علم الانسان

الإفخارستيا والإنسان الجديد



الإفخارستيا والإنسان الجديد

الإفخارستيا
والإنسان الجديد

rVvVr

لقد كشف المسيح بكل وضوح عن طعام جديد روحاني يتعاطاه
الإنسان الجديد المخلوق على صورة الله “في البر وقداسة الحق” (أف 24: 4)،
ليحيا به وتدوم حياته إلى الأبد، عِوَض الطعام المادي الذي يتعاطاه الإنسان العتيق
ويموت. وقد أوضح المسيح ذلك في قوله:

+ “1. الحق الحق أقول لكم: مَنْ يؤمن بي فله حياة
أبدية.

2. أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المَنَّ في البرية
وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو
الخبز الحي الذي نزل من السماء. إنْ أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.

3. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة
العالم” (يو 47: 6
51)

يتدرَّج
المسيح في هذا القول بذِكْر الحقائق الآتية:

1
إنَّ مَنْ يؤمن بالمسيح، ينال الحياة الأبدية، الذي يشرحه إنجيل القديس يوحنا في
موضع آخر بقوله: “الحق الحق أقول لكم: إنَّ مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي
أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى
الحياة” (يو 24: 5). وهذا في الحقيقة هو حال الإنسان الجديد الذي سمع خبر
البشارة، وآمن واعتمد للمسيح، ويكون هو الذي وُلِد ثانية من فوق ومن الماء والروح،
وصار مهيَّأً لدخول ملكوت الله حسب كلام المسيح لنيقوديموس: “الحق الحق أقول
لك: إن كان أحد لا يُولَد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.
المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو 5: 3و6)

2
يعود هنا المسيح ويقدِّم نفسه باعتباره الخبز الحي الجديد الذي نزل من السماء لكي
يأكل منه الإنسان ولا يموت بعد، بل يحيا إلى الأبد حتى وإنْ مات بالجسد. وواضح هنا
أن الذي يغتذي بالمسيح هو الإنسان الجديد المخلوق جديداً “من فوق”و“من الماء
والروح”، الذي خلقه المسيح في نفسه بقيامته من بين الأموات، ونلناه بالإيمان
والمعمودية.

3
عاد المسيح وحدَّد بوضوح شديد كيف سيُعطي نفسه خبزاً ليأكل منه الإنسان الجديد
ليحيا إلى الأبد بأن حدَّد أن الطعام الروحي للإنسان الجديد سيكون جسده الذي يبذله
عن حياة العالم. وهنا يدخل المعنى في تصوير مستيكي أي سرِّي شديد الشفافية، بمعنى
أن المسيح سيُقدِّم جسده على الصليب ذبيحة حيَّة مقدَّسة للآب عن خلاص العالم.
وهذه الذبيحة الحيَّة المقدسة لكي يتم عملها في الإنسان، بإعطاء الخلاص والغفران
والحياة والبر، يتحتَّم أن يأكل منها الإنسان لكي يكون شريكاً في فعلها الإلهي
السرِّي الفائق. ولكي يُعطي المسيح لكل إنسان الفرصة والحق ليأكل منها في كل مكان
وإلى مدى جميع الأزمان، قام يوم الخميس المبارَك برسم طقس ذبح الجسد على العشاء
الفصحي مع تلاميذه بأن أخذ خبزاً عادياً وشكر وبارك وكسر، وأعطى لتلاميذه برسم
الجسد المكسور على الصليب يوم الجمعة قائلاً بسر رهيب: “هذا هو جسدي المكسور من
أجلكم (على الصليب)، خذوا كلوا منه كلكم”. ثم عاد وأخذ الكأس الرابع في طقس عشاء
الفصح الممزوج خمراً وماءً، وشكر وبارك وأعطاه لتلاميذه قائلاً: “هذا هو دمي
المسفوك من أجلكم (على الصليب)، اشربوا منه كلكم”.

وهكذا حقَّق المسيح، بالفعل الإلهي السرِّي في الخبز والخمر،
الوجود المستيكي الإلهي للجسد الحقيقي
المذبوح على الصليب والدم المسفوك عليه.

وهكذا
حقَّق المسيح بالفعل الإلهي السرِّي ذبيحته الفصحية بجسده بواسطة الخبز والخمر.
حتى أن كل مَنْ أكل من هذا الخبز الفصحي السرِّي وهذا الخمر الفصحي السرِّي، يكون
قد أكل بالفعل السرِّي المسيح نفسه في حالة الذبيحة الفصحية التي قدَّمها للآب
لمغفرة الخطايا وحياة أبدية لكل مَنْ يتناول منه.

ثم
عاد المسيح ليوثِّق هذا الأكل والشرب الفصحي من جسده ودمه كعهدٍ أبدي معنا، فقال
باختصار ووضوح: “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أُقيمه في
اليوم الأخير” (يو 54: 6). ولكي يرفع عن ظنِّ الإنسان أنه يأكل خبزاً ساذجاً
وخمراً ممزوجاً ساذجاً، عاد فأكَّد: “لأن جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مشربٌ
حقٌّ” (يو 55: 6). والمعنى هنا عميق، إذ يفرِّق المسيح بين أكل الخبز الساذج
وشرب الخمر الساذج، وبين أكل الجسد الإلهي وشرب الدم الإلهي. فهنا الخبز الفصحي
المتحوِّل إلى جسد المسيح الذي استودع فيه المسيح قوة وحياة جسد الكلمة المُحيي،
لم يَعُدْ أكلاً ساذجاً يأكله الإنسان بالجسد ويموت، بل مأكلا حقًّا.
و“الحق”هو ما لا يتغيَّر ولا يزول، والله وحده هو الذي لا يتغيَّر ولا يزول،
بمعنى أن الذي يأكل الجسد ويشرب الدم الكائن بالقوة الإلهية في سرِّ الخبز المكسور
والخمر الممزوج إنما “يأكل الحق”و“يشرب الحق”، وهو أعمق تعبير سرِّي عن
استيعاب لاهوت المسيح الكائن في الجسد والدم الفصحي العامل لغفران الخطايا والحياة
الأبدية، الذي عبَّر عنه المسيح بعد ذلك تعبيراً مُبدِعاً بقوله: “مَنْ
يأكلني فهو يحيا بي” (57: 6)، الذي في صميم معناه قال بولس الرسول: “لا
أحيا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غل 20: 2)

وهكذا
أعطى المسيح عهداً أبدياً موثَّقاً أن كل مَنْ يأكل من الخبز المكسور الفصحي
والخمر الممزوج الفصحي، الذي نعبِّر عنه بسرِّ الإفخارستيا، يكون قد أكل المسيح
بحال ذبيحة فصحية على الصليب، الذي صار ضميناً لخلاص الإنسان غفراناً وحياةً أبدية.
لذلك يسمَّى خميس الفصح ب “خميس العهد”، وهو العهد الجديد كقول المسيح العلني:
“كذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي
يُسفك من أجلكم.”(لو 20: 22)

كما
أعطى المسيح استعلاناً جديداً لفاعلية الأكل من الجسد والشرب من الدم الفصحي بقوله:
“مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو 56: 6). هذا الثبوت
المتبادَل بالفعل السرِّي مع المسيح بواسطة الاشتراك في الجسد والدم، هو ما
يُعبَّر عنه لاهوتياً بالاتحاد السرِّي. الذي عبَّر عنه القديس يوحنا في رسالته
الأولى هكذا: “أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح” (1يو 3:
1). كما عبَّر عنه المسيح بقوله: “أنتم فيَّ، وأنا فيكم” (يو 20: 14)،
وقوله: “ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا
هم أيضاً واحداً فينا..” (يو 21: 17)، “أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا
مكمَّلين إلى واحد” (يو 23: 17)

بهذا
ندرك أن الطعام الجديد الروحي الذي أحدره لنا المسيح من السماء كخبز حي إلهي، وهو
جسده ليُطعم به الإنسان الجديد ليحيا وتدوم حياته إلى الأبد؛ هو جوهر العهد الجديد.
فنحن الذين أكلنا الجسد وشربنا الدم، دخلنا في صميم العهد الجديد وجوهره الذي صنعه
الله الآب معنا بدم ابنه الوحيد الذي شربناه من يده، فتغلغل الابن في أحشائنا
ودخلنا نحن في عمق أعماقه وصرنا في وحدة أمام عين الآب أهَّلتنا للبنوَّة وميراث
الابن الوحيد.

فالإفخارستيا طعام الحق هذا
للإنسان الجديد، قد رفعته من الأرض إلى السماء، ومن حال الخلقة الترابية التي
تدبُّ على الأرض كإحدى الدبابات إلى وجود سمائي وكيان روحاني يتراءى أمام الله في
حالٍ من البر والقداسة لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب، وهذا كله
كان حسب مسرَّة مشيئة الآب.

غير
أن في المعمودية يخرج الإنسان الجديد بمفرده حاملاً المسيح فيه حسب قول بولس
الرسول: “لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلَّكم الذين
اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل 26: 3)، “وتلبسوا الإنسان الجديد
المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف 24: 4). أما في سر الإفخارستيا
فيخرج المؤمنون متَّحدين في شركة معاً ومع المسيح: “كأس البركة التي
نُبارِكها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟
فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد”
(1كو 16: 10و17)

لهذا
يُقال للمؤمن إنه عضو واحد متميِّز في جسد المسيح حسب موهبة الروح التي أخذها من
الله ليخدم بها الجسد. ولكن يُقال عن المؤمنين معاً إنهم جسد المسيح الواحد أي
كنيسته.

كذلك
فإنسان المعمودية الجديد من فوق، هو روح ثابت لا يتغيَّر ولا يزول، على صورة
خالقه. أما الإفخارستيا فهي سرُّ التجديد الدائم للإنسان، يتجدَّد فينا بقدر ما
يَفْنَى الخارج يوماً فيوماً، حيث يتغيَّر الإنسان إلى صورة خالقه في المجد من
مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح، كلما أكلنا الجسد وشربنا الدم ودخلنا مجدَّداً
في سرِّ الشركة مع المسيح وسلكنا بالروح.

(يونية
1997)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى