علم

الرسالة إلى ديوجينيتوس



الرسالة إلى ديوجينيتوس

الرسالة
إلى ديوجينيتوس

لا توجد أية
معلومات عن الراسل او عن المُرسل إليه

 

مقدمة

هذه
الرسالة هى دفاع عن المسيحية، فى صورة خطاب موجه الى شخصية وثنية ذات مركز اجتماعى
رفيع هو “ديوجينيتوس”.

و
قد تعددت الاراء من جهة شخصية مؤلف الدفاع فالبعض نسبوا هذا الدفاع الى القديس
هيبوليتوس الرومانى فى بداية القرن الثالث. وهناك رأى اخر ان الذى كتبه هو القديس
كوادراتوس
Quadratous تلميذ الرسل الذى ذكره كل من يوسابيوس وايرونيموس (جيروم) وفوتيوس،
والذى كتب دفاعا عن المسيحية ولكنه فُقد. وما تحويه الرسالة الى ديوجينيتوس من
انتقاد للوثنية واليهودية يتفق مع ما هو معروف فى التقليد عن كوادراتوس تلميذ
الرسل انه يهاجم الوثنية واليهودية كليهما. وفى هذه الحالة يكون وقت كتابة هذه
الرسالة هو نهاية القرن الاول.

 

المخطوط
اليونانى الذى يحوى هذه الرسالة يرجع الى القرن الثالث عشر، وكان محفوظا فى مكتبة
ستراسبورج، وهذا المخطوط يضع هذه الرسالة ضمن كتابات القديس يوستينوس الشهيد. ولكن
للأسف فأن هذا المخطوط احترق فى سنة 1870 م اثناء الحرب الفرنسية – الروسية. وكل
المطبوعات التى نُشرت للرسالة تعتمد على هذه المخطوطة فى نسبتها الى يوستينوس، وفى
هذه الحالة يرجع تاريخ كتابتها الى حوالى منتصف القرن الثانى.

 

وكما
هو واضح من مقدمة الرسالة نفسها (ف 1) فأن الدافع لكتابتها هو ان ديوجينيتوس طلب
الى صديقه المسيحى المجهول الاسم ان يزوده بمعلومات وافية عن ديانته اى عن
المسيحية، فأرسل اليه هذه الرسالة بناءً على طلبه.

 

وفى
الفصول من 2 – 4 يشرح المؤلف بعبارات براقة سمو المسيحية فوق عبادة الوثنيين
الحمقاء، وفوق العادات الشكلية الخارجية لعبادة اليهود. واروع جزأ فى الرسالة هو
الفصلان 5 – 6 واللذان يعرض فيهما حياة المسيحيين التى تفوق الطبيعة. وفى نهاية
الرسالة يحث الكاتب ديوجينيتوس ان يقبل الايمان بالمسيح. ويقول البروفيسور كواستن
استاذ علم الباترولوجى، عن هذه الرسالة، انها تستحق ان توضع فى صف اروع واجمل
الكتابات التى وصلتنا من الادب المسيحى باللغة اليونانية ويقول ان الكاتب هو احد
معلمى الخطابة، وتركيب عباراته جذاب للغاية ومتوازن تماماً، اسلوبه شفاف وواضح
جداً. ومحتوى هذه الرسالة يكشف عن ان كاتبها انسان ذو ايمان حى مشتعل، وذو معرفة
واسعة، وعقله مشبع تماما بمبادىء المسيحية، كما ان تعبيرات الرسالة تتألق ناراً وحيوية.

 

الفصل الاول: سبب كتابة الرسالة

انى
ارى يا ديوجينيتوس انك تبذل جهدا عظيما لأستقصاء اخبار دين المسيحيين وانك تستخبر
عنهم بدقة وعناية. من هو الاله الى يتكلمون عنه؟ وما هو نوع العبادة التى تجعلهم
يحتقرون المادة ويهزءون بالموت ولا يعترفون بألهة اليونانيين ولا يمارسون خرافات
اليهود؟ وما سر المحبة المتبادلة بينهم؟ ولماذا انتشر هذا الدم الجديد او الروح فى
العالم اليوم لا قبل ذلك؟

انا
من صميم قلبى ارحب بذلك المطلب منك واتضرع الى الله الذى يمكننا نحن الاثنين من
السمع والكلام، ان يهبنى ان اتكلم فى كل هذه الامور وفوق كل شىء انك عندما تسمع
سوف تنال بنيانا، وانت ايضا تسمع منى انا الذى اتكلم، انه لا يوجد سبب يجعلنى
اتأسف اننى تكلمت.

 

الفصل الثانى: بطلان الاصنام

تعالى
اذن بعد ان تنقى نفسك من كل تحيز يسيطر على فكرك، واترك جانبا كل ما تعودت عليه
كشىء يمكن ان يخدعك. واذا تصير انسانا جديدا من البداية طبقا لأعترافك بأنك ستكون
مستمتعا لنظام العقيدة الجديدة (المسيحية).

تعال
وتأمل، ليس بعينيك فقط بل بفهمك ايضا، ما هو جوهر وما هو شكل اولئك الذين
تعتبرونهم انتم ألهة. أليس واحد منها حجرا مشابها للحجر الذى ندوسه بالاقدام؟ أليس
الثانى نحاس، ولا يزيد بأى حال عن الاوعية التى تُصنع للأستعمالات العادية الدارجة؟
ألأيس الثالث خشبة تتعفن بسهولة؟ أليس الرابع فضة، التى تحتاج حراسة من الانسان
لئلا تُسرق؟ أليس الخامس حديد، الذى يتاّكل بالصدأ؟ أليس السادس فخار، ليس له قيمة
أعلى مما يُصنع لأحقر الاغراض؟ أليست كل هذه الاشياء من مادة قابلة للفساد والتحلل؟
ألم يُصنعوا بالحديد والنار؟ ألم يشكل صانع التماثيل واحدا منها؟ وصانع النحاس
ألها اخرا، وصانع الفضة صنع ثالثهم؟ والخزاف رابعهم؟ أليس كل واحد من هذه التماثيل
التى تم عملها عن طريق الصُناع المختلفين لتأخذ شكل الاّلهة، كان من الممكن
تغييره؟ ألم يكن من الممكن لهذه الاشياء التى هى الان بشكل اوانى ومصنوعة من نفس
المواد ان تتحول بيد صانع ماهر الى تماثيل؟ أليست هذه التماثيل التى تُعبد منك
الان، يعاد صنعها على ايدى صانعى الاوانى مثل الاخرى؟ أليسوا كلهم صُم؟ أليسوا
كلهم عميان؟ أليسوا بلا حياة؟ أليسوا خاليين من الاحساس؟ أليسوا عاجزين عن الحركة؟
أليست مُعرضة ان يفسدها السوس؟ أليست كلها قابلة للفساد؟ هذه الاشياء التى تدعونها
اّلهة، وتخدمونها وتعبدونها، أنتم تصيرون مثلها. لذلك انتم تكرهون المسيحيين لأنهم
لم يعتبروا هذه الاشياء اّلهة. ولكن ألستم انت انفسكم الذين تفكرون الان وتفترشون
انها ألهة، تستخفون بها اكثر مما يفعل المسيحيون؟ ألستم تهزؤون وتسخرون بها حينما
تعبدون اشياء مصنوعة من الحجر والخزف، بدون تعيين اى شخص لحراستها، اما الاشياء
المصنوعة من الذهب او الفضة فتغلقون عليها ليلا، وتعينون حراسا بالنهار لحراستها،
خشية ان تُسرق؟ وايضا ألستم بهذه الهدايا التى تقدمونها لها تعاقبونها بدلا من ان
تكرمونها لو كان عندها اى احساس؟ ولكن من ناحية اخرى لو انها كانت خالية من اى
تمييز فأنتم توبخونها على هذا الامر بينما انتم تعبدونها بالدم ودخان الذبائح؟ دع
اى واحد منكم يعانى هذه الاهانات! دع اى واحد ان يحتمل ان تحدث له هذه الاشياء!،
لا يوجد اى انسان يحتمل هذه المعاملة الا اذا اُجبر على ذلك، حيث ان عنده تمييز وعقل.

اما
الحجر فهو يحتمل هذه المعاملة لأنه بلا احساس. بالتأكيد انت بتصرفك هذا (اى برش
الدم عليه) تظهر ان ألهك لا يملك اى تمييز. والحقيقة ان المسيحيين لم يعتادوا ان
يخدموا هذه الاّلهة. ومن السهل علىٌ ان اجد اشياء كثيرة لأقولها بهذا الخصوص. ولكن
ان كان ما قلته لا يبدو لأى احد انه كاف، فأظن انه امر عديم الجدوى ان اقول اى شىء
اخر.

 

الفصل الثالث: خرافات اليهود

وبعد
ذلك، انا اتخيل انك مشتاق جدا ان تسمع عن هذه النقطة، وهى ان المسيحيين لا يلتزمون
بنفس اشكال العبادة التى يمارسها اليهود. فاذا كان اليهود قد امتنعوا عن انواع
التقدمات الوثنية (التى شرحتها سابقا)، واعتبروا انه من الافضل ان يعبدوا ألها
واحدا هو رب الكل، فهذا صواب. ولكن اذا عبدوا الأله الواحد بنفس الطريقة الوثنية
فأنهم يخطئون خطأ عظيما. فعندما يقدم الوثنيون عطاياهم لهذه التماثيل الخالية من
التمييز والسمع، فأنما يقدمون مثالا للحماقة، ولكنهم من ناحية اخرى بتفكيرهم فى
تقديم هذه العطايا لله كأنه محتاج أليها، فهذا يُعتبر حماقة وليس عبادة الهية، لأن
الذى خلق السماء والارض وكل ما فيها، والذى يعطينا كل شىء نحتاج أليه، هو بالتأكيد
لا يحتاج اى شىء من هذه الاشياء التى يمنحها للذين يظنون انهم يوفرون له هذه
الاشياء.

 

و
لكن الذين يتخيلون انه برش الدم ورفع بخور التضحيات ز المحرقات يقدمون ذبائح
مقبولة لدى الله، وانهم بمثل هذا الاكرام يظهرون له الاحترام، هؤلاء بأفتراضهم
انهم قادرون ان يعطوا اى شىء لمن هو غير محتاج لشىء، ارى انهم لا يختلفون بأى حال
عن الذين يمنحون الاكرام للأشياء التى لا تحس، ولذلك فهى غير قادرة ان تتمتع بهذه
الكرامات.

 

الفصل الرابع: الاحتراسات الاخرى عند اليهود

اما
من جهة وسوستهم بخصوص اللحوم، وخرافاتهم من جهة السبوت، وتباهيهم بالختان، وخيالاتهم
بخصوص الصوم واوائل الشهور، والتى كلها مدعاة للسخرية وغير جديرة بالاهتمام، فانا
لا اظن انك تحتاج ان تتعلم منى اى شىء عنها.

لأن
قبول بعض الاشياء التى خلقها الله ليستخدمها بحسب ما خُلقت له، ورفض البعض الاخر
على انه غير نافع وزائد عن الحاجة، كيف يمكن ان يكون هذا امراً مشروعاً؟ والادعاء
عن الله كأنه هو الذى نهانا عن عمل الخير فى السبوت، كيف لا يكون هذا امراً ضد
التقوى؟

و
ان يتباهى الانسان بختان الجسد على انه برهان على الاختيار وانهم بسببه يتمتعون
بمحبة خاصة عند الله، كيف لا يكون هذا مادة للسخرية؟ وملاحظتهم للقمر والنجوم وتوزيعاتهم
لحساب الايام والشهور، وفهم مواعيد الله طبقا لمداراتهم، واعتبارهم تغيير فصول
السنة بعضها للأعياد او للفرح وبعضها للحداد والحزن فكيف يُعتبر كل هذا جزأ من
العبادة وليس بالاحرى مظهراً من مظاهر الحماقة!

اظن
الان، انك مقتنع تماما بأن المسيحية لها رأى سديد فى امتناعها عن خرافات اليهود والوثنيين
واخطائهم. فاذا ابتعدت عن الروح الفضولية وغرور التباهى الذى لليهود فيجب ايضا الا
تتوقع ان تتعلم عن سر عبادتهم الشكلية لله من اى انسان.

 

الفصل الخامس: سمو حياة المسيحيين

ان
المسيحيين لا يختلفون عن سواهم من ابناء البشر فى الوطن او اللغة والعادات. والواقع
هو انهم لا يقطنون مدناً خاصة بهم وحدهم، ولا يتكلمون لغة خاصة بهم، ولا يعيشون
عيشة غريبة شاذة، وان عقيدتهم ليست من مكتشفات اشخاص فضوليين خياليين متكبرين. ولا
يؤيدون كغيرهم عقيدة من صنع البشر. ومع انهم يسكنون فى مدن يونانية وغير يونانية
حسب نصيب كل منهم، ويسلكون بموجب عادات البلد الذى يحلون فيه من جهو الزى والطعام
واساليب المعيشة الاخرى، فأن اسلوب معيشتهم يستوجب الاعجاب والاقرار بأنه غير
مُتوقع. تراهم يسكنون البلدان ولكنهم غرباء. هم يشتركون فى كل شىء كمواطنين ولكنهم
يحتملون كل ما يحتمله الغرباء. كل بلد اجنبى وطن لهم وكل وطن لهم بلد غريب،
يتزاوجون كغيرهم ويتوالدون، ولكنهم لا يهملون اولادهم ولا يعرضونهم للموت. يفرشون
طعامهم للجميع ولكنهم لا يفرشون فراشهم. هم موجودون فى الجسد ولكنهم لا يعيشون
للجسد. يقضون ايامهم على الارض ولكنهم مرتبطون بوطن سماوى. يطيعون القوانين
المرعية لكنهم يتقيدون بأكثر منها فى حياتهم الخصوصية. يحبون جميع الناس ولكن
الجميع يضطهدونهم. تراهم مجهولين ولكنهم مُدانون. يُماتون ولكنهم يُعادون الى
الحياة. فقراء ولكنهم يغنون كثيرين. معتازين لكل شىء ولكنهم ينعمون بكل شىء.
يُفترى عليهم ولكنهم يُبررون، يشتمون ولكنهم يباركون. يُهانون ولكنهم يكرمون
الاخرين. يعملون الخير فيجازون كأشرار، حينما يُعاقبون (بالموت) يفرحون كأنهم
يُقامون الى الجياة. يحاربهم اليهود كأنهم اجانب، ويضطهدهم اليونانيون. ومع ذلك
فالذين يكرهونهم يعجزون عن ذكر سبب كراهيتهم لهم.

 

الفصل السادس: المسيحيون هم روح العالم

و
بالاختصار فأن المسيحيين للعالم كالروح للجسد. الروح تمتد الى جميع اعضاء الجسد والمسيحييون
ينتشرون فى جميع مدن العالم. وكما ان الروح تسكن فى الجسد وهى ليست منه، فهكذا
المسيحيون فأنهم يسكنون فى العالم ولكنهم ليسوا منه. وكما ان الروح الغير منظورة
تُحبس فى الجسد المنظور فهكذا المسيحيون فأنهم يعرفون مسيحيين على فى العالم ولكن
تقواهم تظبل غير منظورة. ومع ان النفس لا تسىء الى الجسم فأن الجسم يكرهها ويخاربها
لأنه تعيقه عن الانغماس فى الملذات. والمسيحيون كذلك لا يسيئون الى العالم ولكن
العالم يكرههم لأنهم يقاومون ملذاته. والنفس تحب الجسد الذى يكرهها كما ان
المسيحيين يحبون الذين يكرهونهم، وكما ان النفس تُحبس فى الجسد ولكنها تحفظه، فأن
المسيحيين ايضا يُحبسون فى العالم ولكنهم هم الذين يحفظون العالم. وكما ان النفس
الخالدة تسكن فى خيمة فانية، فأن المسيحيين ايضا يعيشون غرباء بين الاشياء الفانية
منتظرين الخلود فى السماء. وكما ان النفس تكون فى حال افضل بتقنين المأكل والمشرب
فأن المسيحيين يتزايدون رغم انهم يُعاقبون. هذا هو الوضع الذى وكلهم الله به ولا
يجوز لهم ان يتخلوا عنه.

 

الفصل السابع: ظهور المسيح

المسيحية،
كما قلت، ليست مجرد بدعة ارضية انتت اليهم، او مجرد رأى انسانى حافظوا عليه جيداً،
وليس مجرد ناموس ائتمنوا عليه، بل هو الله بذاته، القادر على كل شىء وخالق جميع
الاشياء وغير المرئى اُرسل من السماء، وعاش بين البشر، هو الحق. والقدوس كلمة الله
غير المُدرك والقائم بثبات فى قلوبهم. هو لم يرسب كما يتخيل احد، اى خادم او ملاك
او حاكم او اى شىء يدب على الارض. ولا عهد بذلك لمن يحكمون الاشياء فى السماء، بل
ارسل جابل وصانع كل الاشياء الذى به صنع السماوات، وبه جعل حداً للبحر، الذى تخضع
له النجوم بحق، ومنه تستمد الشمس قوتها لتطيعه، وهو الذى يطيعه القمر ويضىء فى
الليل، وتطيعه النجوم ايضا فى مداراتها، بل زُينت كل الاشياء ووُضعت فى حدودها، هو
الذى تخضع له السماوات وكل ما فيها والارض وكل ما عليها، والبحر وكل ما فيه، هو
الذى يحكم النار والهواء والهاوية، وكل شىء فى الاعالى، وكل شىء تحت الارض، وكل
شىء بينهما. هذا (الكلمة) ارسله اليهم ليس لكى يتسلط عليهم ولا لكى يرعبهم، بل
ليظهر رحمته ووداعته. فكما يرسل الملك ابنه، الذى هو ملك ايضاً، هكذا ارسل الله
أبنه كأله، ارسله كمخلص للبشر ليفتش عنا لكى يقنعنا وليس ليقهرنا لأن العنف والاكراه
ليس من طبع الله. ارسله ليدعونا، وليس كمنتقم يعاقبنا، ارسله لمحبته لنا، وليس
ليحاكمنا. ومع ذلك فهو سيأتى (فيما بعد) لكى يديننا، ومن يحتمل ظهوره؟.

الا
ترى كيف تعرض هؤلاء لهجوم الوحوش المفترسة لكى يجعلوهم ينكرون الرب، لكنهم لم
ينهزموا؟ الا ترى كيف انهم كلما عُذب البعض منهم فأنهم يزدادون فى العدد؟ وهذا
يبين ان هذا العمل ليس هو عمل انسان بل هو قوة الله، هذه هى البراهين على ظهوره.

 

الفصل الثامن: سوء الحالة البشرية قبل مجىء الكلمة

من
من الناس يملك القدرة على ادراك الله قبل مجيئه؟ هل سلمت بغرور وسخافة افكار الذين
يثقون الفلاسفة؟ فمن هؤلاء من قال ان النار هى الله، الذى به خُلقوا واتوا الى
الوجود. والبعض الاخر يقول ان الماء هو الله. واخرون منهم يعتبرون اشياء خلقها
الله انها هى الله. ولكن لو ان اى نظرية من هذه النظريات تستحق الاستحسان،
فبالتبعية لابد ان نقر ان بقية الاشياء المخلوقة هى اّلهة. ولكن هذا الاقرار مرعب
وخاطىء وكلام غش.

 

و
ايضا الله لم يره احد قط ولا عرفه، بل هو الذى اعلن ذاته. لقد اظهر ذاته بالايمان
للذين اُعطى لهم فقط. الله هو رب كل الاشياء وصانعها، وهو الذى وضعها فى اماكنها
المختلفة. وهو اظهر ذاته ليس كمجرد صديق للبشرية فقط بل اظهر ذاته مشتركا فى
معاناتهم. الله كان دائما محباً ويبقى محباً. ويبقى كذلك على الدوام، وهو خال من
اى ميل للأنتقام. هو أله حقيقى، وهو الوحيد الصالح. وله اتحاد عظيم يفوق الادراك
مع ابنه وحده. وكما حفظ سر حكمته مكتوماً لدرجة انه يبدو كأنه يهملنا، وكأنه لا
يعتنى بنا. ولكن بعد ذلك كشف عن الاشياء المُعدة لنا منذ البداية عن طريق ابنه
الحبيب. فقد انعم علينا بكل البركات مرة واحدة، ولذلك يجب علينا نحن ايضا ان
نشاركه فى العطاء ونكون جادين فى خدمته. مَن منا كان يتوقع هذه الاشياء؟ هو الذى
كان يهتم بكل هذه الامور فى عقله، ومن خلال ابنه على اساس العلاقة الازلية بينهما.

 

الفصل التاسع: لماذا اُرسل الابن متأخرا؟

قى
سالف الزمان، ولدنا بدوافع عديدة ولنا شهوات عديدة مبتعدين عن كل الرغبات الصالحة.
وليس معنى هذا ان الله كان مسروراً بخطايانا، او كان يسمح لنا بفرصة لعمل الشر، بل
كان ببساطة يحتملنا. وكان يفتش عن عقل متيقظ وواعى لصلاحه وبره، حتى اذا اقتنعنا
اثناء حياتنا بعدم استحقاقنا لنوال الحياة بأعمالنا الخاصة، عندئذ كان لابد ان
يمنح الله لنا الحياة بسبب شفقته علينا. واذ صار امراً واضحا لنا اننا لا نستطيع
ان ندخل الى ملكوت الله بذواتنا فأننا نصير قادرين بقوة الله ان ندخل الى ملكوته.
ولكن حينما وصل شرنا الى اقصاه واصبح وضاحا اننا مستحقون للعقاب والموت، وحينما
جاء الوقت المعين من الله لأظهار قوته وصلاحه فأن حب الله الفائق جعله لا ينظر
الينا بكراهية، ولا ان يطردنا بعيداً، كما انه لم يذكر شرنا ويقيمه ضدنا، بل اظهر
طول اناة عظيم جداً واحتملنا حتى انه حمل نفسه ثقل خطايانا اذ بذل ابنه الوحيد
كفدية لأجلنا، القدوس من اجل العُصاة، والذى بلا لوم من اجل الاشرار، والبار من
اجل الاّثمة، وغير الفاسد من اجل الفاسدين، وغير المائت من اجل المائتين، فأى شىء
اخر كان يمكن ان يستر خطايانا سوى بره؟ بأى شخص اخر كان يمكن تبريرنا نحن الاشرار
وعديمى التقوى الا بخص ابن الله الوحيد؟ ما اجمل هذه المبادلة! ما هذا الفعل الذى
يفوق الفحص، يا للبركات التى تفوق التوقعات! ان شر الكثيريين يوضع على بار واحد، وبر
واحد يبرر عُصاة كثيريين!

لذلك
اذ قد اقتنعنا فى الزمان السابق على مجىء المخلص ان طبيعتنا كانت عاجزة عن البلوغ
الى الحياة، والان اذ قد اعلن المخلص القادر ان ينقذ اولئك الذين كان من غير
الممكن انقاذهم فيما سبق. بهاتين الحقيقتين اراد هو ان يقودنا لكى نثق فى لطفه وصلاحه
ولكى نعتبره مصدر حياتنا وابانا ومعلمنا ومرشدنا وشافينا وحكمتنا ونورنا ومجدنا وكرامتنا
وقوتنا وحياتنا، حتى اننا لا نقلق او نهتم من جهة الملبس والمأكل.

 

الفصل العاشر: بركات الايمان

اذا
كنت ترغب ان تقتنى هذا الايمان فيجب ان تحصل اولا على معرفة الاّب، لأن الله قد
احب البشر، الذين من اجلهم خلق العالم، واخضع كل شىء فيه لهم، وقد اعطاهم العقل والادراك،
واعطى للأنسان وحده امتياز ان ينظر الله. وهو الذى خلق الانسان على صورته، ومن اجل
الانسان ارسل ابنه الوحيد، واعطاه وعد ملكوت السماوات التى سوف يعطيها للذين احبوه.
وعندما تدرك هذه المعرفة فأنك سوف تشعر بسعادة عظيمة جداً، وتمتلىء بفرح فائق، وهكذا
فأنك ستحب من احبك اولاً. واذا احببته فانك سوف تقتدى بصلاحه، ولا تدهش من كون ان
الانسان يمكن ان يتشبه بالله. هو يستطيع ذلك اذا اراد. ولذلك فهذا الانسان لا
يتسلط على جيرانه ولا يسعى للأرتفاع فوق الضعفاء، ولا يسعى ان يكون غنيا، ولا يكون
غنياً، وهو لا يكون عنيفاً تجاه من هم اقل منه. فمثل هذه الامور لا توفر السعادة
ولا يستطيع الانسان بمثل هذه الامور ان يكون متشبهاً بالله، فهذه الامور لا تشكل
عظمة الله. بل بالعكس فأن الانسان الذى يحمل اثقال جيرانه ومهما كان اعلى من غيره
يكون مستعداً ان يتنازل للاّخرين الذين هم اقل منه، وكل شىء يناله من الله يوزعه
على المحتاجين. بهذه الامور يصبح هذا الانسان الهاً بالنسبة للذين يساعدهم، وبذلك
يكون متشبها بالله.

وعندئذ
سترى وانت لا تزال على الارض ان الله الذى فى السماء يحكم الكون كله، وعندئذ سوف
تبدأ بأن تتكلم عن اسرار الله، عندئذ سنجد نفسك تحب الذين يعانون الاّلام والضيقات
بسبب عدم انكارهم لله وسوف تُعجب بهم، وسوف تستنكر الغش والضلال الذى فى العالم
حينما تعرف ما معنى ان تعيش حقا فى السماء. وسوف تحتقر ما يُعتبر هنا انه موت، وذلك
حينما تتعلم ان تخاف من الموت الحقيقى المحفوظ لأولئك الذين يُوضعون فيها الى
الابد. وسوف تُعجب بأولئك الذين يحتملون النار للحظة من اجل البر، وسوف تحسبهم
سعداء حينما تعرف طبيعة تلك النار.

 

الفصل الحادى عشر: هذه الاشياء جديرة بالمعرفة والتصديق

انا
لا اتكلم عن امور غريبة عنى، ولا اهدف لأى شىء يتعارض مع التفكير السليم. بل
كتلميذ للرسل اصير معلماً للوثنيين، انا انقل الاشياء التى استلمتها لكى اوصلها
للتلاميذ الجديرين بالحق. لأن من يتعلم تعليماً صحيحاً ويُولد من الكلمة المُحب،
فأنه لن يسعى ان يفحص بتدقيق فى الامور التى اظهرها الكلمة لتلاميذه بوضوح، هؤلاء
(التلاميذ) الذين عرفوا الكلمة الذى ظهر لهم، فأنه كشف لهم بوضوح معرفة اسرار
الاّب، هذه التى لا يمكن ان يفهمها غير المؤمنين بل التلاميذ الذين حسبهم امناء
على اسراره. لذلك ارسل الله الكلمة لكى يظهر للعالم، هذا الذى اختقره اليهود، ولكن
الوثنيين اّمنوا به حينما بشرهم الرسل. هذا الذى كان من البدء، والذى ظهر الاّن
كأنه جديد، مع انه موجود من القدم، ولكنه مازال يولد من جديد فى قلوب القديسين.
هذا الذى هو بلا بداية ولا نهاية، وهو الذى ندعوه اليوم الابن، الذى منه تغتنى
الكنيسة وتمتلىء نعمة وتنتشر بكثرة وتزداد فى عدد القديسين. والنعمة تعطى الفهم، وتكشف
الاسرار، وتعلن الازمنة، مبتهجة بالمؤمنين، معطية للذين يطلبون (الرب). فالرب يحفظ
الايمان بغير انكسار، كما ان الحدود التى وضعها الاباء الاولون لا يتجاوزها احد. وعندئذ
فان مخافة الناموس يُرنم بها، ونعمة الانبياء تُعرف، وايمان الانجيل يتأسس، وتقليد
الرسل يُحفظ، ونعمة الكنيسة ترتفع.

اى
نعمة تكون لك اذا كنت لا تتردد، بل انك ستعرف تلك الاشياء التى يعلمنا اياها
الكلمة بارادته وفى الوقت الذى يستحسنه هو. فكل الاشياء التى ننطق بها بارادة
الكلمة الذى يوصينا، نحن ننقلها أليك بكل مشاعرنا، ومن محبتنا للأشياء التى قد
كُشفت لنا.

 

الفصل الثانى عشر: اهمية المعرفة للحياة الروحية الحقيقية

عندما
تقرأ وتسمع بعناية هذه الامور، سوف تعرف ما الذى اغدق الله به على الذين يحبونه
بحق، اذ جعلهم فردوساً للفرح (مثلكم)، اذ انه انشأ فى داخلكم شجرة تثمر كل انواع
الثمر الجيد وميزنة بالفواكه المتنوعة، وفى هذا الفردوس وضع شجرة المعرفة وشجرة
الحياة، ولكن ليست شجرة المعرفة التى تهلك، فالعصيان هو الذى يؤدى الى الهلاك. والكلمات
المكتوبة ليست عديمة الاهمية، كيف ان الله منذ البداية وضع شجرة الحياة فى وسط
الفردوس، كاشفا لنا من خلال المعرفة، الطريق الى الحياة. وحينما لم يستخدم ابوانا
الاولان (اّدم وحواء) هذه المعرفة بطريقة سليمة، فانهما بغواية الحية تعريا. لأن
الحياة لا يمكن ان توجد بدون معرفة، وكذلك المعرفة لا تكون فى اّمان بدون الحياة.
ولذلك غُرس الاثنان (الشجرتان) بجوار بعضهما. وقد ادرك الرسول قوة هذا الارتباط
بين المعرفة والحياة، ووجه اللوم على المعرفة التى بدون تعليم صحيح وكيف انها تؤثر
على الحياة وذلك بقوله: ” العلم ينفخ لكن المحبة تتأنى ” (1 كو 8: 1).
لهذا فالذى يظن انه يعرف اى شىء بدون معرفة حقيقية اى بدون ان تشهد حياته لكلامه،
فهو لا يعرف شيئا، بل هو مخدوع من الحية وليس محباً للحياة. ولكن الذى يجمع بين
المعرفة والمخافة ويبحث عن الحياة فهو يزرع على الرجاء منتظرا الثمر.

اجعل
قلبك يحكمك، واجعل حياتك تكون معرفة حقيقية تمتلىء بها فى داخلك. فاذ تحمل هذه
الشجرة وتظهر ثمرها بها فى داخلك فأنك سوف تحصل على الاشياء التى يحبها الله، والتى
لا تستطيع ان تصل اليها، ولا الخداع ان يقترب منها، وعندئذ فأن حواء لن تفسد، بل
ستكون موضع ثقة كعذراء، وعندئذ يظهر الخلاص، ويمتلىء الرسل بالمعرفة، وفصح الرب
سيتقدم، وخوارس الخدام والشعب تجتمع معاً، بترتيب لائق، والكلمة يفرح بتعليم
القديسين، الذى به يتمجد الاّب له المجد الى الابد، اّمين.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى