علم الكتاب المقدس

مدخل الى العهد القديم



مدخل الى العهد القديم

مدخل
الى العهد القديم

العهد القديم مجموعة مؤلفات خطيّة كان اليهود يسمونها «الشريعة
والأنبياء والمؤلفات» أو «الكتاب». ولمّا رأى المسيحيون أنَّ كتبهم «الرسولية»
تنصّ على تدابير «عهدٍ جديد» قام بين الله وشعبه، أطلقوا على الكتب السابقة اسم
«العهد القديم».

مرادنا من هذا المدخل أن نقدّم عرضا لعناصر البيئة الجغرافيّة
والتاريخيّة التي نشأ فيها العهد القديم، وأن نبيّن كيف جُمعت أسفاره في مجموعة
واحدة وكيف نُقلت إلينا، وأن نوضّح ماذا تعني لنا نحن المؤمنين في هذه الأيّام.

 

1) أرض الكتاب المقدّس

الهلال الخصيب

الأرض التي أقام فيها إسرائيل، المسمّاة أرض كنعان في الكتاب المقدّس،
والتي يطلق عليها العلماء الجغرافيون القدماء والمعاصرون اسم فلسطين (أي «أرض
الفلسطينيين»)، هي قطاع صغير من وحدة جغرافيّة تسمّى «الهلال الخصيب». ذلك بأنّ
هذه المنطقة تشكّل قوسا يقع مركزه في صحراء سوريا وفي شمال صحراء الجزيرة العربية،
وهي مناطق كان يصعب عبورها في العصور القديمة. أما الهلال الخصيب فهو منطقة ترويها
أنهار على جانب كبير أو قليل من الأهمّيّة: دجلة والفرات والعاصي والليطاني
والأردن. ويحسن بنا أن نضيف إلى هذه المنطقة وادي النيل، فهو شبه امتداد لها، وإن
لم يعدّه العلماء الجغرافيون من «الهلال الخصيب» بحصر المعنى. والجانب الداخلي من
الهلال مكوّن من مناطق شبه صحراويّة هي بمنزلة مرحلة انتقالية إلى الصحراء، بينما
يتكوَّن جانبه الخارجي من مرتفعات جبليّة: أنجاد إيران وأرمينيا وطوروس. وفي هذا
الهلال تظهر سوريا وفلسطين جزؤه الأضيق، فيما تشكّلان، بين البحر المتوسط والصحراء،
ممرّا يقلّ عرضه عن مائة كلم ويربط بين بلاد ما بين النهرين ووادي النيل.

 

احتوت هذه المجموعة من المناطق، منذ أقدم العصور، عددا كبيرا من
السكّان ونَمَتْ فيها مراكز حضاريّة كثيرة وهامّة. والأماكن التي تمّت فيها أضخم
التجمّعات السكّانيّة هي وادي النيل ودلتا النيل والمجاري السفليّة لدجلة والفرات.
وكانت التنقّلات كثيفة بين هذين الطرفين. وكانت الطريق الرئيسيّة تحاذي الفرات
وتجتاز سوريا مارّة بتدمر ودمشق، وتخترق فلسطين مارّة بمجدّو ويافا، وتبلغ مصر
مارّة بغزّة ورفح (رافية). ومن دمشق كان المسافرون يسلكون على طول الصّحراء، طريق
عبر الأردن التي تؤدي إلى الجزيرة العربيّة مرورا بإيلات، وإلى مصر مرورا بشبه
جزيرة سيناء. وكان هناك خط سير تسلكه القوافل خاصّة، وكان يصل مباشرة نهر الفرات
بالمرافئ الفينيقيّة (صور وصيدا وبيبلوس) التي كانت تتّصل بمصر عن طريق البحر.
وعلى تلك الطرق الكبيرة، كانت تنقل البضائع والجيوش وتُنْقَل معها الأفكار.

 

لم يكن الهلال الخصيب عالما مُغلَقا، فقد كان متّصلا مباشرة بجزيرة
العرب، وبأفريقيا مرورا بمصر والنّوبة، وبالهند مرورا بإيران، وبالغرب أيضا (قبرص
وكريت والجزر اليونانيّة وايونيا، وفي وقت لاحق اليونان القاريّة وإيطاليا). لم
ينقطع التبادل التجاري بين الهلال الخصيب وحوض البحر المتوسط، مما أضفى على بلدان
البحر المتوسط والشرق الأدنى بعض الوحدة الثقافيّة.

 

جغرافية فلسطين

كان لفلسطين في هذه المجموعة مكانة هامشيّة، مع أنها كانت داخل ممرّ
تكاثفت فيه التنقّلات. فإنّ قلب البلد كان على مقربة من محاور المواصلات الكبيرة،
لكنّ المنطقة كانت مجزّأة، حتّى إنَّ سكّانها كان محكوماً عليهم بأن يعيشوا في شيء
من العزلة.

 

يمكننا أن نرى فيها بإيجاز أربع قطع مستطيلة منحدرة من الشمال إلى
الجنوب:

– منطقة ساحليّة، أي ساحل البحر المتوسّط: وهو ضيّق جدّا ولا يصلح
كثيرا لإنشاء المرافئ، وتقوم على جانبه تلال تتخلّلها سهول صغيرة.

– سلسلة جبال وًسطى على جانب من الارتفاع في اليهوديّة جنوبا (أكثر
من ألف متر): تنخفض كلّما اقتربت من الشمال، لكنّها تعود فترتفع أخيرا في أقصى
الشمال، قبل أن تمتدّ إلى مرتفعات لبنان. وهناك منخفضات عّرْضيّة تُبرز ثلاث مناطق،
هي اليهوديّة والسّامرة والجليل. وأهمّ هذه المنخفضات سهول يزرعيل يحدّها غرباً
أنف جبل الكرمل.

– منخفض كبير يقع فيه وادي الأردن وبحر الجليل (بحيرة طبريا) والبحر
الميت: وهذا المنخفض يتّصل جنوبا بوادي عَرَبة المؤدّي إلى خليج العقبة، وهو
امتداد لتصدّعات البحيرات الأفريقيّة العظمى ويُعَدُّ أعمق حفرة قارّيّة على وجه
الأرض، فالبحر الميت هو على انخفاض 390 مترا تحت مستوى البحر المتوسّط.

– هضبة عبر الأردن التي يطلّ طرفها الغربي على المنخفض الأوسط، قسمها
الجنوبي الغربي تمرّ به خوانق روافد الأردن والبحر الميّت (أرنون ويبّوق). وهو
أقلّ انحدارا، فإنّه عبارة عن سلسلة جبال أقلّ ارتفاعا من السلسلة الوسطى،وتمتدّ
إلى حرمون ولبنان الشرقي.

ظروف المعيشة في فلسطين

للمناخ في فلسطين بعض الميزات المشتركة، وإن اختلف باختلاف المناطق: أيامٌ
مشمسة جدا وأمطار مقسّمة على أيّام قليلة وفصل جاف من أيّار (مايو) إلى تشرين
الأول (أكتوبر) وعدم انتظام ملحوظ في الأمطار (قد تتراوح بين كميّة وضعفها من سنة
إلى سنة).

 

ينخفض معدّل الأمطار بسرعة إن انتقلنا إلى الشرق أو نزلنا إلى الجنوب:
فهناك ثلاث مناطق مناخيّة:

– من الشاطئ إلى التلال الوسطى: منطقة تُسقى بمعدّل متوسّط وتصلح
فيها المزروعات الخاصّة بالبحر المتوسّط، من قمح وشعير وكروم وزيتون وفواكه وبقول.

– في المنحدر الشرقي من سلسلة جبال اليهوديّة وفي النقب: منطقة شبه
صحراويّة تصلح فيها بعض المزروعات الموسميّة وتربية الغنم.

– منطقة صحراوية تصلح فيها بعض المراعي الموسميّة.

وفي المنطقتين الأخيرتين بعض الواحات الخصيبة الصغيرة المساحة.

 

وإن عُدَّت المناطق المرويّة، في بعض الأيّام، «أرضا جميلة»، «أرضا
تدرُّ لبنا حليباً وعسلا»، فإنَّ المعيشة ظلَّت فيها قليلة الاستقرار ولم يكن في
إمكانها أن تغذّي عددا كبيرا من السكّان. ويبدو أنَّ هذا العدد لم يتجاوز المليون
نسمة على عهد الكتاب المقدّس. فأورشليم والسامرة، وهما أكبر المدن، بم يتجاوز عدد
سكّانهما الثلاثين ألفا. ولم تكن سائر المدن قرى محصّنة. وكان باقي السكان يقيمون
في مزارع مجمّعة حول عيون الماء.

 

2) إسرائيل في وسط الأمم

أهمّ مراحل تاريخ إسرائيل

1. يتعذّر علينا حصر أصل إسرائيل، وهذا شأن معظم الشعوب. فقد سبقت
دخول إسرائيل في التاريخ، حوالي السنة 1200 قبل المسيح، حقبة تكوين طويلة (ثمانية
قرون أو تسعة) تكاد تخفى كلّها على المؤرّخين. ومع ذلك فقد حفظ إسرائيل من هذه
الحقبة ذكرى حوادث وشخصيّات بارزة بقيت في التقليد الشفهي في روايات كانت تتناقلها
الألسن من جيل إلى جيل. ومن شأن هذه الروايات أن توفّر للمؤرّخ كثيرا من المعلومات
المفيدة. وبفضل المقارنة بين هذه التقاليد وما هو معروف عن تاريخ الشرق الأدنى
والوثائق التي يقدّمها علم الآثار، يمكن الوصول إلى اطّلاع محدود على هذه الحقبة
الحاسمة.

 

يجب البحث عن أجداد بني إسرائيل بين شبه البدو السّاميين من رعاة
الغنم الذين نراهم يتنقّلون، طوال الألف الثاني قبل المسيح، على حدود شبه صحراء
الهلال الخصيب. وقد انتهى بهم الأمر شيئا فشيئا إلى الاستقرار، لا بل استطاعوا في
بعض الأحيان أن يتحكّموا في منطقة يقيم فيها سكّان آخرون. من شبه البدو أولئك نعرف
مجموعتين معرفة خاصّة، هما الأموريين الذين استقرّوا في ما بين النهرين وسوريا
وفلسطين حوالي السنة 2000 قبل المسيح، والآراميون الذين استقرّوا في سوريا حوالي
القرن الثالث عشر قبل المسيح. وتشير وثائق مصر وما بين النهرين إلى مجموعات أخرى
كثيرة كانت تتسلّل دون انقطاع إلى ما بين النهرين وفلسطين ومصر.

 

في هذه الحقبة المعروفة قليلا، يبرز التقليد الكتابي بعض الشخصيّات
العظيمة، منها إبراهيم واسحق ويعقوب وأجداد أسباط بني إسرائيل. ويتعذّر علينا أن
نقدّر كما يجب تلك المعلومات التي يوفّرها لنا التقليد عن هؤلاء الآباء. فإن بينها
وبين معطيات التاريخ وعلم الآثار، أمكننا أن نفترض أنَّ الآباء استقرّوا في فلسطين
حوالي القرن التاسع عشر والثامن عشر قبل المسيح (الثامن عشر والسادس عشر بحسب
تقديرات أخرى) وكانوا قادمين من ما بين النهرين (قَدِمَ إبراهيم من أور في سومَر،
وقَدِمَ يعقوب من حرّان على الفرات الأوسط). فمؤّلِّفو الكتاب المقدّس أقلّ سعيا
لتحديد وجودهم في تاريخ زمنهم منهم لإظهار دورهم آباءً روحيين تحدّر منهم شعب الله،
فعبدوا الله الحقّ وناجوه ونالوا منه مواعد ثمينة لذريّتهم (تك 15 و17).

 

أقام بعضُ من خَلَفَهم في مصر، برفقة مجموعات ساميّة أخرى. ويستحيل
علينا أن نحدّد تاريخ هذا التوطّن، إذ لا شكّ أنّه جرى ببطء طوال أربعة قرون أو
خمسة. لكن هناك أمرين قد ساعدا على هذا التوطّن، هما سيادة الهكسوس (أو الرعاة)
الذين قدموا من فلسطين وحكموا مصر من العام 1700 إلى 1550 تقريبا، ثم ضعف السلطة
في مصر، وقد تميّز به عهد الفرعون أخناتون (1364-1347).

 

2. جاءت نشأة الشعب تطوّرا معقّدا بدأ على الأرجح السنة 1250 على عهد
الفرعون رعمسيس الثاني. فقد استطاعت بعض المجموعات الساميّة المقيمة في مصر
والخاضعة لتسخيرات شاقّة أن تهرب بقيادة موسى. فجمعها موسى حول جبل سيناء ثمّ حول
واحات قادش، ولقّنها عبادة الرّبّ الذي حرّرها، ونظّمها تنظيما بدائيّا.

 

يولي الكتاب المقدّس (سفر الخروج) هذه الأحداث الأساسيّة أهميّة كبرى
ويعدّها مولد إسرائيل ونقطة انطلاق تاريخه. هناك ثلاثة أمور يُبرزها على وجه خاص،
وهي الانصراف من مصر على أثر سلسلة من الكوارث بدت كعلامات لتدخّل الرب (خروج
7-12) وعبور البحر (خروج 14-15) واللقاء بين إسرائيل والله على جبل سيناء أو على
جبل حوريب (19-24).

 

بعد ذلك دخلت القبائل الهاربة من مصر إلى فلسطين، بعضها من الجنوب
وبعضها من الشرق. وكان هذا الدخول عبارة عن تنقّلات متفرّقة وتسلّلات سلمية إلى
مناطق قليلة السكّان. لكنَّ القادمين اضطرّوا، في بعض الأماكن، إلى محاربة المدن
الكنعانيّة التي كانت تحاول صدّهم. وكانت الانتصارات الإسرائيليّة تُعَدُّ براهين
جديدة على حماية الرب الذي يعطي شعبه الأرض الجميلة التي وعد بها آباءه.

 

ومن رؤساء الأسباط الذين اشتهروا في هذه المعارك، حفظ لنا الكتاب
المقدّس خصوصا اسم يشوع، رئيس سبط أفرائيم، لأنه، على ما يبدو، قام بدور هام في
جميع القبائل التي قدمت من مصر، والتي كانت تقيم في عبر الأردن وفي الجليل. ومن
ذلك الحين، أصبح إسرائيل شعبا قائما، وإن كانت بنيته السياسيّة لا تزال غير ثابتة.

 

ازداد «اتّحاد» القبائل متانة يوما بعد يوما في القرنين الثاني عشر
والحادي عشر، فقد كان عليها أن تواجه عدّة مخاطر: البدو الغزاة وممالك عبر الأردن
والمدن الكنعانيّة. وكان أكبر المخاطر يصدر عن الفلسطينيين الذين نزلوا على الشاطئ
الفلسطيني في مطلع القرن الثاني عشر والذين كانوا في الواقع أخطر منافسي إسرائيل
للاستيلاء على فلسطين. وقد اقتصرت الأسباط مدّة طويلة على تحالفات دفاعيّة محدودة
ومؤقّتة، بقيادة رؤساء مُلهَمين أطلِقَ عليهم اسم «القضاة». لكنّها، أمام اشتداد
خطر هجوم الفلسطينيين، عزمت على تثبيت تماسكها فأقامت على رأسها ملكا، على مثال
الشعوب المجاورة.

 

3. الملكيّة: بعد فشل مملكة شاول، اعترفت جميع الأسباط بداؤود
اليهودي ملكا، قبيل السنة 1000 (2 صم 5). فدحر الفلسطينيين على الشاطئ وأقدَمَ على
سلسلة حروب هجوميّة ضدّ الآراميين، وفرض سيادته على جميع الدول المجاورة حتى شمال
سوريا. وأخذ في الوقت نفسه ينظّم دولته، فأقام عاصمته في أورشليم ونقل إليها تابوت
العهد وهو مركز العبادة المشتركة عند الأسباط.

 

وإلى سليمان ابنه يعود الفضل في إنجاز تنظيم المملكة بإنشاء جهاز
إداري وجيش نظامي كامل العدّة. وقد أنمى تجارة العبور (الترنزيت) فوفّرت للبلد
اغتناء سريعا وحفظت للمملكة الغنيّة مكانة مرموقة بين الأمم. وكثُر عدد الأبنية في
أورشليم وفي كلّ المملكة. وتُعَدُّ ذروة أعماله بناء هيكل أورشليم (1 مل 6-8) الذي
يرى فيه إسرائيل علامة الحضور الإلهي الدائم في وسط شعبه ومركز تجمّع الأسباط
والبرهان القاطع على أنّ شعب الله أصبح شعبا قائما ومقيما على أرضه. غير أنّ نهاية
ملك سليمان فُجِعَت ببعض النكسات الأليمة (1 مل 11).

 

لم يكن رَحْبَعام بن سليمان قادرا على إدارة دولة لم تكن كوحّدة إلا
سطحيّا. وفي السنة 933 تمرّدت أسباط الوسط والشمال على استبداده ثقيل الوطأة
وانفصلت وأقامت دولة مستقلّة، هي مملكة إسرائيل. ولم يبقَ إلى جانب خَلَف داؤود في
مملكة يهوذا إلا سبط يهوذا وقسم من سبط بنيامين. وسيظلّ شعب إسرائيل منقسما إلى
دولتين على شيء من المنافسة مدّة قرنين.

 

كانت مملكة الشمال مكوّنة من أغنى الأراضي وأكثرها سكانا، فعاشت
حقبات باهرة من الزمن، لا سيّما على عهد عُمْري (886-875) مؤسّس السّامرة وعلى عهد
أحاب وياربُعام الثاني. ولكنّها كانت تتأثّر بعدم استقرار الأسرة الملكيّة بشكل
مزمن، فلم تقوَ على مقاومة التوسّع الأشوري، وهزمها هجوم تِجْلَتْ فِلآسَر في
السنة 738، وقُضي على المقاومة الأخيرة في 722-721 بالاستيلاء على السامرة. فنُفي
عدد من السكّان وأمست أرض المملكة إقليما أشوريّا.

 

أمّا مملكة الجنوب فكانت فقيرة يحيط بها جيرانها الأعداء، فلم تقم
بدورٍ هامّ ويبدو أنها تأثّرت جدا بالسياسة المصريّة. غير أنّها نجحت في احتلال
منزلة محترمة بين الأمم على عهد بعض الملوك من أمثال آسا ويوشافاط وحِزقيّا الذي
تلقّى بقايا مملكة الشمال، ويوشيا الذي بفضله حصلت مملكة يهوذا على انتفاضتها
الاستقلاليّة الأخيرة. لكن، بعد زمنٍ دام قرنا ونيّفا، انهارت المملكة الصغيرة هي
أيضا، ودُكَّت أورشليم عن يد البابليين ونبوكد نصّر ونُفي قسم من سكانها (587).

 

بعد أن تشتّت بنو إسرائيل في أنحاء ما بين النهرين أو لجأوا إلى مصر،
غالبا ما اندمجوا في الشعوب التي انتهوا إليها. لكنّ بعض المجموعات يهوديّة الأصل
حافظت على تماسكها واستمرّت في حياتها الدينيّة، وليست المجامع إلا نتيجة النظام
الذي شمل جماعاتهم. وانتهزت هذه المجموعات فرصة الجلاء فتأمّلت بالعمق في حياة
شعبها وقيَّمت تاريخ إسرائيل، وأثمر هذا التأمّل في تأليف بعض أسفار من الكتاب
المقدس.

 

وسبق أن أدلى الأنبياء برأيهم التقييمي في الأحداث عند وقوعها،
وعلّموا إسرائيل أن يروا يد الرب تعمل في جميع الأحداث من أبهى أمجادها إلى أقسى
مآسيها. ففي الكوارث التي حلّت بالمملكتين ابتداء من القرن الثامن، رأوا عقابا على
الخيانات التي ارتكبها الشعب نحو إلهه، من عبادة للآلهة الغريبة وفقدان العدالة
الاجتماعية.ولكنّهم تطلّعوا إلى الصفح عن الشعب غير المؤمن ورسموا بخطوط عريضة
أمنيات مليئة بالرجاء.

 

4. الجماعة اليهودية: في الواقع انقلبت الأوضاع بعد انهيار مملكة
يهوذا بأقل من خمسين سنة، عندما سقطت الإمبراطورية البابلية تحت ضربات الفرس. فصدر
أمر عن قورش في العام 538 يأذن بإعادة بناء هيكل أورشليم، فتجمّع حوله اليهود
العائدون من الجلاء. لم يكوّنوا إذ ذاك إلا جماعة صغيرة نمت شيئا فشيئا في وسط
مصاعب كثيرة. وحصلت على تنظيمها النهائي عن يد نحميا وعزرا في القرن الخامس قبل
المسيح. لم يكن لهذه الجماعة أيّ تأثير في الميدان السياسي، ولكنّها تركت آثارا
وجيهة على الصعيد الديني. ففي أثناء هذه الحقبة وصل معظم أسفار العهد القديم إلى
صيغته النهائيّة.

 

في السنة 333 وضع الإسكندر الكبير حدّا للسيادة الفارسيّة وأمّن على
الصعيد السياسي انتصار الحضارة اليونانيّة. فدُمجت أرض إسرائيل في الإمبراطورية
المقدونيّة، وكثيرا ما تأثّرت بالصراعات التي قامت بين خلفاء الإسكندر، وعاشت
الجماعة اليهودية، مدّة قرن ونصف، عيشة سلام مع العالم اليوناني. لكنَّ النزاع قام
في السنة 167، عندما عمد أنطيوخس الرابع إلى إلغاء وضع أورشليم الخاص وحرَّم
الشعائر اليهوديّة في فلسطين. شنَّ الأخوة الكابيون عصيانا مسلحا كُلِّلَ بالنجاح.
واعتُرف بسمعان المكابي عظيم كهنة،فنال استقلال اليهوديّة (السنة 141 قبل المسيح).
واستطاع خلفاؤه الحشمونيون، الذين اتّخذوا لقب ملوك، أن يحافظوا على هذا الوضع
مدّة قرن تقريبا، إلى أن وضع الرومانيّون حدّا له، عندما استولى بومبيوس على
أورشليم وجعل من اليهودية إقليما رومانيا، وكان ذلك في السنة 63 قبل المسيح (راجع
المدخل إلى العهد الجديد).

 

في أثناء هذه الحقبة، انفصلت الجماعات اليهودية تدريجيّا عن
السامريين، وورث هؤلاء، حول معبد شكيم، عن أسباط المنطقة الوسطى، بعض التقاليد
المخالفة لتقاليد أورشليم.

 

وكان الغزو الأشوري في القرن الثامن والغزو البابلي في القرن السادس
قد شتّتا عددا كبيرا من بني إسرائيل في ما بين النهرين ومصر وغيرهما من البلدان.
وكثيرون منهم لم يعودوا إلى اليهودية بعد السنة 583. فكان من شان توحيد العالم تحت
السيطرة اليونانيّة أن ساعد على تعزيز الهجرة إلى أنحاء الشرق الأدنى كلّه وحوض
البحر المتوسط، ولا سيّما مصر. فمنذ القرن الثاني كان عدد اليهود في الإسكندرية
يفوق عددهم في اليهوديّة. وفي الوقت نفسه، اشتدّت جهود الدعاية الدينية فأتت إلى
الدين اليهودي بجماعات كثيرة من المهتدين كانوا يُدعون «دُخلاء». ويطلق على اليهود
المقيمين في الخارج اسم «الشتات» وكانوا أوفر عددا من سكان فلسطين، مع العلم بانّ
نصف هؤلاء السكّان لم يكونوا يهودا. كان اليهود المشتّتون يقيمون حول مجامعهم
ويعيشون متمسّكين بأورشليم مع أنّهم بعيدون عنها، وفي الوقت نفسه كانوا يشتركون في
حياة الشعوب التي يقيمون عندها. وقد ساهموا في إعطاء الدين اليهودي وجها جديدا
فهيّأوه بذلك للتغلّب على المحنة الكبرى التي حدثت في السنة 70 بعد المسيح، إذ
أدّت محاربتهم للرومان إلى خراب الهيكل، ثمّ القضاء على الأمّة اليهوديّة بعد
انتفاضتها الأخيرة في السنة 135 بعد المسيح.

 

الأمم المجاورة لإسرائيل

كان الهلال الخصيب، على مرّ القرون، مكان هجرة شعوب كثيرة من مختلف
المناشئ والثقافات والديانات، وكان إسرائيل على صلة وثيقة أو سطحيّة بالكثير منها.

 

– الجيران المباشرون: كانوا دولا صغيرة أصل سكّانها كأصل بني إسرائيل
على وجه التقريب.

 

في الجنوب كان بنو أدوم يسكنون مرتفعات سعير ووادي عربة ومنطقة
البتراء. وإذا صعدنا قليلا إلى الشمال، كنّا نرى مملكة موآب (شرقي البحر الميت)،
ثمّ مملكة عمّون(راجع عمّان الحالية). وكان إسرائيل يجد على حدوده الشمالية
الممالك الآراميّة (دمشق، حماة). كانت النزاعات مع هذه البلدان مستمرّة، ومع ذلك
كان إسرائيل يرى أنّ بينه وبين تلك الشعوب رابطة قرابة يعبّر عنها بالأنساب: فكان
عمّون وموآب ابنَين لابن أخي إبراهيم، وأدوم (عيسة) أخا ليعقوب، ولابان الآرامي
خال يعقوب وحماه.

 

في الشمال الغربي كان الفينيقيّون، وهم بحّارون وتجّار شقّوا عباب
البحار طوال العصور القديمة وأنشأوا وكالات تجارية ومستعمرات على دائرة شواطئ
البحر المتوسّط. فكانت بيبلوس وصيدا وصور، الواحدة تلو الأخرى، عواصم هذه المملكة
الصغيرة وهي كلّ ما تبقّى من الدول الكنعانيّة التي تغلّب عليها بنو إسرائيل
والفلسطينيّون. كانت كنعان منطقة مختلطة السكّان، ومع ذلك كانت تتمتّع بشيء من
الوحدة الثقافيّة والدينيّة التي تتعارض مع التقسيم السياسي اللاحق بهذه المنطقة.
كانت لهم لغة واحدة، الكنعانيّة، لا يُعرف عن صيغتها القديمة إلا ما ورد في بعض
التعليقات التي عُثِرَ عليها في ألواح تلّ العمارنة البابليّة. أمّا النصوص
المخطوطة فلا تفيدنا شيئا عن حضارة كنعان وديانتها. لكن من المسلّم به أنّهما
كانتا تشبهان، في الأمور الجوهريّة، ما كشفته لنا وثائق رأس شمرا، في سوريا
الشماليّة، وقد حُرِّرت في القرن الرابع عشر بلغة تسمّى الأوغاريتيّة.

 

وفي الجنوب الغربي أخيرا، سكنَ الفلسطينيّون، وكانوا قد وصلوا إلى
الشاطئ زمن استقرار أسباط إسرائيل على وجه التقريب. وكانت ديانتهم وعاداتهم تختلف
اختلافا واضحا عن ديانات شعوب الهلال الخصيب وعاداتها، وتقارب ديانات كريت
واليونان وعاداتهما. وكانوا، في نظر إسرائيل، مثال الغرباء.

 

– الدول الكبرى: كما كان لإسرائيل صلة بتلك الدول الصغرى، كان لها
صلة بالدول الكبرى التي كانت تسيطر، الواحدة بعد الأخرى، على الشرق الأدنى. قليلة
هي الحقبات الزمنيّة التي ضعُفت فيها هذه الدول فتمكَّنت فلسطين من تقرير مصيرها
بنفسها، كما فعل داؤود، مستغلا مثل هذا الوضع لإنشاء مملكته. أمّا في أغلب الأحيان
فكانت سوريا وفلسطين تخضعان لضغوط جارتَيْهما الكبيرتين.

 

مصر أوّلا. حوالي السنة 3000 قبل المسيح، كانت مصر دولة عظمى ذات
حضارة متطوّرة جدا، وكانت، بامتدادها على طول النيل، توجّه اهتمامها نحو أفريقيا
(عن طريق النوبة)، وبشكل أوسع نحو أوروبا وآسيا. لم يكفّ الفراعنة يوما عن محاولة
السيطرة على فلسطين، فكانت فلسطين إقليما مصريا أو محميّة طوال قرون كثيرة، فكان
جميع ملوك يهوذا تقريبا حلفاء مصر أو توابعها، وهذا ما يبيّن لنا أسباب وجود تأثير
ثقافي ترك في الكتاب المقدّس آثارا وجيهة (ولا سيّما في الأسفار الحكميّة).

 

ثم بلاد ما بين النهرين. لم تزل هذه البلاد عالما معقّدا، تتجاور فيه
جميع العروق البشريّة وتتعاقب فيه الإمبراطوريّات محاربة بعضها بعضا. أوّل
إمبراطورية في ما بين النهرين سيطرت على فلسكين هي المملكة الأشوريّة التي أخذت
تنتشر نحو الغرب في القرن التاسع قبل المسيح. هَزَمت مملكة إسرائيل بين 735-721،
واضطرّت مملكة يهوذا إلى الاعتراف بتسلّطها عليها. ولمّا غُلِبَت الدولة الأشورية
في العام 608، حلّت محلّها مملكة بابليّة يحكمها الكلدانيّون (آراميّون من الشرق).
ففرض نبوكد نصّر سلطته على كلّ الإمبراطوريّة الأشوريّة تقريبا وسحق مملكة يهوذا
نهائيّا. في السنة 539 وضع قورش حدّا لهذه الإمبراطوريّة وضمّ أقاليمها إلى إمبراطوريّة
أوسع بكثير استمرّت أكثر من قرنين. وأظهر الحكم الفارسي تسامحا نحو ثقافات الشعوب
التي كان يسيطر عليها ودياناتها. فتمكَّنت الجماعة اليهوديّة في هذا الإطار من
تجديد بنيتها ومن الازدهار.

 

ولكن، قبل أن تجابه فلسطين بالقتال دولَ ما بين النهرين، كانت على
صلة حضاريّة بها. فمنذ العام 3000 قبل المسيح على أقلّ تقدير، كان لبلاد ما بين
النهرين السفلى تأثير على طول الهلال الخصيب. سيطر عليها على التوالي السومريّون
(أور وَلكش) والأكَديون (أكد) والأمّوريون (بابل وماري) والحوريّون (نوزي)
والأشوريون (نينوى) والكلدانيّون والفُرس وغيرهم أيضا، فكان لها إشعاع دائم على
قدر من التجانس. وأضاف إنشاء الإمبراطورية الفارسيّة إلى هذا التأثير مساهمة
الشعوب الهنديّة الأوروبيّة المقيمة في إيران مساهمة فعّالة.

 

وأخيرا العالم اليوناني. منذ الألف الثاني، تأثّرت كنعان بالحضارة
الإيجيّة تأثّرا ازداد أيضا ابتداءً من عصر السيطرة الفارسيّة، واشتدّ بنوع خاص في
القرن الرابع قبل المسيح. ففي سنوات معدودة، بنى الاسكندر المقدوني إمبراطوريّة
تمتدّ من الأدرياتي إلى الهندوس. بعد موته في السنة 323، تقاسم قوّاده
الإمبراطوريّة. في أعقاب نزاعات طويلة قام توازن بين أربع ممالك: فلسطين أصبحت في
أوّل الأمر مُلْكَ دولة البطالسة التي كانت مسيطرة في مصر (الإسكندريّة) ثم دولة
السلوقيّين (أنطاكية) التي استعادت سوريا وما بين النهرين. ومع أنّ هاتين
الدّولتين كانت لهما حضارة واحدة تنتسب إلى الهلنستيّة (الإغريق)، فقد كانتا في
نزاع دائم، وانتقلت فلسطين مرارا كثيرة من يد إلى يد. والتقى إسرائيل حضارتهما، لا
لأنّ اليونان كانوا محتلّين لهذا البلد فقط، بل لأنّ سكّانا مُهَلَّنين كثيرين
استقرّوا في فلسطين خلال القرن الثالث. أمّا يهود الشتات فكان تأثّرهم بها أعمق،
مع أن مراجعهم الأساسيّة لم تزل هي أيضا مراجع ثقافة إسرائيل وديانته.

 

3) قانون العهد القديم

 

ليس العهد القديم كل الأدب الذي صدر عن الشعب العبراني، بل هو نتيجة
اختيار مؤلّفات تُعَدُّ كتبا يعوَّلُ عليها وتسمّى لهذا السبب «قانونيّة».

 

ما هي الأسفار القانونيّة الثاني؟

 

تُجمَع، تحت اسم «القانونيّة الثانية»، عدّة أسفار مختلفة التواريخ
والفنون كان انتماؤها إلى «قانون» (أي القائمة الرسميّة) الأسفار المقدّسة موضوع
جدال على مرّ العصور، وهي:

يهوديت وطوبيا والمكّابيّون الأوّل والثاني والحكمة ويشوع بن سيراخ
وباروك ومقاطع من أستير ودانيال خاصّة بالترجمة اليونانيّة لهذين السفرين.

 

هذه الأسفار جزء من القانون المحدّد رسميّا في الكنيسة الكاثوليكيّة
منذ المجمع التردنتيني. والكنائس الشرقيّة (الأرثوذكسيّة وغير الخلقيدونيّة) لم
تتّخذ قرارا صريحا في شأن هذه الأسفار. أمّا المصلحون البروتستانت الذين ظهروا في
القرن السادي عشر، فلم يعدّوها قانونيّة، بل جعلوها مُلحقا للكتاب المقدس، وفي
رأيهم أنها لا يمكن أن تصلح لبناء الإيمان، مع أنّها مفيدة لتغذية تقوى المسيحيين.
وفي المذهب البروتستانتي، نكوِّن هذه الأسفار فئة من الكتب التي تسمّى «أبوكريفة»
أي منحولة، وتدخل أيضا في هذه الفئة «صلاة منسّى» و«كتاب عزرا الثالث» (وهو تكييف
يوناني لِعزرا ونحميا) و«كتاب عزرا الرابع» (وهي رؤيا من أصل يهودي). وفي
الكاثوليكيّة يُطلق على هذه الأسفار، منذ سيكستوس السينيّ في القرن السادس عشر،
اسم «القانونيّة الثانية» لأنها ضُمَّت إلى القانون في وقت لاحق، خلافا للأسفار
«القانونيّة الأولى» التي ضُمَّت إليه أوّلا. لا هذه التسمية ولا تلك تفيان
بالمعنى المقصود لأنّهما لا تأتياننا بأيّة معلومات دقيقة عن مجموعة الكتب هذه
التي تخلو من أيّة وحدة داخليّة. لذلك نرى الترجمة اللاتينيّة الشائعة والصادرة
بعد المجمع التردنتيني قد وَزَّعت هذه الأسفار بين أقسام العهد القديم الثلاثة
المرتّبة بحسب الترجمة اليونانيّة، لا بحسب النص العبري. وعدَّت الكتب المنحولة
الثلاثة الأخيرة ملحقات وضعتها في أخر المجموعة. وبما أنّنا أمام نقطة تختلف فيها
آراء الكنائس، فمن المفيد أن نوضّح معطيات هذه النقطة، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن
نبحث، من الوجهة التاريخيّة، في تكوين قانون الكتب المقدّسة، في الدين اليهودي
أولا، ثمّ في الكنيسة.

 

تكوين قانون الكتب المقدّسة في الدين اليهودي

 

في الدين اليهودي القديم، اتّخذ قرار رسمي في شأن التوراة (أو
الشريعة) منذ الزمن الذي ثبَّتها عزرا وأصدرها، في السنة 398 قبل المسيح على
الأرجح (راجع نح 8). ومنذ ذلك الحين، اعترفت السلطات الفارسيّة بأنّ «أسفار موسى»
تؤلّف دستورا يحكم جميع يهود الإمبراطورية. كان اليهود ينسبون إليها قيمة قياسيّة
لتكون «قاعدة» لإيمانهم وحياتهم العمليّة. فكانت هذه الأسفار «قانونيّة»، أي تنظم
الوجود. وفي وقت لاحق، حُدِّدَت مجموعة ثانية، وهي مجموعة «الأنبياء» الأولين
(يشوع والقضاة والملوك) والآخرين (أشعيا وإرميا وحزقيال والأنبياء الصغار الاثني عشر).
لم يكن للمجموعة الثانية سلطة منظِّمة تعادل سلطة المجموعة الأولى، لكنّها كانت
أساسا لشرحها وامتدادا لفحواها. ومع تثبيت مجموعة المزامير، وهي ضروريّة للصلاة
الطقسيّة، نشأت فئة ثالثة من الكتب المعترف بها رسميّا والمستعملة في عبادة الهيكل
وفي الاجتماعات المجمعيّة، وهي فئة «المؤلّفات». لكن، في هذه المرّة، لم تُختَم
اللائحة على الفور، بأمر السلطة أو بقبول مشترك في الاستعمال الواحد. فقد اعترف
لها المسؤولون بسلطة تختلف جدا باختلاف الأحوال، بالنسبة إلى الاستعمال العملي.
فبقيت اللائحة مفتوحة. ولكن إلى متى بقيت مفتوحة؟ ما هي المبادئ التي كانت تنظِّم
استعمالها؟ هل ضُمَّ هذا «المؤلَّف» وذاك إلى تلك اللائحة؟ وهل كان الاستعمال
واحدا في جميع الأماكن وجميع الأوساط؟ تتضمّن هذه الأسئلة كثيرا من النقاط الغامضة.

 

بعد فتوحات (الذي توفّي في السنة 323)، وقع حدث جديد في تاريخ الكتب
المقدّسة. فهناك مستعمرة يهوديّة قد استوطنت اسكندريّة مصر، في زمن أخضعت اليهودية
نفسها لسلطة اللاجيّين (البطالسة). وهؤلاء أيضا، على غرار الملوك السلوقيين في
سوريا،ثبّتوا الامتيازات الدينيّة التي منحتهم إيّاها الإمبراطوريّة الفارسيّة.
وبما أنّ اليهود يكوّنون «أمّة» تحميها الدولة وتحكمها شريعتها اليهوديّة،
استطاعوا أن يحافظوا على عبادتهم الخاصّة وشؤونهم الثقافيّة. فكانت لهم أماكنهم
الخاصّة للصلاة في الأحياء والقرى التي استقرّوا فيها. لكنّ يهود مصر كانوا قد
اعتمدوا اللغة اليونانيّة تدريجيّا في حياتهم العاديّة. فلم تلبث شريعتهم أن
نُقِلت إلى اليونانيّة، محافظة من جهة أولى على التقليد الأصيل داخل الدين اليهودي
بفضل قراءة الشريعة عَلَنا في اجتماعات المجمع، وتحديدا من جهة أخرى، في نظر
السلطات، لأسس الوضع الشرعي الذي يُحاكَم اليهود بموجبه في الحالات المتنازع عليها.
ورد في مؤلَّف يسمّى «رسالة ارستية» أنّ هذه الترجمة تمَّت في الإسكندرية على عهد
بطليمس الثاني وبأمره (285-246)، عن يد اثنين وسبعين (72) شيخا كبيرا، وأنّهم
كانوا كلّهم متّفقين اتّفاقا عجائبيّا، ومن هنا اسم «الترجمة السبعينيّة» الذي
أطلق على ترجمة الشريعة هذه والذي تناول في وقت لاحق كلَّ ترجمة العهد القديم
باللغة اليونانيّة القديمة.

 

بالرغم من كون هذه الأسطورة المرويّة خالية من القيمة التاريخيّة،
يمكننا أن نأخذ بالتاريخ الذي تشير إليه، لأنّها من جهة أخرى تدلّ على أنّ اليهود
الناطقين باليونانيّة كانوا ينسبون ترجمة شريعتهم هذه ما ينسبون إلى نصّها العبري
من قيمة تنظيميّة. وكانوا لا يتردّدون في أن ينسبوا إلى المترجمين إلهاما إلهيّا
حقيقيّا، كما يشهد على الأمر بوضوح فيلون الإسكندري في مطلع القرن الأول من عصرنا.
بعد ترجمة الشريعة، تُرجمت أيضا مؤلّفات تفيد صون الإيمان والحياة اليهوديّة،
كالأنبياء والمزامير أوّلا، ثمّ سائر المؤلّفات، على قدر شهرتها وسلطتها (راجع
مقدمة ابن سيراخ: 6-9 و21-25). وأضيفت إلى هذه الترجمات توسّعات جعلت منها تفسيرا
حقيقيّا للنصوص مرتبطا ارتباطا وثيقا بتغيير الإطار الثقافي الذي سبَّبه الانتقال
من اللغة العبرية واللغة الآراميّة إلى اللغة اليونانيّة.

 

ولكن يصعب علينا أن نعرف ما هي حدود قائمة الأسفار المعترف بها
والمستعملة في مختلف الأماكن التي كان اليهود يقيمون فيها، بين القرن الأخير من
العصر القديم والإصلاح اليهودي الذي خلف خراب أورشليم (السنة 70 بعد المسيح). ففي
داخل الديانة اليهودية الفلسطينية، وعلى الأرجح داخلَ جماعات الشتات الشرقي التي
كانت على صلة وثيقة بها، لا يبعد أن تكون تلك القائمة قد بقيت «مفتوحة»، فقد عُثِر
في مِسَدَّة، وهي آخر ملجأ للمقاومة اليهوديّة في وجه الرومان (السنة 73)، على
سِفر لابن سيراخ، لعلّ وجوده يثبت استعماله في إطار المجمع. لكن الأحزاب الدينيّة
لم يكن لها جميعا ممارسات واحدة. فسفر دانيال مثلا، وهو «مؤلَّف» متأخّر، كان
الفريسيون يعترفون بسلطته، أمّا الصّدوقيّون فكانوا بدون شك لا يعترفون بها. وعلى
خلاف ذلك كانت جماعة قمران تستعمل سفر طوبيّا وابن سيراخ وعلى الأرجح باروك أيضا،
ولعلّها كانت تعوِّل كذلك على بعض المؤلَفات الصادرة تحت أسماء مستعارة كسِفر
أخنوخ وسفر اليوبيلات وعلى المؤلفّات الرسميّة التي كانت تنظّم حياة الطائفة
(قواعد الجماعة والحرب المقدّسة ومجموعة الأناشيد وسفر أورشليم الجديدة إلخ).

 

لا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ أهمّ المؤّلَّفات الصادرة تحت أسماء
مستعارة قد نُقِلت إلى اليونانيّة، بحيث لم تكن سلطتها ربّما تقف على حدود جماعة
قمران. ولا نعرف بالضبط ما هو الاستعمال الذي كان جاريا في مجامع اليهوديّة
والجليل في زمن يسوع.

 

ولم تُحَدَّد القائمة الرسميّة التي أوضحت هذا الاستعمال إلا بين
فترة العام 80-100، عن يد معلّمين خاضعين لمذهب الفريسيين ومقيمين في جَمنيا
(يمنيا). لكنّهم اضطروا إلى إنقاذ بعض الأسفار المتنازع عليها (أستير وحزقيال
ونشيد الأناشيد) ورفضوا الأسفار التي كانت في نظرهم ملحقة بزمن الأنبياء، بينما
كانت جميع الأسفار القانونيّة الثانية في هذا الوضع، وكذلك الأسفار الموضوعة
مباشرة في اليونانيّة. فالترجمة اليونانيّة لم يكن لها في نظرهم سوى سلطة محدودة،
بقدر ما كانت ترعى بأمانة حرفية النصوص الأصليّة. غير أنّ الجماعة اليهوديّة في
الإسكندريّة لم تكتفِ بأن تنقل إلى اليونانيّة الأسفار القانونيّة الأولى وأهمّ
المؤلّفات الصادرة تحت أسماء مستعارة، فهناك كتب أصليّة صَدَرَت في الإسكندريّة،
ولا سيّما «حكمة سليمان» وسفر المكابيين الثاني وعلى الأرجح جزء من سفر باروك (با
4، 5 – 5، 9). بأيّة سلطة كانت تتمتّع هذه المؤلَّفات؟ ليس من السهل أن نُجيب عن
هذا السؤال. على كلّ حال، لا نجد أيَّ أثرٍ لنزاع قام بين الجماعات الناطقة
باليونانيّة والمعلّمين الفلسطينيين في ما يتعلّق بالقانون المحدَّد في جَمنيا.
لكن لعلَّ السلطة المنسوبة إلى الأسفار المقدّسة كانت تتضمَّن تدرُّجا واسعا. فبعد
قرار جَمنيا، لم تزل بعض الكتب الخارجة عن القائمة الرسميّة يُستَشهد بها كُتُبا
مقدّسة من حين إلى حين، حتّى في الديانة اليهوديّة الحاخاميّة. وهذا الأمر يسري
مثلا على سفر ابن سيراخ، ولم يكن لها سلطة الأسفار «القانونيّة»، لكنّها كانت
مفيدة لبنيان المؤمنين.

 

تكوين قانون الكتب المقدّسة في الكنيسة

 

لمّا كانت الكنيسة المسيحيّة قد نشأت في الإطار المجمعي اليهودي، قبل
أن يكون لها نظام خاص منفصل تماما، فقد حصلت من الدين اليهودي على مجموعة كتبها
المقدّسة وتقيّدت عفوا بالعادة الجارية في الجماعات اليهوديّة ضمن الأراضي التي
استوطنتها: فلسطين، مصر، سوريا، آسيا الصغرى، اليونان وروما إلخ، بينما كانت حدود
هذه العادة، كما رأينا، على جانب من عدم الوضوح حتّى أواخر القرن الأول. ولا يكفي
ما في العهد الجديد من شواهد أو تلميحات لتحديد الكتب التي كانت «مقبولة» في تلك
الأيام. وجلَّ ما يُعرف، فيما يتعلّق بالأسفار القانونيّة الثانية، أنَّ اليهود
كانوا يستعملون، ولا شك، الترجمة اليونانيّة القديمة (السبعينيّة) «لدانيال» وأنهم،
على الأرجح، كانوا يعرفون «حكمة سليمان» ولعلّهم كانوا يعرفون «ابن سيراخ». فكان
لقرار المعلّمين اليهود في جمنيا انعكاس أكيد على الكنائس التي كانت على صلة وثيقة
بالجماعات اليهوديّة وعلى الكتّاب الذين كانوا في جدال معها، إذ إن هذه الكنائس
كانت في وضع يحملها على اللجوء إلى الأسفار الأسفار القانونيّة الأولى وحدها،
لأنها تُعَدُّ حجّة لدى الجماعات وأول~ك الكتّاب. وفي أماكن أخرى، ما زال بعضهم،
بحكم التقليد المعمول به، يستعملون مؤلَّفات خارجة عن القائمة اليهوديّة الرسميّة.
ويُعَدُّ أوريجينس، في القسم الأوّل من القرن الثالث، من شهود هذا الاستعمال
الموسَّع. وممّا يجعل شهادته على جانب كبير من الأهميّة أنّه عمل بنشاط على تحديد
النصّ المحقَّق للكتاب المقدّس وأنّه اتّخذ موقفا معيّنا في مسألة القانون، فقد
دافع عن حقوق «الكتاب المقدس المسيحي»، الذي بحث عنه في الترجمة اليونانيّة للعهد
القديم، للردّ على الذين كانوا يميلون إلى تبنّي «الكتاب المقدّس اليهودي»
المحدَّد في جمنيا. وهكذا حُدِّدَ تدريجيّا قانون مسيحي كان يحتوي على مؤلفات «غير
متنازع عليها»، كما كان يحتوي، عند حدوده، على مؤلفات «متنازع عليها» تتمتّع بكثير
أو بقليل من السلطة.

 

في كنائس سوريا، نُقِلَت بعض الأسفار المقدّسة مباشرة إلى السريانيّة
(عن يد مترجمين يهود أو مسيحيين) عن الكتاب المقدّس العبري دون المرور باليونانيّة،
وبذلك كانت القائمة المستعملة ونص الأسفار موافقّيْن لاستعمال المجامع الرسمي.
وعلى عكس ذلك سلكت الكنائس الشرقيّة الناطقة باليونانيّة طرقا متنوعة لم ينظمها
تنظيما نهائيا أيُّ قرار شرعي على مرّ العصور. نرى حتى في أيامنا أنَّ السلطة التي
تتمتّع بها الأسفار القانونيّة الثانية ليست واحدة في نظر جميع اللاهوتيين
الشرقيين، وإن كان الكتاب المقدّس اليوناني يحتوي عليها جميعا. ألا يحتوي أيضا على
كتب «منحولة» (بحسب الاصطلاح الكاثوليكي)، أمثال «عزرا» أو «صلاة منسّى» أو على
كتب مماثلة نظير «سفر المكابيين الثالث»؟ أمّا في الغرب، فكان لروما ولأفريقيا
الشماليّة، منذ مطلع القرن الرابع، قائمة مشتركة تشمل الأسفار القانونيّة الثانية،
كما تشهد على ذلك مجامع قرطجنّة الأفريقية ورسالة من أينوشنسيوس الأول. ولكنّ
إيرونيموس، وهو صاحب الترجمة الجديدة التي لن تلبث أن تفرض نفسها على الغرب
اللاتيني، قد اكتفى، في ذلك الوقت نفسه، بترجمة بعض الأسفار القانونيّة الثانية
ترجمة سريعة (طوبيا ويهوديت) وبإضافة ملاحق أستير ودانيال في ذيل ترجمته للكتاب
المقدّس العبري، وأهمل ترجمة سائر تلك الأسفار. ولعلَّ في احتكاكه الطويل بالدين
اليهودي الفلسطيني وفي تمسّكه «بحقيقة الأسفار العبرية» ما يبرّر هذا الموقف
المتحفّظ على الأقل. على كل حال، فسلطته كمترجم للكتاب المقدّس قد حملت بعض
لاهوتيي العصور الوسطى على تبنّي فكرته فكان لها مدافعون حتى في زمن المجمع
التردنتيني. غير أن الأسفار القانونيّة الثانية (المسمّاو منحولة في ذلك الحين)،
بقيت كملاحق في النشرات البروتستانتيّة، ولن تُحذف تماما من الترجمات التي توزّعها
جمعيات الكتاب المقدّس إلا في القرن التاسع عشر. وفي الوقت الحاضر لا يقف اللاهوتيون
البروتستانت حيالها موقفا موحّدا. ومن أخرى، ما اكتُشِف في قمران وفي غيرها من
الأماكن قد حمل البعض على إعادة النظر في هذه المسألة.

 

نحن أمام وجهات نظر مختلفة في مختلف الكنائس (الأرثوذكسية والشرقيّة
غير الخلقيدونيّة والكاثوليكيّة والبروتستانتية). فهي تنسب إلى الأسفار القانونيّة
الثانية، بحسب مواقفها، إمّا سلطة تساوي سلطة سائر الكتب المقدّسة، وإمّا سلطة
مقلَّلة، وإمّا لا وجود لأيّة سلطة قياسيّة. وهذه المواقف العمليّة ترتبط بمواقف
نظرية تتعلَّق بإلهامها. فهل هي شهود يعتمد عليها تماما بأنّها كلمة الله؟ أم هناك
درجات في الإلهام نفسه؟ أم أنّ الجدال القائم حول بعض الأسفار يُظهرها كأنّها تشهد
على كلمة الله بشكل ثانوي، بقدر ما هي صدى للكتب المقدّسة بحصر المعنى، بحيث إننا
نستطيع أن نلجأ إليها لتغذية إيماننا، لا لبناء العقائد؟ لكل كنيسة أن تجيب عن هذه
الأسئلة بحسب معتقدها.

 

4) نص العهد القديم وتناقله

 

1) الأسفار القانونيّة الأولى

 

أ. النصُّ المسّوري: إنّ الأسفار التي اعترف الشعب اليهودي، في أواخر
القرن الأول بعد المسيح، بأنّها كتب مقدّسة (أسفار قانونيّة أولى) وَصَلَت إلينا
في لغتها الأصليّة (الآراميّة في معظم سفر دانيال وبعض مقاطع سفر عزرا، والعبرية
في سائر الأسفار). تُطلق عبارة «النصّ المسّوري» على صيغة النص الرسميّة التي
قُرِّرت نهائيا في الدين اليهودي حوالي القرن العاشر بعد المسيح، حين ازدهر في
طبريا أشهر المسّوريين وكانوا بنتمون إلى عائلة ابن أشير. وأقدم مخطوط « مسّوري»
بي أيدينا نُسِخ فيما بين 820-850 بعد المسيح، وهو لا يحتوي إلا على التوراة.
وأقدم مخطوط كامل، وهو مخطوط حلب، قد نُسِخَ في السنوات الأولى من القرن العاشر
بعد المسيح. أمّا نُسَخ الكتاب المقدس العبري الحاليّة، فهي منقولة عن النشرة التي
صدرت في البندقيّة في السنة 1524 عن يد يعقوب بن حاييم.

 

كثيرا ما وقع التباس في النصوص الكتابيّة، لأنّ الكتابة العبرية
غالبا ما تُهمَل فيها الحركات، وفي القرن السابع اهتدى الباحثون إلى وسيلة لكتابة
الحركات، وللشارة إلى علامات الفصل في الجُمَل، عن طريق النقاط والحروف. وهكذا
دُوِّنَ خَطّيا تقليد حيّ للقراءة والتفسير كان قد انتشر في الدين اليهودي خلال
الألف الأول من عصرنا، ويشهد له «الترجوم»، أي التفسيرات الآراميّة التابعة للكتاب
المقدّس العبري.

 

ب. النصّ المسّوري الأول وصيغ النصوص غير المسّورية: إن النصّ غير
المحرّك الذي كان أساسا لنشاط المسّوريين (=النص المسّوري الأول) كان قد حلّ في
الدين اليهودي محلّ سائر صيغ النصوص المنافسة كلّها في أواخر القرن الأول بعد
المسيح، فابتداءً من 1947، عُثِرَ عند شاطئ البحر الميّت، في مغاور تُحيط بأطلال
خربة قمران، على ملفّات أسفار مقدّسة شبه كاملة وعلى ألوف من الأجزاء التي تُرِكَت
في القرن الأول من عصرنا. فتبيَّن من ذلك أنّ اليهود كانوا يتناقلون، على عهد يسوع،
صيغ نصوص معظمها أسفار، غالبا ما تختلف عن النصّ المسّوري الأول. فقبل العثور على
مخطوطات قمران وبريّة يهوذا، كنّا مطّلعين على بعض الصيغ غير المسّورية لنصّ العهد
القديم، كصيغة التوراة التي حافظت عليها جماعة «السامريين»، أو كالصيغة التي كانت
أساسا للترجمة اليونانية السبعينيّة القديمة. ومع أنّ هاتين الصيغتين محفوظتان في
مخطوطات أحدث من مخطوطات بريّة يهوذا، فإنّ عهدهما يرقى إلى القرون الثلاثة
الأخيرة قبل المسيح.

 

ج. تشويه النصوص: لا شك أنّ هنالك عددا من النصوص المشوّهة التي تفصل
النص المسّوري الأول عن النص الأصلي. فمن المحتمل أن تقفز عين الناسخ من كلمة إلى
كلمة تشبهها وترد بعد بضعة أسطر، مهملة كلّ ما يفصل بينهما. ومن المحتمل أيضا أن
تكون هناك أحرف كُتِبَت كتابة رديئة فلا يُحسِنُ الناسخ قراءتها فيخلط بينها وبين
غيرها. وقد يُدخِل الناسخ في النص الذي ينقله، لكن في مكان خاطئ، تعليقا هامشيّا
يحتوي على قراءة مختلفة أو على شرح ما. والجدير بالذكر أنّ بعض النسّاخ الأتقياء
أقدموا، بإدخال تصحيحات لاهوتيّة، على تحسين بعض التعابير التي كانت تبدو لهم
معرَّضة لتفسير عقائدي خطِر. وأخيرا، من الممكن أن نكتشف ونصحِّح بعض النصوص
المشوّهة، باللجوء إلى صيغ النصوص غير المسّورية، في حال كونها أمِنَت من التشوّه.

 

د. نقد النصوص: أية صيغة من النص نختار؟ أو، بعبارة أخرى، كيف الوصول
إلى نصّ عبري يكون أقرب نصّ ممكن إلى الأصل؟ لم يتردّد بعض النقّاد في «تصحيح»
النصّ المسّوري، كلَّما لم يعجبهم، لاعتبار أدبي أو لاعتبار لاهوتي. وتقيَّد البعض
الآخر، كردّ فعل، بالنصّ المسّوري، إلا إذا كان تشويهه واضحا، فحاولوا عندئذ أن
يجدوا، بالرجوع إى التراجم القديمة، قراءة فضلى. هذه الطرق غير علميّة، ولا سيّما
الأولى منها، فهي ذاتيّة إلى حدّ الخطر.

 

أما اليوم، فهناك اطّلاع أفضل على التفسير «الترجومي» وعلى آداب
الشرق الأدنى القديمة، يساعدنا على شرح بعض الفقرات التي بقيت غامضة إلى أيّامنا.
لكنّ الحلّ العلمي الحقيقي يفرض علينا التعامل مع الكتاب المقدّس كما نعامل جميع
مؤلَّفات الحضارة القديمة، أي أن نضع «شجرة النسب» لجميع ما نملكه من الشهود، بعد
أن نكون قد درسنا بدقّة فائقة مجمل القراءات المختلفة: النص المسّوري ومختلف نصوص
قمران والتوراة السامريّة والترجمات اليونانيّة السبعينيّة (مع مراجعاتها الثلاث
المتعاقبة) وغير السبعينيّة وترجمات الترجوم الآراميّة والترجمات السريانيّة
والترجمات اللاتينيّة القديمة وترجمة القديس إيرونيمس والترجمات القبطية والأرمنية
إلخ. وبهذه المقارنات كلّها نستطيع أن نستعيد النموذج الأصلي الكامن في أساس جميع
الشهود. وهذا النموذج الأصلي يرقى عادة إلى حوالي القرن الرابع قبل المسيح.
ويمكننا أن نثبت، في بعض الحالات المميزة (بعض مقاطع من سفرَي الأخبار)، إن
النموذج الأصلي الذي حصلنا عليه هو النص الأصلي نفسه. في جميع الحالات تقريبا،
تَفصِل بين النموذج الأصلي الذي حصلنا عليه والنص الأصلي حقبة من الزمن أكثر أو
أقلّ طولا، فلا بدّ، للانتقال من النموذج الأصلي إلى النص الأصلي، من اللجوء إلى
بعض التكهّنات، اكن وفقا لمبادئ نقديّة معروفة.

 

لسوء الحظ، لم تُنشَر نصوص قمران كلّها إلى اليوم، وهذا العمل النقدي
يقتضي من الكفاءات ومن الأبحاث ما يستغرق عشرات السنين.

 

2) الأسفار القانونيّة الثانية

 نظرا إلى كون اليهود الناطقين بالعبرية لم يُدرجوها في لائحة كتبهم
المقدّسة الرسمية، ونظرا إلى أنّ الدين اليهودي كفّ عن تداولها في القرن الميلادي
الأول، فقد وصلتنا هذه الأسفار في تقاليد نصوص أقلّ وحدةً بوجه عام وغالبا ما فقدت
جذورها الساميّة.

 

5) معنى العهد القديم

1) عند اليهود

 في سبيل قراءة الكتاب المقدّس (=الشريعة الخطّية)، دوّن الدين
اليهودي تقليده التفسيري الخاص في الحقبة الحاخامية الكلاسيكيّة، منا لقرن الثاني
قبل المسيح حتى القرن الثامن بعده. كان هذا التقليد في أوّل أمره «شريعة شفهيّة»
أو «تقليد الأقدمين» (لأنه كان ينتقل من المعلّم إلى التلميذ دونا المرور
بالكتابة)، ثمَّ دوِّنَ وكتِبَ في «المِشناة» (التي يكون تفسيرها «التلمود») وفي
مجموعات «مِدْراشيّة» مختلفة. وتوسَّع أساسا على صعيدين: التفسير الحرّ الوعظي
الهادف إلى تغذية التفكير الديني «هجَّداه» وتحديد قواعد السلوك اليومي «هَلَخاه»،
ثم «الشريعة الخطيّة» و«الشريعة الشفهيّة»، أيّ النصّ المرجع والتفسير المتواصل،
كلُّها تُكوِّن التقليد الديني في اليهوديّة. لنترك الكلام لمؤلِّفين يهوديّين
معاصرين:

 

«إذا كان في العالم ما يستحق صفة الإلهي، فهو الكتاب المقدّس. هناك
كتب كثيرة عن الله، أمّا الكتاب المقدّس فهو كتاب الله. وهو، بكشفه حبّ الله
للإنسان، يفتح عيوننا لنرى أنّ ما له معنى في نظر البشر هو في الوقت نفسه ما هو مقدّس
في نظر الله. إنّه يُظهِر لنا طريقة العمل لجعل حياة الفرد مقدّسة، ولا سيّما حياة
الأمّة. وهو ينطوي دائما على وعدٍ مقطوع للنفوس النزيهة التي تتعب في طول الطريق،
في حين أنّ الذين يتخلَّون عنه يشجّعون الكوارث» (ا. هيشيل، «الله يبحث عن
الإنسان»، 1968).

 

«اللاهوت اليهودي، بِرَبطِهِ شموليّة الخليقة بذاتيّة إسرائيل، يؤكّد
ما يعلّمه الكتاب المقدّس كلّه، أي أنّ الله يكشف نفسه للإنسان وأنّ إسرائيل في
قلب البشريّة المخلوقة على صورة الله الروحيّة: فإنّكم تكونون لي خاصّة بين جميع
الشعوب، مملكة من الكهنة وأمّة مقدّسة» (خر 19، 5-6) – «كونوا قدّيسين، لأنّي أنا
الربّ إلهكم قدّوس» (أح 19، 2).

 

فلا عجب أن يمنح الدين اليهودي الكتاب المقدّس المنزلة الأولى في
تعليم المجمع، بما أنّه إلى جانب ذلك «كتاب العهد» الذي يصل بين الله وشعبه (خر 24،
7) والدستور الذي حمَّل، في شخص إبراهيم، إسرائيل كلّه البركة لجميع المم (تك 12،
3)، «فيكون الرّبّ ملكا على الأرض كلّها وفي ذلك اليوم يكون ربّ واحد واسمه واحد»
(زك 14، 9) (ا. زاوي، «كاثوليكيون ويهود وأورثوذكسيون وبروتستانت يقرأون الكتاب
المقدّس»، 1970).

 

2. عند المسيحيين

ليس العهد القديم «قديما» إلا بالنسبة إلى العهد الجديد الذي أقامه
يسوع المسيح، ولكن يَحسُنُ أن لا نبالغ في التفريق بين الاثنين، كما لو بَطُل
العهد القديم والمؤلًَّفات التي تشهد عليه. هكذا نظر المفكّر مرقيون إلى الأمور في
القرن الثاني، وتعود نظرته إلى الظهور من وقت إلى آخر في تاريخ التفكير اللاهوتي،
وهي تقضي على العهد الجديد نفسه.

 

أ. كان العهد القديم الكتاب الوحيد بالنسبة إلى يسوع وإلى الكنيسة في
أوّل أمرها. وهو، بصفته كتاب التربية اليهوديّة، قد هذَّب إلى حدٍّ ما نفس يسوع،
ويسوع بدوره تبنّى قيمه وأدخّلَها في إنجيله، لأنه لم يأتِ «ليُبطِل» الشريعة
والأنبياء، بل «ليتمّمها». ويقوم هذا الإتمام أوّلا على البلوغ بها إلى درجة من
الكمال يتخطّى فيها معنى النصوص الأوّلي نفسه للتعبير عن سرّ ملكوت الله بما فيه
من كمال. ويقوم هذا الإكمال أيضا على تعزيز الاختبار البشري بما تحتوي عليه المواعد
التي كانت تستقطب آمال إسرائيل، وعلى كشفِ المعنى النهائي الكامن في تاريخ مرتبط
بتربية روحيّة، بإظهار ما لهما من صلة بسرّ الخلاص الذي حقَّقه صليب يسوع وقيامته.
ويقوم أخيرا على إغناء الصلاة المعبّر عنها في ذلك بمُحتوى كثيف يتجاوز حدودها
المؤقتّة. فمن جميع هذه الوجوه أكمل يسوع في شخصه تلك الكتب المقدّسة التي كانت
كالبنية لإيمان إسرائيل.

 

ب. بناء على كلّ ذلك، وجدت الكنيسة الرسوليّة في كتب العهد القديم
نقطة الانطلاق اللازمة للتبشير بيسوع المسيح، ولم تكتفِ، وهي في ضوء الفصح، بتذكّر
حركات يسوع وسكناته لتفهم معناها الصميم، بل قرأت مرّة ثانية جميع النصوص القديمة
التي تُذَكّرها بالتاريخ التمهيدي بما فيه من حوادث متعارضة ومؤسّسات مؤقتة وأنواع
من النجاح والفشل وقدّيسين وخاطئين. أفلم يكن في ذلك كله، لشخص يسوع ولعمله كوسيط
ولأبناء كنيسته الجديدة، خطوط أوّليّة ذات معنى ودلائل خفيّة وصور مُسبَقة يمكن
اكتشافها؟ أجل، إنّ كتب العهد الجديد، لم تُغفل عمّا تحتوي عليه وصايا العهد
القديم من عِبَر إيجابيّة، لكنّها أعادت تفسير تلك النصوص لتساعد على الاهتداء إلى
الإنجيل الحاضر فيها بشكل خفيّ. وهكذا أصبح العهد القديم الكتاب المقدّس المسيحي،
دون أن يفقد شيئا من قوامه، بل بالحصول على وضع جديد،وهو وضع الكتاب المقدّس
«المتَمَّم».

 

ج. تلك هي النظرة التي بُنِي عليها اللاهوت المسيحي في توضيح محتوى
الإنجيل وفي تبيان من هو يسوع، المشيح اليهودي وابن الله. وقد استُعِْملت صوَر آدم
وموسى، وداؤود والعبد المتألِّم، وعمانوئيل وابن الإنسان الآتي على الغمام، لتكوين
تلك اللغة الأساسيّة الخاصّة بالإيمان المسيحي. أجل، إن في لغة العهد الجديد
تنوّعا ملحوظا. لكنّها، وإن كانت لا تهمل وسائل البيئة الثقافيّة التي يعيش فيها
المؤلّفون، فهي منسوجة دائما من كلمات وجُمل من الكتاب المقدّس تعطيها كثافتها
ووزنها. وهكذا، نرى الصلة القائمة بين الله وشعبه، وهي ظهور نعمته وأمانته، قد
اتّخذت جميع أبعادها: وقد حدث لآبائنا كل ذلك «في شكل صور»، وأراد الله أن يدوِّنَ
خطّيا «تنبيها لنا نحن الذين بَلَغْنا منتهى الأزمنة» (1 قور 10، 11).

 

لقد وضع العهد الجديد أُسس قراءة مسيحية للعهد القديم، وهي اكتشاف
الروح تحت قشرة الحرف، وظهور المعنى النهائي تحت أغطية غير كاملة. ولم يتمّ مثل
هذا العمل، على مرّ العصور، دون طرح أسئلة معقّدة عبّر عنها كل جيل بأسلوب جديد.
إننا ورثة هذا التقليد التفسيري الذي تفرضه نظرة إيمانيّة، فنجد أنفسنا أمام هذه
الأسئلة. ولا عجب، لأنَّ كلمة الله وصلت إلى هذا العالم عن طريق تاريخ بشري حقّا
وفي شكل كلمات بشريّة حقا. الكنيسة تجتهد أن تفهم، عبرَ هذا التاريخ وهذه النصوص،
كلمة الله التي تحملُها، لكي تجيب عنها «بطاعة الإيمان». فمن المهم أن يكون الكتاب
المقدّس قد بقي الكنز المشترك للكنائس التي انقسمت على أثر المآسي التاريخيّة.
أولَيست الطاعة المشتركة لكلمة الله الوحيدة أصدق الدلائل على وحدة مفقودة تبحث عن
لمّ شملها؟ فإن عاش المسيحيّون في أيّامنا من رسالة الكتاب المقدّس، كما عاش منها
الرسل، سيهتدون إلى سبيل اتّحادهم جميعا في المسيح يسوع.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى