كبركة للإنسان.
ولهذا أصبح الإنسان بالتالي مسئولاً عن بركة الله للخليقة يستديمها
بطاعته لله وتقواه، ويتسبب في إتلافها وزوالها بعصيانه وشرِّه!!

ومن أمثلة ذلك ما قاله
داود في المزامير:

+ » يجعل
الأنهار قِفَاراً ومجاري المياه مَعطشةً والأرض المثمرة سَبِخَةً من شر
الساكنين فيها!!،

يجعل القفر غدير مياهٍ
والأرض اليابسة يجعلها ينابيع مياه، ويُسكِن هناك الجياع (إلى البر) فيهيِّئون
مدينة سَكَنٍ ويزرعون حقولاً ويغرسون كروماً فتصنع ثمر غلةٍ ويباركهم فيكثرون
جداً ولا يقلِّل بهائمهم.
«(مز 107: 3338)

كذلك يُلاحَظ في خلقة
الإنسان أن الله بارَك الإنسان وأعطاه أن يعيش في جنة من البركات على الأرض، ثم
أعطاه الوصية التي هي دائماً أبداً شرطاً أساسياً للبركة، التي لو حفظها وعمل
بمقتضاها لعاش في البركة ودامت له الجنة، ولتجاوز الموت وعبر إلى الحياة الأبدية
بطاعته، ولكنه إذ نقض الوصية وخالف تعرَّى هو من البركة وتعرَّت من البركة كل
الأرض من حوله، فواجه اللعنة التي هي هي انعدام البركة في كل شيء!

ولكن الله استبقى شيئاً
من البركة، إنما بصورة محدودة وفي دائرة الماديات وحسب، لرؤوس البشرية الأوائل نوح
وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وداود وسليمان وكثير من الأنبياء والقديسين، وذلك
بسبب حفظهم لوصايا الله وتقواهم.

وقد أعطى الله أيضاً أن
يكون لهؤلاء الآباء المباركين سلطان أن ينقلوا بركتهم ويورثوها لآخرين من بعدهم،
بالدعاء باسم الرب وبوضع اليد، وانحصر هذا التوريث في الابن البكر فقط. ومن المهم
جداً أن نلاحظ أن توريث البركة بهذه الصورة يقابل إلى حدٍّ ما توريث اللعنة التي
تقبلتها البشرية، الأبناء من الآباء!

أمَّا انحصار البركة في
الابن البكر فقط فواضح أنها بغرض استقرارها على المسيح
» بكر كل
خليقة
«(كو 15: 1)، الذي
سيعيد إلى الإنسان، وبالتالي الخليقة كلها، البركة الأُولى إنما في فعلها الروحي
الفائق جداً فوق الطبيعة بكل خيراتها الزمنية، بركة لا تمتُّ بعد إلى هذا العالم
وإنما بركة الحياة الأبدية بالروح.

وقد اخْتُصَّ إبراهيم
بالبركة العظمى بقَسَمٍ إلهي
» كعهد «ظل قائماً
لا يتزعزع عَبْر كل الأجيال، حتى استقر على المسيح!!

كذلك لم تُحرم بقية
الشعب من نوال مزايا هذه البركة المادية، كلُّ مَنْ أطاع وصايا الله، لأن الله
بحكمته الفائقة أعطى الوصية لكي يفتح أمام الإنسان باباً للبركة!
» انظر، أنا
واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة، البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا
أوصيكم بها اليوم، واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم وزُغْتم عن الطريق
التي أنا أُوصيكم بها اليوم.
«(تث 26: 1128)

وليلاحظ القارىء أن
بدخول الوصية ارتفعت كل حجج الإنسان ومعاذيره أنه إنما ورث اللعنة من آدم، إذ أصبح
الإنسان كل يوم في موقف متجدِّد أمام الله يستطيع بطاعته للوصية أن ينفض عنه
اللعنة التي توارثها من آدم ويتجاوزها إلى البركة لو شاء، وذلك بطاعته الوصية
والعمل بها!

كذلك يلاحظ القارىء أن
البركة هنا بعد الوصية، بدأت تأخذ نوعاً من التلقائية كقانون ينطبق من تلقاء ذاته
بالنسبة لطاعة الوصية أو رفضها، فبدت الوصية بالنسبة لعجز الإنسان وضعفه عن
تتميمها وكأنما الوصية صارت من جديد سبب لعنة وموت!! هذا الذي شكا منه القديس بولس
الرسول بشدة في رسالته إلى أهل رومية.

ولكن في الحقيقة كان
الله من وراء ذلك يدرِّب ضمير الإنسان على الإحساس بشناعة التعدِّي على وصايا الله
وأوامره، وبالتالي يؤسِّس في أعماق وجدانه بغضة الخطيئة والجزع من الغواية التي
يبثها الشيطان في النفس لاشتهاء الشرور.

وعلى
هذا الأساس بدأت الوصايا تنير الطريق أمام مسيرة الإنسان لكي يطلب البركة ويسعى
نحوها:
» الطاهر
اليدين، والنقي القلب، الذي لم يحمل نفسه إلى الباطل، ولا حلف كذباً، هذا ينال
بركةً من الرب وبرًّا من إله خلاصه
«(مز 24: 4و5). ويُلاحَظ هنا أن شروط
البركة جاء بعضها إيجابياً:
» طاهر اليدين، نقي القلب «وبعضها سلبياً: » لا يحمل نفسه إلى الباطل، ولا حلف كذباً «

ولكن لم يكن طلب البركة
في العهد القديم بدون طقس، إذ لم يكن مسموحاً للإنسان العادي أن يقف أمام الله
يطلب لنفسه البركة، أمَّا طقس طلب البركة فكان له صلوات محدَّدة يقوم بها الشعب في
مناسبات محدَّدة وبكلمات محدَّدة، من خلف الرؤساء الذين يعيِّنهم الله، وحتى هؤلاء
لا يجرأون من تلقاء ذواتهم على الصلاة وطلب البركة إلاَّ من خلال تمسُّكهم بوعود
الله للآباء السابقين وبمقتضى عهده السابق.

فمثلاً نجد » حَنَّة «أم صموئيل
النبي وقفت تصلِّي إذ كانت عاقراً وتطلب نسلاً، ولكن إذ أن هذا يُعتبر سؤال بركة،
تدخَّل عالي الكاهن ليصحح موقفها وبدأ بدالَّة كهنوته يسأل عنها هكذا:
» أجاب عالي وقال: اذهبي بسلام، وإله
إسرائيل يعطيكِ سُؤْلَكِ الذي سألتِهِ من لدنه!
«(1صم 17: 1)

بل
وحتى إبراهيم، وهو أب الآباء، احتاج إلى
» كاهن «ليباركه
ويعضِّده
» وملكيصادق
ملك ساليم أخرج خبزاً وخمراً وكان كاهناً لله العلي وباركه وقال: مبارك أبرآم من
الله العلي ملك السموات والأرض
«(تك 14: 18و19). كما يُلاحَظ هنا أن
الوحي الإلهي تعمَّد أن يذكر
» وكان كاهناً لله العلي «قبل أن يذكر » وباركه «
حتى يثبت أن قانون البركة إنما يتبع طقساً مُلزِماً.

وقد استقرت البركة
أخيراً بحسب الناموس الذي وضعه الله على فم موسى كعمل طقسي لا يقوم به إلاَّ
الكاهن، والأصل في هذا الطقس واضح جداً في وصية الله لموسى هكذا:

+ » وكلَّم الرب
موسى قائلاً: كلِّم هرون وبنيه قائلاً: هكذا تباركون بني إسرائيل قائلين لهم: يباركك
الرب ويحرسك، يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك، يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً.
فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أُباركهم!
«(عد 6: 2227)

ويُلاحَظ هنا أنه حتى
بركة الكاهن الرسمية تظل بلا فاعلية إلى أن ينطق الكاهن اسم الله على رؤوس الشعب،
وحينئذ يتولَّى الله بنفسه بركة الشعب. أي أن بركة الكاهن ما هي إلاَّ إعداد فقط
لبركة الله الذي يمنحها بنفسه! ولكن ليس معنى هذا أنه يمكن تجاوز الكاهن فتُطلب
البركة بدونه، فالشريعة تحتِّم اختصاص الكهنة وحدهم بتلاوة البركة، حتى إنها دُعيت
ببركة هارون أو البركة الهارونية، أي لا تجوز رسمياً إلاَّ من فم الكاهن وفي
مناسبات محدَّدة وعلى وجه الخصوص وبالتحديد داخل الهيكل! حتى إنه
بسبب اختصاص الكهنة بالبركة صارت لهم الكرامة من جراء ذلك:
» ثم يتقدَّم
الكهنة بنو لاوي لأنه إيَّاهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب!
«(تث 5: 21)

كيفية بركة الله
للإنسان في العهد القديم:

هذا الجزء من البحث في
أصول البركة هام جداً، لأنه سيكون الأساس والمُنطلَق الذي سنشرح بمقتضاه مفهوم
وقوة
» الأواشي «أي الصلوات التي تُقام
أثناء القدَّاس والتي تتضمن طلب البركة
» مراراً وتكراراً «على كل شيء: على الماء والينابيع، على الهواء والثمار، على الزرع والعشب،
على البيوت والمساكن، على اجتماعات الشعب وعلى مداخلهم ومخارجهم … إلخ. كما
سيأتي في

موضعه.

يُلاحَظ أن الله لم
يترك أمراً من أمور الإنسان الحافظ عهد الله ووصاياه إلاَّ وعضَّده بالبركة، سواء
بفمه أو بفم قدِّيسيه وأنبيائه، ولكن كلها في حدود الماديات والزمنيات وحسب. ونقرأ
في الأسفار أنه يبارِك زوجة الإنسان ونسله وأكله وشربه وأعماله ومقتنياته وعمره
وحقله وأرضه، حتى الندى والمطر الساقط من
السماء، بل والمعجن الذي يعجن فيه والسلَّة التي يضع فيها خبزه،
وكل شجرة
مثمرة والخمر والزيت حتى الماء والغنم والماشية وحتى مخازنه، بل ويبارك مجرَّد
دخوله وخروجه!

وهذه
هي مختصر نصوص الآيات التي تشير إلى ذلك، نرجو القارىء أن يرجع إليها ليتعمَّق
قوتها ويفهمها:

+ » وأُعظِّم
اسمك وتكون بركة (الرب يقول لإبراهيم).
«(تك 2: 12)

+ » بركات
السماء من فوق، وبركات الغمر …، بركات الثديين، والرحم …
تكون على
رأس يوسف.
«(تك 49: 25و26)

+ » وأقطع معهم
عهد سلام وأنزع الوحوش الرديئة من الأرض فيسكنون في البرية مطمئنين وينامون
في الوعر، وأجعلهم وما حول أكمتي بركةً وأُنزل عليهم المطر في وقته فتكون
أمطار بركةٍ، وتعطي شجرة الحقل ثمرتها وتُعطي الأرض غلتها!
«(حز 34: 2527)

+ «طعامها أُبارك
بركةً.»
(مز 15: 132)

+ » وتعطون
الكاهن أوائل عجينكم لتحل البركة على بيتك.
«(حز 30: 44)

+ » هاتوا جميع
العشور إلى الخزانة ليكون في بيتي طعام وجرِّبوني، بهذا قال رب الجنود، إِن كنت لا
أفتح لكم كوى السموات وأَفيض عليكم بركة حتى لا تُوسَع، وأنتهر من أجلكم الآكل
(الآفات) فلا يُفسد لكم ثمر الأرض ولا يُعقَر لكم الكرم
في الحقل …
ويطوِّبكم كل الأمم لأنكم تكونون أرض مسرَّة قال رب الجنود.
«(ملا 3: 1012)

+ » إنهم نسلٌ باركه
الرب.
«(إش 9: 61)

+ » أليس أنك
سيَّجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية، باركت أعمال
يديه؟
«(أي 10: 1)

+ » فيُبَاركُ خبزك وماءك،
وأُزيل المرض من بينكم، لا تكون مُسقِطةٌ ولا عاقر في أرضك، وأُكمِّل عدد أيامك.
«(خر 23: 25و26)

+ » ومن أجل
أنكم تسمعون هذه الأحكام وتحفظون وتعملونها يحفظ لك الرب إلهك العهد والإحسان
اللذين أقسم لآبائك، ويُحِبُّك، ويباركك، ويكثِّرك، ويبارك ثمرة
بطنك، وثمرة أرضك، قمحك، وخمرك، وزيتك، ونتاج بقرك، وإناث غنمك … لا يكون عقيم
ولا عاقر فيك ولا في بهائمك، ويردُّ الرب عنك
كل مرضٍ وكل أدواءِ مصر الرديئة.
«(تث 7: 1215)

+ » يبارك مسكن الصدِّيقين. «(أم 33: 3)

+ » مباركاً
تكون في المدينة ومباركاً تكون في الحقل
… مباركة تكون سلَّتك
ومعجنك،
مباركاً تكون في دخولك ومباركاً تكون في خروجك … يأمر
لك الرب بالبركة في خزائنك وفي كل ما تمتد إليه يدك … ويزيدك الرب
خيراً في ثمرة بطنك وثمرة بهائمك وثمرة أرضك … وتكون في الارتفاع فقط ولا
تكون في الانحطاط إذا سمعت لوصايا الرب إلهك التي أنا أوصيك بها اليوم لتحفظ وتعمل.
«(تث 28: 313)

ويُلاحَظ أن الله في
مباركته لأشياء الإنسان، يُضْفي عليها أحياناً من قداسته. فمثلاً نجد في يوم السبت
أن الله بعد أن باركه قدَّسه، وهذا يعني أن الله بعد أن يبارك الأشياء التي
يباركها للإنسان يجعلها ذات صلة وثيقة به أيضاً، وهذا يعني أن هذه الأشياء التي
يباركها الله قد أصبحت في الحال لعمل مجد الله، وحينئذ يلتزم الإنسان أن يستخدمها
في حدود العلاقة التي تربطه بالله، أي تصبح هذه الأشياء مقدَّسة لله، لذلك التزم
الإنسان أن يعطي الله أبكاره من كل شيء سواء من نسله أو بهائمه أو كافة ممتلكاته
إشارةً إلى أن كل شيء قد تبارك وتقدَّس!

حتى في الأيام، نجد أن
الله يبارك اليوم السابع من الأسبوع، يوم السبت، ثم بعد أن يباركه يقدِّسه ليصير
يوماً للرب، يرتبط فيه الإنسان بالله في كل ساعاته. فإن هو قدَّس هذا اليوم لله
فعلاً امتدت البركة حتماً إلى بقية أيام الأسبوع، فإذا لم يقدِّسه لله لا يعود يوم
السبت مباركاً بالنسبة لهذا الإنسان، وبالتالي يفقد البركة خلال كل أيام الأسبوع.

هذا ينبِّه ذهننا إلى
المعنى المخفَى وراء ما يقوله الكاهن قبل التناول
» القُدْسَات
للقديسين
« أي أن الأشياء المقدَّسة لا تكون مقدَّسة إلاَّ بالنسبة
للقديسين! أمَّا لغير القديسين فيصير لها عمل عكسي.

كذلك
نلاحظ أنه لمَّا قال الله لشعب إسرائيل إنه سيبارك لهم خبزهم وماءهم عندما يعبدون
الرب بأمانة:
» وتعبدون
الرب إلهكم فيبارك خبزك وماءك وأُزيل المرض من بينكم، ولا تكون مُسقِطة ولا عاقر
في أرضك، وأُكمِّل عدد أيامك
«(خر 23: 25و26)، يظهر من هذا أن
العبادة أي تقديس الله وتقديس اسمه بالصلاة وفي السلوك والمعاملة
يهيِّئ الطريق لله لكي يضفي من قداسته على صحة الإنسان وعلى أشيائه، فيتقدَّس خبزه
وماؤه، فلا يعود مرض في الخبز ولا مرض في الماء بل صحة وقوة، وبالتالي لا يكون
إخفاق في النسل: لا مُسقِطة ولا عاقر لا في النساء ولا في البهائم.

بل ويزيد الرب في قوله
إنه يكمِّل عدد أيام الإنسان، بمعنى أن لا يفاجئه الموت قبل الوقت، وذلك بسبب بركة
الخبز والماء وكل الطعام.

وهذا ما أشار إليه
القديس بولس الرسول في حالة الذين يأكلون من المقدَّسات: أي يأكلون من الجسد
ويشربون من الدم بدون استحقاق، أي وهم ليسوا على مستوى وصية الله وطاعة أوامره:
» من أجل هذا
فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون
«(1كو 11: 29و30). هنا كلمة » يرقدون «أي يموتون
قبل اكتمال عدد أيام حياتهم، كنوع من التأديب. وبهذا يتضح تماماً أن بركة الله
التي كانت تحل على خبز الإنسان ومائه تقدِّسهما، وبالتالي يصير الأكل منهما للصحة
والحياة الجسدية إن كان الإنسان على مستوى البركة أي طاعة الوصية
وإلاَّ فيصير الأكل والشرب للدينونة والعقاب بالمرض وبالموت!!

وهكذا يتضح تماماً أن
البركة في العهد القديم تقترن اقتراناً جوهرياً بطاعة الوصية، فهي نتيجة حتمية
للأمانة إزاء عهد الله.

ثانياً: الإنسان يبارك
الله:

يُعتبر هذا الجزء من
البحث هاماً جداً من جهة الإفخارستيا، وبالذات في تقديس الذبيحة حيث محور التقديس
يكمن في أن الكاهن يبارك الله على الخبز والخمر على مثال ما عمل المسيح.

وهنا يندهش الإنسان
لأول وهلة: كيف يجوز للإنسان أن يبارك الله؟ ولكي نشرح هذا الأمر يلزمنا أولاً أن
نورد الأمثلة ونوضِّح من خلالها مضمون ومعنى هذه البركة تمهيداً لشرح مفهوم البركة
بوجه عام.

ويلزم أن ينتبه القارىء
أن مباركة الله تأتي دائماً كنوع من أنواع الصلاة، بل وتُعتبَر أعلى أنواع الصلاة،
كما تأتي مقترنة بالسبب الذي قُدِّمت من أجله صلاة البركة هذه.

الأمثلة:

1 تأتي
صلاة البركة في سفر التكوين هكذا:
» خررتُ وسجدتُ للرب
وباركتُ الرب إله سيدي إبراهيم الذي هداني في طريق أمين.
«(خر 48: 24)

هنا تأتي البركة كصلاة
شكر من أجل هداية السفر، فهي بمثابة نواة لأوشية المسافرين.

2 وتأتي في
سفر التثنية هكذا:
» فمتى أكلتَ وشبعتَ تبارِك الرب إلهك لأجل الأرض
الجيدة التي أعطاك.
«(تث
10: 8)

هنا البركة تأتي
نموذجاً مقترحاً من الله نفسه لصلاة الشكر من أجل الطعام والأرض الجيدة. وسوف
يلاحظ القارىء أنه تمَّ بالفعل صياغتها على هيئة صلاة طلبة وأصبحت من أهم الصلوات
الطقسية في الهيكل وفي مجامع اليهود. كما دخلت بروحها وألفاظها ضمن الأوشية
الأساسية التي تُقال بعد قراءة الإنجيل أو قبل صلاة المجمع (سواء كانت أوشية
الثمار أو الزروع أو المياه). وأولها:
» أصْعِدها كمقدارها … «

3 وتأتي في
سفر يشوع هكذا:
» اليوم علمنا أن الرب بيننا … وبارَك بنو إسرائيل الله. «(يش 22: 31و33)

هنا صلاة البركة جاءت
انفعالاً تلقائياً بسبب الشعور بحضور الله في وسط الشعب. هنا نجد نواة أوشية
الاجتماعات، ولحن
» عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن « والتي يرافقها عادةً لحن » إفزمارؤوت « أي » مباركٌ الله «

4 وتأتي في
سفر القضاة هكذا:
» فترنَّمت دَبُورَة وباراق بن أبينوعم في ذلك
اليوم قائلَيْن: لأجل قيادة القواد في إسرائيل لأجل انتداب (تضحية) الشعب: باركوا
الرب، اسمعوا أيها الملوك واصغوا أيها العظماء، أنا أنا للرب أترنَّم، أُزمِّر
للرب إله إسرائيل … قلبي نحو قضاة إسرائيل المنتدبين (المضحِّين) في الشعب،
باركوا الرب … الرب سلَّطني على الجبابرة … السماوات حاربت، الكواكب في
أفلاكها حاربت سيسرا … دوسي يا نفسي بعزٍّ.
«(1: 53و9و13و20و21)

هنا تسبيح البركة جاء
كصلاة شكر من أجل انتصار الشعب على يد دبورة النبية، وصلاة هذه البركة تعتبر نواة
لأُوشية الملك وأوشية السلامة الكبيرة، وواضح فيها أن السلطان على الأعداء والنصرة
في الحروب تأتي من السماء، لذلك فتسبيح البركة قرينٌ لتسبيح النصرة أو طلبها!!

5 وتأتي في
السفر الأول لأخبار الأيام هكذا:

+ » وبارَك داود
الرب أمام كل الجماعة، وقال داود:

مباركٌ أنت أيها الرب
إله إسرائيل أبينا من الأزل وإلى الأبد. لك يا رب العظمة والجبروت والجلال والبهاء
والمجد لأن لك كل ما في السماء والأرض. لك يا رب المُلْك وقد ارتفعتَ رأساً على
الجميع، والغِنَى والكرامة من لدنك وأنت تتسلَّط على الجميع وبيدك القوة والجبروت
وبيدك تعظيم وتشديد الجميع.

والآن يا إلهنا نحمدك
ونسبِّح اسمك الجليل. ولكن مَنْ هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب (نضحِّي) هكذا، لأن
منك الجميع ومن يدك أعطيناك، لأننا نحن غرباء أمامك ونزلاء مثل كل آبائنا. أيامنا
كالظل على الأرض وليس رجاء.

أيها الرب إلهنا، كل
هذه الثروة التي هيأناها لنبني لك بيتاً لاسم قدسك إنما هي من يدك ولك الكل، وقد
علمت يا إلهي أنك أنت تمتحن القلوب وتُسرُّ بالاستقامة. أنا باستقامة قلبي انتدبت
(ضحيتُ) بكل هذه، والآن شعبك الموجود هنا رأيته بفرح ينتدب (يضحِّي) لك.

يا رب إله إبراهيم
وإسحق وإسرائيل آبائنا، احفظ هذه إلى الأبد في تصوُّر أفكار قلوب شعبك وأعدَّ
قلوبهم نحوك. وأمَّا سليمان ابني فاعْطِه قلباً كاملاً ليحفظ وصاياكَ شهاداتك
وفرائضك وليعمل الجميع وليبني الهيكل الذي هيأتُ له.

ثم قال داود لكل
الجماعة: باركوا الرب إلهكم، فبارَك كل الجماعة الرب إله آبائهم وخرُّوا وسجدوا
للرب وللملك، وذبحوا للرب ذبائح … وأكلوا وشربوا أمام الرب في ذلك اليوم بفرح
عظيم.
«(1أي 29: 1022)

هنا صلاة البركة تأتي
كتسبيح وشكر واعتراف مع تمجيد كثير أمام الله، تنتهي بذبح الذبائح ثم الجلوس في
حضرة الله لتناول الطعام والشراب أمام الرب بفرح عظيم.

وفي الواقع نجد في هذه
الآيات صورة عميقة وهيكلاً عاماً لقدَّاس كامل. ولكي نفتح مجالاً للتأمل أمام
القارىء نضع أمامه بعض اتجاهات هذه الآيات وما يقابلها تقريباً في القدَّاس الإلهي
اليوم:

هنا الصلاة تبدأ
بالبركة وتستمر الصلاة كما هو في القدَّاس الآن تماماً:

1أي 10: 29=

 مبارك أنت أيها الرب
إله إسرائيل «أبينا».

 

 [مبارك الله الآب
آمين الرشومات في القدَّاس].

11: 29=

 من الأزل وإلى الأبد
لك يا رب العظمة.

 

 [يا الله العظيم الأبدي
صلاة الصلح في القدَّاس].

=

 لك كل ما في
السماء والأرض.

 

 [خالق السماء والأرض
وكل ما فيها القدَّاس].

=

 لك يا رب المُلْك
وقد ارتفعت رأساً على الجميع.

 

 [الجالس على كرسي مجده
المسجود له من جميع القوات المقدَّسة].

14: 29=

 من يدك أعطيناك.

 

 [نقدِّم لك قرابينك من
الذي لك
].

15: 29=

 لأننا نحن غرباء أمامك
ونزلاء مثل كل آبائنا.

 

 [ونحن الغرباء في
هذا الموضع].

ثم تُختم هذه الصلوات،
التي ينصبُّ مضمونها كلها على تقديم البركة لله، بالذبائح ثم التناول أمام الله
بفرح [فمنا امتلأ فرحاً … إلخ القداس الإلهي أوشية
تُقال سرًّا بعد التناول] كما هو حادث تقريباً في مسيرة القداس حتى نهايته!

6- وتأتي صلاة للبركة
في سفر عزرا خاصة بقراءة الكتاب المقدَّس على مثال غاية في الدقة والترتيب لما هو
حاصل الآن في القراءة الطقسية للإنجيل أثناء القداس، ونقدِّمها مفصَّلة بترتيبها
ليستشف منها القارىء مقدار التطابق العجيب بين ما أجراه عزرا ونحميا في طقس قراءة
الشريعة وما هو حادث اليوم في أوشية الإنجيل. حيث ينبغي أن ننتبه جداً إلى أن النطق
بصلاة البركة قبل القراءة، يُعتبر بمثابة المركز والقلب للأُوشية!!:

+ » فأتى عزرا
الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء وكلِ فاهمٍ ما يُسمَع
«

» وقرأ فيها
… من الصباح إلى نصف النهار
«

 

» ميعاد
القدَّاس
«

» وكانت
آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة
«

 

» انصتوا
لسماع الإنجيل المقدَّس
«

» ووقف عزرا
الكاتب على منبر الخشب
«

 

» وقوف
الكاهن على المنجلية
«

» ووقف اللاويون بجانبه عن يمينه وعن يساره «(عدد 4)

 

» شماسان
على جانبي المنجلية
«

» وفتح عزرا
السفر أمام كل الشعب
«

 

(الأسفار مقدَّسة لا
يلمسها إلاَّ الكاهن هذا هو التقليد قديماً)

» وعندما
فتحه وقف كل الشعب
«

 

» الشماس
ينذر بالوقوف بخوف الله
«

«وبارك عزرا الرب
الإله العظيم»

 

«الكاهن يقول: مبارك
الآتي باسم الرب»

» وأجاب
جميع الشعب آمين آمين رافعين أيديهم، وخروا وسجدوا
«

 

سجود
الشعب [أُهملت الآن]([2])

» وقرأوا في
السفر في شريعة الله ببيان
«

 

القراءة
بوضوح.

» وفسَّروا
المعنى
«(من
الآرامية إلى العبرية)

 

ترجمة من
القبطية إلى العربية.

» وأفهموهم ما قُرِىء «

 

شرح
وتفهيم ما قُرِىء.

» وقالوا
لجميع الشعب: هذا اليوم مقدَّس للرب إلهكم، لا تنوحوا ولا تبكوا
«

 

ممنوع
الحزن والمطانيات يوم الأحد.

» اذهبوا
كُلُوا السمين واشربوا الحلو
«

 

ممنوع
الصوم.

» وابعثوا
أنصبةً لمن لم يُعدَّ له.
«(نح 8: 2- 10)

 

ولائم
للفقراء (الأغابي).

 

7 أمَّا
في سفر دانيال فتأتي صلاة البركة في وضع التوبة كحالة شكر وتمجيد لله الذي نجَّى
من موت مثل هذا وهو ينجِّي أيضاً!!:

+ » وعند انتهاء الأيام، أنا نبوخذ نصَّر
رفعت عينيَّ إلى السماء، فرجع إليَّ عقلي وباركتُ العليَّ وسبَّحتُ وحمدت الحيَّ
إلى الأبد، الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور.
«(دا 34: 4)

هنا تُعتبر صلاة البركة
المقدَّمة لله بعد العودة والرجوع من الخطية إلى صحو التوبة جزءاً هاماً في إعادة
العلاقة والرباط الذي يربط النفس بالله، ويلاحظ في قراءة التحليل على رأس التائب
المعترف أنه ينبغي إعطاء البركة لله الآب والابن والروح القدس على رأسه قبل البدء
في الصلاة.

8 وتأتي
توجيهات من جهة صلاة للبركة في سفر طوبيا على فم الملاك يتبين منها كيف ابتدأ
يتركز الطقس على أهمية صلاة البركة:

+ » حينئذ دعا
الملاك اثنيهما خفيةً وقال لهما: باركا الله واعترفا له، وأعطيا له التعظيم،
واعترفا أمام جميع الأحياء بكل ما صنع معكما، صالح هو التبريك لله، وارتفاع
اسمه الأعظم، وأظهرا بأقوالكما أعمال الله، ولا تتهاونا بأن تعترفا له إن سرَّ
الملك حَسَنٌ أن يُخفى، أمَّا أعمال الله فيُتَمجَّد بأن تظهر.
«(طوبيا 12: 6و7)

والذي نخرج به من هذا
التوجيه بفم الملاك هو أن صلاة البركة تُعتبر بحد ذاتها
» عملاً صالحاً « أي بلغة الكنيسة اليوم: هي ليتورجيا أو خدمة إلهية!!

9 أمَّا
في سفر المزامير فتأتي صلوات البركة لله في مواقف عظمى عديدة إمَّا كتسبيح خدمة
حرَّة بدون اقترانها بأعمال أو عطايا ممنوحة، أو مقترنة بأعمال الله كرد فعل حتمي
وواجب لقبول العطية بالشكر والتسبيح والاعتراف ولدوام أفضال الله ونعمه ومراحمه:

+ » أبارك الرب
الذي أفهمني.
«(مز 7: 16)

وهذه تذكِّرنا بالطلبة:
» اعطِ فهماً للموعوظين «

+ » أبارك الرب في كل حين، دائماً تسبيحه في
فمي … طلبت إلى الرب فاستجاب لي.
«(مز 1: 34)

هنا البركة والتسبيح
كلٌّ منهما يستزيد الآخر.

+ » باركي يا
نفسي الرب، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس،
باركي يا نفسي الرب ولا
تنسي كل حسناته،
الذي يغفر جميع ذنوبكِ، الذي يشفي كل أمراضكِ،
الذي يفدي من الحفرة حياتكِ، الذي يكلِّلكِ بالرحمة والرأفة، الذي يُشبع
بالخير
عمركِ، فيتجدَّد مثل النسر شبابكِ!
«(مز 103: 15)

هذه أعلى نماذج التسبيح
بالبركة لله المقرونة بالعطية، كاعتراف متواصل بحسنات الله.

+ » يحمدك يا رب
كل أعمالك ويباركك أتقياؤك، بمجد مُلكك ينطقون وبجبروتك يتكلَّمون، ليعرِّفوا بني
آدم قدرتك ومجد جلال مُلكك.
«(مز 145: 1012)

هنا صلاة البركة جاءت
كخدمة تسبيح حرَّة لله خالية من ذكر عطايا خاصة.

+ » وليبارك كل
بشرٍ اسمه القدوس إلى الدهر والأبد.
«(مز 21: 145)

يظهر هنا أن صلاة
البركة عمل حتمي وفرض إلزامي على كل بشر وفي كل زمان، مما يوضِّح أن الخدمة
الإلهية (الليتورجيا) هي العمل الأول والدائم والواجب للإنسان.

+ » يا رب أحببت
محلَّ بيتك وموضع مسكن مجدك …
رِجْلِي وقفت بالاستقامة، في وسط الجماعة
أباركك.
«(مز 26: 8و12)

هنا كلمة » موضع «تهمنا جداً،
لأنها تُذكر دائماً في دورات البخور أثناء القدَّاس عندما يبخِّر الكاهن الكنيسة
والهيكل والمذبح وحوله قائلاً:
» وموضعك المقدَّس
هذا
« هنا كلمة » موضع «مُضافة إلى
كلمة
» مسكن «تفيد وجوداً فعلياً
لحضرة الله.

فهنا يلزم التفريق بين بيت
الله، ومسكن الله، وموضع الله، حيث البيت هو المكان الذي يجتمع
فيه الشعب ويمثله الخوروسان الأول والثاني، أمَّا المسكن فيمثله الهيكل حيث يجتمع
الله مع الإنسان (الكهنة والشمامسة الذين يمثلون الشعب)، أمَّا الموضع
المقدَّس فهو موضع مجد الله أي مكان وقوفه أو حلوله، وهذا لا يمثله بقعة معيَّنة
من الأرض.

وقد جاءت باليونانية
هكذا:

جمال بيتك وموضع مسكن
مجدك:

 eÙpršpeian
o‡kou sou kaˆ tÒpon skhnèmatoj dÒxhj sou

يُلاحَظ هنا أن داود
النبي ينبِّه ذهننا في هذا المزمور إلى أن وجودنا في وسط الجماعة لتقديم تسبيح
البركة لله هو حالة حب:
» أحببت … موضع مجدك « هنا خدمة التسبيح بالبركة مقترنة بالحب الإلهي. ثم يعود يعزز وجود
حالة حرارة الحب هذه أثناء التسبيح في وسط الكنيسة بقوله:
» رِجْلِي
وقفت بالاستقامة
« أي أن وقوفي
للتسبيح باستقامة (أي بدون إهمال أو ارتخاء) هو دلالة حبي نحو مجدك الحاضر في موضع
تسبيحنا!!

+ » يا الله
إلهي إليك أصرخ مبكِّراً لأن نفسي عطشت إليك، وجسدي يشتاق دواماً إليك … لهذا
ظهرتُ أمامك في الهيكل (الكنيسة) لكي أرى مجدك وقوتك … لهذا أباركك في حياتي.
«(مز 63: 1و2و4 حسب السبعينية)

يلاحَظ هنا أن صلاة
البركة والتسبيح بها، هي تعبير عن حالة عطش نفسي وشوق عاطفي وصراخ بالفم، تدفع
الإنسان للتبكير إلى الهيكل والاستمرار في ذلك مدى الحياة!!! ثم يقابل هذا شبع
نفساني دائم بالروح كما يشبع الجسد بالدسم!

+ » باركوا الرب
يا ملائكته المقتدرين قوةً، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه، باركوا الرب يا
جميع جنوده خدامه العاملين مرضاته، باركي الرب يا جميع أعماله في كل مواضع سلطانه.
باركي يا نفسي الرب.
«(مز
103: 2022)

واضح هنا أن تسبحة
البركة لله يشترك فيها معاً الملائكة المقتدرون المستعدون دائماً لطاعته،
والخدَّام العاملون مرضاته مع أعماله التي ينطق بها كل فم، مع نفس الإنسان في
الباطن. هنا الخليقة كلها تتجلَّى أمام نفس الذي يقف ليبارك الله في التسبحة،
فتحدث للنفس البشرية شركة سرية في ليتورجيا سمائية أعلى بكثير جداً جداً من
الألفاظ المنطوقة والألحان الموزونة!!

+ » باركي يا
نفسي الرب، يا رب إلهي قد عظمتَ جداً، مجداً وجلالاً لبست. اللابس النور كالثوب.
«(104: 1و2)

هنا يتضح أن حالة النفس
قد ارتفعت أثناء التسبيح بالبركة، وبلغت حالة تَجلٍّ واضحة ظهر فيها الرب لداود
وهو في حالة العظمة متسربلاً بالنور وكأنه ثوب، هذا الذي ظهر فيه المسيح بالفعل
لعينيِّ بطرس ويعقوب ويوحنا، ومن هذا يتضح أن صلاة البركة واسطة تَجلٍّ.

+ » باركوا الرب
يا جميع عبيد الرب الواقفين في بيت الرب بالليالي، ارفعوا أيديكم تجاه القدس
وباركوا الرب.
«(134: 1و2)

الدعوة هنا إلى خورس
المسبِّحين للانتباه ليكون الهدف الأساسي من خدمتهم ووقوفهم بالليل هو مباركة الرب،
أمَّا رفع اليدين والاتجاه نحو القدس فهو لكي يزيدهم انتباهاً أنهم واقفون تجاه
الله وأمامه (يُلاحَظ أن في كل مجامع المدن التي كان يجتمع فيها الشعب للتسبيح كان
ينبغي أن يكون اتجاه وقوف المصلِّين هو
» القِبْلة «ناحية
الهيكل
» القدس «بأورشليم). وهذا
التشديد في الاهتمام بإعطاء البركة لله باستمرار أثناء الوقوف باستقامة ورفع
اليدين والاتجاه نحو أُورشليم يوضِّح أن محور الصلاة كلها ومركز كل تسبحة هو
مباركة الله.

+ » يا بيت
إسرائيل باركوا الرب
(الشعب)، يا بيت هرون باركوا الرب
(الكهنة)، يا بيت لاوي باركوا الرب (الشمامسة)، يا خائفي الرب باركوا الرب
(الأتقياء والنسَّاك)، مبارك الرب من صهيون الساكن في أُورشليم.
«(مز 135: 1921)

هنا يتضح أن بركة الرب
فرض عام على كل إنسان، وإنما كل فئة لها تسبيحها الخاص في حدود طقسها. على أنه
يتضح من هذا الدعاء أن مركز البركة المقدَّمة لله هو أورشليم وبالذات جبل
صهيون،
وهذه إشارة إلى أن خدمة العبادة وليتورجية البركة تظل متعلِّقة بالمكان
وتظل زمانية، وذلك بقصد إلهي، إلى أن جاء المسيح وحرر العبادة من المكان والزمان
بصعوده إلى السماء، حيث أصبح محور العبادة ومركز البركة أورشليم السمائية، حيث
تُوجَّه البركة نحو السماء أمام عرش الله، كما نراه في الكنيسة الآن وفي المستقبل
أيضاً على طول أصحاحات سفر الرؤيا!

+ » من الأمام
المغنُّون، ومن الوراء ضاربو الأوتار، وفي الوسط فتيات ضاربات الدفوف، في
الجماعات باركوا الله
الرب … يا ممالك الأرض غنوا لله، رنموا للسيد. سلاه …
إله إسرائيل هو المعطي قوةً وشدةً للشعب. مبارك الله.
«(مز 68: 25و26و32)

يلاحَظ هنا أن تسبيح
البركة صار غناءً وترنُّماً على وقع الأوتار والدفوف حيث تُدعى إليه الجماعات
وممالك الأرض كلها. هنا ليتورجية الخدمة لله بالبركة ترتفع إلى أعلى وأجمل أوضاعها
الأرضية بائتلاف الأصوات والموسيقى في الخوارس، وتمتد لتشمل الأرض كلها. وهذه أجمل
صورة مجسَّمة وأرضية لحالة الليتورجية الحقيقية بالروح في السماء التي تشترك فيها
الكنيسة الآن بصورة سرية في القدَّاس الإلهي!

+ » رنموا للرب ترنيمة
جديدة،
رنمي للرب يا كل الأرض، رنموا للرب وباركوا اسمه، بشِّروا من
يوم إلى يوم بخلاصه.
«(مز
96: 1و2)

هنا إشارة إلى تسبحة جديدة
ستشترك فيها كل الأرض حيث يُبارَك فيها اسم الرب على بشرى الخلاص ويمتد يوماً بعد
يوم. وهذه في الواقع رؤيا من وراء الدهور يرى فيها داود ترنيمة الكنيسة الجديدة في
كل الأرض التي تقوم على مباركة اسم يسوع (المخلِّص) للعهد الجديد ولخلاصٍ أبدي.

+ » اهتفي للرب
يا كل الأرض، اعبدوا الرب بالفرح، ادخلوا إلى حضرته بترنم … ادخلوا أبوابه بحمدٍ،
ادخلوا دياره بالتسبيح، احمدوه وباركوا اسمه.
«(مز 100: 1و2و4)

هنا البركة تصير هتافاً
ينطلق من الأرض كلها، هتاف الفرح، ولكن يُلاحَظ أن تسبيح البركة ينبغي أن يُقدَّم أثناء
الدخول من باب الكنيسة
(ديار الرب)، لأن الدخول من باب الكنيسة هو هو الدخول إلى الحضرة الإلهية، ولا يليق إطلاقاً
أن يدخل الإنسان إلى حضرة الله وهو صامت أو
مشغول الفكر بغير الله وتبريك اسمه. فتسبيح البركة لله يتحتَّم أن
يسبق خطواتنا عند الدخول إلى بيت الله.

+ » ليكن اسم
الرب مباركاً من الآن وإلى الأبد، من مشارق الشمس إلى مغاربها اسم الرب مسبَّح.
«(مز 113: 2و3)

يُلاحَظ هنا أن تسبيح
البركة باسم الرب يشمل الزمن والأبدية معاً، فهو العمل الوحيد أو الخدمة الوحيدة
التي لن ينقطع تقديمها لله لا على الأرض ولا في السماء. كذلك يُلاحَظ أن بركة اسم
الرب تبدأ من الشرق وتنتهي إلى الغرب، فشملت الأرض كلها كما شملت الزمن والأبدية
معاً. فالتسبحة التي نقدِّمها في الشروق تعبِّر عن الخلاص الذي بدأ والذي نعيشه
الآن، وتسبحة الغروب تعبِّر عن الخلاص الممتد الذي نترجاه من وراء الزمن.

+ » ليكن اسمه
مباركاً إلى الأبد، اسمه يدوم أكثر من الشمس، وكل أمم الأرض تتبارك فيه وتدعوه
كافة الشعوب مباركاً … مبارك الرب إله إسرائيل الذي وحده يصنع العجائب، ومبارك
اسمه الممجَّد إلى الأبد، بل وإلى أبد الأبد، وأن كل الأرض ستمتلىء من مجده. يكون
يكون. انتهت تسابيح داود بن يسَّى!
«(مز 72: 1719 حسب السبعينية)

وهكذا ينتهي داود من
مزاميره بهذه التسبحة التي يبلغ فيها التمجيد للمسيح بأوضح ما تكون الرؤيا حيث
تتركَّز تسبحة البركة لاسم المسيح كعبادة تتحدَّى الزمان وتفوق الشمس، وتنتقل
البركة منه إلى كل الأمم ويصير المسيح بركة لكافة الشعوب ومجداً لكل الأرض، وهنا
يتجلَّى أثر خدمة تسبحة البركة باسم المسيح لتُعطى معنى وقوة الشركة في نفس بركة
المسيح ومجده.

وبذلك نخرج من مفهوم
مباركة الإنسان لله في سفر المزامير بأنها خدمة إلهية على أعلى وأجمل ما تكون
أعمال الإنسان، حيث يُعطَى الإنسان فيها أن يكون شريكاً للملائكة وجند الله في
السماء، وحيث تُعتبر هي في حد ذاتها
» خدمة شكر «أو بمفهومها
الكنسي (إفخارستيا)، وخدمة تسبيح (ليتورجيا)، وخدمة اعتراف (أومولوجيا)،
وخدمة تمجيد (ذكصولوجيا)، وخدمة بركة (أولوجيا). وهذا كله معاً
تحويه كل كلمة أو كل جملة أو كل ترنيمة أو كل لحن يحمل عبارة
» مباركٌ لله «أو » مباركٌ اسم
الله
«! وهي التي يبدأ
بها القدَّاس الإلهي وتتخلله 66 مرة!! حيث يُعتبر القدَّاس الإلهي كله عبارة عن
تقديم البركة لله على هيئة تسبيح وحمد وشكر واعتراف وتمجيد وتذكار في مضمون
الذبيحة، التي صارت بالفعل بركة كل الأمم ومصدر كل البركات السمائية.

ثالثاً: مباركة الإنسان
للإنسان وللأشياء المادية:

وأساس هذه البركة هو أن
يدعو الناس للآخرين بالبركة باسم الله، متوسلين أن يكون ذلك بحسب رضى الله.

والأمثلة على ذلك
محدودة جداً خارج الكهنوت، وخارج الآباء الأوائل إبراهيم وإسحق ويعقوب، إذ لا
يتبقَّى بعد ذلك إلاَّ الملوك كداود حينما بارَك الشعب باسم رب القوات (2صم 18: 6)،
وكسليمان حينما أكمل بناء الهيكل وأثناء تكريسه، في بدء التكريس وفي نهايته (1مل 8:
14و55)، وكذلك صموئيل باعتباره نبياً، فهو ينطق بفم الله، عندما ذبح وبارك الذبيحة
(1صم 13: 9)، وكذلك في مثل بلعام بن بعور الذي بارك شعب إسرائيل وهو ليس كاهناً
ولا ملكاً ولا نبياً وإنما كان شخصاً استخدمه الله لينطق بواسطته البركة.

في هذه الأمثلة نجد أن
البركة الصادرة من الإنسان تعتمد إمَّا على بركة سابقة مثل الآباء، أو على مسحة
مقدَّسة مثل الملوك، أو على أمر إلهي مُسْبَق أو رؤيا مثل صموئيل، أو على تكليف
والتزام مثل بلعام بن بعور.

وفي هذه الأمثلة كلها
خرجت البركة باسم الرب وبمشيئته. وهكذا نرى أنه ليس للإنسان سلطان على إعطاء
البركة، إلاَّ إذا نالها مُسْبقاً من الله لنفسه فيكون له الحق في إعطائها لغيره
أو يكون قد أُمر من الله بمنحها للآخرين لأسباب وبشروط.

ونكتفي هنا بمثال
للبركة التي ينطقها الإنسان باسم الله، وهي بركة يعقوب ليوسف، وهي من أجمل الأدعية
في الكتاب:

+ » يوسف غصن
شجرة مثمرة، غصن شجرة مثمرة على عين، أغصان قد ارتفعت فوق حائط. فمرَّرته
ورَمَتْهُ واضطهدته أرباب السهام. ولكن ثبتت بمتانةٍ قوسه وتشدَّدت سواعد يديه، من
يدَيِّ عزيز يعقوب، من هناك، من الراعي صخر إسرائيل، من إله أبيك الذي يعينك ومن
القادر على كل شيء الذي يباركك، تأتي بركات السماء من فوق وبركات الغمر الرابض تحت
بركات الثديين والرحم. بركات أبيك فاقت على بركات أبويَّ. إلى مُنية الآكام
الدهرية تكون على رأس يوسف وعلى قمة نذير إخوته.
«(تك 49: 2226)

 

المعنى الروحي
واللاهوتي للبركة
في العهد القديم

وعلى ضوء نماذج هذه » البركات «كلها
الواردة في الكتاب المقدَّس، المقدَّمة من الله للإنسان والمقدَّمة من الإنسان لله
يمكننا تحديد صورة لمعنى
» البركة «ككل في
العهد القديم.

صحيح أن الكلمة
اليونانية
» أولوجيا «أو » إفلوجيا «استطاعت إلى
حدٍّ ما أن تكشف عن معنى عام للبركة فهي تعني:
» كلام حسن
وصالح
«وتعني أيضاً » كلام الشكر «eÙcarist…a، لأن معنى كلٍّ من كلمة » أولوجيا «وكلمة » شكر «واحد في
الترجمة وفي المفهوم الليتورجي، ولكننا نجد المعنى العبراني يتعدَّى في مفهومه
الروحي واللاهوتي هذا كله، فالمعنى يفيد
«عهد» قائم،
البركة في العهد القديم قائمة على
«هذا العهد القديم»، لأنه يستحيل
أن تكون بركة بدون عهد.

الله أقام عهده الأول
مع إبراهيم على أساس البركة:
» في ذلك اليوم قطع الرب
مع إبرآم ميثاقاً قائلاً: لنسلك أُعطي هذه الأرض
«(تك 18: 15)، ومنحه البركة الدائمة على أساس هذا العهد!! » وأُقيم عهدي
بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً.
«(تك 7: 17)

البركة إذاً هي حالة » عهد قائم «بين الله
والإنسان. ولكن البركة عندما أعطاها الله لإبراهيم، أعطاها بوعد أنها ستدوم
وتُورَّث لأولاده، وكل الأمم. هنا بركة العهد دائماً تكون ممتدة من تلقاء
ذاتها بمقتضى أمانة الله، فهي بركة
» ذات وعد دائم « أي كما أنها «بركة عهد قائم»، فهي «بركة وعد دائم».

إذاً، فالبركة من
الله: حالة قائمة بعهد، ودائمة بوعد، إنها قانون روحي قائم بذاته ويعمل من تلقاء
ذاته.

ولكن البركة لا تأتي من
فراغ، صحيح أن الله يبارِك مَنْ يشاء ويرحم مَنْ يشاء، ولكن مشيئة الله لا تسير
إلاَّ في اتجاه راحتها، وبركة الله لا تحل إلاَّ عند مَنْ يتقرَّب إليها. إبراهيم
كان يرتاح إليه الله، لأن إبراهيم كان يرى الله أعزّ من نفسه ومن وحيده!!
» بذاتي أقسمت
يقول الرب إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك، أباركك
مباركةً … ويتبارك في نسلك جميع أُمم الأرض.
«(تك 22: 1618)

إذاً، فالبركة تصدر عن
أمانة الله لعهده ووعده، ولكنها لا تستقر إلاَّ عند مَنْ كان أميناً على عهد الله
ووعده.

الناموس الذي وضعه الله
على فم موسى صار محكّاً دائماً لأمانة شعب إسرائيل تجاه عهد الله ووعده. ولذلك
أصبحت بركة الله لا تسري إلاَّ لمَنْ أطاع وصايا الله وأوامره. أي أن قانون البركة
القائم على العهد والوعد الذي قلنا إنه قائم بذاته ويعمل من تلقاء ذاته لا يعمل
جزافاً لكل أولاد إبراهيم، أي لكل شعب إسرائيل بدون تمييز، لأن قانون البركة هو
ككل أعمال الله الحكيمة بحكمة صُنعت وبحكمة تعمل، تفرز وتميِّز وتزيد وتنقص وتفيض
وتتوقف بمقتضى قانون حكمة فائق.

فبقدر طاعة الإنسان
لوصايا وأوامر الله تحل البركة وتزيد، كما يقول الآباء في وصاياهم التقوية: «على
ابن الطاعة تحل البركة والمخالف حاله تالف».
أمَّا ناموس الطاعة بالنسبة
للبركة فيقدِّمه الكتاب المقدَّس بكل وضوح:
» أُشهد عليكم
اليوم السماء والأرض. قد جعلتُ قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة. فاختَرْ
الحياة لكي تحيا أنت ونسلك، إذ تحب الرب إلهك، وتسمع لصوته، وتلتصق به، لأنه
هو حياتك والذي يطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم
وإسحق ويعقوب أن يعطيهم إياها.
«(تث 30: 19و20)

إذاً،
فالبركة هي حالة قائمة بعهد، ودائمة بوعد إنما لكل مَنْ يهيِّئ نفسه لها بمحبة
الله وطاعة وصاياه.

ولكن لا يزال السؤال
يلحُّ: وما هي البركة في حالة صدورها من الله؟ وفي حالة حلولها على الإنسان
وسكناها وديمومتها؟ هل هي قوة سرية؟ أم هي تأثيرات خفية؟ أم هي فعل مادي مؤثر كما
توحي به كلمة
» بركة «في مفهومها المبهم؟

هنا نعود إلى الترجمة
اليونانية لكلمة
» البركة « وهي: » أولوجيا «eÙlog…a، فنجد أنها لا تشير إطلاقاً إلى أي شيء من هذا المعنى. فالأولوجيا
كلمة تعني في أصلها اللغوي
» كلام حسن «أي أن الله
حينما يتكلَّم كلاماً حسناً أو طيباً بالنسبة للإنسان فهذا الكلام الحسن هو البركة.
هذا في الواقع حقيقة، لأن كلمة الله حية وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدَّين
كما يقول القديس بولس الرسول وكلمة الله أيضاً تعمل من تلقاء ذاتها
بقوة حكيمة مميزة وتستمر في فعلها بلا عائق أو توقُّف كما يقول إشعياء النبي:
» لأنه كما
ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد
وتنبت (العشب) وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون كلمتي([3])

التي
تخرج من فمي، لا ترجع إليَّ فارغة، بل تعمل ما سُررت به وتنجح فيما أرسلتها له.
«(إش 55: 10و11)

إذاً،
فالبركة هي كلمة طيبة تصدر من فم الله لصالح الإنسان، غير أن هذه الكلمة هي في نفس
الوقت فعَّالة ودائمة في فعلها، لا تتوقف حتى تبلغ
الغاية المحدَّدة التي أرسلها الله من أجلها، حسب مسرته.

والآن السؤال الآخر: ما
هي دائرة فعل البركة، أو بحسب تعريفنا الآن، ما هي دائرة فعل الكلمة الصالحة
الصادرة من فم الله بحسب مسرته لصالح الإنسان؟ أو إذا أخذنا بتعريف القديس بولس
الرسول أن
» كلمة الله فعَّالة
«يكون السؤال: ما هي
فعالية الكلمة في البركة؟

نحن نعلم أن فعل » الكلمة «إذا خرجت من
فم الله، فهي تعمل في كل مجال تُرسَل إليه للخَلْق والتجديد والتقويم والإصلاح
والتأديب والموت والقيامة وكل شيء، أمَّا هنا في
» البركة « فدائرة عمل » الكلمة الصالحة «= » إفلوجيا
«يشمل عملاً جديداً
وعجيباً حقاً، إذ يقول الكتاب في مضمون عمل البركة:

+ » وإن سمعتَ
سمعاً لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم، يجعلك
الرب إلهك مستعلياً على جميع قبائل الأرض،
وتأتي عليك جميع هذه
البركات وتدركك
إذا سمعت لصوت الرب إلهك:

مبارَكاً تكون في المدينة، ومباركاً
تكون في
الحقل،
ومباركةً
تكون
ثمرة
بطنك، وثمرة أرضك، وثمرة بهائمك نِتاج بقرك وإناث غنمك،
مباركةً
تكون
سلَّتك
ومعجنك،
مبارَكاً
تكون في
دخولك
ومبارَكاً
تكون في
خروجك.
يجعل
الرب
أعداءك
القائمين عليك منهزمين أمامك
في طريق واحدة يخرجون عليك وفي سبع طرق يهربون
أمامك.

يأمر لك الرب بالبركة
في
خزائنك،
وفي
كل ما تمتد إليه يدك، ويباركك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك، يقيمك الرب لنفسه
شعباً مقدَّساً كما حلف لك، إذا حفظت وصايا الرب إلهك وسلكت في طرقه، فيرى جميع
شعوب الأرض أن
اسم الرب قد سُمِّي عليك، ويخافون منك، ويزيدك الرب خيراً في
ثمرة بطنك وثمرة بهائمك وثمرة أرضك
على الأرض التي حلف الرب لآبائك أن
يعطيك.

يفتح لك الرب كنزه
الصالح السماء ليعطي مطر أرضك في حينه،
وليبارك كل عمل يدك،
فتُقرِض أمماً كثيرة وأنت لا تقترض، ويجعلك الرب رأساً لا ذنباً،
وتكون في
الارتفاع فقط ولا تكون في الانحطاط، إذا سمعت لوصايا الرب إلهك التي أنا أوصيك بها
اليوم لتحفظ وتعمل.
«(تث
28: 1
13)

+ » مرضاً ما
مما وضعته على المصريين لا أضع عليك، فإني أنا الرب شافيك.

«(خر 26: 15)

إننا هنا أمام عمل فائق
على قوانين الخليقة! والبركة هنا ككلمة صالحة صادرة من فم الرب، شملت في فعلها
السماء والأرض وقوانين التكاثر والولادة في الإنسان والبقر والغنم، وقوانين
الكميات والأعداد في الخبز الذي يملأ السلة والعجين الذي يملأ المعجنة، وكل
الحوائج والأشياء داخل المخازن. ثم شملت الكلمة في فعلها المُرسَلَة إليه كل ظروف
وأحوال حركة الإنسان في الدخول والخروج والمسير والحرب، ومواجهة الأعداء، والمستوى
الاجتماعي بين الناس.

القوانين الطبيعية هنا
ذُلِّلت وظهرت طائعة خاضعة لكلمة الله:

أولاً: لقد أُوقفت
الطبيعة عن أن تعطي إخفاقات أو تناقضات أو نفايات، فلا عقر ولا عقم ولا تشويه ولا
كوارث ولا جفاف ولا أمراض ولا آفات.

وثانياً:
بمقتضى
كلمة البركة الفعَّالة الصادرة من الله أخذت الطبيعة أمراً لتنفك عن حدود قوانينها
العاملة بها بحسب الخلق، لتعطي أعداداً وأرقاماً وكميات وأنواعاً أكثر مما تتحكم
فيها قوانين الوراثة والتكاثر والغذاء والبيئة والجو!! أي بدأت الطبيعة تكشف عن
الناموس الفائض المستتر في طبيعتها الجديدة.

نحن هنا الآن أمام حالة
طبق الأصل من حالة الخمس خبزات والسمكتين وهما على يديِّ المسيح والتي أشبعت خمسة
آلاف رجل، أو ماء عرس قانا الجليل الذي تحوَّل في الأجران إلى خمر إزاء كلمة
المسيح الصادرة بالبركة، أو حالة الثياب التي كانت على جسد المخلِّص وقت التجلِّي
حينما خرجت عن لونها وعتمة مادتها وصارت لامعة ومنيرة وبيضاء كالثلج! أو حالة
أهداب ثوب المخلِّص لمَّا لمستها المرأة نازفة الدم!!

الطبيعة في كلتا
الحالتين تجلَّت بكلمة الله، والخليقة أظهرت سر العالم الجديد الخالي من اللعنة
ومن الحزن والبكاء والتنهد.

إذاً، فالبركة هنا هي
أمر إلهي صادر بالكلمة الفعَّالة للدخول في سر الخليقة (المادية) الجديدة حينما
يُرفع عنها العجز والفساد الذي تئن تحته الآن بحسب تعبير بولس الرسول.

البركة هنا استعلان
مُسْبَق للعالم الجديد المُخضَع لله والطائع لأولاد الله!! حيث السيادة للبركة
وليس للقوانين المادية.

ولكن البركة هنا
أي في العهد القديم مادية محضة لأن العهد التي هي قائمة عليه ماديٌّ،
فهي لا تتجاوز الكثرة والملء والشبع والراحة والمسرات الأرضية، لأن العهد قائم على
تملُّك أرض وسيادة على شعوب وراحة وكثرة.

لذلك فإن هذه البركة لم
تعد مقبولة تماماً ولا نافعة لكثير في العهد الجديد، لأن العهد الجديد روحي قائم
على تملُّك السماء لا الأرض وعلى بنوية الله وليس إبراهيم ولا موسى:
» الحق الحق
أقول لكم: أنتم تطلبونني (العبادة المزيفة) ليس لأنكم رأيتم آيات بل لأنكم أكلتم
من الخبز فشبعتم. اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي
يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا الله الآب قد ختمه.
«(يو 6: 26و27)

إذاً فبركة العهد
القديم مارسها المسيح بالفعل في الخمس خبزات والسمكتين وفي عرس قانا الجليل، لأن
سر استعلان الخليقة لا يزال يعمل بواسطة الرب يسوع، ولا يزال أيضاً يعطيه لا كأساس
بل كإضافة:
» اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه وهذه كلها تزاد لكم. «(مت 33: 6)

المسيح بكلمة منه، أخرج
المادة عن حدود طبيعتها، حدود العدد والكمية والنوع، وكان ذلك تمهيداً لإعلان بركة
العهد الجديد. وبركة العهد الجديد ليست قائمة في العالم بل في المسيح نفسه،
فالمسيح هو خبز وماء ووطن وسماء.

إذاً، فالبركة لم تعد
على هيئة خبز للشبع وأرض للسكن، بل حياة أبدية في طعام سمائي وشراب إلهي، في سر
جسد ودم المسيح.

إذاً، فالبركة في العهد
القديم تمثِّل سلطان كلمة الله الصالحة كفعل استعلان للخيرات الزمنية الفائضة
والمكدَّسة والمخفية في ناموس الخليقة القديمة، وذلك لتكون:

أولاً: جزاءً
وِفَاقاً مناسباً للطائعين لكلمة الله وناموس العهد القديم الذي كان بحسب الجسد،

وثانياً: لتكون تمهيداً
لفعل الكلمة الصالحة في العهد الجديد بنفس السلطان لاستعلان ناموس الخليقة الجديدة
التي تعمل لا بناموس الكثرة العددية أو الشبع، بل بناموس الروح للحب والبذل
والفداء، ليكون الإنسان واحداً مع الله.

البركة في العهد الجديد
بركة فداء، فداء للخليقة القديمة نفسها لتُعتَق من ناموس الطبيعة جملةً وتفصيلاً. الفداء جاء ليفصل بين الخليقة العتيقة
ببركاتها وبأفخر نواميسها وأعظم خيراتها، وبين
الخليقة الجديدة. الخليقة الجديدة هي أعظم بركات الله التي
استُعلنت في يسوع المسيح للإنسان والتي
سيكمل استعلانها بمجيء الرب يسوع في مجده، حيث تشترك الخليقة المفديَّة في مجد
الرب يسوع إلى الأبد!!

أمَّا من جهة البركة
التي يقدِّمها الإنسان لله: فكلمة
» البركة «تأتي أيضاً
بحسب معناها الحرفي في الترجمة اليونانية
» أولوجيا «eÙlog…a بمعنى » الكلمة الحسنة أو
الصالحة
«
ولكنها هنا كلمة إنسان لا كلمة الله، وكلمة الإنسان ليست فعلاً، وإن حسبناها
تجاوزاً أنها فعل فهي ليست على أي حال فعَّالة ككلمة الله، وإنما مجرد جهد مبذول
على مستوى الفكر والشعور والقلب واللسان وقيام وسجود ورفع يدين.

لكن
هذا الجهد المبذول بالكلمة هو بالنسبة للإنسان أقصى ما يمكن للإنسان أن يقدِّمه
لله. بل وإن مباركة الله بالقلب واللسان تُعتبر ذبيحة على كل حال، حينما يكون
رفعها أو إصعادها
(anaphora أنافورا) بالعقل
مع كل القلب لله وبأقصى ما يمكن من شعور الانسحاق والتذلل والشكر وبذل الذات.

إذاً،
الفرق هنا كبير وواضح بين البركة التي يبارك بها الله الإنسان وبين البركة التي
يبارك بها الإنسان الله. فبالرغم من أن البركة، ككلمة صالحة أو حسنة، هي من حيث
المضمون اللغوي بل
والمعنوي واحد إذ لا
تخرج البركة في الاثنين عن كونها كلمة و
» كلمة صالحة « إلاَّ أن المضمون التأثيري والعملي لبركة الله تمتد
لتصل إلى حد الفعل الخالق والمجدِّد للطبيعة لحساب الإنسان المحب والطائع والخاضع
لكلمة الله!

ولكن كلمة » بركة «أي » أولوجيا « أي » كلمة حسنة أو صالحة «حينما تكون
صادرة من الإنسان لله، فإنها تبتدىء تأخذ معنى محدوداً جداً يتناسب مع ظروف نطقها.
لأن الإنسان إذا تكلَّم كلاماً صالحاً أمام الله وموجَّهاً لله، فإنه لا
يمكن أن يخرج بأي حال من الأحوال عن الشكر
eÙcarist…a، لذلك فكلمة » البركة «الأولوجيا
إذا كانت موجَّهة لله فإنها تُترجم
eÙcarist…a أي » شكر
« حتى ولو بقيت الكلمة كما هي » أولوجيا « فإنها لا تُفهَمُ إلاَّ على أنها » شكر «أي » إفخارستيا eÙcarist…a «

 

المعنى العميق
للإفخارستيا

الكلمة يونانية أصلاً eÙcarist…a، ومعناها الشكر.

والشكر يُقدَّم لله
إمَّا بالكلام فقط ويُسمَّى تسبيحاً وتمجيداً، وإمَّا يُقدَّم على مستوى التقدمة،
كتقدمة الخبز والخمر في وليمة العشاء الربَّاني ويُسمى تقدمة أنافورا (
anaphora) “تقدمة الشكر” أو “ذبيحة الشكر”، التي اصطلح عليها كنسياً بكلمة
“إفخارستيا”.

فإذا كان الشكر
المقدَّم لله أي الإفخارستيا يرافقه أيضاً تسبيح وتمجيد وتقديس لاسم الله، مثل
التسبحة الشاروبيمية، حينئذ تسمَّى الإفخارستيا ب“القداس”
([4])

ويُلاحَظ أن القداس قد
يكون خالياً من تقدمة الإفخارستيا بالخبز والخمر، مثل قدَّاس اللقَّان حيث التسبيح
والشكر وتقديس الله يكون على لقَّان الماء، حينئذ يسمَّى بقدَّاس اللقان.

لذلك يلزم دائماً توضيح
اسم الإفخارستيا إذا كانت بتقديم الخبز والخمر فتسمَّى بقدَّاس الإفخارستيا،
لتمييزها عن قدَّاس الماء الذي هو اللقَّان.

إذا ألقينا نظرة فاحصة
على أنواع البركات التي سجَّلها العهد القديم التي قُدِّمت فيها البركة لله، نجد
أن مفهوم البركة العميق كما قصده الوحي الإلهي واستخدمه على أفواه الآباء الأوائل
والأنبياء والملوك والشعب عندما يحس بحضرة الله، ليس مسألة شكر مجرَّد شكر على أي
شيء عمله الله معنا، أي ليس للتعبير عن الامتنان الشخصي وبالتالي يكون تعبيراً على
الذات البشرية المفردة وتأكيد وجودها على حساب
الله، حيث يكون الشكر في هذه الحالة تعظيماً وتأليهاً للذات البشرية.

كذلك فمباركة الله في
النماذج التي رأيناها في العهد القديم لا توحي إطلاقاً بأنها مسألة شكر طقسي أو
خدمة شكر يقف فيها الإنسان سواء بمفرده أو في وسط الجماعة يسبِّح ويشكر بدون
الإحساس بشخص الله أو في عدم مبالاة أو عدم انشغال قلبي وروحي وذهني، فالشكر
أي التسبيح
بهذا الوضع
يكون
«عملاً
حكومياً»
وليس
«عملاً
إلهياً»،
بمعنى
أنه يكون حُكْمَ فَرْضٍ على الإنسان أن يشكر ويسبِّح!! هذا ليس حقيقة أبداً في
مفهوم تقديم البركة لله في كل نماذج العهد القديم. اسمع ما يقوله العهد القديم:

+ » فبارَك كل
الجماعة الرب إله آبائهم
وخروا وسجدوا … وذبحوا للرب ذبائح! «(1أي 29: 20و21)

+ » وأجاب جميع
الشعب
آمين
آمين رافعين أيديهم وخرَّوا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض.
«(نح 6: 8)

+ » اليوم علمنا
أن
الرب بيننا …
فبارَك بنو إسرائيل الله.
«(يش 22: 31و33)

+ » باركوا الرب
الرب
سلَّطني على الجبابرة …، من السموات حاربوا، الكواكب …
حاربَتْ
سيسرا …
دوسي
يا نفسي بعزٍّ.
«(قض
5: 9و13و20و21)

+ » رفعتُ
عينيَّ إلى السماء
فرجع إليَّ عقلي وباركتُ العلي!! «(دا 34: 4)

+ «صالح هو
التبريك لله.»
(ملاك طوبيا طو 6: 12)

+ » كل ما في
باطني

فليبارِك اسمه القدوس.
«(مز
1: 103)

+ » في كل يوم أباركك،
أباركك
ما
دمتُ حيًّا،
باسمك أرفع يديَّ فتشبع نفسي!! «(مز 145: 2؛ 63: 4و5)

+ » يا رب أحببت
محلّ بيتك … في وسط
الجماعة أباركك.
«(مز 8: 26، 22: 22)

+ » ارفعوا
أيديكم نحو القدس
(نحو هيكل أُورشليم) وباركوا الرب. «(مز 2: 134)

+ » أيها
المغنون، … يا ضاربي الأوتار … يا ضاربات الدفوف
باركوا الرب. «(انظر: مز 68: 25و26)

+ » باركوا اسمه،
بشِّروا من يومٍ
إلى يومٍ
بخلاصه. «(مز 2: 96)

+ » ادخلوا
أبوابه
بالحمد،
ادخلوا
دياره
بالتسبيح،
ادخلوا
إلى حضرته
بالترنم، اعبدوا
الرب
بالفرح،
احمدوه
وباركوا
اسمه.
«(مز
100: 4و2)

+ » ليكن اسم
الرب مباركاً … من
مشرق الشمس إلى مغربها. «(مز 113: 2و3)

+ » مباركٌ اسمُ
مجدِه إلى الدهر،
ولتمتلىء الأرض كلها من مجده.
«(مز 19: 72)

هذه هي نماذج البركة في
العهد القديم وما يرادفها من إحساس وشعور روحي.

هذه النماذج المملوءة
حبًّا ومخافةً وحياةً وغيرةً وشعوراً جارفاً بحضور الله، جعلت البركة تخرج
بالترنُّم، وكأن القلوب تهتف والأيادي ترتفع إلى فوق من تلقاء ذاتها، وكأنها
تعبِّر عن طيران الروح إلى الأعالي. الانبطاح على الأرض في سجود سريع، والوجوه
تتعفَّر بتراب الأرض من فرط الرهبة وخشية الحضرة، العقل في رزانة الدهش ينبهر من
الله اللابس النور كالثوب، والفم يصرخ:
» قدوس «و» آمين «إلى ما لا
نهاية. هللويا تخرج مع كل بركة(
[5]).

إذاً، فالبركة هنا ليست
مسألة شكر وامتنان على نعمة خاصة أو عطية. ولكن على أي أساس كانت البركة تُقدَّم
لله في العهد القديم؟

أولاً: استعلان الله:

البركة في العهد القديم
كانت قائمة أولاً وقبل كل شيء على أساس استعلان الله الشخصي في قلب الجماعة
وتنازله المدهش بالاقتراب جداً من الشعب المجتمِع أو القلب المرتفع أو التسبيح أو
الترنم. الشكر هنا صادر ردًّا على تنازل بالظهور القلبي والاستعلان الفكري
والتنازل بالوجود في وسط الجماعة
» الرب بيننا «

البركة كشكر وتسبيح هنا
هي انفعال بذات الله (وليس انفعالاً بذات الإنسان حينما يشكر إثر نواله منحة أو عطية
أو تكريماً). ذات الإنسان هنا وفي لحظات التسبيح في حضرة الله أصابها صِغَرٌ ثم
صِغَرٌ ثم انعدام، لأن ذات الله استُعلنت وملأت كل الفراغ المسمَّى بالذات الشخصية
للإنسان
» نموت موتاً لأننا قد رأينا الله. «(قض 22: 13)

وهكذا يتضح لنا أن
مباركة الإنسان لله هي انعكاس صادق على مرآة القلب تعكس بركات الله للإنسان في
صورة شكر يُقدَّم إلى الله يرتفع إلى مستوى إماتة الذات وذبحها لله!!

إن
أجمل صورة يمكن التعبير بها عن بركة الله للإنسان ثم مباركة الإنسان لله كردٍّ على
ذلك، نجدها في إبراهيم. فالله بارَك إبراهيم لأنه أحبه جداً فأعطاه ابناً في
شيخوخته، وهذا يُعتبر معجزة كمعجزة الحياة من الموت. وإبراهيم، ردًّا على هذه
البركة، أخذ إسحق وحيده الذي يحبه وقدَّمه لله ذبيحة كبركة أو تعبيراً عن شكر،
فعاد الله وقَبِلَ التعبير في مستواه القلبي لأنه صادق جداً، وزاد إبراهيم بركة
فوق بركة.

ثانياً: عهد قائم:

مباركة الله في المفهوم
الكتابي أو اللاهوتي تقوم على ارتباطٍ شخصي أساسه عهد قطعه الله مع الشعب، أي أن
في تقديم المباركة لله لا يقف الإنسان أو الشعب كمَنْ يقدِّم شيئاً خاصاً أو عاماً
لله. فالبركة، سواء كانت من الله للإنسان أو من الإنسان لله، هي عمل ارتباطي: الإنسان
مرتبط بالله لأن الله ارتبط بالإنسان بعهد. ولكن الله هو الذي قدَّم نفسه أولاً،
وأظهر حبه، هو الذي بحسب منتهى مسرته ربط نفسه برباط عهد مع الإنسان وعلى أساس هذا،
قدَّم الله البركة للإنسان.

إذاً، فالإنسان لا
يقدِّم البركة بالتالي من فراغ بل يستمدها من العهد القائم بينه وبين الله، وعلى
أساس أمانة الله وحبه، إنها ردٌّ؛ ولكن البركة ليست ردَّ جميلٍ، بل هي ردُّ فعلٍ.
فربط العهد والحب حينما نعيه ونحسه نجد أنه يُشدُّنا اضطراراً إلى الله، هذا هو رد
فعل الأمانة والحب.

المباركة لله هنا هي
ردُّ فعل واستجابةٌ كيانية لعمل الله معنا. الإنسان يستجيب لكل حب الله وأمانته
وعهده مرة واحدة بانفعال كياني كما يقول المزمور:
» كلُّ ما في
باطني ليبارِك اسمه القدوس!!
«(مز 1: 103)

ثالثا: أمانة كلمة الله:

مباركة الله قائمة على
أساس صدق وأمانة مطلقة لكلمة الله. هنا نقصد ب
» كلمة الله «شيئاً غير
ما يعرفه الآن العلماء والوعَّاظ واللاهوتيون المدرسيون الذي يعتبرون
» كلمة الله «مصدراً أو
موضوع معرفة وفهم وبحث وتجميع وتعليق ووعظ، واستخلاص أبحاث ودروس؛ ولكن كلمة الله
كما عرفها الآباء والأنبياء وجميع أتقياء الله
» حقيقة حية
بذاتها
« فكلمة الله بالنسبة
للإنسان هي حادثة معجزة في حياة الإنسان نفسه: الله تكلَّم، أي يلزم أن ينصت
الإنسان، ويلزم أن يستجيب. هكذا فهم الأنبياء معنى كلمة الله:
» الأسد زأر
فمَنْ ذا الذي لا يخاف!! والسيد الرب قد تكلَّم فمَنْ ذا الذي لا يتنبأ؟
«(عا 8: 3)

والله
يتكلَّم لا لكي يعطي معطيات لاهوتية أو مفهومات تُدرس ولكن لكي يُعلن ذاته للإنسان
ليعرِّفه شيئاً يتحتَّم أن يعرفه، فهو لا يُعلن ذاته كإضافة زائدة للإنسان ولا لكي
يتقرَّب إلى فكر الإنسان ويظل كحقيقة بعيدة عنه، ولكن الله يعلن ذاته ليدخل كحقيقة
في صميم حياة الإنسان ليصير الإنسان حقيقة!!

الله لمَّا تكلَّم لم
يتكلَّم كإنسان. فالإنسان حينما يتكلَّم، يُعرِّفنا نفسه بالكلمة من بعيد أو
يعطينا معرفة أو مساعدة أو علماً ويظل هذا الإنسان بعيداً عن كياننا، وبعد أن
يكلِّمنا يظل
» كآخر «بالنسبة لنا؛ ولكن الله
لمَّا تكلَّم فإنه تكلَّم لكي بالكلمة يدخل حياتنا ويصير كذات في ذات. إن أول كلمة
الله من هذا النوع هي ما يسميها اليهود بالشِمَّعْ([6]):
» اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل
قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك
«(تث 4: 6). هنا الله يعرِّف نفسه للإنسان على أساس أنه » إله الإنسان « هذا حدث عظيم وخطير، مفرح ومرعب معاً. فكون الله يكون إلهنا، فهذا
أقصى ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان ويعرفه وأعظم ما يمتلكه الإنسان ويقتنيه في
حياته، ولكن في نفس الوقت لا يملك إسرائيل أن يرفض الله بعد أن أعلن نفسه له ولا
يملك أن يصمَّ أذنيه، هذا إن حدث يمثل موتاً محيقاً له.

ثم بعد ذلك تنصُّ كلمة
الله على أن الإنسان إزاء هذا الفضل العظيم أن يكون الله إلهه، عليه أن يحب الله
من كل قلبه ومن كل نفسه ومن كل قوته. الله هنا يدخل في حياة الإنسان ويتغلغل كيانه
كله، القلبي والنفسي والجسدي. الله هنا بعد ما تكلَّم للإنسان لم يَصِرْ
» آخر «بالنسبة
للإنسان، فكونه قد صار إلهاً للإنسان يعني أنه صار ألصق للإنسان من كل شيء آخر، بل
صار كنفس الإنسان وكذاته! وعلى هذا القانون نفسه فالله في كل الكتاب المقدَّس لم
يتكلَّم قط إلاَّ لكي يثبت هذه الحقيقة ويعمِّقها ويضمن نفاذها!

إذاً، فكلام الله ليس
حديثاً للمعرفة والعلم وبعدها يظل الله بعيداً
» كآخر «بالنسبة
للإنسان، بل كلمة الله هي حَدَثٌ واقع في صميم كيان الإنسان لتجعله ليس وحيداً بعد،
بل مع الله، والله أيضاً يكون كإله وسيد معبود ومحبوب من كل أعماق القلب والنفس
والجسد!
» اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل
قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك
«

و» كلمة الله «ليست نُطقاً
يُسجَّل في أُذن وعلى ورقة للتذكار، بل هو عمل، وعمل لا يهدأ! فبمجرد أن ينطق الله،
يكون؛ حتى ولو كان النطق على فم نبي صغير مثل
» عاموس «أو » إرميا « فقط كان الملك يرتعب من كلامه لأنه يعلم أنه بمجرد أن ينطق النبي
بكلمة الله فهي لا بد تكون ولا بد أن تأخذ قوتها ومداها حتى النهاية!!

وهذا في الواقع قد صار
ميراثنا الإيماني نحن أيضاً، فهذا هو صميم الإيمان بعمل كلمة الله في الأسرار
المقدَّسة. فبمجرد أن ينطق الكاهن (المعتبَر أنه نبي، وكلمة الله في فمه) بوعد
الله القائم بالكلمة، يصير ويكون في الحال.

فالمسيح أمسك الخبز وبارك
وقال:
» هذا هو جسدي « وكذلك الكأس وبارك وقال: » هذا هو دمي « فما قاله، صار في الحال، فلا يؤكل بعد ذلك خبزاً بل جسداً، ولا
يُشرب خمراً بل دماً حقيقياً ككلمة الله الصادقة. ثم قال:
» اعملوا هذا
كلما أكلتم من هذا الخبز أو شربتم من هذه الكأس!!
« فنحن نعمل ولا نزال نعمل حتى يأتي، إنها أمانة الكلمة الفعَّالة
التي كوَّنت السر وجعلتنا نأكل المأكل الحق ونشرب المشرب الحق.

كلمة الله «فعَّالة»
كما
يقول القديس بولس الرسول، وذلك يعني أننا نأخذها كفعل وليس كخبر، فهي كالسهم الذي
خرج من قوسه، ينبغي أن تكون عيوننا وقلوبنا عليه في مساره الأبدي.

وكلمة الله لا بد أن
تتم عملها الذي صدرت من أجله، كما يقول الرب على فم إشعياء:
» لأنه كما
عَلَتْ السموات عن الأرض، هكذا عَلَتْ طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم (كلمة
الله وكلمة الإنسان). لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك
بل يرويان الأرض ويجعلانها تلد وتنبت وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون
كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إلىَّ فارغة بل تعمل ما سررتُ به وتنجح فيما
أَرْسَلْتُها له.
«(إش
55: 911)

أي أن كلمة الله في
المفهوم الكتابي تملك قوتها التي تتم بها عملها، وعلى أعلى مستوى من الحكمة والدقة
والتنفيذ.

كلمة الله ليست مجرد
حَدَثٍ في حياة الإنسان، ولكنه حَدَثٌ قائم يتمم ذاته بمنتهى الصدق، بل هو الصدق
والأمانة احتوتهما كلمة الله الفعَّالة، وهو حتماً ينجح فيما أرسله الله، طالما
خضع له الإنسان في قلبه وفكره وآمن به وأحبه!!!

هذا هو المضمون السري
الكبير الذي تحمله كلمة الله.

وعلى أساس هذا المضمون
لكلمة الله وبعمقه تماماً أسَّس المسيح بالكلمة سر الإفخارستيا، أي تقديم الشكر
لله، كرد فعل من جهتنا واستجابة لما فعل!

 

4
الإفخارستيا
وصورة للصلوات داخل المجمع في زمن
المسيح

والآن
نأتي إلى عرض صورة للصلوات بنوعيها: صلاة البركة، وصلاة التضرُّع، التي كانت تُتلى
في المجامع، في زمن المسيح، باعتبارها آخر صورة انتهت إليها الصلوات في العهد
القديم، وهي توضح لنا مقدار انطباع الطقس بروحانية وبحرفية الصلوات القديمة
المدوَّنة في الأسفار. كما تكشف لنا عن عمق لاهوتي وتَقَوِيٍّ فائق كان القصد منه
في الواقع أن يخلق من هذا الشعب
» مملكة كهنة، وأُمَّة مقدَّسة «كقول الرب، وأن ينشىء جيلاً صالحاً مستعداً لظهور المسيح ومهيَّأ لقبول
غِنَى بركات العهد الجديد واستيعاب أسرار الملكوت التي ما فتىء المسيح يكشفها حتى
آخر لحظة قبل صعوده!

وإن
نظرة واحدة على بدء الإنجيل تُعرِّفنا على أمثلة من هذا الجيل السعيد، مثل حَنَّة
النبية أو سمعان الشيخ الذي رأى المسيح وتعرَّف عليه وتنبأ عنه وباركه وسبَّح له
وهو لا يزال طفلاً على ذراعي أمه، ليعطينا البرهان الواضح الأكيد على صلاحية هذه
الصلوات وعمقها وأثرها التربوي والروحي الذي مهَّد بالرؤيا القلبية والعينية في
أتقياء هذا الجيل تمهيداً صادقاً صحيحاً لمعرفة الرب يسوع المسيح، باعتباره
المسيَّا الآتي مخلِّص العالم
» نوراً للأمم ومجداً لشعب إسرائيل «

هذا الأمر نفسه
أي صلاحية هذه الصلوات لمعرفة الحق، والإلهامات البليغة التي تحتويها، والنور
المتكدِّس في معانيها هو ما أحزن قلب المسيح لمَّا رأى أرباب الدين
والمشتغلين به والمحترفين لطقوسه قد عميت بصائرهم، فلم يكتشفوا على نوره نور
المسيح لمَّا أتى، لا عن عجز في الطقس أو في الصلاة أو في المعرفة، ولكن عن عمى
إرادي أصاب قلوبهم بسبب عِرق الخطية المرِّ المتغلغل في حياتهم وسلوكهم هذا الذي
أورثهم عدم الإيمان وعدم التصديق، بل أورثهم العداوة للحق وللنور وللحياة الأبدية،
» أخذتم مفتاح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم «(لو 52: 11)، » على كرسي موسى جلس
الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب
أعمالهم لا تعملوا
«(مت
23: 2و3)،
» (المسيح يسأل
نيقوديموس أحد الفريسيين:) أنت معلِّم إسرائيل ولست تعلم هذا؟
«(يو 10: 3)

ولكن لا ننسى أن من هذا
الجيل تكوَّنت جماعة المسيحيين الأُولى الذين أثَّرت فيهم روح العبادة والتقوى
والصلوات، فآمنوا بالمسيح وقبلوه.

ولقد
كان للمزامير تأثير بليغ على هؤلاء الأتقياء من الشعب في مجامعهم أو في مخادعهم أو
على موائدهم؛ فصلوات المزامير لم تكن عند الأتقياء من الشعب روتينية لمجرد التلاوة،
كما هو حادث الآن في أيامنا هذه داخل الكنائس، بل كان لها هيبة وخشية شديدة،
باعتبارها نموذجاً حياً ل
» كلمة الله «أي
للتوراة، التي كان يعبدها الأتقياء من اليهود. ويكفي أن نتذكَّر تعليق الرب يسوع
على المزامير عندما قال عنها:
» يدعوه داود بالروح ربًّا قائلاً: قال الرب لربي اجلس عن يميني … «(مت
43: 22). هنا شهادة من إله ومن مواطن يهودي معاً على علوِّ قيمة المزامير، فهي
كلام الروح.

لذلك
كان الشعب يصدِّق كل حرف في كل كلمة من كل مزمور يُتلى على مسامعه، فحين كان يسمع:
» قلباً نقياً أخلق فيَّ يا
الله
« كان يعتبر أن مجرد سماع هذه الألفاظ وإدخالها
بالإيمان داخل القلب، كفيلٌ بحد ذاته أن يخلق فعلاً قلباً جديداً. كان الشعب يعتقد
أنه ممكن لكلام المزمور أن ينطبع على طبلة الأذن وعلى جدران القلب ويترك أثراً
كالختان تماماً
» يا
… غير المختونين بالقلوب والآذان.
«(أع 51: 7)

لذلك
كان الشعب يقف، عندما يسمع الصلاة، بوقار وخشية فائقة، أو بحسب كلمات الطقس الذي
استلمناه في التقليد ولم نعمل به،
» اسجدوا لله بخوف ورعدة «! » قفوا بخوفٍ من الله وانصتوا لسماع الإنجيل المقدَّس « هذا كله ميراث تقوي انحدر إلينا،
وللأسف فإن قليلين جداً مَنْ يعمل به، أمَّا الخشية والرعدة التي كانت تجوز في نفس
الشعب قديماً، فكانت بسبب اعتقادهم وإيمانهم الراسخ أن تلاوة التوراة واسم الله
يعني حضرة إلهية وبالتالي يعني موتاً أو حياة.

 

5 – صورة للصلوات داخل
المجمع اليهودي
زمن المسيح

أولاً:
يقف المسئول عن الصلاة، ويدعو للصلاة. فيقف الشعب ويظل
يصلِّي صامتاً بعض الصلوات المحفوظة. ولكن هذه الصلوات الصامتة تحوَّلت فيما بعد
إلى تسبحة بالمزامير من 145 – 150. وعن هذه الصلاة سأل التلاميذ مرة الرب يسوع
قائلين:
» يا
رب علِّمنا أن نصلِّي
«(لو 1: 11) لأن كل معلِّم كان يعلِّم تلاميذه بعض
الصلوات اللازمة في هذه الفترة من المجمع.

ثانياً: البركات
التي كانت تُتلى داخل المجمع (في زمن المسيح) والتي شارَك المسيح في الصلاة بها
أثناء حضوره في المجامع، وهي هكذا:

يبدأ رئيس الصلاة بقوله:
“مُبارَكٌ يَهْوَه، الذي ينبغي له البركة”.

يرد الشعب: “مبارك يهوه،
الذي ينبغي له البركة من الآن وإلى الأبد.

البركة الأُولى:

[مبارك الرب إلهنا، ملك
الدهور، الذي أقام النور وخلق الظلمة، الذي أقام السلام وخلق كل شيء! الذي برحمته
أعطى النور للأرض والساكنين فيها، والذي بصلاحه يجدِّد الخليقة كل يوم على الدوام!

ما أعظم أعمالك يا رب
في تنوعها، بالحكمة قد صنعتها كلها، لك الأرض وكل ملئها! أنت الملك الذي وحده له
الرفعة منذ الدهور، مُسبَّح وممجَّد ومرتفع منذ القِدم.

يا الله الأبدي في
مراحمك الكثيرة، ارحمنا فأنت يا رب قوتنا وصخرتنا الذي نمسك به، درع خلاصنا وسندنا
جميعاً.

الله المبارك العظيم الذي في
علم معرفته رتَّب الشمس وأشعتها كهبة لأجل مجد اسمه، وثبَّت الأجرام المنيرة في
دائرة فَلَكها كعمل قوته.

رؤساء
جنوده المقدَّسون يعظِّمون القادر على كل شيء، وعلى الدوام يعلنون مجد الله وقدسه.

فلتتبارك أيها الرب إلهنا في
السموات في العُلا، وعلى الأرض هنا.

فلتتبارك يا صخرنا وملكنا
وفادينا خالق الخلائق المقدَّسة. ليكن اسمك مسبَّحاً إلى الأبد.

يا ملكنا، يا خالق
الأرواح الخادمة، كل الأرواح الخادمة تقف في علوِّ الكون لتعلن بالعجب، وفي اتحاد،
كلمات الله ملك الدهور.

كل الأرواح الخادمة
محبوبة وكلها طاهرة مقتدرة وكلها بخوف ورعدة تصنع مشيئتك!

كلهم يسبِّحون
ويمجِّدون ويقدِّسون اسم الملك العظيم، الإله المقتدر والمخوف، ويقولون بأفواهٍ لا
تسكت: قدوس!!

كلهم وهم تحت نير ملكوت
السموات يقفون الواحد قبالة الآخر منهم يقدِّسون الخالق بفرح الروح الهادىء، وبقول
طاهر ونغم مقدَّس، الكل بالخوف يتفقون في الوحدانية، وبالدهش ينطقون …]

وهنا تسبِّح الجماعة
كلها مع رئيس الصلاة تسبحة
» القِدُّوشاه Qedushah « قدوس، قدوس، قدوس، رب الصباؤوت، الأرض مملوءة من مجده!!

ثم يقول رئيس الصلاة:

[والشاروبيم (ومفردها
كاروب، وهو الموصوف في رؤيا حزقيال بالأوفِنِّيم ومعناها = مركبة
Ophannim) والسيرافيم (ومفردها سيراف، وهو الموصوف في رؤيا حزقيال
بالحَيّوُث ومعناه = كائن حي
Hayyiot) بضجة عظيمة، يتقدمون رافعين ذواتهم تجاه بعضهم
البعض يسبِّحون
قائلين (وهنا تشترك الجماعة كلها مع رئيس الصلاة): “مبارك
مجد الرب من موضعه!”
]([7])

وهنا يختم رئيس الصلاة
البركة الأُولى بهذه الصلاة:

[للرب
الإله المبارَك
يقدِّمون التسابيح،

للملك الحي الرب الدائم
إلى الأبد ينطقون بالألحان، ويرفعون أصواتهم ليُسمَعَ مديحهم،

فهو وحده الذي يعمل
العظائم ويصنع الجديدات، رب الحروب، يزرع البر ويبعث الخلاص، يصنع الأَشْفية،
مُكرَّم ومُسبَّح رب المعجزات الذي بصلاحه يجدِّد الخليقة يوماً بيوم وعلى الدوام.

احمدوا الذي صنع لنا
الأنوار العظيمة، ولْتَدُمْ نعمته علينا إلى الأبد.

مبارك أنت يا رب خالق
الأنوار.]([8])

البركة الثانية:

[بمحبة أبدية أحببتنا
أيها الرب إلهنا، وبشفقة فائقة أشفقت علينا يا أبانا وملكنا.

من أجل آبائنا الذين
وثقوا بك، الذين علَّمتهم علم الحياة، كُنْ منعِماً علينا نحن أيضاً …

يا أبانا، يا أبانا
الرحوم، كُنْ رحيماً معنا واغرس في قلبنا أن نفهم ونميز ونسمع ونتعلَّم ونعمل بكل
كلمات التوراة التي للمعرفة بالحب.

أنر عيوننا بنور وصاياك
واجعل قلوبنا تتمسك بخوفك، ووحِّد قلوبنا في محبة اسمك، لأننا دُعينا باسمك العظيم
القدوس حقاً.

فاعمل معنا من أجل اسمك
المخوف، وبالحب ارفع قرننا سريعاً، وكُنْ ملكنا وخلِّصنا من أجل اسمك، لأننا وثقنا
بك. لذلك لا نخزى، وقد تمسَّكنا باسمك فلا نخجل ولا نتعثَّر إلى الأبد وإلى أبد
الأبد لأنك أنت يا الله أبونا وإلهنا فلا تنزع عنَّا رحمتك إلى الأبد. أنت الذي
اخترتنا من كل شعوب الأرض وأحببتنا وأتيت بنا، لنكون هنا تحت اسمك العظيم.

مبارك أنت أيها الرب الذي اخترت
شعبك إسرائيل وأحببته].

هنا تقال “الشِمَّع”: [» اسمع يا
إسرائيل …»].

والملاحَظ في هاتين
البركتين أنهما تجمعان بين تمجيد الله كخالق للنور المنظور والخليقة المنظورة،
وبين تمجيد الله على النور غير المنظور (أي التوراة) والخليقة غير المنظورة أي
الجنود الروحانية والشاروبيم والسيرافيم.

كما يُلاحَظ أن البركة
الأُولى انتهت بالتقديس الشاروبيمي الذي بسببه تسمَّى الصلاة كلها هنا باسم
» القدَّاس « ويلاحَظ أن صلاة » القِدَّشْ «أو الثلاثة
تقديسات تسبق صلاة البركة الثانية والتي تختص بالتوراة وفهمها وتمييزها وتعلُّمها
والعمل بها([9]).

ولكن في زمن المسيح
صارت الثلاثة تقديسات تُقال مرة أخرى بعد قراءة الأسفار، أي عند الانتهاء من خدمة
التعليم والوعظ وعند ذكر اسم الله بالتمجيد والتعظيم([10]).

وبعد قراءة » الشِمَّع « أي » اسمع يا إسرائيل « والصلاة التي بعدها، تأتي صلوات التضرُّع أو
التشفُّع وتسمَّى
» Tephillah تِفِلاَّه « وهي عبارة عن ثماني عشرة بركة قديمة العهد جداً، وهي تشدُّ
الانتباه وتجعل الصلاة ذات أهداف محدَّدة،
وتتكون في مجموعها من ثلاث بركات في المقدِّمة وثلاث بركات في النهاية، وفي الوسط
اثنتي عشرة طلبة، وهذه تكوِّن الصلاة الأساسية في
» السيناجوج «أي
المجمع.

والذي
يقول هذه البركات والطلبات عليه أن يقف أمام التابوت الذي يحوي الأسفار الإلهية،
ووجهه نحو هيكل أورشليم، ويقولها باللحن، على أن كل فرد في الشعب عليه أن يرددها
معه في
سرِّه، لأن المفروض على كل واحد أن يحفظها عن ظهر قلب
ويقولها من نفسه ثلاث مرات كل يوم.

والشعب
عموماً يرد
» آمين «بعد كل طلبة.
على أن ال
» قِدَّشْ «أي تسبحة الشاروبيم ذات
الثلاثة تقديسات تُقال بين الطلبتين الثانية والثالثة.

البركات الثماني عشر:

يقول رئيس الصلاة
باللحن:
» يا رب افتح شفتيَّ ولينطق فمي بتسبيحك «

البركة الأُولى:

وعنوانها » أبُوث Aboth « أي من أجل الآباء:

[مباركٌ أنت يا رب إلهنا
وإله آبائنا، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، الله العظيم والقوي والمُهَاب،
الإله المتعالي جداً الذي يفيض رحمةً ومحبةً، والذي يملك كل شيء، الذاكر لعمل تقوى
آبائنا والذي سيرسل الفادي لأولادهم من أجل اسمه العظيم ومن أجل محبته. الملك
المُعِين والمخلِّص الحامي،

مبارك أنت يا رب، حامي
إبراهيم].

البركة الثانية:

وعنوانها » جِبُرُوث Geburoth «أي الجبَّار:

[أنت الجبَّار إلى
الأبد يا رب، أنت الذي تُحيي الموتى، أنت الجبَّار المخلِّص، الذي تحدر من السماء،
وتجعل للريح هبوباً ومساراً وللمطر أواناً للسقوط، تشدِّد المخلوقات بحبك ورحمتك،
تقيم الميت بحنان عظيم، تسند الساقطين، تشفي المرضى، وتحل المربوطين، وتحفظ
للمنبطحين في التراب إيمانهم.

مَنْ مثلك يا رب في
أعمالك العظيمة، ومَنْ يُشبهك أيها الملك الذي تُميت وتُحيي وتجعل الخلاص ينبعث،
أنت بأمانتك تُحيي الموتى.

مبارك أنت أيها الرب يا مَنْ
تُحيي الموتى].

الجزء الثاني من البركة
الثانية (قِدَّشْ)

وهي بعنوان (كِثِير kether أي الكثرة):

[إن كثرة الجموع
المحتشدة في العلا وكل المجتمعين أسفل يطرحون أمامك تاجاً. والكل باتفاق واحدٍ
يردِّدون تسبحة القداسة ثلاث مرات كقول النبي: الواحد يصرخ قبالة الواحد ويقولون
قدوس قدوس قدوس رب الصباؤوت الأرض كلها مملوءة من مجده، وبضجة عظيمة يصوِّتون
بأصوات عالية قوية ومقتدرة ويتدافعون حاملين ذواتهم قائلين: مبارك مبارك هو مجد
الرب في موضعه.

من موضعك أطَّلع علينا
يا ملكنا واحكم لنا لأننا في انتظارك، متى تحكم يا رب؟ تعالَ سريعاً احكم صهيون في
أيامنا وفي حياتنا، تعالَ واسْكُنْ.

لك التعظيم ولك القداسة
في وسط أورشليم، مدينتك، في كل الأجيال وإلى الأبد.

ليت عيوننا ترى مُلْكك
بحسب الكلمة التي ترنَّم بها داود لقوتك:
» الرب يحكم
إلى الأبد وإلهكِ يا صهيون إلى كل الأجيال
«هلليويا].

البركة الثالثة:

وهي بعنوان » قدوشات
هاشيم
Qedushat ha-Shem «أي الاسم
القدوس:

[من جيلٍ إلى جيل اعطوا
الكرامة لله لأنه هو وحده العالي والقدوس، إن تسبيحك يا إلهنا لن يبرح من أفواهنا
إلى الأبد، لأنك الملك العظيم القدوس.

مباركٌ أنت يا رب، الإله
القدوس].

وفي هذه البركات الثلاث
نجد الطقس يجمع شمل ميراث إسرائيل من مواعيد وتقوى ويصبُّها في رجاء المستقبل.

فالبركة الأولى تقوم
من أجل الآباء والعهد وانتظار مجيء المسيا.

والبركة الثانية
من أجل قيام الخليقة وقيامة الأموات.

والبركة الثالثة تقوم على عهد التسبيح الدائم للاسم القدوس وهي استجابة وردٌّ على تسبحة الشاروبيم.

والآن
نأتي إلى الاثنتي عشرة طلبة:

الطلبة
الأولى:
وتُدعى » بيناه Binah
«
أي النباهة أو » بِرَاخوث حوكمه Birkat Hokmah «أو بركة الحكمة، أي
المعرفة:

[لقد
وهبت الإنسان المعرفة وعلَّمت بني آدم الفهم، فَهَبْ لنا من لدنك المعرفة والفهم
والتمييز:

مبارك
أنت يا رب
الذي بصلاحك
وهبت المعرفة].

الطلبة
الثانية:
وتُدعى » التوبة Teshubah «بمعنى أن الله هو الذي يتوِّبنا أو
يغيِّرنا أو يرجع بنا إليه:

[اجعلنا نعود ونتوب يا
أبانا إلى توراتك. وقرِّبنا يا ملكنا إلى خدمتك. وعُد بنا في توبة كاملة أمامك.

مبارك
أنت يا رب
الذي تُسَرُّ بالتوبة].

الطلبة
الثالثة:
وتُدعى » صليحا Selihah
«
ومعناها يصالح أو يُعطي المغفرة والعفو:

[اغفر
يا أبانا لأننا أخطأنا، اعفِ عنَّا يا ملكنا لأننا تعدَّينا أوامرك، وأنت صالح
وغفور.

مبارك
أنت يا رب،
يا منعماً، يا مَنْ تغفر بلا كيل].

الطلبة
الرابعة:
وتُدعى » جِوْلاه Geullah «ومعناها يجلو بالشعب عن المهالك
والمعاثر (فداء):

[انظر
يا رب إلى ضيقتنا واشفق على حالنا وافْدنا سريعاً من أجل اسمك لأنك فادٍ مقتدرٌ.

مبارك
أنت يا رب،
فادي إسرائيل].

الطلبة
الخامسة:
وتُدعى » ريفاه Refah
«
وهي من أجل الشفاء والترفيه عن المرضى والمصابين والمجروحين:

[اشْفِنا
يا رب فنُشفى، خلِّصنا فنخلص، هب لنا شفاءً كاملاً لجراحنا الكثيرة، لأنك أنت
الإله الطبيب الشافي الرحوم.

مبارك
أنت يا رب،
يا مَنْ تشفي مرضى شعبك إسرائيل].

الطلبة
السادسة:
وتُدعى » بِرَخوث هاشانيم Birkat Ha-shanim «أي
بركة السنوات:

[بارك
لنا هذه السنة أيها الرب إلهنا من أجل خيرنا، أعطِ الندى والمطر بركة لوجه الأرض،
وارسل الرياح على البلاد، وعضِّد العالم كله بصلاحك، واملأ أيدينا من خيراتك ومن
غِنى عطايا يديك. احرس هذه السنة ونجِّها من كل شر أو خراب، ومن كل نزاع، واجعلها
رجاءً لنا واجعل نهايتها سلاماً.

احفظْنا
وارحمنا واحفظ كل ما ينتج لنا من كل الثمرات باركْها كبركة السنين الخيِّرة بالندى
والحياة والوفرة والسلام.

مبارك
أنت يا رب،
الذي تبارك السنين].

الطلبة
السابعة:
وتُدعى » قبُّوس جاليوث Qibbus galuyoth «أي تجميع شتات المنفيين
(الذين جلوا عن الأرض):

[بوِّق
يا رب لنا بقرن الحرية العظيم وارفع العلم ليجتمع المنفيون، إدْعُ لنا بالحرية
لنتجمَّع من أقطار الأرض الأربعة ونعود إلى أرضنا.

مبارك
أنت يا رب،
يا مَنْ تجمع الشتات من شعبك إسرائيل].

الطلبة
الثامنة:
وتُدعى » برَاخوث مشباط Birkat Mishpat «أي بركة القضاة:

[أعِدْ
لنا قُضَاتنا كالأيام الأُولى ومشيرينا، كما كانوا في البداية. واحكم أنت وحدك يا
رب علينا بالنعمة والرحمة والبر والعدل.

مبارك
أنت يا رب،
الملك الذي يحب البر والعدل].

الطلبة
التاسعة:
وتُدعى » بِراَخوث صَدِّيقيم Birkat Saddiqim «أي
بركة الأبرار والصدِّيقين:

[على
الأبرار والصديقين والأتقياء من الدُخلاء، فلتأتِ رحمتك يا رب إلهنا. واعط جزاءً
صالحاً لكل مَنْ يؤمن باسمك عن إخلاص. واجعل نصيبنا معهم حتى لا نقع في خزي إلى
الأبد.

مبارك
أنت يا رب،
قيام ورجاء الأبرار].

الطلبة
العاشرة:
وتُدعى » بِرَخوث يروشاليم Birkat Yerushalim «أي
بركة أورشليم:

[إلى
أورشليم مدينتك عُدْ يا رب برحمتك واسكن فيها كوعدك وابْنِها من جديد لتقوم في
أيامنا وإلى الأبد.

مباركٌ
أنت يا رب،
يا مَنْ تبني أورشليم].

الطلبة
الحادية عشر:
وتُدعى » بِرَخوث داويد Birkat Dawid «أي بركة داود (المسيَّا):

[سريعاً
يا رب فليخرج ابن داود، وليرتفع قرنه بخلاصك، فإننا نترجَّى خلاصك اليوم كله.

مبارك
أنت يا رب،
يا منْ تقيم قرن خلاصنا].

الطلبة
الثانية عشر:
وتُدعى » تِفِلاَّه Tephillah « وهي الصلاة التشفعية التوسلية:

[اسمع
أصواتنا يا رب وارحمنا، واقبل إليك طلباتنا بالرحمة والنعمة، لأنك إله تسمع
لصلواتنا وتوسلاتنا من مكان حضرتك، يا ملكنا لا تصرفنا فارغين لأنك تسمع لصلاة كل
فم.

مبارك
أنت يا رب،
يا سامع الصلاة]

ثم
يختتم رئيس الصلاة بهذه البركات الثلاث:

البركة
الأُولى:

وتُدعى
“عبوداه
Abodah” أي “من أجل العبادة أو الخدمة”:

[اقبل
أيها الرب الإله عبادة شعبك، وأعد العبادة إلى قدس أقداس بيتك. واقبل سريعاً
بمحبتك ونعمتك محرقات إسرائيل وصلواتهم. ولتكن خدمة صلوات شعبك إسرائيل مقبولة
دائماً أمامك. ولتنظر عيوننا رجوعك إلى صهيون في رحمتك.

مبارك
أنت يا رب،
الذي يعيد الحضرة الإلهية إلى صهيون].

البركة
الثانية:

وتُدعى
» هوداه Hodeh «أي تسبحة:

[نعطيك
الشكر يا إلهنا وإله آبائنا، فأنت صخر حياتنا ودرع خلاصنا في كل الأجيال. نحن سنظل
نعطيك الشكر ونعلن تسبحتك كل أيام حياتنا التي نضعها في يديك ونفوسنا نضعها تحت
عنايتك. أنت الكلي الصلاح ومراحمك لا تسقط أبداً، فأنت الرحيم. وتعطُّفاتك لا
تتوقف، ورجاؤنا فيك منذ الدهر.

لا
تجلب علينا خزياً، أيها الرب إلهنا، لا تتخلَّى عنَّا ولا تُخفي وجهك عنَّا، لأنه
من أجل الكل ليكن اسمك مباركاً ومتعالياً، يا ملكنا إلى الأبد.

كُلُّ
حيٍّ يشكرك، سلاه. ويسبِّح باسمك الكلي الصلاح والحق.

مبارك
أنت يا رب
يا ذا الاسم الكلي الصلاح والذي يليق به الشكر دائماً].

البركة
الثالثة:

وتُدعى » بِرَاخوث
كوهانيم
Birkat
Kohanim «أي بركة الكهنة، وذلك
لأن الأصل أن يقولها الكاهن، وتُختم بها
الصلاة كلها. وهي هنا مأخوذة من روح البركة الهارونية التي كان لا يقولها إلاَّ

الكاهن:

[امنح
سلاماً لشعبك، وبارك واشفق وارحم واعطِ توفيقاً لنا ولكل إسرائيل شعبك،

باركنا
كلنا معاً،
وأضيء علينا بنور وجهك، لأنه بضياء
نور وجهك يا رب أعطيتنا التوراة التي للحياة والمحبة والنعمة والبر والرحمة، وليكن
حسناً لدينا وصالحاً في عينيك أن تبارك شعبك إسرائيل بالرحمة في كل زمان!

مبارك
أنت يا رب،
يا مَنْ تبارك شعبك إسرائيل بالسلام].

 

هذه هي الصلوات التي
استقرت في المجمع، بعد أن توقفت العبادة تقريباً في الهيكل بسبب توقُّف تقديم
الذبائح.

وهذه
هي نفس البركات والتسبيحات والتشكُّرات والتضرُّعات التي طالما اشترك فيها المسيح
يومياً، وكل يوم سبت، في داخل المجمع، ولطالما قاد هو الصلاة بنفسه، وطالما وقف
يشرح للشعب المعاني الجديدة في هذه الصلوات العتيقة، وطالما وقف يُصحِّح الأفكار
والمعاني ويكشف عن سر المسيَّا الآتي، والذي كان واقفاً في وسطهم!

كم
مرة نبَّه على أن لا تُؤْخذ الصلوات بمعانيها المادية!:
» اعملوا لا للطعام البائد. «(يو 27: 6)

وكم
مرة راجع الطقس في إلحاحه على الخيرات ا لزمنية!:
» اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه وهذ كلها تُزاد لكم. «(مت 33: 6)

وكم
مرة راجع الطقس في صلواته المنحازة ضد الأعداء والذين ليسوا من إسرائيل!:
» أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم،
أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.
«(مت
44: 5)

وكم
مرة راجع التطويل في الصلاة وتكرار الصلوات!:
» لا تكرروا الكلام باطلاً، كالأمم، فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب
لهم فلا تتشبَّهوا بهم.
«(مت 7: 6)

وكم
مرة راجع الطقس في انحيازه العنصري لإسرائيل ولإبراهيم!:
» لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم. «(يو 39: 8)

وكم
مرة أثبت لهم فساد عبادتهم من أولها إلى آخرها بسبب محبتهم لأنفسهم وطلبهم مجد
ذواتهم وانغلاق قلوبهم عن رؤية المواعيد وهي تتحقَّق أمام عيونهم:
» أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم
تريدون أن تعملوا
« » قد
عرفتُكم أن ليس لكم محبة الله في أنفسكم …، كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون
مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟
« » أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني …
لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب، يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم، لأنكم
لو كنتم تصدِّقون موسى لكنتم تصدِّقونني لأنه هو كتب عني. فإن كنتم لستم تصدِّقون
كتب ذاك فكيف تصدِّقون كلامي؟
«(يو 44: 8؛ 42: 5و44و43و4547)

وبهذا
القول الأخير أثبت لهم المسيح أن كل اتكالهم على التوراة وكل عبادتهم وصلواتهم
مرفوضة، بالرغم مما فيها من صدق، ومن مواعيد، ومن حب لله وتمجيد لاسمه العظيم، ومن
رجاء بمجيء المسيَّا، لأنهم تركوا محبة الله وأحبوا أنفسهم، وتركوا مجد اسم الله
وطلبوا مجد أنفسهم، وبسبب عمى قلوبهم لم يُصدِّقوا المواعيد وهي ظاهرة أمامهم وقد
تحققت أمام عيونهم بحسب صلواتهم، فكانوا يصلُّون عبثاً، وباطلاً يطلبون مجيء
المسيَّا، بينما المسيح واقف أمامهم!!

فصلوات
المجمع بحد ذاتها

لو استثنينا منها الانحرافات التي عالجها المسيح
نراها قوية ودسمة مشحونة بكل تقوى الآباء وميراث الأنبياء الوعظي
والتعليمي وروح المزامير المنسحقة. ولقد كانت موضع تقدير وحب عند المسيح، فكان
دائم التردُّد على المجامع، وبالأخص في السبوت، يصلِّي بها ويعظ عليها وينير
البصائر فيما حَوَتْ من تعاليم حية:
» بيتي بيت الصلاة يُدعى. «(مت 13: 21)

إن المسيح يُعتبر
الوريث الشرعي لكل ما هو جميل وحق في هذه الصلوات، التي هي أصلاً من روحه وهي من
أجله، ولقد زادها المسيح نوراً وحقاً وجمالاً بتعليقاته وأمثاله وحِكَمِه
وتفسيراته التي كان يختص بها تلاميذه.

لقد
ورث عنه تلاميذه كل ذخائر الهيكل والمجامع من غِنى روحي، ومفهومات حية واضحة عن
مجد الله ومجد اسمه وحضرته (الشاكيناه) المُلهِمة لكل صلاح، ونور وجهه الذي أخرج
التوراة.

وحينما
أدرك التلاميذ موضع المسيح من هذه الصلوات، وأدركوا سر علاقته بالآب، وأنه هو هو
الرب، وعرفوا يقيناً أنه هو الفداء والخلاص والمجد والغِنى والسلام، الأمور التي
كانت سابقاً أساس التضرُّع والتوسُّل الكثير والمتكرر في العبادة اليومية، تركوا
حرفيات صلوات الهيكل والمجمع جانباً وبدأوا يؤسسون، بالإلهام، للكنيسة صلواتها
وطقوسها بروح المسيح وكلماته ومن تعاليمه ووصاياه:
» مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية. «(أف
20: 2)

ولكن
بقيت آثار ومعالم هذه الصلوات القديمة بأسمائها واصطلاحاتها وبعض كلماتها، ودخلت
مع الرسل واليهود الذين آمنوا بالمسيح في الكنيسة الأولى، خصوصاً وأن كثيراً من
المجامع اليهودية كانت في البداية هي ملتقى المسيحيين الأوائل.

 

6
الإفخارستيا
وآخر صورة للصلوات الطقسية

على ولائم العشاء
الرسمية في إسرائيل أيام المسيح

تُحجم الكنيسة عن أن
تُقيم في شرحها وتفسيرها للإفخارستيا أية صلة بطقوس اليهود القديمة، وذلك بحسب
التقليد الآبائي. لأن الإفخارستيا كعشاء سري للرب في نظر الكنيسة
أصبحت بفعلها السرائري حقيقة إلهية شامخة تفوق كل المثالات التي سبق أن أوضحناها
جميعاً متفرقة أو مجتمعة، وهي في نظر الكنيسة بمثابة سفر تكوين جديد، فهي البداية
العظمى لخليقة جديدة خلقها المسيح من جسده ودمه.

فالمسيح، من لحمه
وعظامه، يخلق كل يوم الإنسان الجديد الروحاني الذي يعضده
» ببركة «العهد
الجديد، ليذهب ويملأ العالم الجديد، ويعمل فيه بالروح، ويثمر ويتكاثر بالبشارة،
وبعَرَق النعمة يعمل لمجد الله؛ لأنه بالإفخارستيا والمعمودية يتم القول
» مخلوقين في
المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة …
«» لمجد الله الآب. «(أف 10: 2، في 11: 2)

فالإفخارستيا كما أسسها
الرب في عشاء يوم الخميس ليس لها بداية أخرى غير ما ابتدأ المسيح به، فهي وليمة
نازلة من فوق من السماء:
» أنا هو الخبز الحي الذي
نزل من السماء … والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي
«(يو 51: 6). فكما أن المسيح لا يستمد كهنوته من آخر، إذ هو على طقس
ملكيصادق بلا بداية أيام له ولا نهاية أيام، هكذا كانت الإفخارستيا على يدي المسيح
خبزاً وخمراً، وطقساً وصلاة.

وعندنا قول للقديس
إيرينيئوس، يؤكد فيه انقطاع كل صلة بين عشاء
الرب وبين الطقس القديم:

[هذه التقدمة،
الإفخارستيا، هي الآن ليست بحسب الناموس، ولكنها بحسب الروح، لأنه بالروح والحق
ينبغي أن نعبد الله.

ولهذا فإن تقدمة
الإفخارستيا ليست جسدية بعد بل روحية (أي أن التقدمات قبل المسيح كانت جسدية في
معناها وفي جوهرها). لذلك فهي طاهرة، لأننا بعد أن نقدِّم لله الخبز وكأس البركة رافعين
الشكر له
= («إفخاريستوندس آفتو» وهي كلمة طقسية تختص
بالليتورجيا)، لأنه أمر فأخرجت الأرض ثمارها لطعامنا؛ ثم عندما ننتهي من التقدمة
(الصعيدة = أنافورا)، ندعو الروح القدس أن يُعلن (يُظهر بالروح) هذه
الذبيحة، معلناً الخبز جسداً للمسيح والكأس دماً للمسيح حتى بالاشتراك في هذه
الحقائق([11])
ننال مغفرة الخطايا وحياة أبديةً.

وهكذا، فكلُّ مَنْ
يشترك في هذه التقدمة لذكرى الرب لا يعود بعد تابعاً لطقس اليهود (لأنه لم تَعُدْ
هذه الوليمة تُحسب تابعة لطقس اليهود بعد تأسيس السر الإلهي فيها)، بل عابداً بطقس
الروح، ويُدعى من أبناء الحكمة.]([12])

ولكن لكي نعطي
للإفخارستيا تقييمها الروحي والإلهي الحقيقي، يلزم أن نضع أمامنا ما كان يماثلها
قديماً وما كانت عليه الصلوات على الموائد الرسمية عند اليهود، لأننا بذلك نكشف ما
هي الإفخارستيا كحقيقة إلهية، وما هو الفارق الشاسع واللانهائي الذي يفصلها عن
الطقس القديم.

الصلوات التي كانت
تُتلى على المائدة اليهودية:

كل مائدة تُقام في كل
بيت أو أي مكان كان لها طقس صلاة مطوَّلة. ولكننا هنا نخصص بحثنا في الصلوات التي
كانت تُقام في الولائم الرسمية التي كان يجتمع إليها بعض الجماعات المتدينة
التي كان يجمعها روح الصلاة والعبادة والتوسُّل الصادق، ترجياً وتضرُّعاً لكي يرسل
الله المسيَّا.

وكانت المحبة الملتهبة
لبعضهم البعض نابعة من حبهم الشديد لله والعبادة والطقس وأمل ظهور المسيَّا
وانتظار تعزية إسرائيل، وهي بكل تأكيد صورة لنفس الجماعة التي آمنت بالمسيح وأحبته
ورضيت به وكوَّنت جسم الكنيسة الأُولى في أورشليم ودُعيت باسم المسيح.

فكان الطعام الذي يوضع
أمامهم هو بسبب الصلاة والمحبة الروحية، لذلك كانت مثل هذه الولائم تُدعى:
» ولائم
المحبة
«وكان اسمها العبري حَبُورَاه Haborah
وجمعها حَبُورُوت.

وهذه الولائم التي كانت
تُدعى ولائم المحبة، كانت مشهورة بين الأتقياء بسبب حرارة الصلوات فيها وبالأخص
تلك التي كانت تُقال في نهاية الوليمة. لذلك كانت هذه الولائم موقَّرة جداً في نظر
الرؤساء، وكانت الخدمة الروحية فيها تُعتبر على مستوى عبادة المجمع([13]).

وهذه الولائم التَقَوية
التي كانت تُقام أصلاً للابتهاج الروحي والصلوات وانتظار تعزية إسرائيل، تكشف لنا
عن مدى تغلغل القداسة والعنصر الكهنوتي في حياة الأتقياء من هذا الشعب الوارث
لبركة الله منذ القديم:
» فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم
عهدي تكونون لي خاصةً
من بين جميع الشعوب، فإن لي كل الأرض، وأنتم تكونون لي
مملكة كهنة وأُمة مقدَّسة.
«(خر 19: 5و6)

وكان كل ما يقدَّم على
المائدة لا بد أن تُقال عليه صلاة ببركة خاصة قبل أن يذوقه أحد، ولا يُترك
على المائدة أي نوع من الأطعمة دون أن ينال التقديس بالصلاة والكلمة ويؤكل بالشكر،
حسب تقليد القديس بولس الرسول:
» لأن كل خليقة الله جيدة،
ولا يُرفَضُ شيء إذا أُخذ مع الشكر، لأنه يُقدَّس بكلمة الله والصلاة.
«(1تي 4: 4و5)

ولم تكن الصلوات التي
تُتلى على المائدة مجرد كلمات عابرة، بل كانت بحسب أصول طقسية دقيقة وتسليم تقليدي
من كبار الربيين. فالصلاة على المائدة كانت محسوبة
» ليتورجيا «خاصة
أي خدمة دينية خاصة بالولائم.

ولو دقَّقنا لوجدنا أن
الأصل في ولائم المحبة هو التجمُّع للصلاة بسبب مناسبة خاصة أكثر منه تجمُّعٌ معاً
للأكل، وحتى الأكل هنا كان يدخل في صميم العبادة.

ولو رجعنا إلى طقس
وليمة الفصح لوجدنا فيه الأصل والأساس الذي انحدر منه تقليد الصلاة على الموائد،
فأكل خروف الفصح يتم بشروط معينة، وبنوع خاص من الطهي، وفي ميعاد خاص من النهار
والسنة، وباستعدادات خاصة أثناء الأكل من وقوف وعَجَلَةٍ، وما يتبع الوليمة من
فطير وأعشاب مُرَّة، وطقوس كثيرة وصلوات وقراءات في التوراة، ورهبة وخشوع وذكر
للعبودية والموت والهلاك والنجاة والخلاص، كل هذا يمهِّد أمامنا لفهم روحانية مثل
هذه الولائم وتغلغل روح العبادة والصلاة على الأكل كميراث ديني ظل قائماً حتى زمن
المسيح.

وقد كانت صلوات الشكر
والتسبيح
التي تُتلى عند تناول كأس البركة الأخير على
الموائد ذات صبغة تَقَوية ووقار وهيبة، لأنه كان يُذكر فيها توسُّل وتضرُّع كثير
من أجل سرعة مجيء المسيَّا!

 

طقس صلاة وليمة المحبة
بحسب زمن المسيح:

أولاً: تبدأ الصلاة
بغسل يد جماعي، يبدأه رئيس المائدة ويتلو أثناء غسل يديه صلاة خاصة.

ثانياً: وحينما
يلتئم الجميع حول المائدة، يبدأ توزيع الكأس الأول حيث يشرب من الكأس الواحد كل
الجماعة معاً (في حالة وليمة الفصح كل واحد يأخذ لنفسه كأساً يشربه بعد أن يتلو
عليه البركة):

[مبارك أنت يا رب إلهنا
ملك الدهور الذي يعطينا ثمار (نتاج) الكرمة].

هذه هي الكأس الأُولى
التي ذكرها القديس لوقا الإنجيلي، بخلاف كأس البركة بعد العشاء، وهو الوحيد من بين
الإنجيليين الذي ذكر الكأس الأول بنوع من التدقيق، عندما وصف عشاء الرب. وقد سبَّب
هذا التدقيق حيرةً وارتباكاً لجميع الشُرَّاح الذين حاولوا شرح معنى هذه الكأس، إذ
حسبوا أنها تدخل ضمن التحوُّل السري الذي تمَّ. ولكن الحقيقة أنها كانت تتبع
العشاء، ولم يُدخلها الرب في صميم كأس الإفخارستيا الأخير، لذلك لم يشرب منها الرب:
» ثم تناول كأساً وشكر وقال: خذوا هذه واقتسموها بينكم لأني
أقول لكم إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.
«(لو 22: 17و18)

هذا يعني أن هذه الكأس
لم تتحوَّل بل ظلت نتاج الكرمة. وهذه الكأس بخلاف كأس البركة التي ذكرها لوقا
الإنجيلي نفسه بعد ذلك، والتي أجرى عليها المسيح سر التحوُّل، فصارت هي كأس الرب
التي تحوي دم العهد الجديد
» وكذلك الكأس أيضاً بعد
العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يُسفك عنكم.
«(لو 20: 22)

إذاً،
فالكأس الأول في طقس الولائم الرسمية زمن المسيح غير كأس البركة التي تُشرب بعد
العشاء.

ومعروف في طقس كنيستنا
أن المسيح لم يَذُقْ من هذه الكأس الأُولى، باعتبارها لمجرَّد الشرب من نتاج
الكرمة، ولكن المسيح ذاق من كأس البركة.

ثالثاً: لا تبدأ
الوليمة رسمياً إلاَّ إذا أمسك رئيس المتَّكأ الخبز وكسره وأعطاه للمتناولين
قائلاً:

[مبارك أنت يا رب إلهنا
ملك الدهور الذي أخرج لنا الخبز من الأرض].

وببركة الخبز هذه
تُعتبر الوليمة كلها مبارَكة هي والآكلين منها، وبعد بركة الخبز هذه لا يُسمح لأي
فرد أن يشترك في المائدة إذا جاء متأخراً بعد البركة.

رابعاً: على كل فرد
من الآكلين أن يبارك على كل نوع من الطعام يمد يده إليه قبل أن يضع منه شيئاً في
فمه.

خامساً: لأن طقس
الولائم لا يبدأ إلاَّ بعد الغروب، لذلك كان من الطبيعي أن تدخل ظلمة الليل عليهم
أثناء الأكل، لذلك فإنه بعد بدء الوليمة بقليل تدخل ربة البيت وفي يدها المصباح
الذي تكون قد أعدَّته مُسْبَقاً ويصلي عليه رئيس المائدة بركة النور([14]).

ولقد دخل هذا الطقس إلى
الحياة المسيحية وهو المعروف الآن بتسبحة النور التي يقولها الشعب في البيوت وفي
الكنيسة وقت إيقاد المصابيح، وتُسمَّى في الطقس اليوناني
Lucernarium، وأيضاً نراه واضحاً في طقس إنارة الشموع على المذبح وقت القداس
حتى ولو كان في الصباح.

وبعد إيقاد النور
مباشرة يُحرق البخور على المائدة، وتُقال عليه بركة خاصة([15]).
وهذا تقليد قديم يرجع زمانه إلى أيام هرون، وهو مأخوذ من طقس الهيكل:
» وحين يوقد
هرون السُرُج في العشية يوقد بخوراً دائماً أمام الرب في أجيالكم.
«(خر 8: 30 حسب السبعينية)

سادساً: يُعاد غسل
اليد، ويكون له طقس خاص، إذ يتقدَّم العبد أو الخادم إلى رئيس الصلاة بالطشت
والإبريق، وفي حالة غياب الخادم يتقدَّم أصغر أفراد الجماعة([16]).
وهذا يشرح لنا ظروف طقس غسل الأرجل الذي اعتنى القديس يوحنا الإنجيلي بذكره، ويُظن
أن يوحنا نفسه هو الذي قدَّم الماء للمسيح ليغسل يديه.

ولكن الرب رفع هذا
الطقس من مضمون التطهير الجسدي بالماء الذي يؤهِّل لنوال بركة العهد القديم، إلى
سر الاتضاع الذي يؤهِّل للأكل والشرب من جسد المسيح ودمه لنوال بركة العهد الجديد
لمغفرة الخطايا والحياة الأبدية.

سابعاً: يتقدَّم
رئيس المائدة ليمسك بيده المغسولة كأس البركة التي تكون ممزوجة ومُعدَّة لذلك، ثم
يرفع رئيس المتكأ الكأس بيده وهو مطاطيء الرأس داعياً الجماعة كلها للشكر:

[فلنشكر الرب إلهنا].

ويرد الجميع (لا يقل
عددهم عن عشرة أشخاص حتى يُحسب الاجتماع رسمياً) بقولهم:

[مبارك الرب إلهنا الذي
بصلاحه أعطانا طعاماً، وبرحمته وهبنا الحياة].

وهذا الطقس وُجِد
مسجَّلاً منذ أيام ألكسندروس حناؤس([17]) (سنة 103
سنة 67 ق.م).

ويُلاحَظ
أنه إذا كان العدد أقل من عشرة أشخاص يُكتفى بإعطاء الشكر بفم رئيس المتكأ فقط([18]).

ثامناً: يبدأ رئيس
المتكأ بأن يقود تسبحة الشكر باللحن، وهي عبارة عن ثلاث بركات (يُضاف إليها دعاءٌ
أخير في أيام الأعياد)، وهي مستخدمة منذ زمن سابق على زمن المسيح.

فالبركة الأُولى ثبت
أنها منذ موسى، والثانية منذ زمن يشوع، والثالثة منذ زمن داود وسليمان([19]).
ولكن أُضيف إليها بعض جمل لتُناسب زمن ما بعد التشتُّت.

البركة الأُولى:

[مباركٌ الرب إلهنا ملك
الدهور الذي يُطعم المسكونة بصلاحه وبنعمته ورحمته، يا معطياً طعاماً لكل ذي جسد،
يا مَنْ تقيم أَوَدَ كل حي، وتهيئ الطعام لكل المخلوقات.

مباركٌ أنت يا رب، يا مَنْ
تعطي طعاماً للجميع].

البركة الثانية:

[نشكرك
أيها الرب إلهنا من أجل الأرض المشتهاة الوفيرة الخيرات التي سُرِرْتَ أن تعطيها
لآبائنا،

ونشكرك من أجل العهد
الذي ختمته في لحمنا (الختان)،

ونشكرك من أجل التوراة
التي أعطيتنا إياها،

ونشكرك من أجل الحياة
والنعمة والرحمة والطعام الذي تمدُّنا به في حينه الحسن.

من أجل كل ذلك نشكرك
أيها الرب إلهنا ونبارك اسمك.

مبارك أنت أيها الرب من أجل
الأرض والطعام].

البركة الثالثة:

[أرسل
رحمتك أيها الرب إلهنا على شعبك إسرائيل، وعلى أُورشليم مدينتك، وعلى صهيون
موضع مسكن مجدك، وعلى مملكة بيت داود مسيحك، وعلى بيتك العظيم المقدَّس
الذي دُعي باسمك.

أطْعِمْنا، أشْبِعْنا،
أعنَّا، إقْبَلْنا إليك، نجِّنا سريعا من كل ضيقاتنا، ولا تَدَعْنا نقف أمامك
مُعْوَزين شيئاً من الأمور الفانيات، لأن الفانيات هِباتُها قليلة وهمومها كثيرة!

أمَّا نحن فقد وثقنا في
اسمك العظيم المخوف القدوس.

يا ليت إيليا يأتي،
والمسيَّا ابن داود يأتي في أيامنا، ويا ليت مملكة بيت داود تعود إلى مكانها وتحكم
أنت علينا، أنت وحدك، وتخلِّصنا من أجل اسمك، وتعيدنا إليها وتُفرِّح نفوسنا فيها،
وتريحنا في صهيون مدينتك.

مبارك أنت يا رب، الذي تبني
أورشليم ثانياً.]([20])

ويُلاحِظ القارىء أن
البركة الأُولى بدأت بالشكر على الطعام الحاضر، ثم امتد الشكر ليشمل الخليقة، ومن
الطعام الذي أخرجته أرض إسرائيل امتدت الصلاة لتشمل الشكر على أرض الميعاد، ومنها
إلى الشكر على العهد القائم الذي يحمله كل الشعب كختم على اللحم، ثم امتد الشكر
ليشمل التوراة. وهكذا شملت البركة الأُولى والثانية كل تاريخ الخلاص السابق.

أمَّا البركة الثالثة،
فهي امتداد إلى المستقبل ليحصل فيه تجديد لأعمال الله السابقة مع إسرائيل وتجديد
لبركات العهد. ثم يمتد هذا الإلحاح في طلب مجيء المسيَّا، على أن تكون علامته
السابقة مجيء إيليا! ثم ظهور ملكوت الله وعودة مملكة داود في شخص المسيَّا. وتنتهي
البركة الثالثة بالتضرُّع من أجل بناء أُورشليم المستمر واستعادة مجدها حتى مجيء
المسيَّا.

وهكذا تنتهي وليمة
اليهود التقليدية حاملةً لنا الملامح الأساسية التي تكوِّن الهيكل العام للطقس
الذي نمارسه اليوم، والتي لا يصعب أبداً التعرُّف عليها داخل الإفخارستيا
والقدَّاس.

دعاء التذكار الذي
سيُضاف بعد البركة الثالثة في مناسبة الأعياد:

يُقال بعد التوسُّل من
أجل مملكة بيت داود:

[يا إلهنا وإله آبائنا،
فلْيدخُلْ إليك تذكارُنا هذا (أو ذِكْرُنا، وبالعبرية
Zikkaron
زِكَّارون) ذِكْرُنا نحن، وذِكْرُ آبائنا،
وذِكْرُ أورشليم مدينتك، وذِكْرُ المسيَّا ابن داود فتاك، وذِكْرُ شعبك كل بيت
إسرائيل؛ ليقم هذا الذِكْر أمامك، وليأتِ إلى حضرتك ويمر أمامك، وليُنظرْ ويُقبَلْ
ويُسمعْ حتى يصير في ذِكْرِك، تذكاراً أمامك للخلاص، للصلاح، للنعمة،
للرأفة، للرحمة في هذا اليوم الذي هو يوم (كذا). اذكرنا أيها الرب في هذا اليوم
للصلاح وافتقدنا فيه للبركة،
وخلِّصنا
للحياة
بكلمة خلاص ورحمة ومعروف يدوم، وأظهر فيه رحمة لأنك إله مُنْعِم
وملك رحوم].

وبهذا التذكار تنتهي
الوليمة إذا كانت ذات اعتبار خاص بالنسبة لعيد هام كعيد الفصح مثلاً، حيث تسمَّى
حينئذ
» قدَّاس الفصح «

وفي هذه الإضافة
تقابلنا كلمة
» ذِكْر «وبالعبرية »
Zikkaron
زكَّارون « وهي كلمة ذات قيمة بالغة الأهمية جداً بالنسبة للإفخارستيا في
وضعها المسيحي، لأنها تكشف لنا عن عمق وامتداد معنى قول المسيح:
» اصنعوا هذا
لذكري
«(لو 19: 22
والذي خُتِمَ به طقس الأكل والشرب ليعطيه صفته السرية والديمومة!!

فمن هذه » البِرَاكَاه «ينكشف لنا
أن كلمة
» ذِكْر «أو » زكَّارون «بالعبرية
ليست مجرد تذكار كما يبدو لنا، إذ لا يدخل في
» الذِكْر «أمام الله
إلاَّ أعمال الله، فالذِكْر أمام الله ليس كلمة بل هو فعلٌ مقدَّسٌ تسلَّم موسى سرَّه مع الوصايا والناموس:
» اصنعوا هذا ذِكْراً أبدياً أمام الله. «(خر
14: 12)

فالذِكْر وصية وتقليد
مقدَّس، وهو وإن كان في الماضي من أجل أمور مادية في شكلها، إلاَّ أنه في ذاته كان
عملاً روحانياً مقدَّساً مقدَّماً أمام الله، يدخل إلى عظمته في السموات.

والذِكْر يُعتبر
ميراثاً روحانياً غالي الثمن جداً، فهو كنز البشرية (الذي تقوم قوَّته على العهد)،
والذي إذ تستخدمه باستمرار تنال بواسطته استجابة أمام الله وقبولاً ودخولاً
وظهوراً ورحمة وخلاصاً وبقاءً ونعمةً كما تقول «البِرَاكَاه» الثالثة.

وبواسطة الذِكْر الدائم
يصبح عمل الله في القديم حاضراً معنا دائماً، فهو سر ديمومة، وجوهر بقاء لأعمال
الله وفعلها، فالإنسان بواسطة ذِكْر أعمال الله يستطيع أن يحتفظ بها ويعيش في
فعلها، فالذِكْر يديم النعمة ويديم الرحمة ويديم الخلاص، بشرط أن يكون ذلك ضمن عهد
الله وقد رضيَ أن تُذكر أمامه!

ويُلاحَظ أن » الذِكْر «في هذه » البِرَاكَاه «الثالثة خاص
بأيام السبوت والأعياد والمواسم التي يكون قد تمَّ فيها عمل من أعمال الله العظيمة
في الماضي، حتى يكون طقس اليوم كله وطقس الوليمة قائماً أساساً من أجل هذا الذِكْر
» زِكَّارون «

ومن هذا يظهر أن الأكل
في وليمة الذِكْر أو
» الزِكَّارون «عند اليهود
هو أكل مقدَّس لأنه أكل أمام الله، لذِكْر عهد تمَّ بين الله وشعبه، ومطلوب
في هذا اليوم ظهوره واستعلانه ورؤيته ودوامه وامتداده أمام الله بفعل نعمته
ورحمته الضامنة لكل عهود الله([21]).

كما يظهر أيضاً أن
الذِكْر هنا هو مناسب وموافق ومؤكِّد لأمانة الله، كما هو مؤكِّد لأمانة الشعب في
أمانة الله. فالذِكْر تأكيد لأمانة الشعب، وشهادة لأمانة الله، وفعل يضمن
دوامها واستمرارها في الحاضر، وبالتالي هو عبادة على أعلى مستوى كعمل يرضي الله
ويسرُّه ويُفرِّح قلبه ويجعله يذكر فعلاً عهده ورحمته وكل وعوده.

لذلك، فالمسرة والفرح
في ولائم الذِكْر عند اليهود كانت مسرة مشتركة وفرحاً مشتركاً بين الله الأمين على
عهده وبين شعبه، طالما هو قائم على الذكرى وأمانة العهد.

ونلفت نظر القارىء أننا
سنعود إلى موضوع
» الذِكْر «و» التذكارات «هذه مرة
أُخرى عندما نتكلَّم عن الإفخارستيا والأواشي، أي الصلوات في الكنيسة وما تحويه من
تذكارات.



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى