علم المسيح

عداء ومقاومة



عداء ومقاومة

عداء ومقاومة

.
تروي الأناجيل المؤتلفة أحداث مصرع المعمدان في معرض الكلام عن الرِيبَ التي راودت
قلب أنتيباس، في شان تصرّفات المسيح. فقد ” سمع هيرودس الملك، لأن اسمه
(يسوع) صار مشهوراً ” (مرقس 6: 14).، ونمى إليه ما كان يجري عن يده، فلم
يدَْر أيّ رأي يرتأيه: فإن بعضاً كانوا يقولون: ” إن يوحنا المعمدان قد قام
من الأموإت “؛ وغيرهم: ” إنه إيليّا! “؛ وآخرين: ” أن نبياً
من القدماء قد قام!”. وأمّا هيرودس فكان يغمغم مضطرباً: ” يوحنا، أنا
قطعت رأسه!.. فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا؟ ” (لوقا 9: 7- 9)

 

. ولم
يكن انفعال الملك هذا، سوى ظاهرة من ظاهرات العداء، الذي كانت قد بدت طلائعه، منذ
اللحظة التي استأنف فيها يسوع بشارته العلنية؟ وما زال ذاك العداء على تضخم
واستفحال وانتظام، حتى بات حلفا يعمل، في الظلام، على مقاومة نشاطه. وكان محرّك
تلك المقاومة حزبُ الفريسيين، إن لم يكن كلّه، فبعض زعمائه. وقد عُرِف الفريسيّون
بتشدّدهم في الذود عن التقاليد والمعتقدات، وحرصهم على احتكار الدين، فغاظهم أن
يسطع نجم ذاك الرجل الذي لم يكن من بيئتهم، ولم يكن يحمل خاتم مذهب من مذاهبهم،
والذي هبّ يتزعّم حركة شعبيّة عارمة!.. وكان في الجليل، – كما في سائر مرابع
اليهود- من مثل أولئك الأئمة المتشدّدين، تجمعهم، على اختلاف مناشئهم، رابطةٌ من
المصالح السياسية والروحية. وإننا لنوجس أن أعضاء الحزب في الجليل قد اكتفوا،
بادىء الأمر، بمراقبة يسوع، معلّلين النفس باستخدامه لأغراضهم؛ حتى إذا ما طغت على
قلوبهم عوامل القلق، هبّوا يستنجدون بأصحاجهم وأسيادهم في أورشليم، فأوفدوا من
قبَلهم من يتجسّس على النبي الجديد. ومذ ذاك نرى أولئك المتجسّسين، وقد ارتسم
ظلّهم من وراء ستار المشاهد الإنجيلية، يلاحقون المسيح بمراوغاتهم وأحابيلهم
ودسائسهم، ثم، بعد قليل، بمؤامرتهم القاضية

 

. لقد
جمع البشيران مرقس (في الفصلين الثاني والثالث) ولوقا (في الفصلين الخامس
والسادس)، في رواية متماسكة، خمسة أحداث، أثبت فيها المسيح مجابهته الهادئة
للفرّيسيين. وأمّا البشير متى (فصل 9 و12)، فقد رواها موزّعة. ومهما يكن من أمر،
فالحقيقة راهنة: وهي أن يسوع، كلّما سنحت له سانحة، كان يُثبتُ تعارض فكرته وما
ألفه الكتبة من أساليب المماحكة والمجادلة؛ ويتهكَّم بتشريعاتهم العقيمة تهكّما
هادئاً مطمئنا

 

. ففي
ذات يوم – وقد جرى ذلك في مطلع رسالته، في أواخر أيار أو أوائل حزيران سنة 28- كان
يسوع يعلّم في منزل أحد أصدقائه، في كفرناحوم. وكان وفد الكتبة وعلماء الناموس،
هناك، يحاجّه تارة، ويصغي إليه تارة أخرى، ولكن بشئ من التحفّظ. وكان الجمع قد
ازدحم خارج البيت. وكان بعض المتطوّعن يأتون بالمخلّعين، فوق محاملهم، يترقبون
المعجزات. وإن أربعة رجال، إذ امتنع عليهم الوصول إلى النبي الشافي، بسبب الجمع،
خطر لهم أن يصعدوا، مع المريض، الدرج الخارجي المفضي إلى السطح. إننا نجد، حتى
اليوم، في حوران، كثيراً من البيوت المجهّزة بمثل تلك الأدراج. وأما سقوف المنازل
الشرقية، فما كانت على جانب عظيم من المناعة، وكثيراً ما كانت تهوي تحت وابل
الأمطار. وكانتً تصنع من عوارض ضخمة، تمدّ فوقها جرائد نخل أو جذوع قصب، وتجهزّ
بفرُشُ من بلاّن، كانوا يسُيّعونها بقشرة رقيقة من الطين.. ومن ثمّ، فقد كان من
اليسير جداً، على حاملي السرير، أن يفتحوا ثغرة في السقف، ويدلّوا منها إلمريض،
كالرزمة، في الغرفة التي كان فيها يسوع!.. فراقت في عينيه تلك إلاستغاثة الجريئة،
ولم يؤانس فيها سوى شهادة إيمانهم. فقال للمخلعّ: ” يا ابني، مغفورة لك
خطاياك! “. كلمات فاه بها المسيح، ولا شك، لأجل الفرّيسيين. فانتفضوا لها!..
بم تلفّظ ذاك الرجل؟.. إن للّه وحده أن يغفر الخطايا. ومن ادّعى ذلك، سوى الله،
فقد جدّف!، ولكنّ يسوع كان عالما بأفكارهم. فهو إنما نطق بتلك العبارة الصغيرة لكي
يعرفوا من هو، وإن كان لا بدّ من أن ُيحجموا عن الفهم!.. ولما لم يكن أعسر على
الله الحيّ أن يبرىء هذا المريض المفكك، من أن يغفر الخطايا، قال للمخلعّ: ”
قم! واحمل فراشك، واذهب إلى بيتك! ”

 

.
بُعَيدْ ذلك، كان يسوع مارّاً بقرب شاطىء البحيرة، يتبعه تلاميذه وكانت كفرناحوم
مدينةً على الحدود، فيها كثير من مراكز دفع الجزية، يسيرها سوَادٌ من المكّاسين
والمحتالين وغيرهم من قراصنة الدولة. ولم يكن لهؤلاء ” العشارين ” أي صلة
بأولئك المزارعين الأثرياء، الذين كانوا – بأسم روما – يستغلون الأقاليم عن طريق
الخراج. فالعشّارون كانوا من صغار الموظّفين. ولئن اتفق لبعضهم أن يكونوا على جانب
من سلامة النيّة، فقد كانوا جميعاً، بسبب تعاملهم مع الولاة والرومان، في فرض
سياسة الضغط والتنكيل، وبسبب خضوعهم لأسياد مكروهين، عرضةً للسخط والكراهية! وقد
جاء، فيَ أحد المصنّفات التلمودية، ذكرُ القتلة والنهّابين والعشّارين، في باب
واحد. وكان مجرّد الاتصال بهم، بأيّ وجه كان، – حسب المعتقد الفريسي –من أسباب
النجاسة. وكان لهم من سوء السُمعة ما اضطرّ البشيرين مرقس ولوقا- في روايتهما
الحادثة التي نحن في ذكرها – إلى تسمية بطلها بأسم ” لاوي ” – وهو اسم
لم يدُْرج في لائحة أسماء الرسل – بينما نرى صاحب الانجيل الأوّل، البشير متى، لا
يتحرّج، في اتضاعه، من أن يشير إلى أنه، هو نفسه، ذاك العشاّر.. مرّ يسوع إذن بمائدة
الجباية، فألقى على واحد من موظفّيها نفس تلك النظرة التي كانت قد اخترقت نثنائيل
يوماً.. وإذا بالعشّار متى (لاوي)، ينهض للفور، ويمشي في إثره!.. يا لها معثرة في
نظر ” المُطهرّين “! ولم يكتف النبيّ بذلك، بل قبل الدعوة إلى مائدة ذاك
التلميذ الجديد – يا للغنيمة! – بصحبة أناسٍ من ذات الفضيلة!.

 

. لقد
كان يغَيظ الفريسيين، في مسلك يسوع، قلةُ اكتراثه بالسنن التي كانوا يقدّسونها.
فإذا ما أخذوا عليه تواطؤه مع أولئك العشّارين الأرذال، أجابهم، في منطق مطمئن:
“لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب لكن ذوو الأسقام!.. إني لم آت لأدعو أبراراً بل
خطاة! “. وإذا استفسروه عن امتناع تلاميذه عنَ الصوم، تخطىّ نطاق القضية،
بحيث لا يبقى لها شبهٌ بأي معضلة أخرى، ولا بأي مذهب من المذاهب المتداولة في
المدارس الربينية!.. والواقع أن الصوم القانوني الوحيد كان يفرْض بمناسبة عيد
” التكفير “. وكان يَضاف إليه أحياناً أصوام يأمر بها المحفل أو المجمع،
في بعض المناسبات، تفادياً لنكبة، أو احتفالاً بذكرى. بيد أن الفريسيين وعلماء
الناموس كانوا قد وضعوا من فرائض الصوم والإمساك في كل مكان. فكانوا، كل اثنين وكل
خميس، يبرزون بأثوابٍ كالحة، يستلفتون بها أنظار الناس إلى ما كانوا يكابدون، في
سبيل الله، من جوع هاصر

 

. لقد
كان إذن بإمكان المسيح أن يقارعهم بالبينات، ويحاجّهم بالناموس؛ ولكنه اجتزأ
بجواب، بات معناه، ولا شك، مقصوراً على أفهام أتباعه، وقد جاء فيه إنباءٌ بمصيره:
” أوَ يستطيع بنو العرس أن يصوموا، والعريس معهم؟.. فما دام العريس معهم، لا
يستطيعون أن يصوموا؛ ولكن ستأتي أيام يرفع فيها العريس عنهم، وعندئذ يصومون، في
ذلك الوقت.. “. ئم تطرّق إلى القول، في لهبجة استهزاء بينّة: ” ليس من
أحد يخيط رقعة من نسيج جديد في ثوب عتيق، وإلاّ فالرقعة الجديدة تأخذ من العتيق
ملأها، فيصير الخرق أسوأ! وما من أحد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة، وإلاّ
فالخمرتشقّ الزقاق، فتتلف الخمروالزقاق معاً!.. “. ما عساه كان يعني بالثياب
العتيقة والزقاق البالية؟.. ألعلهّ كان يشير، بتلك التعابير الهازئة، الى المراسيم
الفريسيةّ؟..

 

. هذا
ولم تكن القضية، في ذلك كله، سوى قضية فرائض لم تكن، على جليل حرمتها، لتلزم
أصحاجها إلزاماًُ محرجاً. ولكنّ يسوع بات كأنه يستهر حتى بأقدس شرائع الناموس..
فقد كان الفريسيوّن يؤثرون بالتعظيم والتقديس، من بين جميع الشرائع التي سنهّا
موسى، شريعة ” الراحة السبتية “. وكانوا، على توالي العصور، قد أشبعوها
بحثاً، متنافسين في التعليق عليها، والتانق في تفسيرها، والتزيدّ فيها. ونجد في
التلمود بابا، في هذا الشأن، يشمل لا أقلّ من 39 صنفاً من الأعمال التى تحرّمها
شريعة الراحة السبتية: منها كتابة أكثر من حرفين من حروف الأبجدية، ولّ رباط، وحمل
رزمة إلى أكثر من ألفي ذراع. وقد اختلفوا في بيضة السبت، أحلال أكلها أم لا!..
وأما استعمال أسنان مستعارة، وحمل أكثر من ثلاثة تعاويذ (أي ناب ثعلب، وبيضة جراد،
ومسمار رجل مشنوق) فقد ثبت، عند الفقهاء، تحريمها! وحسبنا إشارة عارضة إلى بعض تلك
الفرائض السخيفة، فتبين لنا رغبة المسيح في الرجوع بها إلى جادة الصواب. فقد ورد،
في إحدى تلك الفرائض ” أنه من المحرم قطع غصن، أو ورقة ن أو قطف ثمرة ن نهار
السبت “.. واتفق يوماً أن تلاميذ المسيح قد اقتلعوا سنبلاً نهار السبت،
واقتاتوا بها. فتمتم الفريسيون، قائلين: ” تطلع!.. لم يفعلون في السبت ما لا
يحل!؟ “. ويخيل إلينا أننا نسمع المسيح، وهو يجيبهم بلهجة مطمئنة، وربما بشئ
من السخر: ” أما قرأتم قط ما فعل داود، حين احتاج وجاع هو ومن معه، كيف دخل
بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة؟ ” (1 صموئيل 21) ثم
قال لهم: ” السبت جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت “. ولكن
مثل هذه الأدلة لم تكن لتفلح إلا قليلاً في إقناع أولئك المهوسين لطقوسهم، لا بل
كانت تزيدهم سخطاً ن يوماً بعد يوم، إلى ان طفح كيل التحدي، ساعة أبرأ المسيح،
بمعجزة، – في أحد السبوت – رجلاً مسكيناً مشلول الذراع. إذ ذاك لم يبق مجال للريب
والتردد، ” فخرجوا، وفي الحال، ائتمروا عليه، مع الهيرودسيين، ليهلكوه!”

 

هكذا،
منذ اللحظة التي استهل فيها المسيح بشارته، وجد نفسه في تعارض مع ” المحافظين
” من أهل زمانه؛ ومنذ طلع على العالك، ثبت كونه ” هدفاً
للمخالفة!”. ويسوغ القول: إن المؤامرة التي أفضت به إلى الإستشهاد، في فصح
سنة 30، كانت قد حبكت منذ اللحظة التي اتضحت فيها للفريسيين أهداف المسيح! أما
الهيرودسيون، خصومهم، والذين استنجدهم علماء الناموس على يسوع، فقد حملهم على
مناهضته دواع سياسية، وخوفهم من البلبلة التي راح يثيرها. وأما الفريسيون فقد كان
لهم به شأن آخر.. وهو أن يشهروا ذاك الذي ادعى الألوهية، واغتصب حقوقها. هناك
حادثة مفصلة رواها البشير يوحنا، ومن شأنها أن تقيم على ذلك دليلاً ساطعاً (يوحنا
5: 1 – 47). فقد كان عيد لليهود – لا شك عيد العنصرة – فشخص يسوع إلى أورشليم،
ومرّ بقرب بركة بيت حسدا، في ضواحي أورشليم، بالقرب من الباب الذي كانت تسُاق فيه
الأضاحي إلى الهيكل. وكان يطيف بالبركة أربعة أروقة، ويمتدّ، في وسطها، رواق خامس،
فباتت للناس منتدىً للتجمعّ والحديث. وكان اليهود ينسبون إلى مياه البركة طاقات
علاجية: فأوّل مريض كان ينحدر إليها، حالاً بعد تفوّر الماء، كان يبرأ حتما من
علّته.. ” في هذه، كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى وعمي وعرج وعسم يتوقعون
تحريك الماء “. وكان هناك رجل سقيم منذ ثمان وثلاثين سنة. فلمّا رآه يسوع
مضطجعاً قال له: ” أتريد أن تبرأ؟ ” فأجابه المريض: ” يا سيد، ليس
لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء، بل بينما أنا آت ينزل قدامي آخر!
“. فقال له يسوع: ” قم، احمل سريرك وامشِ! “. وفي الحال برئ الرجل.
وكان في ذلك اليوم سبت ”

 

.
حادثة شبيهة، في ذاتها، بالأحداث التي أتينا علي ذكرها، منذ لحظة. وكان سخط الفريسيين،
في أورشليم كسخط زملائهم في الجليل. بيد أن المسيح، لسبب نجهله -ربما تمهيداً لما
كان مزمعاً أن يحدث في المدينة المقدّسة – انتهزها فرصة للإفصاح عن مسلكه. فلقد
أجاب الذين هبوا يلومونه في تعدّيه لشريعة السبت: ” أبي يعمل حتى الآن، وأنا
أعمل! “. لو لم يكن قد صرّح للفريسيين، في الجليل، بعبارة مقتضبة: ” أنّ
ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً! “. بيد أنه، ههنا، قد أمعن في الإيضاح، معلنا
أنه هو شهيد الآب ورسوله، و” أن أعمالاً أعظم من هذه، سوف تتم عن يده “.
فالراقدون في القبور سوف يُبعثون لصوته، وسوف تفوّض إليه كل دينونة. وأما الشريعة
الموسويةّ الي انقطع الفريسيون لمدارستها فهم يسيئون فهمها. ولا يجيد تفسيرها إلاّ
يسوع، الذي هو المسج. ولسوف يشكوهم، عند الآب، موسى نفسهُ، وقد جاروا عن فهم خالصِ
شرائعه: كيف لا وقد سقط الإيمان عن قلوبهم، وتحجرّت نفوسهم، وراحوا يرسفون في أغلال
حرفيتهم وجمودهم واعتزازهم الباطل..

 

. لم
يكن التعارض إذن، بين يسوع وخصومه، من باب العرض، بل من صميم الجوهر. وكان لا
مندوحة، من ثم، عن أحد أمرين: إماّ أن يرضوا بيسوع ويتوبوا، وإماّ أن يشهروا في
وجهه عداء مستميتاً. وتلك، لعمري، ظاهرة لا تزال حتى اليوم بادية للعيان: فالناس
في موقفهم من الدين، أبداً، بين هذين الأمرين!.. وكنيسة المسيح، من قبل أن تنشأ،
كانت قد اهتدت إلى ساحات جهادها!..

 

.
أماّ المقاومات الأخرى الني تصدّ ت لكرازة المسيح، فقد باتت، من وجوه كثيرة، أقلّ
خطورة، وأقلّ مسَاَساً بمقوّماتها الجوهرية.. هناك حادثة أدرجها البشير لوقا،
حالاً بعد تلاوة السفر في مجمع الناصرة؛ وهي تنتسب إلى ذاك اللون من المعارضة
والإعنات، اَلذي طالما يتعرّض لمثله، ضمن عشيرتهم، أولئك الذين يحدوهم هدف عظيم..
فإذ جاء الناصرة يوماً، أقبل عليه قوم من مواطنيه، يلحفون في السؤال: ” كل ما
سمعنا أنك فعلت في كفرناحوم، افعله ههنا، أيضا، في وطنك! “.. من جواب المسيح،
يمكننا استنتاج ما خامر كلامهم من حسَدَ مرير! أجل! إن المسيح لم يرُسل ليكون
رهينة أهله وذويه؛ كما أن إيليّا – ذاك النبيّ العظيم – لم يوفد ليموّن بيوت الشعب
المختار، بل ليعول أرملة ” فينيقية ” فقيرة، في صرفة صيدا؛ وكما أن
أليشع قد آثر بالشفاء، على جميع برص إسرائيل، نعمان السوري، ذاك الرجل الغريب.. لم
يكن مثل ذاك الكلام ليرَوقَ أهل الناصرة، بل ليبعث في نفوسهم خيبة ذريعة.. لقد
منعهم من المعجزات – ” بسبب قلة إيمانهم “، يقول متى؛ وتلك ملاحظة لها
شأنها في بحث شروط المعجزة – وإذا به، بعد ذلك كله، ينبئهم بدعوة الأمم الأخرى إلى
الاشتراك في أمجاد إسرائيل. إذ ذاك ” امتلأوا كلهم حنقاً، وقاموا، ودفعوه إلى
خارج المدينة، واقتادوه إلى قمة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه، ليطرحوه
عنها. أما هو فجاز في وسطهم ومضى.. “. انسحاب يشبه أن يكون اختفاء مفاجئاٌ،
بل ربما اختفاء معجزاً، على حدّ ما يوحي به النص الإنجيلي..

 

. على
بعد كيلومترين، جنوبيّ غربيّ الناصرة، تشُاهد اليوم، من مرتفع صغير، الحفرة التي
أوشك اليهود أن يقذفوا فيها المسيح. وقد قامت، في الجوار، كنيسة حديثة على اسم
” سيدة الذعر “، فوق بقايا معبد قديم، من قبل القرن التاسع؛ وذلك إحياءً
لذكرى رواية اسطورية. فقد كان يحكى أن مريم، عندما سمعت توعّدات الشعب الثائر على
ابنها، خفِّتْ إلى الجمع تتعقب إثره. ولما أفضت إلى المكان الذي انطلق منه الصياح،
ألفت القوم وقد هدأت ثورتهم، ولم يكن يسوع بينهم. فأيقنت إذ ذاك، أنهم أوقعوا
بابنها، فاستندت إلى صخرة هناك وقد غابت عن وعيها من شدة الذعر والهلع: إذ ذاك
انفلقت الصخرة وآوتها!.

 

.
“ليس نبيّ مقبولاً في وطنه! “: قول مأثور جَمعَتْ فيه حكمة الأجيال
خلاصة هذه الحادثة الإنجيلية. فلئن كان نادراً أن يقبلَ عبقري في أهل بيته، فمن
الأندر أيضاً أن يقُبل في بني قومه. ففي نظر أولئك الريفيين من أهل الناصرة، هل
كان يسوع إلاّ واحداً منهم، شبيهاً بكل فرد من أفرادهم؟.. لقد كانت أمه، وحدها،
تحمل في قلبها سرّ مولده العجيب!.. بيد أن الموقف الذي وقفه من يسوع مواطنوه، بل
ذوو قرباه، له على التاريخ فضل عظيم: فهو يبينّ إلى أي حدّ كان المسيح، في ذاته،
وفي ظاهر حياته، إنساناً كباقي الناس، لا يبدو لمعاصريه إِلاّ من خلال طبيعته
البشرية! ما كان رأي أنسبائه، ورأيُ أبناء عمومته الكثيرين، مثلاً؟.. كانوا، ولا
شك، يعتقدون أن تلك البلبلة، إذا تمادت، فقد تنزِل به نوازل المكروه، وأن جلجلة
الصيت لاُ تحْمدُ عقباها. وكانوا يردّدون ما كان يجري على ألسنة الناس، من أنه
” شارد العقل! “، تلك التهمة التي ألصقت بكثير من أنبياء العهد القديم،
بل لقد خطر لبعضهم أن يلقوا القبضَ عليه، ويعزلوه عن الناس (مرقس 3: . 2 – 21)

 

بيد
أن تلك الحادثة المنكرة قد أفضت إلى عبرْةٍ قيّمة. فالمسيح كان واقفاً على أمر تلك
العداوة الناجمة عن محاذرات أهله وتحفّظاتهم. فكان لا.بدّ من أن ينتهز أوّل سانحة،
لوضع الأمور في نصابها. فإذ كان، ذات يوم، منصرفاً إلى التعليم، قيل له: ” إن
أُمّك وإخوتك في الخارج يطلبونك! “. فأجابهم: ” من أميّ ومن إخوتي؟..
“، وأجال نظره في المتحلّقين حوله، وقال: ” ها أمي وإخوتي! فإن من يعمل
مشيئة الله هو أخي وأختي وأميّ! ” إن أواصر الرحم قد تمسي، للذين يرومون حياة
الروح، قيداً لا طائل منه؛ وفي الكنيسة التي وُلدت من الإنجيل، إنما يكون ”
إخوةً ” أولئك الذين قبلوا بأن يخوضوا معاً مغامرة واحدة، واعتمدوا بمعمودية
واحدة، ودانوا بحبّ واحد. (مرقس 3: 31- 35؛ متى 12: 46؛ لوقا 8: 19)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى