علم المسيح

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل
السادس

يسوع
واليهود والأمم

 

تعكس
الأناجيل المقبولة من الكنيسة حياة فلسطين في القرن الأول وتعطي معلومات واضحة عن
الزمان والمكان اللذين عاش فيهما يسوع. فلوقا الإنجيلي مثلاً يصف بدقة الجو الديني
الذي نشأ فيه يسوع وذلك عند عرضه لطفولته. ويظهر جلياً أن يسوع نهض برسالته العامة
في وسط شعبه وانه وجه بشارته إليهم قبل أن يوجهها إلى الأمم. أما الأحداث المدونة
في إنجيل بطرس الأبوكريفي فيمكن أن تحصل في أي مكان. كذلك يمكن نسبة أقوال يسوع
المدونة في إنجيل توما الغنوصي إلى أي معلم من معلمي العصر الهليني ما عدا يسوع. ومع
ذلك فلا تعطي الأحداث المدونة في إنجيل بطرس ولا الأقوال المسجلة في إنجيل توما
صورة كاذبة عن الجو التاريخ في وطن يسوع والتقاليد الرائجة فيه.

 

لم
يكن لليهود أيام يسوع نظام موحد، إذ أصبحت اليهودية فقط بعد سقوط أورشليم وخراب
الهيكل السنة 70 تعرف حصراً بالنظام الرباني (1). وقبل ذلك كان يوجد جماعات متعددة
وميول مختلفة وكان النظام المتبع منفتحاً على التأثيرات الخارجية. وهذا ما تؤكده
مخطوطات البحر الميت؟ حتى الأسانيون أنفسهم، بالرغم من انعزالهم عن الجماعات
الأخرى، تعرضوا لتأثيرات خارجية ولم يكونوا منعزلين كلياً عن العالم المحيط به.

 

يسوع
والحركات الدينية اليهودية

كان
يقطن في فلسطين، زمن يسوع، حوالي نصف مليون يهودياً. ونعرف من شهادة المؤرخ
يوسيفوس، معاصر تلك الفترة، أن ستة آلاف منهم كانوا ينتمون إلى الفريسيين وحوالي
الأربعة آلاف كانوا أسانيين، وإن الصدوقيين كانوا أقل من جماعة قمران عدداً. وعلى
الرغم من صغر هذه الجماعات فإنها كانت تمثل أقوى الحركات الدينية المسيطرة في
اليهودية. وكانت تلك الشيع في منازعات مستمرة فيما بينها مع الحفاظ على الانتماء
التام إلى اليهودية. وكان احتقار “شعب الأرض” (
am-haz-arez) جامعها. وكان معلمو الشريعة والمفسرون يتخذون موقف المتكبر
المتعالي من الشعب الجاهل الأمي. وكان الفريسيون يعتبرون أن “هؤلاء العامة من
الشعب الذين يجهلون الناموس هم ملعونون” (يو7: 49). كذلك شبه التلمود ابن
“شعب الأرض” ب “ذاك الذي يأكل خبزه في حالة عدم الطهارة” (2).

 

إننا
نتعرف على الفريسيين والصدوقيين من خلال الأحداث الواردة في الأناجيل. فنجد
الفريسيين ينتظرون مجيء ماسي ويؤمنون بقيامة الأموات ويحافظون على تقليد الشيوخ،
فيما نجد الصدوقيين يخالفونهم في كل هذه المعتقدات: فلا انتظار لماسي ولا قيامة
للأموات، ولتعلقهم بالحرف رفض لكل تقليد شفهي. لذلك هاجم يسوع تمسك الفريسيين
بحرفية الشريعة وسفسطتهم، وانتقد الصدوقيين لعدم معرفتهم الكتاب المقدس وقوة الله
(متى22: 23-38 وما يوازيها) (3). وفيما استمر وجود الفريسيين بعد تدمير الهيكل،
اختفى الصدوقيين عن المسرح التاريخي بعد سنة 70م دون أن يتركوا أي أثر أدبي.
ولأنهم لم يكونوا على اتصال بالأفكار الجديدة قبل سقوط أورشليم فبقوا بعد سقوطها
غير مستعدين للتناغم مع الأوضاع التاريخية الجديدة. وكونهم ينتمون إلى فئة كهنوتية
وعلى الفئات الميسورة جعلهم ينكرون فعالية الله في التاريخ. لذلك لم يكن لهم أي رجاء
ماسياني يساعدهم على مقاومة تلك الأوضاع الجديدة كما فعل الفريسيون. أوضح ستيفن
ليبرتي، في كتاب له بعنوان “العلاقات السياسية في عمل يسوع”، أن يسوع
حينما رفض تجربة الشيطان الأولى أنكر “محبة الراحة” التي يمثلها
الصدوقيون وفي رفضه الثانية أنكر “التكبر أمام الله” الذي كان يظهره
الفريسيون (4).

 

كذلك
رفض تجربة ثالثة هي الماسيانية القومية التي كانت تتمثل في “الغيورين”،
النجاح الثوري المتطرف لفئة الفريسيين. فقد رأى يسوع في اقتراح الشيطان أن تكون له
من كل ممالك العالم وعظمتها المثل الأعلى للغيورين الذين كانوا يؤمنون بأن ملكوت
الله لا يقوم إلا بإعادة الملك إلى إسرائيل. وكان مبتغاهم السيطرة السياسية وليس
الاهتداء الديني. لذلك لم يترددوا في استخدام العنف من أجل تحقيق أهدافهم القومية،
فغدا من الطبيعي أن يعتبر يسوع مفهومهم سياسة هيرودس انتيباس (الهيروديين) أن
يوقعوا بيسوع عندما حاولوا إظهاره متعاطفاً مع الغيوريين، وذلك عندما وجهوا إليه
السؤال: “هل يجوز أن نعطي الجزية لقيصر أم لا” (مر12: 13، متى 22: 17).
وكانت صورة قيصر تطبع على العملة الرومانية. فقال يسوع: “أعطوا ما لقيصر
لقيصر”، وبما أن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله أكمل: “أعطوا ما
لله لله”. وكان الغيورون يرفضون دفع هذه الضريبة ويعرفون بالحزب المعادي
لروما.

 

وجه
الفريسيون والهيروديون السؤال ليسوع “لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم
الوالي وقضائه” (لو20: 20)، كل ذلك قصده اتهام يسوع بأنه واحد من الغيورين
لإبعاده عن حياة الشعب (5). بيد أن جواب يسوع أذهلهم واضطرهم إلى التفرق دون
التعرض له بالرغم من رفضه رفضاً قاطعاً مناصرة القومية اليهودية (6).

 

يسوع
والأسانيون

ما
هي العلاقة بين يسوع والأسانيين الذين لم يرد ذكرهم في العهد الجديد؟ حسب يوسيفوس
وفيلون وما اكتشف حديثاً من مخطوطات البحر الميت، يمكننا رسم خط فاصل بين يسوع
وجماعة قمران التي يعتقد بعض العلماء أنها تكونت من الأسانيين.

 

لقد
تأسست مستعمرة قمران حوالي 140-130 ق.م. أسسها أناس يعتقد بأنهم ينتمون إلى
“جماعة الأتقياء” (
Hassidim) التي عاصرت فترة المكابيين. وكان طموح المكابيين السياسي في
الاستيلاء على السلطة والاستئثار برئاسة الكهنوت وإدخال التقويم القمري إلى الهيكل
قد اضطر الكثير من الأتقياء على انسحاب إلى الصحراء ليشكلوا جماعة منفصلة عن كهنوت
أورشليم (7).

 

وبالفعل
أعطت جماعة قمران الكهنوت أهمية بالغة ولقبوا أنفسهم بأبناء صادوق تأكيداً لشرعية
كهنوتهم ورفض ادعاءات الكهنة الذين كانوا يعيشون ويحكمون في أورشليم (8).

 

تختلف
الأناجيل اختلافاً جذرياً عن مخطوطات البحر الميت في بعض المواضيع. يكمن الخلاف
الأول في النظرة إلى ماسيا. ففي حين تؤكد الأناجيل على أن ماسيا قد أتى بشخص يسوع
الناصري مانحاً الخلاص بموته وقيامته، نجد مخطوطات البحر الميت تشير إلى وجود
شخصين يحملان اسم ماسيا: ماسيا الكهنوتي الذي يأتي من قبيلة هرون، وماسيا السياسي
الذي هو ماسيا إسرائيل. وهنالك وثيقة قمرانية تدعى “كتاب الطاعة” تتحدث
عن مجيء نبي آخر غير هؤلاء الاثنين اللذين ذكرنا يعرف زعيم جماعة قمران ب
“معلم العدل”، وكان غالباً ما ينتمي إلى الصدوقيين. يقال أنه استشهد على
يدي “الكاهن الشرير” دون استطاعة تأكيد ذلك. ولكن حتى إذا صح ذلك فعلاً
فجماعة فمران لا تعتبر عمله هذا خلاصي، تمت محاولات عديدة لكشف هويته كالقول مثلاً
أنه ماسيا المصلوب والسابق للمسيح، لكن كبار علماء الكتاب لا يقبلون أيّاً من هذه
الادعاءات (9). وكان “معلم العدل” معلم ومفسراً للناموس ولربما كان يعلم
بأن طاعة الناموس هي طريق الخلاص. وكانت آفاق الأسانيين ضيقة. وكانوا جماعة منغلقة
على نفسها تحصر تعاليمها بالمختارين فقط، على عكس يسوع الذي لم يأتِ من أجل
الصالحين بل الخطأة. وكان ضيق أفق الأسانيين يظهر في نظرتهم للناموس. فقد قطعوا كل
صلة بأورشليم لأنهم اعتقدوا أنها لم تحافظ بأمانة ودقة على الناموس. وجماعة قمران
قامت على الناموس مثلها في ذلك مثل الفريسيين، لكن أعضاءها فاقوا الفريسيين تعلقاً
بالحرف حتى دعاهم البعض بحق “الفريسيون من الدرجة الأولى” (
Super pharisees).

 

وكذلك
موقفهم من التقويم لا يختلف عن موقفهم من الناموس. وقد دعوا ب “أخصائيي
التقويم”، إذ أنهم كانوا يؤمنون بأن تعييد عيد ما وفق التقويم
“الصحيح” له صلة وثيقة بالخلاص. وكونهم “حرفيين” في نظرتهم
إلى الناموس جعلهم يتعلقون أيضاً بحرفية الطقوس. فكل شيء بالنسبة لهم يعتمد على
القيام بالطقوس الصحيحة وفقاً للتقويم الصحيح (10). هذا الموقف بعيد أشد البعد عن
جعل يسوع “السبت من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت” (مر2: 27).

 

زعمت
تلك الجماعة أنها تمثل إسرائيل الحقيقي وأنها شعب الموعد وأن أعضاءها أولاد النور
الذين سيتجاوزون المحن التي سترافق نهاية هذا الدهر ومجيء الدهر الآتي. هذا
الانشغال بحدوث “الأزمنة الأخروية” صبغ كل نظرتها إلى الأمور. لذلك سلخت
نفسها عن التعاليم بغية التطهر قبل حدوث الأزمنة الأخروية.

 

ولكننا
لا نجد في الأدب القمراني تعليماً مشابهاً لتعليم يسوع بأن ملكوت السموات قد أتى
فعلاً. ولا يوجد في مخطوطات البحر الميت تعليمها عن ألوهية المسيح. وهنالك مفارقة
واضحة في التعليمين فيما يخص المناقب. فالإنجيلي متى دون كلمات يسوع: “سمعتم
أنه قيل أحبب قريبك وأبغض عدوك أما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم … وصلوا لأجل من
يسيئون إليكم ويضطهدونكم لتكونوا بني أبيكم الذي في السموات” (متى5: 42-45).
تجدر الإشارة إلى أن عبارة: “أبغض عدوك” لا توجد في العهد القديم ولا في
الأدب الرباني بل في مخطوطات البحر الميت (11). فمن الجائز القول بأن يسوع عندما
تفوه بهذا المقطع من الموعظة على الجبل كان يجول في خاطره تعليم جماعة قمران،
فأدان تعاليمها (12). وهناك مقطع آخر قد ذكر لمعارضة تعليم الأسانيين واعتقاداتهم،
هذا المقطع هو مثل “العشاء العظيم” الوارد في (لو14: 15-24).

 

عندما
اعتذر الكثيرون عن تلبية الدعوة الموجهة إليهم للمشاركة في ملكوت الله، قال رب
البيت لعبده: “أخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقته وأدخل إلى هنا المساكين
والجدع والعميان والعرج”. أما في الأدب القمراني هناك نص يقول: “لا أحد
من الحمقى والمجانين والسذج والمعتوهين والعمى والجدع والعرج والطرش والقصر يستطيع
الدخول إلى وسط الجماعة لأن الملائكة القديسين (في وسطها)” (13). كانت جماعة
قمران مؤلفة من كهنة ذوي أصل كهنوتي فقط، وكانت معروفة بتصلبها تجاه الآثمة فلا
تبدي لهم أي اهتمام وشفقة. فدعى يسوع إلى ملكوته كل من كانت ترفضه هذه الجماعة.
بالإضافة إلى هذين المثلين توجد في الأناجيل أمثلة أخرى قد تكون موجهة ضد بعض آراء
هذه الجماعة (14). وقد أنهى متى مثل فعلة الكرم بقوله: “هكذا يصيرون الآخرون
أولين والأولون آخرين” (متى20: 16). هذا القول يستشف منه أنه ليس موجهاً ضد
الفريسيين فقط وإنما ضد الأسانيين كذلك لأن جماعتهم كانت شديدة التنظيم وتفصل
تماماً بين رؤسائها وأعضائها الآخرين.

 

على
الرغم من الفروقات الجوهرية بين تعليم يسوع وتعليم الأسانيين، فإن الوثائق
المكتشفة مؤخراً ذات أهمية بالغة في الدراسة الإنجيلية. إذ أنها تلقي ضوءاً على
المحيط الذي زود الإنجيل الرابع بمفردات ومصطلحات استعملها للتعبير عن بعض آرائه
الدينية.

 

فعبارة
“الحياة الأبدية” كانت شائعة في جماعات فلسطينية كهذه. قبل اكتشاف
مخطوطات البحر الميت كان بعض البحاثة يميلون إلى الفرضية القائلة بأن إنجيل يوحنا
كتب في القرن الثاني تحت التأثير الهليني. ولكن هذه الفرضية أسقطت بعد اكتشاف
المخطوطات وأصبح بالإمكان الرجوع بكتابة الإنجيل إلى وقت اسبق. ولا بد من التنويه
هنا بأن أهمية هذه المخطوطات بالنسبة للأناجيل السينابتية أقل بكثير منها بالنسبة
للإنجيل الرابع (15). وبالرغم من أن الأناجيل لم تأتِ على ذكر الأسانيين إطلاق،
فمعرفة هويتهم وتعاليمهم تساعد على فهم أفضل وتقدير أكثر شمولية لبعض أقوال وأمثال
يسوع الواردة في الأناجيل السينابتية. مجمل القول أن اكتشاف هذه المخطوطات أفسح
لنا المجال للاستزادة من معلوماتنا عن خلفية حياة يسوع، وأن نعي بشكل أفضل جدة
تعاليمه وفرادته.

 

يسوع
والسامريون والأمميون

لو
أراد يسوع الانتماء إلى إحدى الحركات الدينية لاستطاع ذلك دون التسبب في أية فتنة
وإثارة غضب السلطات الدينية في أورشليم. حتى ولو ابتغى تأسيس حركة دينية خاصة به
لما تعرض للاضطهاد ولا عرض حياته للخطر. والتاريخ يثبت أن يسوع لم يلتحق بأية فئة
دينية قائمة ولم ينشئ فئة جديدة لأنه أتى إلى شعب إسرائيل بأكمله وأشفق على جماهير
الشعب المزدري من قبل السلطات والمثقفين. و”لأنهم كانوا كخرفان لا راعي لها
طفق يعلمهم أشياء كثيرة” (مر6: 34). بالطبع أتى من أجل “شعب الأرض”
ومن أجل العارفين بالناموس. كذلك يوحنا المعمدان لم يسع إلى تنظيم جماعة رهبانية
كجماعة فمران لأن هاجسه لم يكن إيجاد شيعة دينية يهودية (لو3: 10-14)، بل تحضير
إسرائيل لمجيء الماسيا.

 

والسامريون
كانوا جماعة تحتقرها جماهير الشعب ومرفوضين من كل الفئات اليهودية الأخرى. وكانوا
منفصلين كلياً عن جماعة اليهود. فالسامري بالنسبة لليهود ينتمي إلى جنس مختلط
وممقوت ظهر بعد سقوط المملكة السنة 722ق.م.، وهو أسوأ من الأممين.

 

وهناك
مثل يهودي شائع يقول: “إن ماء السامريين أكثر قذارة من دم الخنزير”. وكلمة
“سامري” كانت تستعمل للدلالة على الأعداء (يو8: 48). أما يسوع فقاوم هذه
النزعات القومية بشدة. وقد تعجبت المرأة السامرية كيف يطلب منها يسوع، وهو
اليهودي، أن يشرب “لأن اليهود لا يخالطون السامريين” (يو4: 9). وللذي
سأل يسوع من هو فريبي أجاب بإعطائه مثل السامري الرحيم (لو10: 29)، كما أنه مر
بالسامرة في طريقه إلى أورشليم، لكن السامريين “لم يقبلوه لأن وجهه كان
متجهاً إلى أورشليم”. وعندما طلب منه ابنا زبدى أن ينزل ناراً من السماء
فتأكلهم، “التفت وزجرهما” (لو9: 51-55). وفي مكان آخر شفى يسوع أحد
السامريين وغبطه على كثرة إيمانه (لو17: 11). وهكذا تظهر الأناجيل بوضوح أن يسوع
لم يستثن السامريين من الخلاص وبالرغم من أن رسالة يسوع الخلاصية لم تكن محصورة
بجماعة معينة بيد أنها وجهت أولاً إلى شعب إسرائيل. فكانت لشعب الله المختار الأولوية
في سماع كلام يسوع ومشاهدة أعماله. وأوصى تلاميذه قائلاً: “إلى طريق الأمم لا
تتجهو ومدن السامريين ولا تدخلوا بل انطلقوا بالحري إلى الخرفان الضالة من آل
إسرائيل، وإذا ذهبتم فاكرزوا قائلين قد اقترب ملكوت السموات” (متى10: 5-7).
وأجاب يسوع المرأة الكنعانية الأممية التي طلبت منه أن يرحمه ويرحم ابنتها
المريضة: “لم أرسل إلا إلى الحرفان الضالة من آل إسرائيل” (متى15: 24).
هذان المقطعان لم يردا إلا في إنجيل متى. ولكننا لا نستطيع الإدعاء بأنهما ليسا
ليسوع بل من اختلاق الكنيسة الأولى. لأنها لو فعلت ذلك لجلبت إلى نفسها المتاعب
لأن البشارة قد وصلت إلى الأمميين وكان عدد منهم دخل الكنيسة عندما كتبت الأناجيل.
وهكذا يكون متى قد دون هذين المقطعين وحافظت عليها الكنيسة لاعتقادها بأن يسوع
مصدرها.

 

لدينا
أمثلة عديدة تشير إلى أن رسالة يسوع كانت موجهة لجميع الأمم فبعد أن قال للأممية:
“ما جئت إلا للخرفان الضالة من آل إسرائيل” (متى15: 14)، شفى لها
ابنتها. وكذلك شفى خادم رئيس المائة (متى8: 5 وما يوازيها). ويسوع نفسه أعلن أن
“كثيرين يأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت
السموات وأما بنو الملكوت فيلقون في الظلمة البرانية” (متى8: 11-12).

 

إن
موقف يسوع من الأمميين ظهر أيضاً في حادثة طرد الباعة من الهيكل الواردة في
الأناجيل الأربعة. وأخذت هذه العملية صفة الشمولية لليهود والأمميين. لم يكن يسوع
ضد العبادة في الهيكل إنما ابتغى تغييراً يتيح للأمميين الاشتراك مع اليهود في
تمجيد الله وأعماله. فقال للباعة: “أليس مكتوباً إن بيت أبي بيت صلاة يدعى
لجميع الأمم وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (مر11: 17).الهيكل الجديد هو هيكل جسد
المسيح (يو2: 21) وهو يضم “جميع الأمم” حسب أشعيا (56: 7). ويبتدأ الزمن
الماسياني عندما يشترك الأمميون مع اليهود في العبادة. فعند مجيء ماسيا ستتحول
العبادة اليهودية إلى عبادة تشمل جميع الأمم. وإذا كان يسوع قد طرد الباعة من
القسم المسمى “باحة الأممين”أ التي كانت مفصولة عن باقي باحات الهيكل
والتي كان اجتيازها محصوراً باليهود، فإنه قصد هدم الحائط بين اليهود والأمم وجعل
الباحة جزءاً من بيته.

بموت
يسوع وقيامته تهدم الجدار الفاصل بين اليهود والأمم، هذا الجدار الذي بد، بمجيء
المسيح، يتصدع. وقد أرسل يسوع الناهض من القبر تلاميذه ل “يتلمذوا كل
الأمم” (متى28: 18-20). ولم تشكل هذه الدعوة تغييراً مفاجئاً في مخططاتهم لأن
يسوع سبق وهيأهم لهذه الحملة التبشيرية الواسعة النطاق عندما قال: “أن يكرز
أولاً بالإنجيل في جميع الأمم” (مر13: 10). وعندما سكبت المرأة قارورة الطيب
على رأس يسوع في بيت عني، أشار إلى أن الرسل سوف ينشرون الرسالة في كل العالم وأن
الشهادة بين الأمم لن تكون سهلة وأنهم سوف يُضطهدون من أجل اسمه (متى10: 18).
وعلّمهم أنه في مجيئه الثاني وفي يوم الدينونة ستجتمع الأمم كافة ولن يكون التمييز
بين الخراف والجداء على أساس عرقي وقومي، ولا على أساس امتيازات واستحقاقات، بل
على أساس علاقة الفرد بابن الإنسان وبقريبه (متى25: 31)، وأن اليهود والأمميين
سيكونون على حد سواء تحت حكم الله ورحمته (16).

 

وبإيجاز
نقول: لم ينتمِ يسوع إلى أية حركة دينية في إسرائيل. ولم يؤسس حزباً دينياً خاصاً
به. ولم يكرس في رسالته الانقسامات الموجودة في اليهودية بل تجاوزها كلها في تحقيق
الوعود التي قطعها الله للآباء والأنبياء. لقد أتى يسوع ليوجد جماعة جديدة لا
يساير فيها الدين القومية والتقاليد الوطنية بل يشارك فيها اليهود والأمميين
العبادة الواحدة ويستفيد الجميع من النعم الممنوحة لكنيسة المسيح.

 

هو
الذي ” جعل الاثنين واحد ونقض في جسده حائط السياج الحاجز … ويصالح كليهما
في جسد واحد مع الله بالصليب” (أفسس2: 14-16). فيكون الهدف الرئيسي من تجسده
تخطي الحاجز الذي كان قائماً بين الله والإنسان وكشف الله ومشيئته لكل إنسان.

 

لقد
كانت بشارة يسوع لإسرائيل علامة لوعيه الماسياني وسلطانه الإلهي. لقد أتى ماسيا
المنتظر متجاوزاً بأعماله وأقواله وتعاليمه التقاليد اليهودية في عصره، محققاً
الآمال الماسيانية كل التحقيق. وهذا يجرنا إلى السؤال التالي من هو يسوع؟

———–

حواشي
الفصل السادس

(1)
أثناء الثورة التي حدثت بين سنة 66 و70 م عانى اليهود والمسيحيون عناءً شديد، حتى أجبر
المسيحيون على ترك أورشليم وفلسطين “حاملين إلى الشتات ذكريات حياة يسوع
والظروف الحياتية في فلسطين التي نجدها مدونة في الأناجيل”. راجع:

 

Addison G. Wright، R.E. Murpyh، Joseph A.
Fitzmyer: “A History of
Israel“. The Jerome Biblical Commentary 75: 164.

 

انتقلت
السلطات اليهودية الحاكمة من أورشليم إلى جمني، حيث أقيمت مدرسة حتى قبل سقوط
أورشليم. لكن لم تحتل هذه المدرسة مركزاً قيادياً إلا بعد سقوط أورشليم، حيث مارس
المنضمون إليها دوراً قوياً في تعزيز شأن اليهودية بعد أحداث سنة 70 م المأسوية
تحت إدارة الحاخام يوحنا بن زكا الذي أسس المدرسة في جمني، ومن ثم تحت قيادة
الحاخام جملائيل الثاني.

 

أصبح
الدين اليهودي متخوفاً من أية تعددية فكرية بين أعضائه فوضع آنذاك قانون الكتاب
المقدس العبري وأدخل تقويماً متكاملاً كما أن “صلاة جديدة أدخلت في الخدم
الطقسية لمنع المسيحيين من أصل يهودي من المشاركة في العبادة اليهودية”.
راجع:

 

W.D. Davies: The Sermon
on the Mount
، Cambridge،
Cambridge University Press، 1966،
p. 85.

 

كذلك
ابتدأوا بجمع الشريعة الشفهية وتنسيقه وظهرت اليهودية وكأنها تبني “سياجاً
حول نفسه”.

 

(2)
موقف كهذا “ساهم مساهمة فعالة في تقوية الجماعات المسيحية الجديدة إذ أن
“شعب الأرض” وجدوا فيها ترحيباً محباً في حين أنه كان يقابل بمقت عنيف
من قبل المثقفين”أ. راجع:

 

Encyclopedia Judaica، in Henri Daniel
Rops: Daily Life in The Time of Jesus
، New York، The New American
Library
، 1964، p. 152

 

(3)
كان الصدوقيون يقبلون كتب موسى الخمسة الأولى فقط ويشككون في كل إضافة جديدة
عليها. واعتبروا أن كل تعليم وإعلان جديد تهديد لقوتهم السياسية والاقتصادية لكن
يسوع أظهر لهم بأن الإيمان بالقيامة تعبر عنه الأسفار المقبولة لديهم. “و أما
من جهة قيامة الموتى أما قرأتم ما قال لكم الله: أنا إله إبراهيم وإله اسحق، وإله
يعقوب”. وذكر إياهم أن “الله ليس إله أموات بل إله أحياء” (متى22:
31-32).

 

(4)
راجع:

 

Stephan Liberty: The
Political Relations of Christ’s Ministry
، New York، Oxford
University Press
، 1916، p.57.

 

في
هذا الكتاب تفسير حادثة التجربة بأنها “بالأساس تلميح إلى المسائل القومية
اليهودية” وأنها بمثابة تأمل ليسوع في مسائل شائعة في أيامه. فتفهم التجربة
الأولى بالإشارة إلى الصدوقيين والثانية إلى الفريسيين والثالثة إلى الهيروديسيين
لأنهم، يقول ليبراتي، يجسدون “الاستعداد الدائم للمساومة مع العالم
الوثني”. ومع أن الكاتب اهتم أولاُ بالأوضاع السياسية السائدة أيام يسوع، فقد
كان واعياً أن معرفة هذه الأوضاع لا تستنفد معنى تجربة يسوع. “إن إيجاد تلميح
إلى الوضع القومي زمن يسوع في رواية تجربته لا يؤثر على الأهمية الأخلاقية
والخريستولوجية العميقة التي يحتوي عليها هذا الحدث لكل زمان”. لكن يبدو رأي
أوسكار كولمان أكثر إقناعاً عندما يربط التجربة الثالثة بالجدل بين يسوع وفئة
الغيورين التي كانت تمثل القوميين المتطرفين.

 

اعتبر
يسوع، يقول كولمان، أن أراء الغيورين تمثل نظرة شيطانية لماسيا. ويشير كولمان إلى
“أن المرء مجرب فقط بالأمور التي على مقربة منه”. راجع:

 

Oscar Cullmann: The
State in The new Testament
،
New York،أوذأول Charles
Scribner s Sons
، 1956.

 

(5)
من بين الكتب الصادرة حديث والمهتمة بعلاقة يسوع مع الغيورين، هناك كتابان مهمان
جداً بالنسبة للمشكلة التي نبحث ولكن للمؤلفين مواقف متعارضة.

 

يدافع
براندن بمهارة وعلم رفيع المستوى عن الفرضية القائلة بأن يسوع كان ثوروياً. بالطبع
إنه لا يزعم أن يسوع كان من الغيورين، بل يقول بأنه نظر إلى عمل الغيورين بعطف
كبير وتفهم … وربط عمله بهم وكان على اتفاق معهم. ة يتابع براندن قائلاً: حتى لو
لم ينتم يسوع إليهم فمن الصعب أن نرى اختلافاً بين أهدافه وأهدافهم. ويضيف أنه لم
يرد في الأناجيل أي شجب واتهام مباشرين للغيورين من قبل يسوع. راجع:

 

S.G.E. Brandon: Jesus
and the Zealots
، New Yofk، Charles
Scribner’s Sons
، 1967.

 

أما
أوسكار كولمان فيخص فصلاً كاملاً من كتابه عن “يسوع والثورويين” لبحث
علاقة يسوع بالغيورين.

 

أما
عنوان هذا الفصل فهو: المشكلة السياسية. يحاول كولمان أن يبرهن ويفعل ذلك بإقناع
أن يسوع لم ينضم إلى الغيورين “لأن أهدافهم ومناهجهم لم تكن تلائمه”.

 

كما
أنه لم يعلن أي عصيان مسلح ضد روم، “مقصياً أي استخدام للقوة بعكس تعاليم
الغيورين”. كذلك إن تعليمه “بمحبة الأعداء” (متى 5: 43) جعله
بعيداً عن الصراع السياسي الثوروي الذي تورط به أولئك.

 

ويذهب
كولمان إلى القول أن يسوع قد سبب خيبة أمل كبيرة للغيورين. “ولعل هذا لعب
دوراً في خيانة يهوذا له”. وبما أن تعليم الغيورين كان يشابه تعليم
الفريسيين، حسب شهادة يوسيفوس، فيكون سبب عدم مهاجمة يسوع لهم مباشرةً كما فعل
بالفريسيين يكمن في كونهم يشاركونهم التعاليم الدينية، وهكذا يكون قد شملهم في
حديثه عن الفريسيين. راجع:

 

Oscar Cullmann: Jesus
and the Revolutionaries
،
New York، Harper and Row، 1970.

 

(6)
” يمكن أن تعني جملة <أعطوا ما لقيصر لقيصر >: < إذا أردتم الأمن
الروماني،
Pax Romana فلا بد لكم أن تتكبدوا المصاعب التي تقتضي>. كذلك إن جملة
أعطوا ما لله لله <تعني أن تحقيق المتطلبات القانونية لقيصر لا يشكل أي مساومة
مع ما يطلبه الله من شعبه…> لكن هناك شيئاً واضح، وهو أن يسوع لم يدعم
القومية اليهودية ضد الامبريالية الرومانية”. راجع:

 

T.W. Manson: Only to
the House of Israel
،
Philadelphia، Fortress Press، 1964،
p. 11.

 

(7)
إن الحسيديم الأتقياء “اختاروا الموت بدل أن يدنسوا العهد المقدس، وأنهم
ماتوا فعلاً ” (1مكابيين 1: 63).

 

إن
هاجسهم كان ديني، فلم تجذبهم مطامع المكابيين السياسية. وقد حدث فعلاً مع تأسيس
المملكة اليهودية، انقسام ديني. وهناك في عهد المكابيين ثلاث جماعات يهودية تعود
إلى الحسيديم: أولها حركة الغيورين التي قضي عليها ثورة باركوشبا سنة 132 م. أما
الجماعة الثانية فهي جماعة الفريسيين – والكلمة قد تعني المفصولين– الذين استمر
وجودهم إلى ما بعد دمار الهيكل السنة 70 م وانهزام باركوشبا. ويمكن اعتبارهم كآباء
لليهودية المعاصرة. أما الجماعة الثالثة فهي مؤلفة من الأسانيين الذين شاركوا
الغيورين إيمانهم القوي ولكنهم رفضوا اللجوء إلى العنف. وقد انتهى وجودهم مع تدمير
الرومان لمستعمرتهم السنة 68 م. كلمة أساني ربما تشتق من الكلمة الآرامية
Hasayya التي تعني “الأتقياء”.

 

(8)
يبحث هذا الرأي مرسيل سيمون. راجع:

 

Marcel Simon: Jewish
Sects at the Time of Jesus. Philadelphia
، Fortress Press، 1964،
p.56.

 

(9)
على سبيل المثال، يعتبر ريمون براون “أن لا أساس لها من الصحة”. راجع:

 

Raymond E. Brown:
Apocrypha.
Dead Sea Scrolls، Other Jewish
Literature
، Jerome Bible Commentary، 68: 85

 

 (10)
يشير ستوفير بشيء من التهكم إلى أن يسوع لم يقل أبداً: “اتبعوني وتبنوا
تقويمي”. راجع:

 

Ethelbert Stauffer:
Jesus and the Wilderness Community at Qumran
، Philadelphia، Fortress Press، 1964،
p.16.

 

(11)
في مطلع “كتاب الطاعة” و”قانون الجماعة” نجد ذكراً لبغض
الأعداء: “كل من أراد الانضمام لجماعة يجب أن يأخذ على نفسه عهداً باحترام
الله والإنسان … وأن يسير بدون عيب أمام الله، يحافظ على كل ما أعلن له … وأن
يحب أولاد النور كلا بحسب دعمه لجماعة الله وأن يبغض أولاد الظلمة كلا حسب مقياس
أثمه الذي سيجازيه الله عليه”.

 

(12)
راجع:

 

W.D. Davies: The Sermon
on the Mount
، p.83،

 

 (13)
راجع:

 

J.T. Milik Ten Years of
Discovery in the Wilderness
،
London، SCM Press، 1959،
pp. 114 ff.

 

(14)
راجع:

 

W.D. Davies: Christian
Origins and Judaism
،
Philadelphia، Westminster Press، 1962،
p. 117.

 

(15)
“إن أهمية هذه الوثائق بالنسبة إلى الأناجيل السينابتية تشابه حبتي “قمح
مخبأتين في كيس من العصافة، فستبحث النهار كله قبل أن تجدهم، وعندما تجدها تجد
أنهما لا يستحقان كل هذا التفتيش”. راجع:

 

Francis Wright Beare:
The Earliest Records of Jesus
،
New York، Abingdon Press، 1962،
p. 16.

 

(16)
“كلما تكلم يسوع عن قوة وجبرؤوت وملكوت ابن الإنسان العائد فإنه يشمل
الأمم”. راجع:

 

J. Jeremias: Jesus’
Promise to the Nations
،
London، SCM Press، 1959،
p.70.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى