الفصل التاسع

الفصل
التاسع

النزول من
على الجبل والذهاب إلى كفرناحوم

42- شفاء
الأبرص

بعد
أن أكمل المسيح عظته ذات التأثير البالغ على الجموع، نزل من الجبل مع تلاميذه،
فاستقبلته الجموع وهو ذاهب إلى كفرناحوم. وجاءه أبرص يقول له: “يا سيد، إن
أردتَ تقدر أن تطهِّرني” (مت 2: 8)، فما كان من المسيح إلاَّ أن مدَّ إليه
يده “ولمسه قائلاً: أريد فأطْهُرْ. وللوقت طَهُرَ برصه” (مت 3: 8).
وهكذا تخطَّى المسيح الناموس والنجاسة، لأن الناموس يحذِّر من لمس الأبرص وإلاَّ
يصبح الإنسان نجساً، ولكن المسيح جاء ليرفع البَرَص والنجاسة إلى مستوى الطهارة
بلمسة يده وكلمة فمه: “والبُرص يطهَّرون” (لو 22: 7). ولأن المسيح لم
يوصه بالذهاب إلى الهيكل وتكميل فروض الديانة
ولإعطاء شهادة بيد الكاهن، لذلك يُظن أن هذا الأبرص كان إمَّا أُممياً أو
دخيلاً.

43- شفاء
عبد قائد المائة

وبوصوله
إلى مداخل كفرناحوم استقبله بعض رؤساء المجمع في وساطة وتوسُّل، أن يشفي عبد قائد
مائة أصابه الشلل فأقعده متألِّماً، وطبعاً كان وثنياً قد تأثَّر باليهود وعبادتهم
وسمع عن المسيح فالتجأ لرؤساء المجمع ليتوسَّطوا له عند المسيح، اعتقاداً منه
بيهوه إله اليهود أنه قادر على شفائه. أمَّا اهتمام ضابط أُممي بعبد له بهذا القدر
مما دفعه أن يذهب بنفسه ويتوسَّل من أجل شفائه، فهذا يزيد اليقين على تقوى ذلك
الرجل والاعتقاد أنه كان دخيلاً. وبسبب شدة المرض واقتراب العبد من الموت جعل
الضابط يُسرع نحو المسيح. فلمَّا رأى ترحيب المسيح وبدأ يتجه مع الرؤساء نحو منزله،
حثَّه قلبه ليتوسَّل لدى المسيح– وقد اعتقد في سلطانه الروحي
الإلهي– “أن قل كلمة فقط فيبرأ
غلامي” (مت 8: 8)، معتقداً أن للمسيح سلطاناً غير منظور ليتمِّم إرادته، كما
يُرسل هو جنوده! إيمان من نوع جديد لم يرقَ إليه الفكر اليهودي. فلمَّا سمع المسيح
تعجَّب فأعلن للذين حوله والذين يتبعون: “أنه لم يجد ولا في إسرائيل إيماناً
بمقدار هذا” (انظر: مت 10: 8)، إذ بإيمانه أنه ابن الله يكون قد قَبِلَ
المسيح ربًّا، ولو أنه لم يستطع أن يعبِّر عن ذلك الإيمان الذي ليس في إسرائيل
حقا، وقد بلغه قائد المائة قبل أن يبلغه أكثر المقرَّبين إلى المسيح. لأن أُممياً
يكون قد آمن بالمسيح وأحسَّ به إلى هذا القدر من الإحساس، لم يَعُدْ يحجزه عن
الإيمان ما كان يحجز اليهود من القيود. وهكذا أُعطِيَ قائد المائة رؤية مسبقة،
ولكن مضيئة لما سينتظر جميع الأُمم!!

44- شفاء
إنسان به شيطان أخرس وأصم

كان من الملاحَظ أنه كلما نجح المسيح في تأثيره على الشعب،
كلما زاد حنق الفرِّيسيين وثورتهم عليه. فبدأت حركة بين
صفوفهم لم يستطيعوا أن يضبطوها بسبب
ما حاق بموقفهم من تدهور، وبروحهم من انهزام أمام تعاليم المسيح.

ولكن،
ومرَّة واحدة، فاض الكيل بهم بعد شفاء هذا المريض بالذات، الذي كان عليه شيطان
أخرس وأصم، وأظهروا عداءهم بغير تعقُّل. فبينما رحَّب الشعب بهذا الشفاء على أنه
علامة من علامات مسيَّا وقوته بحسب النبوَّات، نجد أن الفرِّيسيين لم يتقبَّلوها
بل اعتبروها أنها من عمل رئيس الشياطين وأن المسيح به شيطان، لكي يطمسوا فكر الشعب
وتصوُّرهم لقيمة هذه المعجزة وعلاقتها بالمسيَّا الآتي. فإذ وجدوا أن المعجزة لا
يمكن إرجاعها للطبيعة ولا لأي مصدر آخر، قالوا إنها برئيس الشياطين عُملت، حتى إذا
انطلت على الشعب خِدعتهم امتدوا بها ليثبتوا أنه نبي كاذب وهو يعمل لحساب ملكوت
الشيطان: “فعلم يسوع أفكارهم، وقال لهم: كل مملكة منقسمة على ذاتها تُخْرَبُ،
وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يَثْبُتُ. فإن كان الشيطان يُخْرِج الشيطان
فقد انقسم على ذاته. فكيف تَثْبُتُ مملكته؟” (مت 12: 24-26)، والشر لا يفعل
الخير.

ومعروف
أن في إسرائيل كان يوجد أشخاص يهود يعزِّمون على المصابين بأرواح نجسة ويخرجون
الشيطان، فبادرهم المسيح: “وإن كنت أنا ببعلزبول أُخرج الشياطين، فأبناؤكم
بمن يُخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن
كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين، فقد
أقبل عليكم ملكوت الله!” (مت 12: 27و28)

وهنا
ابتدأ المسيح يصنع مقارنة في غاية الأهمية: بين عمله وعمل الشيطان، وفارق القوة
بينهما وهو معلوم: “كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته، إن لم
يربط القوي أولاً، وحينئذ ينهب بيته؟” (مت 29: 12)

ولكن
يوضِّحها ق. لوقا أكثر في إنجيله: “حينما يحفظ القوي داره متسلِّحاً تكون
أمواله في أمان، ولكن متى جاء مَنْ هو أقوى منه فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه (الخطية وكل
متعلِّقاتها) ويوزِّع غنائمه.” (لو 11: 21و22)

وواضح
أن ربط الشيطان تمَّ أثناء التجربة، ثم بعدها على الصليب، ونَهْبِ بيت الشيطان
تمَّ بشفاء جميع الذين كانوا تحت سلطان إبليس (انظر: أع 38: 10)، وبعد الصليب فكَّ
أسرى الرجاء الذين كانوا في الهاوية وخرج بهم ظافراً وأعطاهم كرامات (انظر: أف 8:
4).

45- المسيح
يؤكِّد صحة إخراجه للشيطان بصورة مطلقة

ولكي
يؤكِّد المسيح لسامعيه قوة وصحة إخراجه للشياطين، أوضح ما تعمله الشياطين حينما
تخرج تحت تأثير سلطان غير سلطان الله الذي يعمل به هو، موضِّحاً أنه إذا خرج شيطان
بدون سلطان الله يعود مرَّة أخرى ومعه سبعة شياطين أُخَر ليسكن نفس الإنسان، إذ
يجد مسكنه الأول خالياً من الموانع. كالمرض الذي يُشفى بعلاج غير ناجح فإنه يعود
بصورة أقوى: “متى خرج الروح النجس من الإنسان، يجتاز في أماكن ليس فيها ماء
يطلب راحة، وإذ لا يجد يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده مكنوساً
مزيَّناً. ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أُخَر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر
ذلك الإنسان أشر من أوائله” (لو 11: 24-26). بمعنى أنه يمكن لإنسان أن يُخرج
شيطاناً، ولكن إن لم يكن بسلطان الله الذي يربط الشيطان ويحرمه من العودة إلى مريضه مرَّة أخرى، فإنه يعود ومعه أرواح أُخَر أشر
منه. وهكذا من الممكن أن شيطاناً يُخرج شيطاناً
آخر باتفاق ثم يعود مرَّة أخرى. ولكن جميع المرضى الذين شفاهم المسيح كانوا على
مستوى الشفاء الكامل والمطلق نفساً وروحاً وجسداً. فالمسيح يربط الشيطان وينزع
سلاحه (مغفورة لك خطاياك)‍!

ثم
وضع المسيح خطاً فاصلاً يحدِّد الذين يُخرجون الشيطان باسمه بالحق من عدمه. فالذين
مع المسيح بالروح القدس في شركة الملكوت، هؤلاء يجمعون المختارين ويشفون بالحق
جميع المتسلِّط عليهم إبليس. أمَّا الذين ليسوا مع المسيح ويخرجون الشياطين،
فهؤلاء بالنهاية يمزِّقون الرعية ولا يجمعون للملكوت، بل يعملون لحساب الشيطان:
“مَنْ ليس معي فهو عليَّ. ومَنْ لا يجمع معي فهو يفرِّق.” (لو 23: 11)