علم

الروح القدس[1]



الروح القدس[1]

الروح
القدس[1]

للقديس
أثناسيوس الرسولي

كان
من الطبيعي أني تحدثت أولاً وكتبت عن ابن الله، حتى أنه من معرفتنا عن الابن، يمكن
أن تكون لنا معرفة حقيقية عن الروح، لأننا سنجد أن خصوصية الروح نحو الابن، هي مثل
خصوصية الابن نحو الآب. وكما يقول الابن ” كل ما للآب هو لي” (يو16: 15)،
هكذا فإننا سنجد أن كل هذه الأشياء، هي في الروح أيضًا بواسطة الابن. وكما أعلن
الآب عن الابن قائلاً ” هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت3: 17)،
هكذا الروح هو للابن لأن الرسول يقول: ” أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم
صارخًا يا أبا الآب” (غل4: 6) والأمر الجدير بالملاحظة هو ما قاله الابن: ”
ما لي فهو للآب” (يو17: 10). هكذا الروح القدس الذي قيل إنه للابن، فهو للآب
لأن الابن نفسه يقول: ” ومتى جاء المعزي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق
الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي” (يو15: 26). وبولس يكتب أيضًا ”
ليس أحد من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضًا أمور
الله لا يعرفها أحد إلا روح الله، ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله
لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله” (1كو2: 11، 12). وفي كل الكتاب الإلهي،
سوف نجد أن الروح القدس الذي يقال عنه أنه للابن يقال عنه أيضًا أنه لله. وهذا ما
كتبناه في الرسائل السابقة.

 

لذلك،
إن كان الابن بسبب خصوصيته مع الآب، وبسبب أنه المولود الذاتي لجوهر الآب فهو ليس
مخلوقًا بل من نفس جوهر الآب. وبالمثل فإن الروح القدس لا يمكن أن يكون مخلوقًا بل
أن من يقول هذا فهو كافر، وذلك بسبب خصوصيته مع الابن الذي بواسطته، يعطي لجميع
البشر، ولأن كل ما له فهو للابن.

 

هذه
الأسباب كافية لأن تقنع كل محب للمشاكسة، بألاّ يستمر في القول بأن روح الله مخلوق،
وهو الذي في الله، والذي يفحص أعماق الله، والذي يُعطَي من الآب بواسطة الابن،
وحتى لا يضطر نتيجة لهذا أن يدعو الابن أيضًا مخلوقًا الذي هو الكلمة، والحكمة،
والرسم، والشعاع، والذي من يراه يرى الآب. وحتى لا يسمع أخيرًا ” كل من ينكر
الابن ليس له الآب أيضًا” (1يو2: 23). لأن مثل هذا الإنسان سيصل بعد قليل إلى
القول مع الجاهل ” ليس إله” (مز14: 1).

 

ورغم
ذلك فلكي يكون برهاننا ضد عديمي التقوى أكثر قبولاً، يكون حسنًا أن نضع في
اعتبارنا تلك الأسباب التي تبين أن الابن ليس مخلوقًا، ومنها يتبيّن أيضًا أن
الروح ليس مخلوقًا. فالمخلوقات مخلوقة من العدم ولها بداية وجود، لأنه ” في
البدء خلق الله السموات والأرض” (تك1: 1)، وكل ما فيها. وأما الروح القدس فهو
من الله، ويُقال عنه إنه “من الله” كما قال الرسول. ولكن إن كان الابن
ليس من العدم بل من الله فمن الطبيعي ألاّ يكون مخلوقًا، وبالضرورة يكون الروح غير
مخلوق، لأننا قد اعترفنا أنه من الله. فالمخلوقات هي التي من العدم.

 

وأيضًا
فالروح يدعى وهو كذلك مسحة وختم. إذ يكتب يوحنا ” وأما أنتم فالمسحة التي
أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما تعلمكم مسحته،
روحه، عن كل شئ” (1يو2: 27). وقد كتب في إشعياء ” روح الرب علىَّ لأنه
مسحنى” (إش61: 1). وأيضًا بولس يكتب ” الذي فيه أيضًا إذ آمنتم
ختمتم” (أف1: 13). وأيضًا ” لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم
ليوم الفداء” (أف4: 30). فالمخلوقات تُمسح وتُختم فيه. ولكن إن كانت
المخلوقات تُمسح وتُختم فيه فلا يكون الروح مخلوقًا، لأن الذي يَمسح ليس مثل الذين
يُمسَحون. ولأن المِسحة أيضًا هي مِسحة الابن، حتى أن الذي عنده الروح يقول ”
نحن رائحة المسيح الزكية”.

 

والختم
يعطى بصمة الابن، حتى أن المختوم يكون صورة الابن إذ يقول الرسول ” يا أولادي
الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا4: 19). فإذا كان الروح
هو رائحة الابن الزكية وصورته، فمن الواضح أن الروح لا يمكن أن يكون مخلوقًا.
وكذلك، حيث إن الابن هو صورة الآب، فهو ليس مخلوقًا، وأيضًا لأنه كما أن من يرى
الابن يرى الآب، هكذا فمن له الروح القدس، له الابن، وإذ يكون له، فهو هيكل الله،
إذ أن بولس يكتب ” أما تعلمون أنكم هيكل وأن روح الله يسكن فيكم” (1كو3:
16). ويقول يوحنا ” بهذا نعرف أننا نثبت في الله وهو فينا، لأنه قد أعطانا من
روحه” (1يو4: 13). وإذا كان الابن في الآب، والآب فيه، ولذلك اعترف أنه ليس
مخلوقًا، وإذن فمهما كان الأمر، يستحيل أن يكون الروح القدس مخلوقًا، لأن الابن
فيه وهو في الابن، ولذلك فمن يقبل الروح يدعى هيكلاً لله.

 

وأيضًا
فمن المستحسن أن ننظر معًا إلى الأمر في ضوء ما يأتي: إذا كان الابن هو كلمة الله
فهو واحد كما أن الآب واحد، لأنه ” يوجد إله واحد الذي منه جميع الأشياء…
ورب واحد يسوع المسيح” (1كو8: 6). لذلك يُقال ويُكتب عنه إنه “الابن
الوحيد”، وأما المخلوقات فهي كثيرة ومتنوعة: ملائكة، رؤساء ملائكة، شاروبيم،
رئاسات، سلاطين، وغير ذلك كما سبق أن قلنا. وإذا كان الابن ليس من بين الكثيرين
ولكنه واحد، كما أن الآب واحد وهو ليس مخلوقًا فبالضرورة لأنه ينبغي أن نأخذ من
الابن معرفتنا عن الروح لا يمكن أن يكون الروح مخلوقًا، لأنه ليس من بين الكثيرين،
بل هو نفسه واحد.

 

4
وهذا ما يعرفه الرسول إذ يقول: ” هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسمًا
لكل واحد بمفرده كما يشاء”(1كو12: 11). وبعد قليل أضاف: ” لأننا جميعًا
بروح واحد أيضًا اعتمدنا إلى داخل جسد واحد… وجميعنا سقينا روحًا واحدًا”
(1كو12: 13). وأيضًا، لأنه إن كان يجب أن نأخذ معرفتنا عن الروح من الابن، وإذن
فمن الواجب أن نقدّم براهينًا مستمدة منه، فالابن يوجد في كل مكان لأنه كائن في الآب،
والآب فيه، وهو يضبط كل الأشياء ويحفظها وقد كتب ” فيه يقوم الكل” سواء
ما يرى وما لا يرى، ” وهو قبل كل شئ” (كو1: 17). ولكن المخلوقات توجد في
الأماكن المخصصة لها: الشمس والقمر والأنوار الأخرى في الجلد، والملائكة في السماء
والناس على الأرض. ولكن إذا كان الابن ليس في أماكن مخصصة له، بل هو كائن في الآب
ويوجد في كل مكان، وأيضًا هو خارج كل الأشياء، فهو ليس مخلوقًا، ويتبع ذلك أن
الروح أيضًا لا يمكن أن يكون مخلوقًا لأنه ليس في أماكن مخصصة له، بل هو يملأ كل
الأشياء ويوجد خارج الكل لأنه هكذا قد كُتِب ” روح الرب ملأ المسكونة”
(حكمة1: 7)، ويرتل داود: ” إلى أين أذهب من روحك” (مز138: 7)، كما أنه
ليس كائنًا في أى مكان من الأمكنة، بل هو خارج كل الأشياء، وهو في الابن كما أن
الابن هو في الآب. لذلك فهو ليس مخلوقًا كما قد تبيّن.

 

وبالإضافة
إلى كل ما سبق، فإن الاعتبارات التالية سوف تثبت إدانة البدعة الآريوسية. ومرة
أخرى فإنه من الابن سيتضح ما نعرفه عن الروح. فالابن هو خالق مثل الآب لأنه يقول: ”
الأشياء التي أرى الآب يعملها، هذه أعملها أنا أيضًا” (انظر يو5: 19).
وبالتأكيد ” كل شئ به صار، وبدونه لم يكن شئ مما صار” (يو1: 3). ولكن إن
كان الابن مثل الآب خالقًا، فهو ليس مخلوقًا. وإذا كانت كل الأشياء به خُلِقت، فهو
ليس من بين الأشياء المخلوقة، وعلى ذلك يتبيّن، أن الروح ليس مخلوقًا، لأنه قد كتب
عنه في المزمور المئة والثالث: ” تنزع روحها فتموت وتعود إلى التراب. ترسل
روحك فتخلق[2]، وأنت تجدد وجه الأرض” (مز103: 29و30).

=======

[1]
القديس أثناسيوس الرسولي، الرسائل عن الروح القدس إلى الأسقف سرابيون، ترجمها
وأعّد المقدمة والملاحظات د. موريس تاوضروس، ود. نصحي عبد الشهيد، المركز
الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، طبعة ثانية منقحة نوفمبر 2005، ص109113.

[2]
أي تُخلق المخلوقات.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى