علم الله

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

الإعلان
الإلهى أو اتصال الله بالبشرية

 

1- حاجة البشرية للاتصال بالله

مقالات ذات صلة

 
خلق الله الإنسان على صورته(1) “على شبه” الله
عمله(2) وكان كما يقول القديس بولس بالروح “صورة
الله ومجده(3)” وجعله الله تاج
لخليقته وخليفة له فى أرضة، ومنحه “نسمة حياه(4)“،
نعمة الوجود فى الحياة ككائن حى، ووضعه في جنة عدن ووهبه نعمة الوجود فى الحضرة
الإلهية عندما كان يتحدث مع الله ويسمع صوته من الريح العاصف(5).
وكان على الإنسان أن يقدم الحمد والشكر والتمجيد لله خالقه ويهتف مع الخليقة
قائلاً “أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة لأنك خلقت كل
الأشياء وهى بإرادتك كائنه وخُلقت(6)“.

وأعطى
الله الإنسان الذى خلقه على صورته كشبهه(7)
السلطان على كل شىء على الأرض “على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان
يدب على الأرض(8)“. ولكن الإنسان عصى
الله وسقط فى الخطية وطرد من جنة عدن وحرم من نعمة الوجود فى الحضرة الإلهية، إذ
فصلت الخطية بينه وبين الله(9)، وصارت هناك قوه سحيقة
بينه وبين الله “فطرد الإنسان وأقام شرقى جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب
لحراسة شجرة الحياة(10)“.

وعلى
الرغم من أن الله كان يتصل بآدم ويكلمه وكان أدم يسمع صوته “عند هبوب ريح
النهار(11)” وأستمر الله يكلم
ذريته مثل قايين(12) ونوح(13)
ويسمعون صوته، إلا إنه، الله، فى جوهره وطبيعته غير مرئى وغير مدرك وغير محدود،
سواء بالنسبة لأدم أو بقية الخليقة. فهو غير محدود فى المكان “أما أملأ أنا
السموات والأرض يقول الرب(14)“، وغير محدود فى
الزمان “أنا الأول وأنا الأخر ولا إله غيرى(15)“،
“الكائن والذى كان والذى يأتى(16)“،
أى الذى لا بداية له ولانهاية له، وغير محدود فى القدرة “القادر على كل شئ(17)” وغير مرئى “الله لم يره أحد قط(18)“، “لا يفنى ولا يُرى(19)“، ” الذى له وحده عدم الموت ساكناً فى
نور لا يدنى منه الذى لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه(20)“،
وير مدرك بالحواس “القدير لا ندركه(21)“،
“ليس عن فهمه فحص(22)“، “ما أبعد
أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء(23)“،
أو كما يقول الحكيم بالروح “كما أنك لست تعلم ما هى طرق الريح ولا كيف العظام
فى بطن الحبلى كذلك لا تعلم أعمال الله الذى يصنع الجميع(24)“.

ولأن
الله غير محدود فى كل شئ والإنسان، خليقة الله، على العكس تماماً، محدود فى كل شئ،
والمحدود لا يمكن أن يدرك غير المحدود، لذلك لم ولا ولن يستطيع عقل الإنسان
المحدود أن يدرك الله غير المحدود على الإطلاق.

 

2- الطبيعة تكشف وتعلن عن وجود الله فى خليقته:

والسؤال
الآن هو: إذا كان الإنسان المحدود لا يستطيع أن يدرك الله غير المحدود ويتصل به من
تلقاء ذاته أو يراه فى طبيعته، ألا يمكن أن يدركه ويراه فى خليقته؟

والإجابة
على هذا السؤال نجدها فى الكتاب المقدس، الذى يقول لنا أن الله ظاهراً فى أعماله
ومعلن عنه فى خليقته “أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً. لأننا به نحيا ونتحرك
ونوجد(25)“، وهو يكشف عن ذاته
ويعلن عن وجوده فى خليقته “لأن أموره غير المنظورة تُرى فمنذ خلق العالم
مُدركه بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته(26)“،
وكما يقول المرنم بالروح “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه(27)“، وكما يقول الرسول بالروح “لم يترك
نفسه بلا شاهد وهو يفعل خيراً ويعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة ويملأ
قلوبنا طعاماً وسروراً(28)“.

وبرغم
أن الله ظاهراً فى خليقته إلا أن البشرية ضلت عنه وتاهت بعيداً، وبدلاً من أن تمجد
الله وتقدم له الكرامة والمجد والشكر والعبادة والسجود كالإله الوحيد والخالق
الوحيد للكون، إلا إنها فعلت ذلك لمخلوقاته التى خلقها هو “أبدلوا مجد الله
الذى لا يفنى بشبه صرة الإنسان الذى يفنى والطيور والدواب والزحافات … استبدلوا
حق الله بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق(29)“.

ولكن
الله الذى أحب خليقته حتى المنتهى(30)،
محبة أبدية(31)، والذى يجد لذته فى بنى
آدم(32)، لم يفرط فى الإنسان الذى خلقه على صورته كشبهه،
تاج خليقته وخليفته على أرضه، وبادر هو ذاته للاتصال بالإنسان وأعلن له عن ذاته
وعن وجوده وعن إرادته وغايته وعن أموره غير المنظورة(33).

 

3- الإعلان الإلهى (اتصال الله بالبشرية):

لما
فشلت البشرية أن تدرك الله وتعرفه من أعماله فى خليقته بادر هو بذاته للاتصال
بالإنسان وكشف له عن حقائق الوجود والحياة، ما يُرى وما لا يُرى، ما فى السموات
وما على الأرض، والحياة فى هذا العالم والحياة فى الدهر (العالم) الآتى، عالم
المادة وعالم الروح والكائنات السمائية، المنظورة وغير المنظورة، الحياة الآخرة
وما وراء الموت، الدينونة والأبدية، وكثير من الأمور التى لا يمكن للإنسان المحدود
أن يدركها بعقله المحدود وفكره القاصر، أعلن له حقائق الوجود وبعض أسراره. وهذا ما
يسمى فى الكتاب بالإعلان الإلهى الفائق للطبيعة، أى الذى يأتى من علام الروح وما
وراء المادة، من الله مباشرة.

فى
الفقرة السابقة، أعلاه، يستخدم علم اللاهوت كلمات؛ اتصال وكشف وإعلان، فماذا تعنى
هذه الكلمات فى الكتاب المقدس؟

 

أ- فى العهد القديم:

يستخدم
الوحى الإلهى الفعل العبرى “جالا
Galah” والذى يعنى
“يُعلن”، “يستعلن”، “يكشف” وذلك للتعبير عن إعلان
الله لذاته وإرادته وغايته وكشف أسراره لأنبيائهُ وإستعلان مجده، كما تبين الآيات
التالية:

·       
“لأنك أنت يا رب الجنود قد أعلنت لعبدك
(داود) قائلاً أنى أبنى لك بيتاً” (2صم 7: 7).

·       
“السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يكشف
سره لعبيده الأنبياء” (عا 7: 3).

·       
“لأن الرب أستعلن (تجلى تراءى) لصموئيل فى شيلوه بكلمة الرب” (1صم12: 3).

·       
“لأنك كشفت دعواى (يا رب الجنود)” (أر
20: 11).

·       
“حينئذ لدانيال كشف السر فى رؤيا
الليل” (دا 19: 2).

·       
“لكن يوجد إله فى السموات كاشف
الأسرار” (دا 28: 2).

·       
“فأعلن فى آذني رب الجنود” (أش 14:
22).

·       
“فيعلن (يظهر يتجلى) مجد الرب ويراه كل بشر” (أش 5: 40).

·       
“فى السنة الثالثة لكورش ملك فارس كُشف أمر
دانيال” (دا 1: 10).

 

ب- فى العهد الجديد:

استخدم
الوحى الإلهى كلمة “أبوكاليبسيس
Apokalyptw” اليونانية والتى تعنى “إعلان”
و”إستعلان” والتى جاءت أصلاً من الفعل اليونانى “أبوكاليبتو
Apoklyptw” والذى يعنى “يعلن” و”يكشف” أى يكشف
الغطاء عن، أو يرفع، يزيل، الغطاء أو الحجاب عن شئ و”يستعلن”. واستخدم
كل من الاسم “أبو كاليبسيس” والفعل “أبوكاليبتو” فى العهد
الجديد للتعبير عن الإعلانات الإلهية التى تكشف عن الحقائق الإلهية وأسرار ملكوت
السموات وظهور الرب يسوع المسيح:

·       
“إستعلان دينونة الله” (رو 5: 2).

·    “وللقادر
أن يثبتكم حسب إنجيلى والكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السر الذى كان مكتوماً فى
الأزمنة الأزلية ولكن ظهر الآن وأعلم به جميع الأمم…” (رو 25: 16،26).

·    “فإنى
آتى إلى مناظر الرب وإعلاناته. اعرف إنساناً فى المسيح قبل أربع عشرة سنة أفى
الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لستُ أعلم. الله يعلم. أختطف هذا إلى السماء الثالثة
… إنه أُختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم
بها” (2كو 1: 12-4).

·    “أعرّفكم
أيها الأخوة الإنجيل الذى بشرتُ به أنهُ ليس بحسب إنسان. لأنى لم أقبله من عند
إنسان ولا علّمتهُ (أخذتهُ). بل بإعلان يسوع المسيح” (غل 11: 1،12).

·    “أنه
بإعلان عرفن بالسر … سر المسيح. الذى فى أجيال أُخرى لم يُعرّف به بنو البشر كما
قد أعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائهُ بالروح” (أف 3: 3-5).

·       
“لذلك منطقوا أحقاء ذهنكم صاحين فألقوا رجاءكم
بالتمام على النعمة التى يُؤتى بها إليكم عند إستعلان يسوع المسيح” (1بط 13:
1).

·       
“إعلان يسوع المسيح الذى أعطاه الله إياه
ليُرى عبيده ما لابد أن يكون” (رؤ1: 1).

 

فى
الآية الأولى يكشف عن قضاء الله ودينونته، وفى الثانية يتكلم عن كشف أو إعلان سر
كشفه الله وأعلنه للرسل والأنبياء، هذا السر هو سر تجسد المسيح، وفى الثالثة يتكلم
عن الإعلانات الإلهية التى كُشفت أو أُعلنت له من خلال رؤيا أو غيبة روحية صعد
فيها إلى السماء الثالثة الفردوس، وفى الرابعة يتكلم عن إعلان الإنجيل، أو إعلان
البشارة، بشارة الخلاص، الذى أستلمه من المسيح الممجد فى السماء مباشرة، وفى
الخامسة يتكلم عن إعلان سر المسيح الذى أعلنه الروح القدس للأنبياء والرسل
القديسين، وفى السادسة يتكلم عن ظهور المسيح فى مجيئه الثانى، وفى السابعة يتكلم
عن الإعلان الإلهى الذى أعلنه السيد المسيح للقديس يوحنا الرسول الذى هو سفر
الرؤيا ذاته.

 

4- أنواع وطرق الإعلان الإلهى:

والسؤال
الآن هو: كيف أتصل الله بالبشرية، وكيف أعلن عن ذاته وأعماله وخلائقه سواء التى
تُرى أو التى لا تُرى؟ كيف كشف عن أسرار ملكوت الله وعن أموره غير المنظورة؟ ما هى
الطرق والوسائل التي أعلن بها عن ذلك؟ وكيف يتكلم؟

يقدم لنا الوحى الإلهى فى الكتاب المقدس
الإجابة على ذلك فى الآيات التالية:

·    “الله
بعد ما كلم الأباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا فى هذه الأيام
الأخيرة فى أبنه الذى جعلهُ وارثاً لكل شئٍ الذى به أيضا عمل الصالحين. الذى وهو
بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته” (عب 1: 1-3).

·    “إن
كان منكم نبياً للرب فبالرؤيا أستعلن له فى الحلم أكلمهُ. أما عبدى موسى فليس هكذا
بل هو أمين فى كل بيتى. فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه بالألغاز وشبه الرب
يعاين” (عد 6: 12-8).

·       
“السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن
سره لعبيده الأنبياء” (عا 7: 3).

·    “أيها
الرجال الأخوة والأباء أسمعوا. ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فى ما بين
النهرين قبلما سكن فى حاران وقال له أخرج من أرضك ومن عشيرتك وهَلُمّ إلى الأرض
التى أريك” (أع 2: 7،3).

 

من هذه الآيات وغيرها من آيات الكتاب المقدس يتبين لنا أن
هناك أربعة عناصر فى عملية الإعلان الإلهى أو اتصال الله بالبشرية هى:

1- 
 الله
ذاته، المُرسل، المُعلن، المُتحدث، ومصدر الإعلان والرسالة.

2- 
 الإنسان،
المُرسل إليه، المقصود بالرسالة، مُتلقى الإعلان والرسالة.

3- 
 الأنبياء،
الرسل، الوسطاء بين الله والإنسان، حاملو الإعلان والرسالة.

4- 
 أنواع
وطرق الإعلان، الكيفية التى تحدث بها الله للإنسان، وسائل الإعلان والرسالة.

 

كما
يتبين لنا أيضا أن هناك وسائل كثيرة، أنواع وطرق متعددة، استخدمها الله فى حديثه
مع البشرية والاتصال بها والإعلان عن ذاته، بدأت بالظهورات الإلهية لله نفسه فى
أشكال وهيئات جسمية مثل الرجال، واستخدام عناصر الطبيعة كالسحاب والنار والزلازل
والبروق والرعود والدخان الذين تحدث الله من وسطها ومن خلالها وخُتمت فى العهد
الجديد بالتجسد الإلهى واتخاذ الكلمة جسداً كاملاً محسوساً، وظهر فى الجسد وأخذ
شكل العبد وهيئة الإنسان “وحل بيننا ورأينا مجده مجداً(34)“.

 

(1)
تك 27: 1

(2)
تك 5: 1

(3)
1كو 7: 11

(4)
تك 7: 2

(5)
تك 8: 3

(6)
رؤ 11: 4

(7)
تك 3: 5

(8)
تك 28: 1

(9)
أش 2: 59

(10)
تك 24: 3

(11)
تك 8: 3

(12)
تك 9: 4،13

(13)
تك 13: 6

(14)
أر 24: 23

(15)
أش 6: 44

(16)
رؤ 4: 1

(17)
رؤ 8: 1

(18)
يو 18: 1

(19)
1تى 17: 6

(20)
1تى 16: 6

(21)
أى 23: 37

(22)
أش 28: 40

(23)
رو 33: 11

(24)
جا 5: 11

(25)
أع 27: 17،28

(26)
رو 20: 1

(27)
مز 1: 19

(28)
أع 17: 14

(29)
رو 25: 1

(30)
يو 1: 3

(31)
أر 3: 31

(32)
أم 31: 8

(33)
رو 25: 1

(34)
يو 18: 1

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى