اللاهوت الروحي

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل الرابع

20- أمثلة من الغيرة:

مقالات ذات صلة

1) الله نفسه

إن أردنا نأخذ أمثلة عن الغيرة المقدسة، فإن أول
مثال لنا هو الله نفسه، سواء فى أزليته، أو فى تجسده. ثم الملائكة وسائر القديسين،
فى العهدين القديم والحديث. مع أمثلة من تاريخ الكنيسة. ونبدأها بغيرة الله نفسة:

قرأنا لقبه فى مواضع كثيرة أنه ” إله
غيور”.

ورد فى سفر الخروج ” لأن الرب إسمه غيور.
إله غيور هو” (خر 34: 14). وفى سفر التثنية ” الرب إلهك هو نار آكلة.
إله غيور” (تث 4: 24). وقيل عنه فى سفر يشوع ” إله قدوس وإله غيور
هو”. (يش 24: 19). وفى سفر ناحوم ” الرب إله غيور” (نا 1: 2).
ويتحدث السيد الرب عن غيرته الإلهية، فيقول: “.. أغار على إسمى القدوس”
(حز 39: 25).

 

و غيرة الرب تظهر فى معاقبته للشر، سواء صدر من
شعبه أو من الأمم. فمن جهة أهل أورشليم الذين نجسوا مقادسه، يقول ” أنا الرب
تكلمت فى غيرتى.. أتممت سخطى فيهم” (خر 5: 13). كذلك تلكم عن غيرته ونار سخطه
فى اجتياح جوج لإسرائيل (حز 38: 19). أما عن الأمم فيقول الكتاب ” هكذا قال
السيد الرب: إنى فى نار غيرتى تكلمت على بقية الأمم الذين جعلوا أرضى ميراثاً لهم..”
(حز 36: 5) مع ” غضب عظيم على الأمم” (زك 1: 14)

 

وفى غيرة الرب التى تضرب الأشرار، قيل:

“لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع أن ينقذهم فى
يوم غضب الرب. بل بنار غيرته تؤكل الأرض كلها” (صف 1: 18).

 

ومن الناحية الأخرى، فى غيرته ينقذ شعبه:

فيقول “الآن أرد سبى يعقوب، وأرحم كل بيت
إسرائيل، وأغار لاسمى القدوس” (خر 39: 25). وأيضاً ” هكذا قال رب الجنود
إلى أورشليم، فيبنى بيتى فيها” (زك 1: 14). ” لأنه من أورشليم تخرج بقية،
وناجون من جبل صهيون. غيرة رب الجنود تصنع هذا” (إش 37: 32).

 

لذلك كان الناس يصرخون إلى غيرة الرب لأنقاذهم:

فيقولون له ” تطلع من السماء، وانظر من
مسكن قدسك ومجدك. أين غيرتك ووجبروتك ” (إش 63: 15). وهكذا نرى أن يؤئيل
النبى نادى بصوم وتذلل وتوبة، وبأن يبكى الكهنة أمام الرب ” فيغار الرب لأرضه،
ويرق لشعبه” (يؤ 2: 18).

 

بل أن غيرة الرب على خلاص شعبه، كانت سبب التجسد

 

و هكذا قيل فى سفر اشعياء النبى ” لأنه
يولد لنا ولد، ونعطى إبنا، وتكون الرياسة على كتفه. وبدعى إسمه عجيبا مشيراً، إلها
قديراً، أبا أبدياً رئيس السلام لنمو رياسته وللسلام لا نهاية.. غيرة رب الجنود
تصنع هذا” (إش 9: 6، 7)

 

هذه الغيرة على خلاص وعلى القداسة والملكوت
نجدها فى تجسد السيد المسيح:

 

غيرة الرب هذه واضحة فى تطهيره للهيكل، إذ
” وجد فى الهيكل الذين كانوا يبيعوا بقراوغنما وحماماً، والصيارفة جلوساً،
فصنع سوطاً من حبال، وطرد الجميع من الهيكل، الغنم، والبقر. وكب دراهم الصيارف
وقلب موائدهم. وقال لباعة الحمام ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبى بيت
تجارة” (يو 2: 14 – 16). ويعلق القديس يوحنا الانجيلى على تطهير الخيكل فيقول:

 

” فتذكر تلاميذه أنه مكتوب: غيرة بيتك
أكلتنى” (مز 69: 9). وفى غيرة السيد المسيح لخلاص الناس، بذل ذاته عنهم.

 

كانت غيرة عملية بكل عمق الكلمة. لم تكن مجرد
رغبة فى أن تخلصوا. وإنما جمل خطاياهم، ودفع ثمنها على الصليب، ومات عنها.. إنها
الغيرة التى فيها الحب والبذل. وليس مجرد بذل شئ خارجى، إنما بذل الذات والحياة.
وهكذا ضرب لنا المثل الأعلى فى الغيرة العملية.

 

وفى فترة خدمته على الأرض، كانت له الغيرة
المملوءة حباً.

 

كان من أجلهم ” يطوف المدن كلها والقرى،
يعلم فى مجامعها ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب ”
وماذا أيضاً؟ يقول الكتاب ” ولما رأى الجموع تحنن عليهم، إذ كانوا منزعجين
ومطرحين كغنم لا راعى لها” (متى 9: 35، 36). وقال عنه القديس بطرس الرسول إنه
كان يجول يصنع خيراً (أع 10: 38).

 

وكان الله – من غيرته على خلاص الناس – يكلف
ملائكته بأن يكونوا خداماً لهذا الخلاص.

 

2) الملائكة

هؤلاء هم الذين قال عنهم القديس بولس الرسول:

” أليسوا جميعهم أرواحاً خادمة، مرسلة
للخدمة، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14).

ولعل من أروع الأمثلة التى تروى عن غيرة
الملائكة، ما رواه الكُتّاب لنا عن غيرة السارافيم لأجل الخدمة وخلاص الناس، مع
أنهم ملائكة للتسبيح، هؤلاء لما سمعوا اشعياء النبى يقول “ويل لى قد هلكت،
لأنى إنسان نجس الشفتين” (أش 6: 5)، لم يتباطأ أبداً، ولا انتظروا أمراً ولا
دعوة. إنما اشتغلوا بكل سرعة وبكل غيرة. وهنا يقول اشعياء:

 

” فطار إلى واحد من السارافيم، وبيده جمرة
أخذها بملقط من على المذبح، ومس بها فمى، وقال ” قد انتزع إثمك، وكفر عن
خطيئتك” (أش 6: 6، 7).

 

لاحظ هنا كلمة (طار) إذ تدل على السرعة، وكلمة
(جمرة) تدل على الحرارة. وكلاهما من خواص الغيرة: الحرارة السرعة.

 

ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن عمل الملائكة من أجل
خلاص الناس، سواء فى تبشيرهم، أو خدمتهم، أو حلولهم حول خائفى الله وتنجيتهم (مز
34: 7) أو نقلهم رسائل الله إلى خدامه.. إنهم الذين قيل عنهم فى المزمور ”
المقتدريت قوة الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه” (مز 103: 20).

 

ومن أمثلة خدمة الملائكة، أنقاذ أحدهم ليهوشع
الكاهن.

 

كان الشيطان قائما عن يمين يهوشع الكاهن العظيم
ليقاومه. كان يهوشع لابساً ثياباً قذرة. وتدخل ملاك الرب وقال للشيطان ”
لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب.. أفليس هذا شعلة منتشلة من النار” (زك
3: 2). وهكذا نزعوا عن يهوشع الملابس القذرة، ألبسوه ملابس مزخرفة. وأشهده ملاك
الرب على السلوك فى طريق الله (زك 3: 3- 7).

 

ومن أمثلة غيرة الملائكة، مما فعله الملاكان
اللذان انقذا لوط من حريق سادوم.

 

قيل إن الملاكين قالا للوط ” من لك أيضاً
ههنا؟ أصهارك وبنيك وبناتك، وكل من هو لك فى المدينة. اخرج من المكان، لأننا
مهلكان هذا المكان.. ولما طلع الفجر، كان الملاكان يعجلان لوطاً.. ولما توانى
أمسكا بيده وبيد إمراته وبيد بنتيه، لشفقة الرب عليه، وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة..”
(تك 19).

 

3) موسى النبي

هذا الرجل الذى كانت له الغيرة على ملكوت الله،
حتى صار بطل الإيمان فى عصره. ومن أجل غيرته، ترك الإمارة والقصر الملكى، ليقود
الشعب فى عبادة الله. ولذلك ” أبى أن يدعى إبن إبنة فرعون، منفصلا بالأخرى أن
يدل مع شعب الله.. حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر..” (عب 11: 24 –
26).

 

فضرب مثلا بغيرته، حينما عبد الشعب العجل الذهبى:

 

لقد أخذ موقفاً حازماً جداً مع الشعب الخاطئ.
لأنه لما اقترب من المحلة وأبصر العجل والرقص، يقول عنه الكتاب ” فحمى غضب
موسى، وطرح اللوحين من يديه وكسرهما فى أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذى صنعوه،
وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعماً، وذراه على وجه الماء” (خر 32: 19، 20).
ووبخ هرون رئيس الكهنة. وأمر بضرب الشعب، فمات فى ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل
(خر 32: 28).

 

وكما أن غيرة موسى جعلته يأخذ موقفاً حازما مع
الشعب، كذلك جعلته غيرته أنه يشفع فيهم أمام الله.

 

 فلما
أراد الرب إفناءهم بسبب خطيتهم هذه، وقف موسى شفيعاً يقول ” لماذا يا رب يحمى
غضبك على شعبك.. ارجع عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك. اذكر إبراهيم واسحق
وإسرائيل عبيدك..” (خر 32: 11- 13). بل قال له أكثر من هذا ” والآن إن
غفرت خطيتهم، وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت” (خر 32: 32).

 

إنها غيرة مزدوجة: فيها الحزم، وفيها الحنو.

 

فيها التأديب، وفيها الشفاعة إنها تريد خلاص
الناس وليس هلاكهم. وإن كان خلاصهم يحمل ضربهم، فلا مانع: “وأى إبن لا
يؤدبه؟!” (عب 12: 7) لاشك أن مثال غيرة موسى هذه هو من الأمثلة النادرة التى
تحمل معنى مزدوجاً..

 

4) فينحاس

فينحاس Phinehas كان كاهناً للرب، حفيد هرون رئيس الكهنة. حدث بعد مقابلة بلعام
لبالاق، أن الشعب ابتدأ يزنى مع بنات موآب. وإذا برجل قد دخل بإمرأة أمام عينى
موسى وأعين كل الجماعة، وهم باكون لدى باب خيمة الاجتماع. وحينئذ اشتعل فينحاس
بالغيرة المقدسة، ودخل وراء الرجل والمرأة وقتلهما، وتطهرت المحلة بسفك دمهما.

 

فعل هذا دون أن يدعوه أحد إلى فعل ذلك. وامتدح
الله غيرة فينحاس.

 

واوقف الله الوبأ الذى الذى كان قد قتل اربعة
وعشرين الفاً من الشعب بسبب زناهم. ” وكلم الرب موسى قائلاً: فينجاس بن
العازار بن هرون الكاهن قد رد سخطى عن بنى إسرائيل بكونه غار غيرتى فى وسطهم، حتى
لم افن بنى اسرائيل بغيرتى” (عدد 25: 6 – 11).

 

5) الفتى داود

تحدثنا فى الفصل الأول عن غيرة داود الملك، الذى
قال للرب ” غيرة بيتك أكلتنى” (مز 69: 9). داود الذى بقلب مملؤ من
الغيرة المقدسة أعد كل شئ لبناء بيت للرب (1أى 29). نعم داود الذى كانت غيرته
تجعله يكتئب ويبكى بسبب الخطاة الذين تركوا ناموس الرب. (مز 119).

 

ولكننا نريد هنا أن نتكلم عن غيرة داود وهو فتى،
حينما حارب جليات:

 

نذكر هذا المثال، لأنه كان فتى صغيراً، وليس من
رجال الحرب. ولم يكن مسئولاً عن رد تعيير جليات. بل قد وبخه أخوه اليآب ضخما
مخيفاً للجيش كله (1صم 17: 24). وما كان أحد يلوم الفتى داود إن لم يتطوع لمقاتلة
جليات، بل الملك شاول نفسه تعجب لما قال داود” عبدك يذهب ويحارب هذا
الفلسطينى”. فأجابه الملك: لا تستطيع أن تذهب لتحاربه، لأنك غلام وهو رجل حرب
منذ صباه (1صم 17: 32، 33).

 

ولكن داود دعته غيرته، فأراد أن يزيل العار عن
صفوف الله الحى (1صم 17: 26).

 

الجيش كله يسمع تعيير الرجل دون أن يجرؤ على عمل
شئ بل أن ” جميع رجال إسرائيل، لما رأوا الرجل هربوا منه وخافوا جداً”
(1صم 17: 24). ولكن داود لم يخف، كانت غيرته لا تعتمد على الذات، بل على الله.

 

إنها غيرة مؤمنة بعمل الله. لا تقف لتعرض ذاتها
وعملها. إنها الغيرة التى تقول لعدو الله ” أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس.
وأنا آتى إليك باسم رب الجنود.. فى هذا اليوم يحسبك الرب فى يدى.. لأن الحرب للرب،
وهو يدفعكم ليدنا” (1صم 17: 45 – 47).

 

إنها الغيرة التى لا تنتظر دعوة لكى تعمل..

 

إنها يدعوها قلبها الملتهب من الداخل، الذى لا
يستطيع أن يقف صامتاً لايتكلم. ولا يستطيع أن يقف جامداً لا يتحرك. إن الاحداث
تدفعه دفعاً، ولوفى الأمر خطورة. وهكذا تصرف فينحاس أيضاً.

 

كان هناك من هم أكبر من داود، ولم يتصرفوا.

 

ولكن الذى كان فى قلبه كان أكبر بكثير مما كان
فى قلوبهم. كانت فى قلبه غيرة، نار متقدة، مع إيمان، وعدم خوف. وبهذا الكنز
الداخلى تقدم، وعمل الله فيه وبه.

 

6) إيليا النبي

إنه ذلك النبى القوى الذى قال للرب غرت غيرة
للرب إله الجنود، لأن بنى إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا انبياءك
بالسيف..” (1مل 19: 14). وغيرة إيليا جعلته يواجه الملك ويوبخه، كما سببت له
غيرته اتهامات ومتاعب.

 

كانت عبادة الأصنام منتشرة فى عهده. بسبب الملك
آخاب وزوجته الملكة إيزابل، التى كان يأكل على متئدتها اربعمائة وخمسون من أنبياء
البعل واربعمائة من أنبياء السوارى (1مل 18: 19).

 

وغيرة إيليا دفعته أن يصلى لتحدث ضيقة، يمكن بها
أن تستيقظ الضمائر..

 

فصلى صلاة أن لا تمطر السماء ن فلم تمطر ثلاث
سنين وستة أشهر (يع 5: 17)

 

قال فى غيرته وقوة إيمانه”.. لا يكون طل
ولا مطر فى هذه السنين، إلا عند قولى” (1مل 17: 1). وقد كان وحدثت المجاعة،
واستمرت سنوات. حتى أنه لما تقابل مع الملك آخاب، قال له الملك ” هل أنت مكدر
اسرائيل؟” (1مل 18: 17). فأجابه إيليا بكل جرأة غيرته ” بل أنت وبيت
أبيك، بترككم وصايا الرب، وبسيرك وراء البعليم”.. وانتهى الأمر برجوع المطر،
وبقتل كل أنبياء البعل والسوارى..

 

إنها غيرة قوية وجريئة وحازمة، طهرت الأرض من
الوثنية..

 

ولكنها عرضت إيليا للمتاعب: عرضته لمواجهة الملك
الذى كان يريد قتله، والذى بسببه اختبأ انبياء الرب فى المغاير. وكان عوبديا،
الرجل الطيب، يخافه أيضاً (1مل 18). وتعرض إيليا لغضب إيزابل التى كانت أقوى وأقسى
من آخاب، والتى لما سمعت بما فعله إيليا، ارسلت إليه تنذره بأنها ستقتله (1مل 19: 1).
واضطر ايليا إلى الهرب من من وجهها. ولم يسمح لها الرب أن تنفذ وعيدها.

 

7) إشعياء النبي

غيرته يمثلها قول المزمور ” مستعد قلبى يا
الله، مستعد قلبى” (مز 56).

هذا الذى لما سمع صوت السيد الرب قائلا ”
من أرسل؟ ومن يذهب لأجلنا؟ ” أجاب على الفور ” هأنذا ارسلنى” (أش 6:
8).

 

البعض قد يفهم التواضع بمعنى الاعتفاء من الخدمة
والهروب منها. ولكن الغيرة بكل محبة تقدم نفسها للخدمة.

 

تتقدم الغيرة إلى خدمة. ولا يكون ذلك عدم اتضاع.

 

لأنها تعرف أنها ستخدم بعمل الله فيها، منكرة
ذاتها تماماً. مثلما تقدم داود لمقاتلة جليات وهو يقول ” اليوم الرب يحبسك فى
يدى. الحرب للرب، وهو يدفعكم ليدنا” (1صم 17).

 

8) الإثنا عشر رسولاً

بغيرة الآباء الرسل تأسست الكنيسة وانتشرت فى
الأرض كلها.

هؤلاء الذين لا صوت لهم ولا كلام، إلى أقصاء
المسكونة بلغت أصواتهم. بعزيمة لا تفتر وعمل لا يعرف الراحة، وباحتمال عجيب. لذلك
استطاعوا أيقولوا لما حاولوا منعهم: نحن لا يمكننا أن لا نتكلم.. (أع 4: 20).
ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس (أع 5: 29).

 

وهكذا كانوا ” يتكلمون بكلام الله مجاهرة
” بكل شجاعة ” وكانوا كل يوم فى الهيكل وفى البيوت معلمين ومبشرين بيسوع
المسيح” (أع 5: 42) ” وكان الرب كل يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون”
(أع 2: 47) ” وكان مؤمنون ينضمون إلى الرب أكثر، جماهير من رجال ونساء”
(أع 5: 14).

ومن أجل غيرة الرسل احتملوا الجلد والإهانة
والسجن.

ولما سجنوهم وجلدوهم ثم أطلقوهم “خرجوا
فرحين لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل إسمه” (أع 5: 41). ولما أوقفوهم
أمام المجمع قال لهم رئيس الكهنة ” أما أوصيناكم وصية أن لا تعلموا بهذا
الإسم. وها أنتم قد ملأتم أورشليم بتعليمكم، وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا
الإنسان” (أع 5: 28). ولما طردوهم من أورشليم بعد استشهاد أستفانوس، يقول
عنهم الكتاب:

 

” الذين تشتتوا، جالوا مبشرين
بالكلمة” (أع 8: 4).

 

كانوا كقطع من فحم، اشعلتها نار الروح القدس فى
يوم الخمسين، فتطايرت شراراتها إلى أقصاء الأرض، واشتعل العالم ناراً..

 

وهكذا نفذوا وصية الرب الذى قال لهم”..
وتكونون لى شهوداً فى أورشليم وفى كل اليهودية والسامرة، وإلى أقصى الأرض”
(أع 1: 8).

 

لقد شهدوا للمسيح، ونالوا فى ذلك أكاليل الشهادة.

 

وكانوا لا يخافون الموت اطلاقاً، ولا تزعجهم
الضيقات ولا العذابات ولا المحاكمات ولا السجون. المهم أن يشهدوا للرب وليكن بعد
ذلك ما يكون..

 

وإلى جوار الاثنى عشر فى الغيرة، لابد أن نضع
إسم بولس الرسول.

 

9) غيرة القديس بولس الرسول

إنه من أروع الأمثلة البشرية للغيرة المقدسة، بل
هو أروعها فعلاً.

عندما آمن بالميسحية، دخلتها طاقة عجيبة من
الحرارة والقوة.

فاستطاع أن يشهد للرب فى أورشليم، وفى بلاد
اليهودية، وفى قبرص، وآسيا الصغرة. وثم فى بلاد اليونان، وفى ايطاليا. وهو الذى
أسس كنيسة رومة * يضاف إلى 14 رسالة كتبها، وكانت لها أهميتها فى وضع قواعد
الإيمان المسيحى وانتشاره. وقد كتب بعضها وهو فى السجن.

 

أية غيرة هذه: أن الإنسان يبشر وهو فى السجن!

بل ما أجمل ما يقوله عن انسيمس ” الذته فى
قيودى” (فل 10). ومن السجن يكتب إلى أفسس، قائلا لأهلها ” أطلب إليكم
أنا الأسير فى الرب أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التى دعيتم إليها” (أف 4: 1).
كان وهو أسير، فى السجن، يهتم بخلاص غيره.

 

بل أن اهتمامه بخلاص غيره، فاق اهتمامه بنفسه.
ولذلك فإنه فى محبته العجيبة لمواطنيه، يقول عبارته المؤثرة جداً، المملوءة غيرة
وحباً.. يقول:

 

“.. كنت أود لو أكون أنا نفسى محروماً من
المسيح، لأجل أخوتى وانسبائى حسب الجسد..” (رو 9: 3).

 

غيرته إذن مبنية على الحب العميق، الذى يريد فيه
خلاص الكل، ويخشى فيه على الحب العميق، الذى يريد فيه خلاص الكل، ويخشى فيه على
الكل من السقوط. فيقول لأهل كورنثوس ” إنى أغار عليكم غيرة الله. لأنى خطبتكم
لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح. ولكننى أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها
تفسد أذهانكم عن البساطة التى فى المسيح” (2كو 11: 2، 3).

 

بولس الرسول من أجل غيرته على الملكوت، كان دائم
الأسفار، يحتمل المتاعب لنشر الايمان.

 

إنه يقول عن خدمته ” ثلاث مرات انكسرت بى
السفينة. ليلاً ونهاراً قضيت فى العمق. بأسفار مراراً كثيرة. بأخطار سيول، بأخطار
لصوص، بأخطار من جنسى، بأخطار من الأمم. بأخطار فى المدينة، بأخطار فى البرية،
بأخطار فى البحر. فى تعب وكد، فى أسهار مراراً كثيرة. فى جوع وعطش، فى أصوام
مراراً كثيرة. عدا ما هو دون ذلك..” (2كو 11: 25: 27). وما هو ذلك؟ يقول:

 

” التراكم على كل يوم. الاهتمام بجميع
الكنائس” (2كو 11: 28).

 

هذه هى الغيرة حقاً. التى أمامها نقف متعجبين
حينما يحارب شاب بالمجد الباطل، لمجرد أنه يدرس فصلا فى التربية الكنسية، أو يلقى
عظة فى كنيسة!!

 

أما القديس بولس الرسول، فبالاضافة إلى كرازته
فى ميادين جديدة، كان عليه الاهتمام بالكنائس القائمة: يدبر ويفتقد ويرعى، حتى وهو
فى السجن.

 

وما أكثر الآلام التى تحملها القديس بولس بسبب
غيرته على الملكوت.

 

يشرحها فيقول ” فى الأتعاب أكثر، فى
الضربات أوفر، فى السجون أكثر، فى الميتات مراراً كثيرة. من اليهود خمس مرات قبلت
أربعين جلدة. ثلاث مرات ضربت بالعصى. مرة رجمت..” (2كو 11: 23 – 25).

 

وعن تعبه وتعب زملائه فى الخدمة يقول ” فى
كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله فى صبر كثير، فى شدائد ضرورات فى ضيقات، ضربات فى
سجون فى اضطرابات، فى أتعاب فى أسهار فى أصوام.. كمضلين ونحن صادقون.. كمائتين وها
نحن نحيا.. كحزانى دائما فرحون..” (2كو 6: 4-10).

 

إن الغيرة لم تنفصل إطلاقاً عن الصليب، فى خدمة
بولس الرسول وزملائه.

 

ولذلك فإنه يصف حياته وحياتهم فى الخدمة
فيقول”.. مكتئبين فى كل شئ، لكن غير متضايقين. متحيرين ولكن غير بائسين،
مضطهدين لكن غير متروكين، مطروحين لكن غير هالكين، حاملين فى الجسد كل حين إماته
الرب يسوع.. ” (2كو 4: 8 – 10). هذه هى حالتهم، لئلا يظن البعض أن حياة
القديس بولس كانت مجرد مجد كقديس ورسول.

 

أو لئلا يظن البعض أن الغيرة هى حماس يامر وينهى،
وينتقد ويوبخ!!

 

وينسى أن الذى يحيا حياة الغيرة المقدسة، يجاهد
لأجل الملكوت، لابد أن يحمل صليبه كل يوم ويتبع الرب..

 

ما أكثر ما يمكن أن يقال عن القديس بولس الرسول:

 

لقد تكلمنا فى الفصل الأول عن غيرة بولس الرسول،
وفى الفصل الثالث عن ثمر هذه الغيرة في حياة بولس الرسول. وما نقوله الآن لا يكفى..

 

10) القديس استفانوس

إن غيرته كانت ثمرة طبيعية لمواهبه وروحياته:

لقد اختير شماساً من ” المملوئين من الروح
القدس والحكمة”.

وقيل كان رجلاً مملوءاً من الإيمان والروح
والقوة (أع 6: 3، 5، 8).

وإنه ” كان يصنع عجائب وآيات عظيمة فى
الشعب” (أع 6: 8).

وق بدأ أسطفانوس عمله بقوة. فماذا كانت نتائج
غيرته؟

” كانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ
يتكاثر جداً. وجمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان” (أع 6: 7).

 

ولم يحتمل المقاومون غيرة اسطفانوس وعمله، فنهض
لمحاورته قوم من مجمع الليبرتينيين والقيروانيين والاسكندريين، ومن الذين من
كيليكية.

 

” ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح
الذى كان يتكلم به” (أع 6: 10).

 

وإذ لم يقدروا على مقاومة غيرته بكل مواهبها،
دسوا له الدسائس واتهموه بالتجديف، وسلموه للجميع لكى يرجموه.

 

وفى أثناء المحاكمة والرجم لم تفارقه غيرته.
فكان يشرح الإيمان ويوبخ رؤساء اليهود على قساوة قلوبهم.

 

هذا هو اسطفانوس، الذى لم يكن رسولاً ولا أسقفاً،
وإنما كان شماساً. ولكنه شماس مملوء من الغيرة، يعمل بقوة جبارة بالروح القدس الذى
فيه..

 

وكانت لغيرته ثمار لم يحتملها أعداؤه.

 

وكانت له جرأة لم يستطيعوا أن يحتملوها ايضاً.
فحنقوا عليه، وسدوا آذانهم دون كلماته، وهجموا عليه بنفس واحدة، وأخرجوه خارج المدينة
روجموه (أع 7: 54 – 58).

وصار أول الشهداء فى المسيحية..

مدة خدمة قصيرة، ولكنها مثمرة، وقوية..

ننتقل إلى أمثال آخر فى الغيرة، استفدنا جميعاً
من خدمته وقوتها، هو: القديس مرقص الرسول.

 

11) القديس مرقس الرسول

غيرته تمثل الثمر الكثير، على الرغم من عوائق
أكثر.

بدأ من فراغ وانتصر على كل الصعوبات. جاء إلى
مصر، إلى بلد لا كنيسة فيه، ولا شعب، ولا مسيحية، ولا أية امكانيات. بل كانت فيه
العبادات الفرعونية بقيادة كبير الآلهة رع، والعبادات اليونانية بقيادة كبير
الآلهة زيوس، والعبادات الرومانية بقيادة كبير الآلهة جوبتر. بالاضافة إلى
اليهودية التى كانت تشغل حيين من أحياء الأسكندرية، مع عبادات شرقية أخرى.. مع
الفلسفة التى تزخر بها مكتبة الاسكندرية الشهيرة.. هؤلاء جميعاً تسندهم سلطة
الدولة الرومانية بكل قسوتها.

 

وكانت غيرة مارمرقس أقوى من تلك المقاومات.

لم تكن له أية أمكانيات مادية على الاطلاق، بل
دخل مصر بحذاء مقطوع من كثرة المشى على قدميه.. ولم يجد شعباً مؤمناً، فعمل على
تكوين شعب مؤمن..

 

واستطاع مارمرقس بغيرته على ملكوت الله، أن ينشر
المسيحية فى مصر، وفى ليبيا. كما ساعد بولس الرسول فى تبشير رومه، وكثير من بلاد أوربا.
واسس فى الإسكندرية أول مدرسة لاهوتية، أعدت قادة للإيمان فى الشرق كله. كما أنه
كتب الإنجيل الذى حمل إسمه، وكان مصدراً للإيمان فى العالم كله.

 

كانت غيرته كافية لكرازة مصر، وكانت أكبر من مصر.

 

فانتشر الإيمان على يديه فى أماكن متعددة. وكثرت
اسفاره لنشر الملكوت فى أقطار أخرى. فاضطر إلى سيامة اسقف عام لمساعدته، يحل محله
أثناء سفره. ذلك هو القديس انيانوس أول خلفاء مارمرقس على كرسيه فى الإسكندرية.

 

وطبعاً ما كان ممكناً لأعداء الإيمان أن يحتملوا
غيرة مارمرقس ونشره للإيمان.

 

فنال إكليل الاستشهاد على أيديهم سنة 68 م. وترك
لنا إيماناً راسخاً مازلنا نحن فى ظلاله إلى يومنا هذا. وبقى أن يقتضى أبناء
مارمرقس آثار غيرته، ويتتبعوا خطواته.

 

ولا يقل أحد: أنا مستعد أن أخدم، ولكن لا توجد
إمكانيات.

 

لقد خدم مارمرقس بدون إمكانيات. بدأ من فراغ كما
قلنا وفراغ محاط بمقاومات.. ولم يكن يملك سوى غيرته. وهكذا باقى الرسل.

 

لم يكن طريقهم سهلاً ولا مهداً، بل كان مليئا
بالصعوبات، إذ أنهم خدموا فى بلاد وثنية. واليهود كانوا ضدهم. وكذلك الدولة
الرومانية.

 

هم تعبوا، ونحن دخلنا على تعبهم (يو 4: 38).

 

كما تعب المسيح من قبل، والرسل دخلوا على تعبه.
ونتيجة لهذا التعب كله، كانت الكنيسة فى نمو مستمر.

حقاً للغيرة نتيجتين: تأسيس الملكوت، وايضاً
نموه.

 

12) القديس أثناسيوس الرسولي

حقا ما أصدق ما قاله القديس جيروم عن أثناسيوس
وجهاده ضد أريوس والأريوسية، وكيف استطاع أن يحول مجرى التاريخ.. قال:

مر وقت كاد فيه العالم كله أن يصبح أريوسياً،
لولا أثناسيوس..!

بدأت المشكلة الأريوسية قبل اثناسيوس بزمن. ومن
أجلها عقد البابا ألكسندروس (البطريرك 19) مجمعاً مكانياً حضره مائه أسقفاً من
أساقفة مصر والخمس المدن الغربية. وحينما عقد مجمع نيقية المسكونى سنة 325 م، كان
أثناسيوس مايزال شاباً، وشماساً.

 

ولكن هذا الشماس الشاب شعر أن المسئولية ملقاة
على عاتقه. وشعوره بالمسئولية كان مصدر غيرته.

 

كان فى المجمع 318 أسقفاً يمثلون كنائس العالم
المسيحى كله. وكان من بينهم بطاركة وعظام ورؤساء كنائس. ولكن أثناسيوس الشماس شعر
أن الإيماس المسيحى كله أمانة فى عنقه. فوقف يدافع عنه بكل حماس، ويرد على كل حجج
أريوس ببراهين لاهوتية أقوى منها. واستطاع أن يصوغ بنود قانون الإيمان المسيحى.

 

ولما صار أثناسيوس بطريركاً تصدى أيضاً
للأريوسيين، ووضع كتاباً ضدهم إسمه
Contra Arianos (ضد الأريوسيين).

 

وهو من أربعة أجزاء، تناول فيه كل الآيات التى
يعتمدون عليها، ووضع التفسير السليم لها، ورد على فهمهم الخاطئ. كما وضع الكثير من
المؤلفات، فى الدفاع عن الإيمان النيقاوى..

 

وبسبب غيرته تعرض لاضطهادات كثيرة..

 

فاتهمه أعداء الإيمان بتهم مريرة، ودسوا له الدسائس
عند الامبراطور، ونفى عن كرسيه أربع مرات. ولكن غيرته لم تفارقه فى أماكن منفاه،
بل كان فى كل مكان ينفى إليه، ينشر الإيمان السليم، ويشرح العقيدة، ويرد على
لأريوسية، ويعقد مجامع ضدها. وينتهى الأمر برجوعه إلى كرسيه، فيواصل جهاده لينفى
مرة أخرى 45 سنة قضاها على الكرسى المرقسى فى جهاد مستمر.

 

ومن أجل غيرته على الإيمان، اصبح عنواناً
للإيمان بحيث أن الذى يريد أن يثبت صحة إيمانه، يقول ” أنا على إيمان
أثناسيوس”. ولم تفتر حرارة هذا القديس يوماً واحداً. بل كانت قوة الأريوسية
تلهب غيرته بالأكثر، حتى ثبت الإيمان على قواعد سليمة.

 

وهذه الغيرة بدأت معه، منذ معه، منذ سنى شبابه
المبكر، حيث وضع كتابين هامين هما:

 

كتاب تجسد الكلمة، وكتاب ” رسالة ضد
الوثنيين”.

 

وضعهما وهو شماس شاب. ومع ذلك صاراً مرجعين
هامين، ينتفع بهما كل جيل أتى بعده، حتى يومنا هذا..

 

ولم يكتف بالرد على الأريوسية، بل تتبع كل هرطقة..

 

وهكذا وضع أيضاً رسائله عن الروح القدس، التى
وضح فيها الإيمان السليم بهذا الأقنوم الإلهى..

 

وصارت غيرة اثناسيوس وإيمانه وجهاده مضرب
الأمثال، حتى أنه لما اشتهر القديس ايلارى أسقف بواتييه فى دفاعه عن الإيمان،
أسموه أثناسيوس الغرب..

 

نقول هذا ونعجب من الذين يتساهلون فى نقاط كثيرة
فى الإيمان، ومع ذلك يقولون أنهم أبناء أثناسيوس.

 

13) الأرشيدياكون حبيب جرجس

عاش فى عصر مظلم، لم يكن فيه وعاظ، ولا أساتذه
للاهوت. وحتى الايغومانوس فيلوثاوس ابراهيم الذى كان بقية نور فى تلك الأيام، لم
تساعده صحته على إكمال رسالته، وانتقل من عالمنا..

 

وكان حبيب جرجس أول طالب التحق بالاكليريكية
الحديثة سنة 1893، ولم يكن بها مدرس للذين!!

 

وفى غيرة عمبقة شعر حبيب جرجس أن الاكليريكية هى
مسئوليته. فبدأ يدرس زملاءه وهو طالب.

 

وتخرج ليتولى التدريس فى الاكليريكية. وكان يقوم
بتدريس الوهوت والوعظ، ويضع، ويضع الكتب الروحية. ووضع كتاب (اسرار الكنيسة
السبعة)، وكتاب (الصخرة الأرثوذكسية)، وكتاب مارمرقس الرسول. وأخذ فى اعداد مدرسين
للدين.

 

وكان مبنى الاكليريكية وقتذاك لا يصلح. فشعر
حبيب جرجس أنها مسئوليته أن يبنى لها مبنى.

 

وبكل غيرة، بدأ يدعو لهذا الأمر، ويطوف البلاد
يجمع تبرعات، حتى اشترى أرض مهمشة الواسعة وبنى مبنى الدراسه، ومبنى الداخلية،
ومبنى معهد العرفاء، واسس المكتبة، وبنى كنيسة العذراء التى كانت كنيسة لطلبة
الاكليريكية فى أيامه، قبل أن تفتح للشعب..

 

ولم تكن هناك فى تلك الأيام مدارس للتربية
الكنسية، فشعر حبيب أنها مسئوليته أن يهتم بانشاء مدارس الأحد.

 

وشجع الكثيرين على المساهمة فى هذا المجال. وبكل
حماس أخذ التعليم الدينى يشق طريقه إلى الأطفال وإلى القرى. وصار هناك آلاف من
المدرسين. وكان حبيب جرجس هو نائب رئيس اللجنة العليا لمدارس الأحد. أما رئيساً فى
ايامه فكان قداسة البابا يؤنس التاسع عشر.

 

ولم تكن هناك مناهج لتعليم الدين فى المدارس.
فشعر حبيب جرجس أنها مسئوليته الخاصة أن يضع كتباً منهجية لكل مراحل التعليم.

 

فوضع لذلك سلسلتين أحداهما (المبادئ المسيحية) والثانية
(الكنز الأنفس). ولم يترك التعليم الدينى معوزاً شيئاً من المعلومات. بل طبع أيضاً
الصور اللازمة. وأصدر مجلة (الكرمة) التى استمرت 17 عاماً كمدرسة متنقلة من بيت
إلى بيت، على مستوى رفيع. وهى أول مجلة قدمت لنا ترجمة أقوال الآباء القديسين.

 

كل ذلك لم يكن واجبا ورسمياً ملقى على حبيب جرجس.

 

بل هى غيرته التى دفعته فى كل هذه المجالات.
غيرته التى بدأت معه وهو طالب، ثم وهو مدرس، ثم وهو ناظر للاكليريكية منذ سنة 1918.

 

وبهذه الغيرة استطاع أن يقدم للكنيسة آلافا من
الوعاظ ومعلمى الدين، ومئات من الخرجين لسيامتهم كهنة فى كافة بلاد القطر.

 

غيرة حبيب جرجس كانت غيرة تمثل العمل الايجابى
فى عمقه.

 

لم يحدث إطلاقاً أنه انتقد أنه انتقد الضعف
والضياع الموجودين فى عصره. ووإنما كان إن وجد نقصاً، يبحث كيف يعالجه، دون أن
يدين أحداً.. لقد كان رجل بناء ماهراً. حفر أساساً ووضع حجرين لبنائين: أحدهما هو
الاكليريكية، والثانى هو مدارس الأحد.. وجاهد حتى ارتفع البناءان، وآوى اليهما
أولاد الله.

هذه هى غيرة حبيب جرجس، البناءة، العمالة،
الإيجابية.

 

14) بعض الآباء الرهبان

نرى أن الغيرة المقدسة تملك حتى على آباء البرية
القديسين الذين تفرغوا لحياة الوحدة والصلاة فى البرارى والمغاير. وكان يمكن أن
يعتذروا بأنه ليس من طقس حياتهم السعى فى المدن لانقاذ الخطاة. وبخاصة السعى
لانقاذ الخاطئات من أماكن الفجور والدعارة. ومع ذلك فإن غيرتهم المقدسة كانت أقوى
بكثير من هذا العائق. فذهبوا إلى أماكن لم يدخلوها اطلاقاً طول حياتهم. ولم يهتموا
بالحفاظ على سمعتهم حينما ذهبوا إلى هناك، إنما كان كل اهتمامهم مركزاً فى انقاذ
نفس مات المسيح لأجلها، مهما كانت قد سقطت وتدهورت.

 

ولعلنا فى هذا المجال نضع ثلاثة أمثلة من اشهر
أمثلة التاريخ فى الغيرة المقدسة.

 

1- مثال تخليص نفس الخاطئة تاييس:

نشأت تاييس فى الأسكندرية، وكانت جميلة جداً.
وقد اعثرتها اخلاق أمها الساقطة فتدهورت فى حياة الفساد، حتى عاشت حياة الدعارة فى
الأسكندرية، وكان المئات يسقطون بسببها. وذاع خبرها فى كل مكان، ووصلت قصتها إلى
برية شيهيت.

 

فامتلأ قلب القديس بيساريون بالغيرة المقدسة،
ليس فقط من أجل خلاص نفس تاييس، إنما بالأكثر لانقاذ الذين يسقطون بسببها.

 

وذهب القديس فى زى علمانى إلى الأسكندرية، وإلى
مكان دعارة تاييس، وأمكنه أن يقودها إلى التوبة، فأحرقت كل ثيابها وزينتها أمام
الكل فى ميدان عام، واقتادها القديس إلى بيت العذارى، حيث عاشت حياة توبة، خلصت
بها نفسها، وزالت عثرتها.

 

وأعلن الله خلاص نفسها فى رؤية أعلنها للقديس
بولس البسيط، وأعلنها هذا القديس لأبيه الروحى القديس الأنبا انطونيوس الكبير..

 

2- مثال تخليص نفس القديسة بائيسة التى سقطت:

كانت بائيسة من أسرة بارة كثيرة الثراء فى منوف.
وقد ترك لها أبوها ثروة ضخمة، أخذت توزعها على الفقراء والمساكين، وعلى الأديرة
والرهبان أيضاً، حتى صرفت كل ما كان لها. وكانت على وشك التوجه إلى الحياة فى
البرية. وهنا حسد الشيطان برها، وحاك حولها شباكه فى مكر ودهاء، وفى اغراء شديد،
فى وقت كانت فيه فى ضعف وفتور.. والعجيب أنه نجح، فسقطت، وتطور بها الأمر ايضاً
إلى بيت للدعارة!

 

وهنا ملكت الغيرة شيوخ برية شيهيت المتألمين على
سقوط هذه القديسة. وانتدابوا القديس يوحنا القصير لانقاذها، فأطاع..

 

فذهب إلى مكان دعارتها، وهو يرتل قول المزمور
” إن سرت فى وادى ظل الموت، لا أخاف شراً لأنك أنت معى” (مز 23).

 

وقد تمكن القديس من قيادتها إلى التوبة، وأخرجها
من ذلك المكان لتذهب إلى البرية. وكانت توبتها صادقة جداً. وشاء الله أن يأخذ
نفسها فى تلك الليلة. ورأى القديس يوحنا القصير روحها الطاهرة يحملها الملائكة فى
عمود من نور إلى السماء. وتحتفل الكنيسة بعيدها فى يوم 2 مسرى

 

3- مثال تخليص مريم إبنة أخى القديس ابراهيم
المتوحد:

وهذا القديس ولد فى مدينة الرها فى بلاد ما بين
النهرين. وقد توحد هناك. ثم دفعوا إليه بالطفلة مريم بعد وفاة والديها. فرباها معه،
حتى كبرت فتوحدت فى قلاية قريبة من قلايته.

 

ونمت هذه الفتاة فى حياة القداسة، إلى أن جاء
يوم نصب لها العدو شباكاً، فسقطت مع أحد الأخوة الذين كان يتردد على القديس
ابراهيم يطلب مشورته. وبعد السقوط أوقعها الشيطان فى اليأس والخزى، فهربت. وانتهى
بها الأمر إلى بيت للدعارة00

 

ولما اكتشف القديس ابراهيم أمرها تملكته الغيرة
لانقاذها.

 

وعرف مكانها فذهب إليها متنكراً وساعده القديس
مارافرام السريانى بصلوات حارة وانتهى الأمر بانقاذها واخراجها من ذلك المكان، حيث
عادت إلى عبادتها وإلى حياة الانسحاق والتوبة، وشرفها الله بمواهب الشفاء فى
أيامها دليلاً على قبول توبتها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى