اللاهوت العقيدي

البَابُ الأوّل



البَابُ الأوّل

البَابُ
الأوّل

مَدخلٌ
عَام إلى الأسْرَار

أوّلاً-
يسوع المسيح الكلمة المتجسّد هو سرّ الله

1-
سرّ الكائنات

تعني
لفظة سرّ بالمعنى العام ما خفي على الإنسان. وسرّ الأشياء هو حقيقتها العميقة التي
تخفى على الأنظار. كل ما في الكون يحمل بُعدَين: بُعداً ظاهراً للعيان، وبُعْداً
خفيًّا لا يمكن بلوغه إلاّ بالتأمّل فيه طويلاً لسَبر أغواره الدفينة.

والله،
الذي ليس هو الكائن الأعظم وحسب، بل الكيان بالذات، هو السرّ الأكبر، إذ ليس فيه
شيء ظاهر، إنّما هو نفسه عمق الأشياء وعمق الكون بأسره.

في
هذا المعنى نقرأ في العهد الجديد قول يسوع لتلاميذه: “أنتم أُعطيتم أن تعرفوا
سرّ ملكوت الله. أمّا الذين من الخارج فيسمعون كل شيء بالأمثال” (مر 4: 11).
إنّ سرّ ملكوت الله هو حقيقته العميقة المخفيّة على الناس الذين من الخارج. أمّا
التلاميذ الذين آمنوا بالمسيح فقد كشف لهم حقيقة ملكوت الله الخفيّة، وأعلن أمامهم
سرّ الله.

وبسبب
ارتباط لفظة سرّ بعمق الأشياء، استعملت الأديان القديمة تلك اللفظة للإشارة إلى
الطقوس والممارسات التي توصل الإنسان إلى الاتحاد بعمق الكائنات. وفي هذا المعنى
نفسه يرى أفلاطون في السرّ “العقيدة التي نبلغ بالإنسان إلى التأمّل في كيان
الله”.

2-
في يسوع المسيح اعتلن سرّ الله

لقد
آمن الرسل والكنيسة الأولى أنّ سرّ الله، أي حقيقته المخفيّة التي لا يمكن أيّ عقل
بشري إدراكها، قد اعتلن لنا في شخص يسوع المسيح. وهذا ما يؤكّده العهد الجديد في
تعابير مختلفة. فيسوع المسيح هو سرّ الله، وصورة الله، وكلمة الله، وقد عمل هو
نفسه عمل الله.

أ)
يسوع المسيح هو سرّ الله

نقرأ
في مقاطع متعددة من رسائل بولس أنّ يسوع المسيح هو نفسه “سرّ الله”،
فيقول في رسالته إلى الكولسيين إنّ الله قد انتدبه ليبشّر “بكلمة الله كاملة،
بالسرّ الذي كان مكتوماً منذ الدهور والأجيال، وأُعلن الآن لقدّيسيه الذين شاء أن
يعلمهم ما هو، في الأمم، غنى مجد هذا السرّ، الذي هو المسيح فيكم، رجاء
المجد” (كو 1: 25- 27). ثمّ يضيف: “أريد أن تعرفوا أيّ جهاد عنيف أُعاني
لأجلكم، ولأجل الذين في اللاذقية، ولأجل كثيرين آخرين لم يروا قطّ وجهي في الجسد،
لتتشدّد قلوبهم، حتى إذا ما التأموا في المحبة، يبلغون إلى الفهم الكامل بكلّ غناه،
والى معرفة سرّ الله، أي المسيح، المكنونة فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو
2: 1- 3).

إنّ
السرّ الذي كان مكتوماً منذ الدهور، وأُعلن الآن للقدّيسين هو المسيح نفسه. فمن
يعرف المسيح يعرف سرّ الله، لأنّ جميع كنوز الحكمة والعلم مكنونة في المسيح.

كذلك
يدعو بولس المسيح “سرّ التقوى”: “إنّه لعظيم، ولا مراء، سرّ التقوى،
الذي تجلّى في الجسد، وشهد له الروح، وشاهدته الملائكة، وبُشِّر به في الأمم، وآمن
به العالم، وارتفع في مجد” (1 تي 3: 16)

وفي
رسالته إلى الأفسسيّين يفسّر سرّ المسيح: “إنّكم قد سمعتم، ولا شك، كيف قسّم
لي الله النعمة التي أُعطيتُها لأجلكم. فإني بوحي أُوتيتُ معرفة سرّه، على حدّ ما
كتبت قبلاً بالإيجاز، فيمكنكم، إذا ما قرأتموني، أن تدركوا ما هو فهمي لسرّ المسيح.
فهذا السرّ لم يُعلَن لبني البشر، في الأجيال السابقة، كما أعلنه الآن الروح لرسله
القدّيسين وأنبيائه: أي إنّ الأمم هم من أهل الميراث الواحد، وأعضاء في الجسد
الواحد، وشركاء في الموعد الواحد، في المسيح يسوع بالإنجيل..” ثمّ يضيف: “أجل،
لي، أصغر أصاغر القدّيسين جميعاً، قد أُعطيت هذه النعمة: أن أُبشّرَ في الأمم بغنى
المسيح الذي لا يُستقصى، وأوضحَ للجميع ما تدبير هذا السرّ، المكتومِ منذ الدهور
في الله الخالق كل شيء، لكي تتجلّى الآن للرئاسات والسلاطين في السماوات، بواسطة
الكنيسة، حكمةُ الله بوجوهها العديدة” (أف 3: 2- 10).

من
هذا النص نستنتج أنّ القول بأنّ المسيح هو سرّ الله يعني أنّه في المسيح تجلّى سرّ
الله وقصد الله وحكمة الله، وفي المسيح يتحقّق هذا السرّ وهذا القصد وهذه الحكمة: أي
“إنّ الأمم هم من أهل الميراث الواحد”. وهذا ما يؤكّده بولس في الفصل
الأوّل من الرسالة عينها: إنّ الله قد أعلن لنا “سرّ مشيئته الذي سبق فقصده
في نفسه، ليحقّقه عند تمام الأزمنة: أي أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كلّ شيء،
ما في السماوات وما على الأرض” (أف 1: 9- 10).

إنّ
سرّ الله قد كشفه لنا المسيح نفسه. والرسل قد ائتُمنوا ليوضحوا هذا السرّ ويحقّقوه
في الكنيسة (راجع أيضاً رو 16: 25- 27).

ب)
يسوع المسيح هو “صورة الله”

هناك
تعبير آخر استعمله العهد الجديد للدلالة على أنّ سرّ الله قد اعتلن للعالم في يسوع
المسيح، وهو تعبير صورة الله. تقول الرسالة إلى العبرانيين

“إنّ
الله، بعد إذ كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدة وبشتّى الطرُق، كلَّمنا
نحن، في هذه الأيام الأخيرة، بالابن الذي جعله وارثاً لكل شيء، وبه أيضاً أنشأ
العالم، الذي هو ضياء مجده وصورة جوهره” (عب 1: 1- 3). هناك فرق جذريّ بين
كلام الله للبشر في العهد القديم بواسطة الأنبياء، وكلامه لنا في العهد الجديد
بالابن الذي هو ضياء مجد الله وصورة جوهره.

مجد
الله هو كيان الله. وهذا الكيان لا يمكن أيّ إنسان أن يراه، لكنّه في شخص يسوع
المسيح قد تجلّى لنا ضياء مجد الله أي ضياء كيانه وصورة جوهره.

ففي
يسوع المسيح لم يعد سرّ الله حقيقة مخفيّة على الإنسان، بل أضحى اعتلانَ الحقيقة
المخفيّة، أي الصورة الظاهرة التي من خلالها نستطيع البلوغ إلى الحقيقة غير
الظاهرة.

ج)
يسوع المسيح هو كلمة الله

لقد
عبّر الكتاب المقدّس أيضاً عن “سرّ الله” بلفظة لُوْغُسْ اليونانية التي
تعني “العقل والفكر والكلمة”. فالله كلَّمنا قديماً بالأنبياء، ثم كلَّمنا
الكلام الأخير والنهائيّ في ابنه يسوع المسيح. هذا ما تعنيه العبارة التي ترد
مراراً في العهد الجديد أنّ يسوع هو كلمة الله.

يقول
القدّيس مكسيموس المعترف إنّ سرّ الله يعتلن للبشر في ثلاث درجات

فهو
يعتلن أوّلاً في الكون والمخلوقات. وهذا ما أدركته الديانات القديمة كلّها التي
استطاعت أن تكتشف بعضاً من سرّ الله من خلال مخلوقاته:

“إنّ
الله، محبةً بنا، يختبئ بشكل سرّيّ في الجوهر الروحي الذي ينعم به كل كائن مخلوق.
في الكائنات المتعدّدة يختبئ مَن هو واحد لا يتغيّر منذ الأزل، في الأمور المركّبة
مَن هو بسيط وغير متجزّئ، في الكائنات التي بدأت يوماً مَن لا بدء له، في الكائنات
المنظورة مَن هو غير منظور، وفي الكائنات المحسوسة مَن هو غير محسوس”.

ثمّ
يعتلن أيضاً سرّ الله في الوحي الكتابيّ في العهد القديم:

“ومحبة
بنا نحن البطيئي الإدراك، ارتضى أن يعبّر عن ذاته في أحرف الكتاب المقدّس وألفاظه
ونغماته، ليشدّنا إليه ويوحّدنا بالروح”.

وأخيراً
يعتلن لنا الله في تجسّد الكلمة: “لقد ارتضى، بمجيئه في الجسد، أن يأخذ جسداً
ليعلّمنا في لغتنا البشريّة وفي الأمثال، تلك المعرفة التي تفوق كل لغة، معرفة
الأمور المقدّسة والخفيّة”.

د)
بيسوع المسيح اعتلن لنا عمل الله

إنّ
يسوع المسيح قد عمل في حياته أعمال الله. والإنجيل المقدّس هو سلسلة مترابطة من
شهادات أُناس اختبروا في حياتهم عمل الله من خلال شخص يسوع المسيح. فيسوع قد شفى
المرضى وأقام الموتى وبشَّرَ المساكين، حسب قوله لموفَدي يوحنا المعمدان: “إنطلقوا
وأعلموا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون والعُرج يمشون، والبُرص يطهّرون،
والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون، وطوبى لمن لا يشكّ فيَّ”
(متى 11: 4- 6). كما أنّه غفر الخطايا: “ومَن يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله
وحده؟” (مر 2: 7)؛ “فإنّ ابن البشر له، على الأرض، سلطان مغفرة
الخطايا” (مر 2: 10). ونقض شريعة السبت الإلهيّة: “فإنّ ابن البشر هو
ربّ السبت أيضاً” (مر 2: 28).

هذا
ما أكّده أيضاً يوحنا الإنجيليّ في عرضه نقاش يسوع مع الفرّيسيّين: “أجاب
يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم، إنّ الابن لا يستطيع من نفسه أن يعمل شيئاً،
إلاّ ما يرى الآب يعمله. فما يفعله الآب، يفعله الابن كذلك.. إنّ الأعمال التي
خوّلني الآب أن أُتمِّمها- هذه الأعمال عينها التي أنا أعملها- هي تشهد لي بأنّ
الآب قد أرسلني” (يو 5: 19، 36). “صدّقوا هذه الأعمال، لكي تعلموا
وتعترفوا أنّ الآب فيّ وأنّي أنا في الآب” (10: 38)، “أنا والآب
واحد” (10: 30)، “مَن رآني فقد رأى الآب” (14: 9).

3-
تعريف السرّ في اللاهوت المسيحي

يقول
اللاهوتي المعاصر إدوار سْخِلّيِبكْس: “إنّ يسوع المسيح هو تجسّد الله.
ومحبته هي التجسيد البشري لمحبة الله الخلاصيّة، ومجيء الله إلينا بصورة منظورة.
ولأنّ هذه الأعمال الإنسانيّة هي في الوقت عينه أعمال الله، أي أعمال الله في صورة
تجلٍّ بشري، فهي تملك في جوهرها قدرة إلهيّة للخلاص. إنّها أعمال خلاصيّة، أي
إنّها تمنح الخلاص. وبما أنّ هذه القدرة الإلهيّة قد ظهرت لنا في صورة أرضيّة
منظورة، فأعمال المسيح الخلاصيّة هي أعمال من نوع “السرّ”. والسرّ هنا
يعني عطيّة خلاصيّة يمنحنا إيّاها الله بشكل خارجي يمكن إدراكه وتيقُّنه، وبه تصير
تلك العطيّة واقعاً وحقيقة. السرّ هو عطيّة خلاص تأتي لينا بشكل منظور في قلب
التاريخ”.

إنطلاقاً
من تجلّي الله في أعمال المسيح البشريّة المنظورة، يمكننا تحديد السرّ في اللاهوت
المسيحي بقولنا إنّه عمل مقدّس تُمنَح فيه للمؤمن، من خلال علامة منظورة، نعمة
الله غير المنظورة. فغير المنظور وغير المدرَك يستطيع الإنسان المؤمن الوصول إليه
والاتحاد به من خلال علامة منظورة.

وهنا
نحيل القارئ إلى ما قلناه في الجزء الثاني من مجموعتنا اللاهوت المسيحي والإنسان
المعاصر عن مفهوم تجلّي الكائن في الفلسفة المعاصرة وتجلّي الله في موضوع النعمة.
ففي تجلّي الكائن وتجلّي الله دوماً عنصران: عنصر الحضور وعنصر الغياب. أي إنّ
الكائن يظهر لنا هو نفسه، ولكن من خلال تجلّيه في الكائنات. فهناك إذاً مسافة لا
يمكن إزالتها بين الكائن في ذاته وظهوره في الكائنات. وفي هذه المسافة عينها يندرج
فعل الإيمان ووجود الأسرار. لأنّه لو ظهر الكائن، أي الله، في كمال كيانه، لكنّا
شاهدناه منذ الآن وجهاً لوجه، ولما احتجنا إلى الإيمان ولا إلى الأسرار. لكنّ هذه
المشاهدة وجهاً لوجه لن تتحقّق لنا إلاّ في السماء. وهذا ما يعنيه بولس الرسول: “الآن
ننظر في مرآة، في إبهام، أمّا حينئذٍ فوجهاً لوجه. الآن أعلم عِلماً ناقصاً، أمّا
حينئذٍ فسأَعلم كما عُلمت. الآن ويثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة. لكنّ
أعظمهنّ المحبة” (1 كو 13: 12- 13).

نشير
أخيراً إلى أنّ عمل الأسرار يهدف إلى خلاص الإنسان، أي إلى إشراكه في حياة الله.
فليس القصد إذاً من الأسرار إرواء فضوليّة الإنسان وإنماء معرفته العقليّة، بل
إدخاله عمق كيان الله. وهذا يعبّر عنه سْخِيْلّيبكِسْ في النصّ الذي أتينا على
ذكره أعلاه، بقوله: “إنّ السرّ هو عطيّة خلاص تأتي إلينا بشكل منظور في قلب
التاريخ”.

فالسرّ
هو إذاً عمل خارجي منظور ومحسوس، فيه يعتلن لخلاص الإنسان عمل الله غيرِ المنظور
وغيرِ المحسوس.

 

ثانياً-
الكنيسة والأسرار استمرار المسيح

1-
الكنيسة سرّ المسيح

لقد
رأى الرسل في كلام يسوع المسيح وفي الأعمال التي صنعها في حياته على الأرض كلام
الله وعمل الله نفسه. لقد اختبروا في يسوع المسيح ذاك الذي يقود الإنسان إلى
الإيمان بالآب؛ الذي تتحقّق دينونة كلّ إنسان وفقًا للموقف الذي يقفه من شخصه ومن
رسالته، فيكون هذا الموقف سبب حياة أو علّة موت؛ الذي، لأجل ذلك، أزال من قلوب
الناس الخوف من الدينونة، وفتح أمام كل إنسان طريق المستقبل؛ الذي دعا إلى مائدته
ومشاركة حياته العشّارين والخطأة؛ الذي به صار الغرباء أقرباء؛ الذي به أصبح الإله
البعيد قريباً من كل إنسان؛ الذي فيه تجلّى وحضر الإله الذي طالما انتظر العهد
القديم مجيئه.

لقد
أرسل الله ابنه إلى العالم ليخلّص به العالم ويمنحه الحياة. هكذا ظهر الخلاص
للعالم في أقوال المسيح وأعماله، وظهرت الحياة. والكنيسة هي استمرار لحضور المسيح
الخلاصيّ في أقوالها وأعمالها، وحياتها وأسرارها:

يروي
إنجيل متى أنّ يسوع، في آخر ظهور له لتلاميذه، أوصاهم قائلاً:

“لقد
دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا، وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم
باسم الآب والابن والروح القدس. وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها
أناذا معكم كلّ الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 18- 20).

فالكنيسة
هي جماعة المؤمنين الذين يستمرّ فيهم حضور المسيح حتى انقضاء الدهر، وذلك من خلال
الكرازة بالإنجيل والمعموديّة وسائر الأسرار. لقد منح الله المسيح كلّ سلطان في
السماء وعلى الأرض، فكان المسيح في حياته سرّ الله وتجلّي حضوره. وها هوذا قبل
مغادرته تلاميذه يمنحهم هذا السلطان الإلهي لتكون الكنيسة، في مسيرتها عبر الزمن،
شرّ المسيح وتجلّي حضوره، كما كان المسيح في حياته على الأرض سرّ الله وتجلّي
حضوره.

إنّ
الكنيسة لم تنشأ من إرادة جماعة من البشر قرّروا متابعة رسالة مَن تتلمذوا له في
حياته، بل نشأت من إرادة المسيح نفسه الذي جمع حوله تلاميذ ليعيشوا في شركة حياة
معه ويعملوا أعماله. وتلك الحياة والأعمال أراد أن تستمرّ من بعده في جميع الأمم،
فيصير له النّاس على مرّ الزمن تلاميذ كما كان الرّسل، فيحيوا هم أيضاً من حياته
ويعملوا أعماله.

الكنيسة
هي إذاً سرّ المسيح، أي استمرار حضوره على مدى الزمن. وهذا معنى الأقوال التالية
التي حفظها التلاميذ من المسيح:

“مَن
سمع منكم، فقد سمع مّني. ومَن نبذكم فقد نبذَني. ومَن نبذَني فقد نبَذَ الذي
أرسلني” (لو 10: 16). “مَن أبى أن يسمع للكنيسة، فليكن عندك كالوثنيّ
والعشّار” (متى 18: 17). ومن بعد قيامته: “كما أرسلني الآب، كذلك أنا
أُرسلكم. ولمّا قال هذا نفخ فيهم وقال لهم: خذوا الروح القدس، فمَن غفرتم خطاياهم
غُفرت لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكت” (يو 20: 21- 23).

لذلك
لا يمكن القول إنّي أومن بالمسيح، ولكنّي لا أومن بالكنيسة. فالكنيسة، في حياتها
وأسرارها، تتابع العمل الذي أتمّه يسوع في حياته على الأرض. إنّ الله، إله الحياة
والخلاص الذي أتى إلينا واقترب منّا في شخص يسوع المسيح، يتابع مجيئه إلينا
واقترابه من كلّ إنسان على مدى الزمن بواسطة الكنيسة وأسرارها. لقد أدركت الجماعة
المؤمنة الأولى أنّ المسيح الحيّ لا يزال حاضراً فيها. فباسم المسيح راحت تغفر
الخطايا وتمسكها، وباسم المسيح راحت تدعو جميع المؤمنين به إلى تناول طعام الحياة
الأبدية على مائدة الله، وما هدفها سوى العمل على أن يختبر الناس على مدى العصور
ما اختبره الرّسل في شخص يسوع في أثناء حياته على الأرض، أي الخلاص ودخول حياة
الله. وهذا العمل ليس عملاً إنسانيًّا تستطيع الكنيسة القيام به بجهودها البشرية،
بل هو عمل المسيح نفسه الذي تؤمن بأنّه قد قام من بين الأموات، وهو الآن حيّ فيها،
وهو الذي بروحه القدّوس يحييها من الداخل ويكمّل عمله فيها.

2-
الأسرار استمرار التجسّد

إنّ
وجود الأسرار في الديانة المسيحيّة ينتج أولاً من كون الإنسان روحاً وجسداً، ومن
كون الله لم يتّصل بالبشر إلاّ من خلاله الجسد والمادة.

فالإنسان
ليس ملاكاً ولا روحاً محضاً، بل هو روح يعبّر عن ذاته في جسد والروح والجسد فيه لا
يتناقضان بل يتكاملان. وكلاهما ضروري لوجوده والتعبير عن ذاته تعبيراً ملائماً في
عالم لا وجود فيه للروح منفصلاً عن المادة.

نحن
البشر لا نختبر ذواتنا ولا نختبر بعضنا بعضاً إلاّ من خلال الجسد والمادة. إنّنا
لا ندخل في علاقة بعضنا مع بعض إلاّ من خلال وساطة الجسد والمادة، بع كل ما
تتضمّنه تلك الوساطة من أقوال وأعمال. إنّ حبّ شخص لآخر لا يمكن إدراكه وإبلاغه
الآخر إن هو بقي في طيّات الفكر وثنايا القلب، بل يجب التعبير عنه من خلال الأقوال
والأعمال.

هكذا
أيضاً اتّصل بنا الله وعبّر لنا عن محبّته، أولاً بأقوال الأنبياء وأخيراً بتجسّد
ابنه وكلمته في شخص يسوع المسيح الذي تكلّم كلام الله وعمل أعمال الله. وإذا كان
الله لم يتّصل بنا نحن البشر ولم يمنحنا الخلاص إلاّ من خلال الجسد والمادة، فلا
بدّ من القول إنّ متابعة هذا العمل الخلاصيّ على مدى الزمن لا يمكن أن يتمّ إلاّ
من خلال الجسد والمادة. وهذا ما تهدف إليه الأسرار التي تحتفل بها الكنيسة. فكلٌّ
منها، على طريقته الخاصة، يشرك المؤمنين في حياة الله التي تجلّت لنا في حياة
المسيح على الأرض، ثمّ يطلقهم إلى العالم ليجسّدوا فيه حياة المسيح الكلمة
المتجسّد.

لذلك،
إلى كل الذين يسألون لِمَ الأسرار؟ ما الهدف منها؟ ما فائدتها؟ وهل هي ضرورية؟
نجيب دون تردّد: الأسرار تهدف إلى متابعة تجسّد كلمة الله في العالم من حياة
المؤمنين. فهي، في صميم طبيعتها، استمرار للحياة التي عاشها السيّد المسيح على الأرض.
وهذا ما يمكن تبيينه في الأسرار التالية:

أ)
المعموديّة

المعموديّة
أوّلاً مرتبكة بمجيء يسوع المسيح في التاريخ. فيسوع المسيح هو عطيّة الله للبشر.
إنّ الآب قد أرسله إلينا ليقودنا إليه ويجعلنا به له أبناء. هذا هو هدف حياة يسوع
المسيح على الأرض.

واليوم
بالمعموديّة يأتي المسيح إلى حياتنا ويجعلنا أعضاء في جسده، لنحيا على مثاله حياة
أبناء الله. لذلك نعتمد “باسم الآب والابن والروح القدس”، فنصير أبناء
الآب وإخوة الابن وهياكل الروح القدس. وهكذا بالمعمودية التي تمنحها الكنيسة اليوم،
يتابع المسيح العمل الذي بدأه في حياته على الأرض، إذ أراد أن يجعل من كل إنسان
ابناً لله.

ب)
الميرون أو التثبيت

سرّ
الميرون هو سرّ “ختم الروح القدس” والتثبيت في الإيمان والشهادة على هذا
الإيمان. فيسوع المسيح، في حياته على الأرض، كان ممتلئاً من الروح القدس. وبقُدرة
الروح كان يتكلّم كلام الله ويعمل أعمال الله.

واليوم،
عندما ننال سرّ الميرون والتثبيت، ننال، على مثال المسيح وعلى مثال الرسل يوم
العنصرة، قدرة الروح القدس، لكي تتجدّد به حياتنا ونصير شهوداً للمسيح “حتى
أقاصي الأرض”، فيتحقّق فينا أيضاً قول يسوع لتلاميذه: “إنكم ستنالون
قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم، وفي جميع اليهودية
والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8).

بالميرون
الذي تمنحه الكنيسة اليوم، يتابع المسيح العمل الذي عمله من بعد قيامته اذ أرسل
إلى تلاميذه روحه القدّوس، روح القدرة والشهادة.

ج)
الإفخارستيّا

لقد
كانت حياة يسوع كلّها حياة محبة فيها ظهرت محبة الله للبشر ولا سيّما للفقراء
والضعفاء والمنبوذين. وقد بقي يسوع أميناً لعطائه وشهادته حتى الموت. فكان موته
على الصليب قمّة حياة كلّها محبة وعطاء، إذ “ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل
الحياة عن أحبّائه” (يو 15: 13).

وقبل
موته، في أثناء العشاء الفصحي، قدّم في سرّ الخبز والخمر جسده ودمه، أي حياته
وموته، لأجل حياة العالم: “هذا هو جسدي الذي يُبذَل لأجلكم.. هذه الكأس هي
العهد الجديد بدمي، الذي يُهرَاق من أجلكم” (لو 22: 20).

وهذه
التقدمة عينها تبرز من جديد في سرّ الإفخارستيّا الذي تقيمه الكنيسة اليوم، ليُتاح
للمسيحيين الاشتراك في هذه التقدمة والإسهام في فداء العالم.

د)
التوبة

لقد
تميّزت حياة يسوع بما أظهره تجاه الخطأة من محبة وعطف وحنان. فيقول للفرّيسيّين
الذين كانوا يتذمّرون من موقفه من الخطأة: “إني لم آتِ لأدعو الصدّيقين، بل
الخطأة إلى التوبة” (لو 5: 31- 32)؟ “هكذا في السماء، يكون فرح بخاطئ
يتوب، أكثر ممّا يكون بتسعة وتسعين صدّيقاً لا يحتاجون إلى توبة” (لو 15: 7).

وفي
سرّ التوبة الذي تمنحه الكنيسة اليوم، لا يزال السيّد المسيح يقبل توبة الخطأة،
ساكباً في قلوبهم مغفرة الله ومعيداً إيّاهم إلى البيت الأبويّ ليحيوا من حياة
الله الآب، على مثال الابن الشاطر “الذي كان ميتاً فعاش، وكان ضالاًّ
فوُجِد” (لو 15: 24).

ه)
مسحة المرضى

إنّ
حياة يسوع المسيح قد تميّزت أيضاً باهتمامه بالمرضى، وفي ذلك تجلّت محبّة الله
الآب للمرضى والمعذّبين. وما الأشفية الكثيرة التي أجراها سوى الدليل على هذا
الاهتمام. فهو الذي أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا” (متى 8: 17؛ أش 53: 4).

والسيّد
المسيح نفسه، في سرّ مسّحة المرضى الذي تمنحه الكنيسة اليوم، لا يزال ينحني على
المرضى ليسبغ عليهم محبة الله وقربه من الإنسان المربض المعذّب.

و)
الزواج

إن
المحبة التي أحبّنا بها الله ظهرت في يسوع المسيح الذي أحبّنا حتى بذل ذاته لأجلنا.
تلك المحبة عينها يسكبها المسيح أيضاً في قلبَي اللذين يرتبطان بسرّ الزواج، ليصير
حبّهما أحدهما للآخر على مثال حبّ المسيح للكنيسة. وهذا ما يبيّنه بولس الرسول
بقوله: “أيّها الرجال، أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة، إذ بذل نفسه
لأجلها ليقدّسها ويطهّرها بغسل الماء والكلمة”. ثم يدعو الزواج سرًّا بقوله: “إنّ
هذا السرّ لعظيم، أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة” (أف 5: 25، 30).

الزواج
سرّ بمعنى أنّ الزوجين بارتباطهما يصيران جسدًا واحداً على ما هو من أمر المسيح
والكنيسة التي هي جّسده وهو رأسها.

ز)
الخدمة الكهنوتيّة

لقد
كان يسوع في حياته خادم البشارة. فالروح القدس مسحه للتبشير، على مما جاء في أشعيا
النبي: “روح الربّ عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين، وأرسلَني لأُنادي
للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأطلق المرهقين أحراراً، وأُعلن سنة نعمة
للرب” (أش 61: 1- 2).

إنّ
نبوءة أشعياء هذه قد رآها السيّد المسيح تتحقّق في شخصه. فإنّ لوقا يروي أنّ
السيّد دخل يوم السبت مجمع الناصرة، وبعد أن قرأ هذا النص من سفر أشعيا قال لمستمعيه:
“اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم” (لو 4: 16- 21). وفي
موضع آخر قال لتلاميذه: “لا بدّ لي أن أُبشّر المدن الأخرى أيضاً بملكوت الله،
لأني لهذا قد أُرسلت”. ويضيف لوقا: “وكان يطوف مبشِّراً في مجامع
اليهوديّة” (لوقا 4: 43).

لقد
كانت حياة المسيح بمجملها حياة تبشير بملكوت الله، ملكوت المحبة والسلام والعدالة.
فقد جاء ليحقّق ملكوت أبيه، ويدعو الناس إلى التوبة والإيمان بهذا الإنجيل، بهذه
البشرى الصالحة: “بعدما أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل، وهو يكرز
بإنجيل الله، ويقول: لقد تمَّ الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا
بالإنجيل” (مر 1: 14- 15).

وإنّ
رسالة المسيح هذه سلَّمها بدوره إلى تلاميذ اختارهم ليوصلوا الناس إلى الملكوت.
فنراه يدعو بطرس وأندراوس، الأخوين الصيّادين، قائلاً لهما: “إتبعاني،
فأجعلكما صيّادي بشر” (مر 1: 17). ثمّ يقيم الاثني عشر “ليكونوا معه
ويرسلهم للكرازة” (مر 3: 14). وفي العشاء الأخير يوصيهم بمتابعة عمل التقديس
الذي قام به في سرّ الخبز والخمر: “إصنعوا هذا لذكري” (لو 22: 19).

واليوم،
في سرّ الخدمة الكهنوتيّة، لا يزال المسيح يتابع عمل الكرازة والتقديس، الذي
سلَّمه إلى الرسل والكنيسة، لنشر ملكوت الله بين البشر.

3-
الأسرار تسهم في تحقيق “المسيح الكونيّ”

استناداً
إلى ما قاله بولس الرسول عن الكنيسة جسَد المسيح (1 كو 12: 12- 30) تحدّث آباء
الكنيسة عن “المسيح الكونيّ”، أي المسيح الذي يوحّد في جسده البشرية.
فإنّ قصد الله هو “أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كلّ شيء، ما في السماوات
وما على الأرض” (أف 1: 10). لذلك “يمنح نعمته لكلّ واحد منّا على مقدار
موهبة المسيح.. فيعطي بعضاً أن يكونوا رسلاً وبعضاً أنبياء، وبعضاً مبشرّين وبعضاً
معلّمين، منظّماً هكذا القدّيسين لأجل عمل الخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح، إلى
أن ننتهي جميعنا إلى الوحدة في الإيمان وفي معرفة ابن الله، إلى حالة الإنسان
البالغ، إلى ملء اكتمال المسيح” (أف 4: 7- 13).

إنّ
كل ما تقوم به الكنيسة من خِدَم وأسرار يسهم في تحقيق “المسيح الكوني”.
فالأسرار لا معنى لها إلاّ من خلال ارتباطها بشخص المسيح ولا هدف لها إلاّ تحقيق
المسيح الكونيّ. لا بدّ لنا من العودة إلى شخص المسيح، فنرى فيه ينبوع وحدة
البشرية ومصدر تضامن البشر كلّهم بعضهم مع بعض.

ما
من أحد سوى الله المتسامي غير المحدود يستطيع أن يحرّر البشر من انكماشهم على
ذواتهم وأنانيّتهم، وأن يوحّدهم. وهذا الإله قد ظهر لنا في شخص يسوع المسيح. لذلك
فالمسيح هو عنصر تحرير البشر وينبوع وحدة البشرية. وهذا ما يعنيه “شخص
المسيح”، وهذا أحد أبعاد أُلوهيّته: دخول المطلق والمتسامي العنصرَ البشري
لتأليهه وتوحيد البشر. وهذا ما تسعى إلى تحقيقه الأسرار التي يستمرّ من خلالها
تجسّد الإله الكلمة.

 

ثالثًا-
تأسيس الأسرار وعددها

إنطلاقاً
من كون الكنيسة تكمّل في ذاتها وفي أسرارها حضور المسيح، يمكننا الكلام على نشأة
الأسرار وعددها. كل الكنائس المسيحية تعتقد أنّ نشأة الأسرار يجب أن تعود إلى
إرادة المسيح نفسه. ولكنّ السؤال الذي طرحه اللاهوتيّون عبر القرون هو التالي: كيف
أنشأ المسيح الأسرار؟ وما هي الأسرار التي أنشأها المسيح؟

أ)
اللاهوت الكاثوليكي

في
القرون الوسطى، كان اللاهوتيّون الكاثوليكيّون يميّزون، في تأسيس الأسرار عن يد
المسيح، بين التأسيس المباشر أو الصريح، والتأسيس غير المباشر.

فهناك
أسرار أنشأها المسيح مباشرة، أو بشكل مريح، بحيث يمكن الاستناد إلى أقوال المسيح
نفسه لتحديد عناصرها. فهكذا أنشأ المعموديّة بقوله لتلاميذه بعد قيامته: “إذهبوا،
وتلمذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19)؛
وأيضاً أنشأ الإفخارستيا في أثناء العشاء الفصحي الأخير مع تلاميذه: “هذا هو
جسدي الذي يبذل لأجلكم.. إصنعوا هذا لذكري” (لو 22: 19)، وكذلك أنشا الكهنوت
بقوله لتلاميذه من بعد قيامته: “كما أنّ الآب أرسلني، كذلك أنا أُرسلكم.
ولمّا قال هذا، نفخ فيهم وقال لهم: خذوا الروح القدس. فمَن غفرتم خطاياهم غُفرت
لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكَت” (يو 20: 21- 23).

وهناك
أسرار أنشأها المسيح بشكل غير مباشر في ما قام به من أعمال، تاركاً للرّسل تحديد
عناصر هذه الأسرار. فسرّ الميرون، أو التثبيت، قد أنشأه المسيح على مرحلتين: في
حياته، عندما وعد تلاميذه بأن يرسل إليهم الروح القدس (يو 7: 16)، وبعد قيامته
عندما أرسله إليهم بالفعل يوم العنصرة (أع 2: 1- 18). وسرّ مسحة المرضى أنشأه
بعمله عندما كان يشفي المرضى ويرسل تلاميذه ليمسحوا المرضى بالزيت: “فمضوا،
وكرزوا بالتوبة، وأخرجوا شياطين كثيرين، ومسحوا بالزيت مرضى كثيرين وشفوهم”
(مر 6: 12- 13). ولنا شاهد على ممارسة هذا السرّ في الكنيسة الأولى ما يقوله
القدّيس يعقوب في رسالته الجامعة (5: 13- 15). أمّا الزواج والتوبة اللذان وُجِدا
قبل يسوع كحالة في الحياة ودعوة إلى الارتداد إلى الله، فقد ثبّتهما المسيح عندما
دعا قداسة الزواج (مر 10: 1- 12)، وغفر هو نفسه الخطايا (مر 2: 5- 12؛ لو 7: 47-
50) ثمّ منح تلاميذه سلطان مغفرة الخطايا من بعده (يو 20: 21- 23).

استناداً
إلى هذا كلّه، حدّد اللاهوت الكاثوليكي الغربيّ عدد الأسرار بسبعة. وقد تمَّ هذا
التحديد في القرن الثاني عشر مع اللاهوتي بيير لومبار الذي توفي سنة 1160. وأُعلنت
اللائحة الحالية للأسرار إعلانا رسميًّا سنة 1274 في مجمع ليون الذي حاول إعادة
الوحدة بين الشرق والغرب، ثمّ في مجمع فلورنسا سنة 1439 في “القرار الموجَّه
إلى الأرمن”، وأخيراً في المجمع التريدنتيني الذي أكّد في جلسته السابعة سنة
1547 أنّ الأسرار السبعة قد أسّسها يسوع المسيح نفسه، دون الدخول في طريقة هذا
التأسيس الذي تمَّ على يد المسيح.

في
القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين طبّق بعض اللاهوتيّين على تأسيس الأسرار
نظرية الكردينال نيومن في تطوّر العقائد. فالوحي كلّه، حسب هذه النظرية موجود
ضمناً في الكنيسة، ولكنّه لا يتّضح لها ولا تعيه وعياً كاملاً إلاّ تدريجياً وبعمل
من الروح القدس فيها. وهكذا أنشأ المسيح الأسرار، أي إنّه أرادها كلّها، غير أنّ
بعضاً منها، كالمعموديّة والإفخارستيّا، يرتكز إلى أقوال صريحة له، فيمَا البعض
الآخر لا يستند إلاّ إلى رغبته التي تستشفّها الكنيسة مع الزمن من خلال تأملّها
لأعماله ولسرّ موته وقيامته.

ويؤكّد
اللاهوتيّون المعاصرون أنّ تأسيس الأسرار متضمَّن في تأسيس الكنيسة في هذا يقول
سْخيلّيبكِسْ: “إنّ تأسيس الكنيسة كسرّ أوّلي وأساسي يتضمّن في جوهره تأسيس
الأسرار السبعة”. ويقول كارل راهنر: “ليس من الضروري أن يستند وجود
أسرار حقيقيّة، بالمعنى الدقيق والتقليدي لهذه اللفظة، وفي جميع الحالات، إلى قول
محدّد (يمكن تيقّنه أو مُفترَض) فاه به يسوع التاريخي مشيراً إشارة صريحة إلى سرّ
معيّن. فإنّ كل عمل أساسيّ في الكنيسة، أي كلّ عمل يرتبط ارتباطاً حقيقياً بجوهر
الكنيسة، من حيث هي الحضور التاريخي والاسختولوجي للخلاص، هو، بالنسبة إلى أوضاع
الشخص الحاسمة، بالفعل نفسه سرّ، وهذا يبقى صحيحاً، حتى ولو تطلّب إدراك هذا
الارتباط السرّي بجوهر الكنيسة وقتاً طويلاً. إنّ تأسيس سرّ يمكن (وهذا طبعاً لا
يعني: يجب دوماً) أن ينتج فقط من كون المسيح قد أسسّ الكنيسة، ووسمها بسِمَة السرّ
الأوّلي والأساسي”.

ب)
اللاهوت الأرثوذكسي

يقول
اللاهوتي الأرثوذكسي جان مايندورف في كتابه مدخل إلى اللاهوت البيزنطي: “إنّ
اللاهوت البيزنطي يجهل التمييز الغربي بين “الأسرار” و”أشباه
الأسرار”. لذلك لم يقتصر قط على عدد محدّد من الأسرار معلناً إعلاناً رسميًّا.
ففي زمن الآباء، لم تكن هناك لفظة للدلالة على “الأسرار” كنوع معيّن من
الأعمال الكنسيّة. فلفظة سرّ كانت تُستعمل في درجة أولى بالمعنى الواسع والعام، أي
بمعنى “سرّ الخلاص”، ثمّ في درجة ثانية فقط كانت نشير إلى الأعمال
الخاصة التي تَمنَح الخلاص. وللدلالة على هذا المعنى الأخير، كانت نُستعمل أيضاً
لفظتا “طقوس” و”مقدَّسات”. وإننا نجد لدى ثيوذوروس الأستودي
في القرن التاسع لائحة بستة أسرار: الاستنارة المقدّسة (أي المعمودية)، والاجتماع
الإفخارستي، والميرون، والرسامة الكهنوتيّة، والتكريس الرهباني، ورتبة الجنّاز.
أمّا عقيدة “الأسرار السبعة” فقد ظهرت للمرة الأولى، في شكل مميّز، في
الاعتراف بالإيمان الذي طلبه البابا اكليمنضوس الرابع من الامبراطور ميخائيل
باليولوغوس سنة 1267 بمناسبة انعقاد مجمع ليون. وبالطبع فقد كان هذا الاعتراف
بالإيمان من إعداد لاهوتيّين لاتينيّين”.

ثمّ
يضيف مايندورف أنّ تحديد هذا العدد من الأسرار قد وجد شبه إجماع لدى اللاهوتيين
الأرثوذكسيين، حتى لدى الذين كانوا يعارضون بشدّة الاتحاد مع رومة. وقد وجدوا فيه
عدداً رمزياً يشير إلى مواهب الروح القدس السبع التي يأتي على ذكرها أشعيا النبي
(11: 2- 4).

غير
أنّنا نجد بعض الاختلاف عند اللاهوتيين الأرثوذكسيين في تحديد هذه الأسرار السبعة
فالراهب أيوب (في القرن الثالث عشر)، في بحث له في الأسرار، يحدّد عدد الأسرار
بسبعة، ولكنّه يعتبر التكريس الرهباني سرًّا، ويجمع التوبة ومسحة المرضى في سرّ
واحد. كذلك سمعان التسالونيكي (في القرن الخامس عشر) يعتبر التكريس الرهباني سرًّا،
لكنّه يضمّه إلى سرّ التوبة. أما جوازاف، ميتروبوليت أفسس، ومعاصر سمعان التسالونيكي،
فيقول: “أعتقد أنّ أسرار الكنيسة ليست سبعة وحسب، بل أكثر من ذلك”.
ويقدّم لائحة بعشرة أسرار تتضمّن التكريس الرهباني، ورتبة الجنّاز وتكريس الكنائس.

إنّ
الكنائس الأرثوذكسيّة، لم تحدّد بشكل رسمي لائحة الأسرار. لذلك نرى اختلافاً في
تحديد هذه اللائحة. ففي حين يقبل معظم اللاهوتيين اللائحة الغربية، يعطي البعض
لائحة مختلفة، ويركّز البعض الآخر على سرَّي المعمودية والإفخارستيّا. فيؤكّد
غريغوريوس بالاماس أنّ خلاصنا كلّه يستند إلى هذين السرّين، لأنّ فيهما كمال
التدبير الخلاصي الذي أتمّه الكلمة المتجسّد. ويركّز نيقولاوس كاباسيلاس، في كتابه
الشهير الحياة في المسيح، الحياة المسيحية كلّها على أسرار التنشئة الثلاثة: المعمودية
والميرون والإفخارستيا.

ونجد
لدى اللاهوتي الأرثوذكسي الروسي المعاصر نيقولا أفاناسييف توضيحاً هاماً لتمييز
الأسرار السبعة عن غيرها من المقدّسات أو أشباه الأسرار، كتكريس الهيكل، وإكرام
الإيقونات، وتقديس المياه، وبركة الثمار، والجنّاز، والنذورات الرهبانيّة، وإشارة
الصليب، والصلاة. فكل هذه الممارسات الدينية تمنح نعمة الروح القدس، إلاّ أنّ
الأسرار السبعة تتميّز عنها بارتباطها العضوي بالكنيسة. فكل سرّ هو حدث يتمّ داخل
الكنيسة، وبواسطة الكنيسة، ولأجل الكنيسة.

فبالمعمودية
والميرون يولد الإنسان ولادة جديدة ويصير عضواً في الكنيسة. وبالإفخارستيا تتكوّن
الكنيسة جسد المسيح ويتّحد أعضاؤها بعضهم ببعض، كما نقول في ليتورجيّا القدّيس
باسيليوس: “نحن الذين يشتركون في الخبز الواحد والكأس الواحدة، إجعلنا
متّحدين بعضنا ببعض في شركة الروح القدس الواحد”. وبالتوبة ومسحة الرضى يعود
الخاطئ والمريض إلى الكنيسة وإلى شركة القدّيسين. والكهنوت يمنح الكنيسة أساقفة
وكهنة ليكمّلوا فيها حضور المسيح في الكلمة والإفخارستيّا، ويحافظوا على وحدة الكنيسة.
وأخيراً بواسطة سرّ الزواج يدخل الرجل والمرأة الكنيسة، ليس كفردَين بل كاسرة،
ويشتركان معاً في حالتهما الجديدة في الاجتماع الإفخارستيّ.

ج)
اللاهوت البروتستنتي

لقد
أكّد لوثر والبروتستنتيّون أنّه لا يمكن أن يدعى سرًّا إلاّ ما أنشأه المسيح بشكل
صريح, واستناداً إلى هذا المبدأ لم يحفظوا من الأسرار سوى المعمودية والافخارستيّا،
مع بعض الاختلاف بين الكاثوليكيين والبروتستنتيين من جهة، وبين الكنائس
البروتستنتيّة نفسها من جهة أخرى، حول مفهوم حضور المسيح في سرّ الإفخارستيّا.
فاللوثرّيون يؤكّدون أنّ حضور المسيح في هذا السرّ يجب أن يعتبر حضوراً
“حقيقيَّا”، إلاّ أنّهم يرفضون النظرية الكاثوليكية القائلة بتحوّل جوهر
الخبز والخمر. أمّا سائر الكنائس البروتستنتيّة فتركّز على حضور المسيح بواسطة
الروح القدس أو في “ذكرى” الرتبة الإفخارستية في مجملها.

أمّا
سرّ الميرون فلا تقرّ به الكنائس البروتستنتية كسرّ متميّز عن المعموديّة نظراً
إلى كون المسيح لم يأتِ على ذكره صراحة. وقد أنشأت عِوَضاً عنه في القرن السابع
عشر رتبة احتفالية تتضمّن وضع اليد والصلاة، يدخل فيها الفتى والفتاة لدى بلوغهما
السن الرابعة عشرة دخولاً رسمياً كأعضاء فاعلة في الرعية، ويتاح لهما الاشتراك في
الاحتفال الإفخارستيّ. ولكنّ هذه الرتبة لا تُعتبَر سرًّا، مخافة التقليص من أهمية
سرّ المعمودية.

كذلك
تؤكّد الكنائس البروتستنتية ضرورة التوبة الدائمة وضرورة إعلانها في رتب كنسيّة،
وقد حافظ لوثر على الحلّة من الخطايا. ولكنّ هذه الكنائس لا تعتبر هذه التوبة
سرًّا خاصاً، بل عودة إلى المغفرة إلتي نالها المسيحي لدى قبوله المعمودية.
فالمعمودية هي السرّ المختصّ بمغفرة الخطايا، واعتبار التوبة سرًّا آخر يغفر
الخطايا بشكل منفصل عن المعمودية يقود، في نظر الكنائس البروتستنتية، إلى تقليص
أهمية المعمودية.

أمّا
بالنسبة إلى الكهنوت، فالكنائس البروتستنتية تحتفل في رتبة خاصة بسيامة الرعاة
المسؤولين عن الكنائس من أساقفة وقسّيسين، غير أنّها لا تعتبر هذه السيامة سرًّا
يمنح الرعاة درجة خاصة في جماعة المؤمنين. فالمسيح يبقى “الكاهن الأوحد”،
وجميع المسيحيين، من جرّاء معموديتهم، يشتركون على حدّ سواء في كهنوت المسيح. لذلك
لا يمكن أن يدعى الرعاة المسؤولون عن الكنائس “كهنة” بحيث يتميّز
كهنوتهم عن كهنوت سائر المسيحيين، كما في اللاهوت الكاثوليكي والأرثوذكسي. وتجدر
الإشارة إلى أن الأنكليكانيّة تشاطر الكنيسة الكاثوليكيّة نظرتها إلى سرّ الكهنوت.

وأخيراً
ترى الكنائس البروتستنتية في الزواج عملاً مدنياً لا علاقة للكنيسة به من حيث
التشريع وسنّ القوانين ومنع الطلاق. لكنّه، على غرار جميع الأعمال المدنية، بحاجة
إلى أن يتقدّس بكلمة الله. لذلك تُقام في الكنائس البروتستنتية حفلة دينية يعبّر
من خلالها المتزوّجون عن رغبتهم في أن يبدأوا حياة جديدة وفق إرادة المسيح المعلنة
في الكتاب المقدّس. ولكنّ هذه الحفلة لا يمكن اعتبارها، في نظر تلك الكنائس، سرًّا
على غرار المعمودية والإفخارستيّا.

د)
اللاهوت المعاصر

يحاول
اللاهوتيّون اليوم، في مختلف الكنائس، تخطّي المعضلة التي نشأت بين الكنائس
البروتستنتية والكنيسة الكاثوليكية حول ضرورة وجود نصوص في العهد الجديد يعلن فيها
المسيح بصراحة إرادته في إنشاء هذا السرّ أو ذاك.

نقرأ
في كتاب مشترك نشره لاهوتيون كاثوليكيون وبروتستنتيون: “السؤال الحقيقي ليس
السؤال التالي: هل يمكننا أن نبرهن، بالاستناد إلى الكتاب المقدّس، أن المسيح قد
أسّس هو نفسه الأسرار؟ بل السؤال هو بالحريّ: هل عمل الفداء الذي أتمّه المسيح
يستمرّ بفاعلية، من خلال الأعمال الكنسيّة التي دُعيت منذ عدة قرون
“أسراراً”، في الذين يقبلونها؟ وهل تشبه فاعليّة هذه الأسرار مثلاً
فاعلية التبشير بالكلمة؟ ولكن هذه الطريقة في عرض المشكلة، ولو طُرح السؤال على
هذا النحو، تبقى غير كافية. فالسؤال عامّ جدًّا، لذلك لا يمكن الإجابة عليه. ويكفي
لإظهار ذلك إلقاء نظرة سريعة على السرَّين الأساسيّين، المعمودية والإفخارستيّا.
فهما على قدر كبير من الاختلاف، بحيث يصعب جمعهما في منهجيّة واحدة. كما أنّ هذه
الطريقة في معالجة المسألة تقود إلى التقليص من ملء العمل الذي يريد المسيح أن
يسبغ علينا مفاعيله من خلال الأسرار. فيبدو من ثمّ كم هو صعب، في موضوع الأسرار،
تقديم براهين مستقاة من الكتاب المقدّس. وتتضاعف الصعوبة أيضاً عندما ننظر إلى
تنوّع الأشكال التي أخذتها الأسرار المختلفة عبر التاريخ، والطرق المتعددة التي
تمَّ فيها فهم طبيعتها. فما هو المقصود إذن تبيانه من خلال الكتاب المقدّس؟

“وإن
جاز لنا الإدلاء برأي في الموضوع، يكون له بعض الفائدة ويتيح بعض التقدّم، نقول
إنّه من الأفضل ألاّ نوجّه أنظارنا إلى عدد الأسرار بقدر ما نوجّهها إلى كل سرّ في
ذاته، فنحاول إدراك طبيعته. فالعلم الكتابيّ والتاريخ يعلِّماننا أنّ البحث عن
براهين في الكتاب المقدّس لا يقود إلى شيء حاسم بالنسبة إلى عدد الأسرار.

“والكنيسة
الكاثوليكية مدركة تمام الإدراك هذه المشكلات، عندما تحافظ، بالرغم من كل شيء، على
الأسرار التي ترفضها كنائس الإصلاح. إذ تعتبر أن هذه الأسرار، رغم تشابهها، يختلف
بعضها عن بعض إلى حدّ بعيد، بحيث لا يمكن تذويها في السرَّين أو الثلاثة أسراراً
التي حفظتها الكنائس البروتستنتية. وعلاوة على ذلك، ترى الكنيسة الكاثوليكية أنّ
هذه الأسرار لا تلزم الجيمع إلزاماً مطلقاً بدرجة مماثلة، ومن جهة أخرى هناك كنائس
بروتستنتية كثيرة تجلّ الأسرار التي تحتفل بها الكنيسة الكاثوليكية وتقدر شأنها،
دون أن يحملها هذا التقدير على أن تدعوها أسراراً”.

نستخلص
من هذا النص ثلاث أفكار هامّة من شأنها مساعدتنا في كل بحث لاهوتي في موضوع

 

الأسرار:

أوّلاً:
إنّ الاستناد إلى الكتاب المقدّس لتحديد عدد الأسرار لا يمكن أن يقود إلى شيء جازم.

ثانيا:
من الأفضل البحث في كل سرّ على حدة بعرفة كيفيّة استمرار عمل فداء المسيح فيه.

ثالثاً:
إنّ وجهات النظر بين اللاهوت الكاثوليكي واللاهوت البروتستني في موضوع الأسرار
بدأت تتقارب، وإن بقيت بينهما فروقات هامة. فالكاثوليكيّون يقرّون ضرورة التمييز
بين الأسرار من حيث أهميّتها، والبروتستنتيون يحترمون كل الأسرار الكاثوليكيّة،
وإن أصرّوا على ألاّ يدعوا أسراراً إلاّ بعضاً منها، رغبة منهم في إبراز أوّلية
المعمودية والإفخارستيّا.

نودّ
أخيراً لفت الانتباه إلى أنّ التقارب الحاصل بين اللاهوت الكاثوليكي واللاهوت
البروتستنتي ينسجم وفكرة آباء الكنيسة التي استمرّت في قسم من التقليد الأرثوذكسي
الرافض تحديد عدد الأسرار تحديداً رسميًّا، والتي تقول إنّ نعمة الله وعمل فداء
المسيح لا يمكن حصرهما في أسرار سبعة، بل يأتيان إلى الإنسان بطرق متنوّعة في رموز
وطقوس متعدّدة. فالمهمّ إذاً ليس تحديد عدد الأسرار بقدر ما هو تحديد عمل كلّ من
هذه الأسرار.

 

رابعًا-
فاعليّة الأسرار وكيفية عملها

قد
يعترض البعض على وجود الأسرار في الديانة المسيحية، معتبرينها من مخلّفات العصور
السالفة وبقايا أعمال السحر الوثنية. فهل الأسرار مجرد أعمال خارجية يقوم بها
الإنسان ليتيح لله التدخّل في حياة البشر؟ وكيف يتمّ عمل الله في الأسرار؟ وما هو
دور الإنسان في هذا العمل؟

لا
بدّ من الإجابة عن هذه الاعتراضات والأسئلة وتفسير فاعليّة الأسرار في المسيحية
وكيفيّة عملها. ولكن قبل ذلك يجب توضيح الموضوع الذي نحن بصدده. فالأسرار ليست
أعمالاً اعتيادية، بل هي من نوع العلامات والرموز والطقوس.

1-
العلامات والرموز والطقوس

أ)
العلامات،

العلامة
شيء يحيل الى شيء آخر، بحيث إنَّ من يدركها أو يتصوّرها يدرك أو يتصوّر في الوقت
عينه الشيء الذي تشير إليه. فالعلامة لا معنى لها لأجل ذاتها، بل تعني دوماً شيئًا
آخر. فإشارات السير هي من نوع العلامة: فالضوء الأحمر يشير الى ضرورة التوقف، إلخ..
والكلمات هي أيضاً من نوع العلامة: فلدى قراءة كلمة أو سماعها، يتبادر الى الذهن
الشيء الذي تعنيه.

ب)
الرموز

الرمز
علامة تشير الى ما يتخطّى الظواهر الحسّية والمادّية. فإهداء باقة من الزهور هو
رمز الصداقة والمحبة، والعلم الذي نرفعه ونحيّيه هو رمز الوطن.

وفي
كل رمز وجهان، وجه مُعطى في صلب الطبيعة، ووجه يضيفه الإنسان على الأشياء التي
يكتشفها في الطبيعة. فالرمز ليس علامة اعتباطية يخلقها الإنسان من لا شيء، بل هو
يستند الى قدرة كامنة في الطبيعة نفسها. فهناك أشياء تحمل في ذاتها إمكان
استعمالها كرمز. فالماء يمكن استعماله رمزًا للتنقية لأنّه بطبيعته يغسل ويطهّر،
واليد يمكن أن تستعمل رمزًا لمنح السلطة لأنّها بطبيعتها تُستعمل لأعمال القدرة.

بيد
أنّ الرمز لا يكتمل معناه إلاّ بتدخّل الإنسان الذي يختار من بين المعاني الممكنة
التي تتضمّنها الأشياء المعنى الذي يراه مناسباً للتعبير عن الفكرة التي يقصدها.
إذّاك يصير معنى الرمز مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالأشياء

ثمّ
إنّ اختيار معاني الرموز ليس عمل إنسان فرد بل عمل جماعة معيّنة. وفي هذا الموضوع
قد يجد الفرد تقييداً لحرّيته في ضرورة قبوله رموز الجماعة التي يعيش فيها، ولكن
عليه أن يدرك أنّ ضرورة الرموز تأتي من ضرورة مؤسّسات المجتمع البشري. فالزواج
مثلاً هو مؤسّسة رئيسة في المجتمع، والخاتم الذي يلبسه الزوجان يرمز إلى ارتباط
أحدهما بالآخر في الزواج.

لا
يمكن، في نظرنا، الاستغناء عن الرموز، لأنّ الإنسان روح وجسد معًا، ولا بدّ له من
التعبيرعن أفكاره الروحيّة بأمور حسّية، كما أنّه يشعر بحاجة الى إضفاء معانٍ
روحيّة على ما يختبره اختبارًا مباشرًا في أمور المادة.

لا
شكّ أنّ معاني الرموز تتطوّر مع تطوّر الثقافات والحضارات. والرمز الذي يفقد معناه
ولا يعود يعني أيّ شيء للجماعة البشرية لا يعود رمزًا، فيُستبدل به رمز آخر.
فالعقد في القديم كان يتمّ بأن يقسم المتعاقدان حلقة أو صدفة الى جزئين مماثلين،
فيحتفظ كلّ من المتعاقدين بأحدهما. أمّا اليوم فيتمّ العقد بتوقيع الطرفين لدى
شاهد رسمي. وهذا التوقيع قد حلّ محلّ الرمز القديم. أمّا في عقد الزواج فقد صارت
الخواتم رمز الرباط الزوجي.

وهنا
لا بدّ من الإشارة الى أنّ الرموز الدينية هي أيضًا من وضع المجتمعات البشرية.
فلكلّ ديانة رموزها الخاصة. والمسيحية التي نشأت في ثقافة يهودية ويونانية قد
استقت معظم رموزها من تلك الثقافة.

قد
تتطوّر الرموز، حتى في المسيحية. بيد أنّ هناك رموزاً تُعتَبر تأسيسية. لأنّها
مرتبطة بنشأة المسيحية، لأنّ المسيح والرسل استخدموها، كالمعمودية بالماء،
والاحتفال بالعهد الجديد مع الله بواسطة الخبز والخمر، ومنح السلطة بوضع اليد،
ومسحة المرضى بالزيت، فهذه الرموز لا يمكن أن تكون عرضة لاعتباطيّ التغيير
والتبديل.

أمّا
الرموز الأخرى، كالبخور والشمع والثياب الليتورجية والتطوافات الدينية، فليست
مرتبطة بتأسيس الكنيسة. لذلك لا تضاهي بأهميتها الرموز التأسيسيّة. إلاّ أنّ
استخدامها ينتج من رغبة الإنسان في إضفاء جوّ خاصّ على الطقوس الدينية للدلالة على
وجود أبعاد متسامية في الأعمال المقدّسة التي يقوم بها.

ج)
الطقوس

إنّ
لفظة طقس مأخوذة عن اللفظة اليونانية “تاكْسِيْسْ” التي تعني
“النظام” و”الترتيب”، وهي مرادفة بالعربية للفظة
“رُتْبة” (جمعها رُتَب). فالطقس هو تنظيم السلوك البشري بالنسبة الى
حقائق لا يستطيع الإنسان أن يدكها إدراكًا مباشرًا ولا تخضع لعمله. فالطقس هو عمل
جماعي رمزي. وبسبب ارتباطه بمَا يتخطّى إدراك الإنسان المباشر، فهو يتّسم دومًا
بسمة الفخامة والأبّهة، التي تظهر حتى في العبارات المستعملة في الطقوس. فيقال
“التطواف” بدل “السير”، و”الإعلان”، بدل
“الكلام”. وكذلك الحركات في الطقوس تتمّ ببطء وأبّهة.

إنّ
ظاهرة الطقوس في المجتمع البشري ليست مرتبطة بأمور الدين وحسب، بل تشمل مختلف
ميادين الوجود البشري في المجتمع. ففي الحياة اليومية نمارس طقوسًا أكثر ممّا نظنّ:
فعبارات التحيّة وطرق المصافحة والمراسة، ومراسيم الأعياد والاستقبالات
والاحتفالات والمهرجانات، كل هذه الأمور هي من نوع الطقس، وتتّسم حتمًا بسمة
التقليدية، لأنّها تستمرّ في المجتمع وتتكرّر.

إنّ
هدف الطقوس هو تأمين إطار خارجي مستقرّ يشعر فيه الإنسان براحة نفسية، فلا يوجّه
طاقاته الى ابتكار إطار يتجدّد باستمرار، بل الى تعميق خبرته الشخصية وتكثيف
علاقاته مع ذاته ومع الآخرين. فالطقوس هي ممارسات خارجية تريح الإنسان وتتيح له
القيام في داخله باختبارات شخصيّة عميقة.

إنّ
الطقوس الأساسية في المجتمع البشري هي التي ترتبط بالأحداث الهامة التي يمرّ بها
الإنسان في حياته ولا سيّمَا تلك التي ينتقل فيها من مرحلة الى أخرى، كالولادة،
والمراهقة، والزواج، والوفاة. ففي هذه الأحداث يختبر الإنسان أمورًا جديدة تفوق
قواه، لذلك يميل الى رفض هذا الانتقال. وبمَا أنّ الطقوس هي أعمال ثابتة ومعهودة،
فإنّها تساعد الإنسان على التكيّف مع المجهول وقبول الانتقال.

غير
أنّ الطقوس ليست مجرّد إطار خارجي يتمّ من خلاله العمل ويتحقّق معناه، بل هي
مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعمل الذي يقوم به الإنسان وبمعناه، وتسهم إسهامًا
فعّالاً، وإن على طريقتها الخاصّة، في تتميم هذا العمل وتحقيق معناه. إنّ بين
الإطار الخارجي والخبرة الداخلية علاقة كيانية، بحيث إنّ من يقتصر على القيام بمَا
تقتضيه الطقوس من حركات خارجية دون أيّ اقتناع داخليّ بمعناها يقع في الرئاء الذي
شجبه المسيح في ديانة الفرّيسيين (راجع متى 23: 24- 28).

الطقوس
الدينية هي أعمال تساعد الإنسان على الوصول الى الاتّحاد بالله. لذلك لا بدّ من أن
تحمل في جنباتها البعد الروحي الذي تهدف الى إبرازه، أي الخلاص الشخصي. ويجب ألاّ
يغيب عن بالنا الرباط الوثيق بين العمل الطقسي والخبرة الروحية الذاتية، وإلاّ
تحوّلت الطقوس أعمالاً سحرية آلية. إنّ الطقوس تتطلّب الالتزام، ويجب ألاّ تكون
مدعاة لرفض التجدّد وخنق روح الابتكار لدى من يمارسها. إنّ التعلّق الحرفي بالطقوس
حتى إهمال الروح يقود الى تفريغ الطقوس من معناها. وإنّه لفي خطإ فادح من يعتقد
أنّ تتميم الطقوس بحذافيرها يكفي للحصول على نعمة الله.

2-
كيف يتمّ عمل الأسرار؟

الأسرار
طقوس دينية تعبّر من خلالها الكنيسة عن خبرتها الروحية العميقة. وقوام هذه الخبرة
هو التقاء الإنسان بالله من خلال شخص يسوع المسيح الذي يستمرّ حضوره في الكنيسة
على مدى الزمن.

كيف
يتمّ في الأسرار التقاء الإنسان بالله، وكيف يستمرّ فيها حضور المسيح؟

للإجابة
عن هذين السؤالين، لا بدّ لنا قبلاً من إجراء مقارنة بين النظرة الوثنية والنظرة
المسيحية لعلاقة الإنسان بالله من خلال الصلوات والأسرار.

أ)
النظرة الوثنيّة: مبادرة إنسانية للتأثير في القدرة الإلهيّة

كان
الوثنيون يرون في الأسرار وما يرافقها من صلوات وابتهالات وطقوس مجرّدَ أعمال
خارجية يقوم بها الإنسان ليستمطر عليه نعمة الله. ففي هذه النظرة يغدو المعنى الذي
تحمله الأسرار خارجًا عنها وآتيًا الى الإنسان بواسطتها من كائن غريب عن البشر.
فالطقوس الوثنية تهدف الى التأثير في القدرة الإلهية لحملها على التدخّل لمصلحة
الإنسان وإنقاذه من المضايق التي تنتابه والمشكلات التي يتخبّط فيها.

وهنا
يجب التمييز، حتى في الديانات الوثنية، بين الطقوس الدينية والسحر. فالسحر هو
القيام بأعمال يحاول من خلالها البشر امتلاك القوى الفائقة التي يتمتّع بها الآلهة
في سبيل تسخيرها لتحقيق مآربهم الخاصة. لذلك، تحاشيًا للانزلاق في الأعمال السحرية،
أكّد الكتّاب اليونانيّون أنّ الطقوس الدينية لا تهدف الى إرغام الآلهة على
التدخّل لمصلحة الإنسان. لكنّ الآلهة أنفسهم قد قرّروا بملء اختيارهم الاستجابة
لصلوات البشر والعمل لأجلهم من خلال طقوس معيّنة.

لقد
تأثّر اللاهوت المسيحي التقليدي والدين الشعبي بهذه النظرة الوثنية وعبّرا في كثير
من الأحيان عن مفعول الأسرار بأسلوب مماثل يضحي فيه إيمان الإنسان كلّ ما يقوم به
من أسرار وطقوس وصلوات مجرّد شروط خارجية لتدخّل الله. كلّنا نسعى وراء السعادة
والخلاص والشفاء، وإذ لا نجد هذه الأمور بسبب ضعفنا وحدود طبيعتنا البشرية، نطلب
الى الله أن ينزل من علياء سمائه ويتدخّل ليقوم بها عوضاً عنّا. وعندما لا يستجيب
الله، نكرّر الطلب ونقدّم الذبائح والصلوات والأصوام، ولكن سرعان ما ندرك أنّنا لا
نزال على ما نحن عليه، وكأنّ الله غافٍ أو ساهٍ عنّا، أو، كمَا كان يقول
اليونانيون القدماء، منهمك بتنظيم الكون.

أنا
أريد السعادة، وإذ أعجز عن الوصول إليها بقواي الشخصية، ألتجئ إلى الله، فيمنحني
ايّاها. والصلاة والأسرار تدخل إطار توجّهي إلى الله.

كثير
من المسيحيين لا يزالون يعتنقون هذه النظرة في علاقتهم بالله في الصلاة والأسرار.
إنّ لديهم رغبة صادقة في دخول علاقة مع الله، وهذا أمر إيجابيّ. لكنّ هذه الرغبة
لا تزال صبيانية، وهي بحاجة الى أن تصير رغبة بالغة. فالله يريد أن يكون الإنسان
بالغًا: إنّه يحبّه ويحترمه. حتى إنّه يريده أن يأخذ هو نفسه مسؤولية حياته.

ب)
النظرة المسيحية: المبادرة من الله، وهي تعيد الإنسان الى ذاته

إنّ
السعادة التي أرغب فيها وأسعى إليها يريدها الله أيضا لي، ولكنّه يريد أن أبنيها
أنا نفسي. فأنا المسؤول عنها. وفي هذه المسؤولية تكمن عظمتي وكرامتي ومغامرة حياتي.
وفي اعتناقي هذه المسؤولية أؤمن أنَّ الله لا يغيب عنّي.

أنّ
الصلاة والأسرار ليست في اتجاه واحد، أي من الإنسان الى الله، بل هي علاقة تبادل
بين الله والإنسان. والمبادرة، في الصلاة كمَا في الأسرار، تأتي من الله. فهو الذي
يوحي إلينا بأن نصلّي، حسب قول بولس الرسول: “إنّا لا نعرف كيف نصلّي كمَا
ينبغي، لكنّ الروح نفسه يشفع فينا بأنّات تفوق الوصف” (رو 8: 26)؛ و”ما
من أحد يستطيع أن يقول: يسوع ربّ، إلاّ بالروح القدس” (1 كو 2: 3). ومبادرة
الأسرار تأتي أيضاً من الله، بواسطة عمل المسيح. فالأسرار ليست أعمالاً إنسانيّة
تهدف إلى استعطاف الله واسترضائه. تلك كانت حال الذبائح في العهد القديم. أمّا في
العهد الجديد، فالذبيحة الوحيدة هي ذبيحة يسوع على الصليب، والتقدمة الوحيدة
الجديرة بالله ليست تقدمة بشرية وحسب، بل هي أوّلاً تقدمة الله ذاته لنا في شخص ابنه
يسوع. وكل أسرار العهد الجديد هي استمرار لهذه التقدمة.

ج)
الأسرار: احتفال بالتقائنا المسيح القائم من بين الأموات

لتوضيح
عمل الأسرار في حياة المسيحي، ننطلق من ثلاثة مشاهد نقرأها في العهد الجديد عن
حياة المسيحيين الأوّلين.

*
ترائي المسيح لتلميذي عمّاوص (لو 24: 13- 35)

في
هذا المشهد نرى تلميذين يغادران، بعد موت يسوع، أورشليم، مدينة الخلاص ومدينة
الفداء، ليعودا إلى قريتهما، أي الى وضعهما الأوّل قبل مجيء المسيح، وقد فقدا كل
أمل بالخلاص والفداء (راجع 24: 21).

“وفيمَا
هما يتحادثان ويتباحثان، دنا إليهما يسوع نفسه، وأخذ يسير معهما. إلاّ أنّ أعينهما
قد أُمسكت عن معرفته.. وراح يفسّر لها ما يختصّ به في الأسفار كلّها، ذاهبًا من
موسى الى جميع الأنبياء. واقتربوا من القرية التي كانا يقصدانها، فتظاهر بأنّه
قاصد الى مكان أبعد. فألحّا عليه، قائلين: أقم معنا، فإنّ المساء مقبل، والنهار قد
مال. فدخل ليمكث معهما. ولمّا اتّكأ معهما، أخذ الخبز، وبارك وكسر وناولهما.
فانفتحت أعينهما وعرفاه. ولكنّه غاب عنهما. فقال أحدهما للآخر: أوَ لم تكن قلوبنا
مضطرمة فينا، إذ كان يخاطبنا في الطريق، ويفسّر لنا الكتب؟ وقاما على الفور، ورجعا
الى أورشليم، فوجدا الأحد عشر ومن معهم، مجتمعين، وهم يقولون: لقد قام الرب حقاً،
وتراءى لسمعان فأخذا هما يخبران بمَا جرى في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر
الخبز” (24: 15- 35).

إنّ
عمل الأحرار يمكن تصوّره على مثال عمل المسيح مع هذين التلميذين. ومن هذه الرواية
نستطيع أن نستخلص العناصر الهامّة التي تتضمّنها الأسرار:

1-
الأسرار ليست هروبًا من الحاضر، ففيها يلتقي المسيح الإنسان في وسط اهتماماته،
ليفسّر له أحداث حياته، ويساعده على أن يعيشها من جديد على ضوء حياة المسيح وموته
وقيامته.

2-
المبادرة في الأسرار تأتي من الله، فالمسيح، في هذا المشهد، هو الشخص الرئيس الذي
يدنو من التلميذين ويسألهما، ويفسّر لهما الكتب ويكسر لهما الخبز ويناولهما.

3-
الأسرار تقود الى الإيمان، ولكن بعد مسيرة طويلة. فالتعرّف الى المسيح يتطلب وقتًا.
ففي بدء الرواية يشير لوقا الى أنّ التلميذين لم يعرفا يسوع عندما تراءى لهما، وفي
آخر الرواية يؤكّد التلميذان أنّهما عرفاه عند كسر الخبز. ودور الإنسان للوصول الى
الإيمان هو في الإصغاء الى كلام الله والانفتاح على عمله والتماس حضوره: “فألحّا
عليه قائلين: أقم معنا..”.

4-
في كل سرّ عنصران أساسيّان متكاملان: الكلمة والمادة: فبعد تفسير الكتب المقدّسة،
يأخذ يسوع الخبز ويباركه ويكسره ويناولهما.

5-
وأخيرًا يعود التلميذان الى جماعة الرسل ليتبادلوا كلّهم معًا خبرتهم بالتقاء
المسيح. فدور الجماعة أساسي في الأسرار. فهي التي تقرأ كلام الله وتفسّره على ضوء
اختبارها التقاء المسيح في حياتها.

*
اعتماد قيّم ملكة الحبشة على يد فيلبّس (أع 8: 26- 39)

المشهد
الثاني يقصّه لوقا في سفر أعمال الرسل، ويروي فيه اعتماد قيّم ملكة الحبشة على يد
فيلبّس أحد الشمامسة السبعة. ففي هذه الرواية نجد أيضًا عناصر السرّ الأساسية:

1-
فالسرّ يلتقي الإنسان في اهتمامات حياته: كان الرجل الحبشي قد جاء الى أورشليم
ليقيم فيها شعائر العبادة (8: 27). هكذا تبدأ الرواية، وتنتهي بالمعمودية باسم
المسيح، مع كل ما تتضمّنه من معانٍ جديدة لحياة هذا الرجل.

2-
المباشرة تأتي من الله: “فكلّم ملاك الرب فيلبّس: قم، فامض..” (8: 26)،
“فقال الروح لفيلبّس: “اقترب، والزم هذه المركبة” (8: 29).

3-
الأسرار تقود الى الإيمان: “إنّي أؤمن بأنّ يسوع المسيح هو ابن الله” (8:
37). والرجل هو الذي يطلب المعمودية: “هوذا ماء، فما المانع من أن
اعتمد” (8: 36).

4-
الكلمة والمادة. بعد تفسير الكتاب المقدّس (سفر أشعيا)، والإيمان بكلام الله،
تعبّر المعمودية بالماء عن الالتزام بهذا الإيمان الجديد.

5-
دور الجماعة في هذا المشهد يقوم به فيلبس الذي انتدبته الكنيسة لهذا العمل. فهو
الذي يبشّر وهو الذي يعمّد.

*
اهتداء بولس على طريق دمشق واعتماده على يد حنانيّا (أع 9: 1- 19)

في
هذا المشهد أيضاً نجد عناصر السرّ الأساسية:

فالمسيح
يلتقي بولس في وسط اهتماماته: لقد كان ذاهبًا الى دمشق لإلقاء القبض على المسيحيين،
فظهر له المسيح ذاته: “أنا يسوع الذي تضطهده”، وقاده الى الإيمان به
والى المعمودية التي منحه إيّاها حنانيا ممثّل الجماعة المسيحية. وتجدر الإشارة
الى أنّ المسيح يكتفي بأن يظهر ذاته لبولس ثمّ يرسله الى الجماعة: “إنهض،
وأدخل المدينة، فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل” (9: 6).

وبعد
التقاء المسيح تغيّرت حياة بولس كما تغيّرت حياة تلميذي عمّاوص: “ومكث
أيّامًا مع التلاميذ الذين بدمشق، وأخذ للحال يكرز في المجامع بأنّ يسوع المسيح هو
ابن الله” (أع 9: 19- 20).

د)
الأسرار تعبير عن تلاقي عمل الله وحرّية الإنسان

ليست
الأسرار مجرّد أعمال خارجية يقوم بها الإنسان ليسترضي الله ويحصل على نعمته، بل هي
التعبير عن تلاقي عمل الله وحرّية الإنسان.

“إنّ
الله لا يحلّ محلّ البشر، ولا يدخل حياتهم دخول متسلّط. فإنّه أرسل إلينا ابنه
يسوع المسيح الذي عاش في ما بيننا ومات وقام. وقبل أن بغادر هذه الحياة، أنشأ بعض
الأعمال التي تتيح لنا من الآن فصاعدًا أن نلتقيه، ونسير على خطاه، ونجعل حياتنا
على صورة حياته، ونكتشف السعادة الحقيقية ونحقّقها حسب نهجه.

من
النادر ألاّ نصادف، ولو مرّة في حياتنا، صديقًا كان لقاؤه لنا لقاء هامًا، فنقول
عن هذا اللقاء: إنّه غيّر حياتنا.

على
هذا النحو يكون مفعول الأسرار. إن التقينا المسيح القائم من بين الأموات، وقرأنا
حياتنا قراءة جديدة على ضوء حياته، وقمنا باختياراتنا على ضع اختياراته، تغيّر
توجيه حياتنا تغييرًا جذريًّا، ليس من الخارج، لأنّه أقوى منّا، بل باحترام كلّي
لشخصيتنا. إنّ المسيح يعمل فينا من الداخل، فيغيّر نظرتنا، ويميل بطرق تفكيرنا،
ويساعدنا على اكتشاف ما لم ندركه بعد. إنّ فاعلية الأسرار تكمن في لقاء شخص أحبّنا،
وبسبب هذه المحبة، يؤثّر فينا، ليس فقط لأنّه هو الذي يريد ذلك، بل أوّلاً لأنّنا
نحن نريده”.

في
هذا التفسير لعمل الأسرار يتجنّب اللاهوت المعاصر الكلام على “العلّة
والنتيجة”، فلا يرى في الاحتفال بالأسرار علّة لمنح النعمة، وكأنّ العلّة عمل
منفصل عن النتيجة.

ومن
جهة أخرى، حين يؤكّد اللاهوت المعاصر ضرورة حصول لقاء بين الله والإنسان في
الأسرار، فإنّه يرفض نظرة الملحدين الذين يقولون بأنّ الطقوس والأسرار ليست سوى
تعبير عمّا يخالج قلب الإنسان من مشاعر. ففي هذه النظرة تغدو الأسرار مجرّد تعبير
عن الذات الإنسانية.

لا
شك أنّ اللاهوت المعاصر يعتبر أن الأسرار هي من نوع فاعلية التعبير، ولكنّه لا يرى
في التعبير مجرّد نقل الى الخارج لأفكار وصلت الى كمالها في داخل الإنسان. التعبير
عمل ديناميكي، به تأخذ الأفكار التي لا تزال أوّلية في داخل الإنسان شكلها الكامل.
إنّ الفكرة تنمو في الوجود عندما تنتقل من داخل الإنسان الى خارجه. وهكذا الحب
ينمو في التعبير عنه وتجسيده في أعماله خارجية، وهكذا الصداقة تنمو في التعبير
عنها وتجسيدها في الخارج.

ومع
ذلك يجب القول إنّ التعبير لا يفي بالفكرة كلّها. فهناك فارق دائم لا يمكن إزالته
بين الفكرة والتعبير عنها، ناتج من كون الإنسان على هذه الأرض روحًا يعبّر عن ذاته
من خلال جسد ماديّ. فكثافة الجسد تحول دون شفافية الروح.

الفكرة
في الأسرار هي حركة يشعر من خلالها الإنسان بدعوة الله إليه، فيدرك تلك الدعوة
ويلتزمها ويعبّر عنها في الأسرار، فتتحوّل إذّاك من عمل يُفرَض الى عمل حرّ يعبّر
من خلاله عن التقائه الله، ويصير ما هو عليه: إنسانًا متّحدًا بالله.

خلاصة
القول أنّ الأسرار ليست عمل الله وحده ولا عمل الإنسان وحده، ففيها يتمّ تلاقي عمل
الله الذي يدعو الإنسان، وحرّية الإنسان الذي يقبل دعوة الله، ويعبّر في الأسرار
في عمل واحد عن وحي الله وعن إيمَانه بهذا الوحي. يقول أنطوان فيركوت، الأخصائي في
علم الفلسفة الدينية:

“في
التبادل بين كائنات، ليس من السهل دومًا تحديد نقطة تلاقي طريقيهما. هذه حالنا
عندما نريد تحديد اللحظة الدقيقة لعبور الإنسان في الله وعبور الله في الإنسان.
هناك نظرة تستند الى العلّة والنتيجة، فتوزّع أوقات التبادل على زمنية متقطّعة: فترى
في مرحلة أولى عملاً إلهيًّا مسبّقًا يحمل الإنسان على الإيمان، وفي مرحلة ثانية
الإيمان الذي يخضع لترتيبات الطقوس والأسرار، فينال في مرحلة ثالثة النعم الفائقة
الطبيعة.

إنّ
زمن التبادل ومكانه يكمنان، في نظرنا، في إيجابية الرمز الذي ينشئ في الإنسان معنى
يفوق المعنى الذي يضعه فيه الإنسان. فالرمز الطقسي هو الحقيقة غير المقسومة حيث
يتقاطع إيمان الإنسان وتجلّي الله. إن الرمز في الأسرار، وإن كان من عالم الإنسان،
فهو بالقدر نفسه سمة إلهيّة تستمرّ نتائجها في المؤمن. إنّه الكلمة التي تنشر
الكلمة الأصلية، والصورة التي تمثّل الإله الذيَ أخذ صورة إنسان، والعمل السيّد
الذي يعيد الحركة التي سادت الحياة. بالطقوس يخرج الإنسان من ذاتيّته ويشترك في
حقيقة متوسّطة يتجلّى فيها الله ويعمل.

إنّ
التعبير الطقسي الكامل هو تفجّر الله في الإنسان، وفي الوقت نفسه دخول الإنسانِ
اللهَ. إنّ عمل الإيمان والعمل الإلهي هما وجهان لعمل رمزي واحد يصير في الرموز
الفاعلة”.

3-
ضرورة الأسرار بالمقارنة مع الصلاة والعمل

هل
الأسرار تعبير ضروري عن تلاقي الله والإنسان؟ ألا يمكن المسيحي الاقتصار على
الصلاة والعمل للتعبير عن لقائه بالله؟ وماذا تضيف الأسرار الى الصلاة والعمل؟

لنبدأ
بتحديد الصلاة والعمل في حياة المسيحي.

أ)
الصلاة هي اتصال بين الكيان الإنساني بمجمله والكيان الإلهي. إنّها تعبير عمّا يدركه
الإنسان في ذاته من تفاعل بين النداءات التي يوجّهها الله اليه وخبراته الذاتية
التي يشعر بضرورة تعميقها والبحث في أبعادها على ضوء الحضور الإلهي.

ب)
العمل الخلقي هو تحقيق دعوة الله الى الإنسان لينمو في الكيان ويصير على مثال الله،
إذ “ليس كل من يقول لي: يا رب، يا رب! يدخل ملكوت السمَاوات، بل الذي يعمل
إرادة أبي الذي في السمَاوات” (متى 7: 21).

بالصلاة
والعمل تتأكّد صحة الإيمَان وملاءمته العمق الوجودي الذي يدركه المؤمن في ذاته.

ج)
الأسرار هي التعبير الحسّي من خلال عناصر الكون والمادة عن العلاقة الكيانية التي تربط
الله بالإنسان والإنسان بالله. إنّها التعبير الذي تحقّق من خلاله كل إمكانات
الإيمَان الصامتة. لذلك تجمع في طيّاتها رموز الجسد واللغة البشرية والجماعة
الإنسانية والأرض كلها (بواسطة الماء والزيت والخبز والخمر والشموع والبخور وما
الى ذلك) للاحتفال بحدث الله الذي يأتي الينا حقًّا من خلال العمل الإنساني.

والأسرار
هي كذلك التعبير عن تحقيق تلك العلاقة بين الله والإنسان في تاريخ الخلاص في تجسّد
كلمة الله في شخص يسوع المسيح، وعن ضرورة استمرار التجسّد والتألّه حتى يصير الله
“كلاًّ في الكلّ”.

ففي
المعمودية مثلاً تأتلف في عمل رمزي كل معاني الوجود ومعاني التاريخ المسيحي،
ويتحقق في المعتمد الخلاص الآتي من الله في شخص المسيح:


فبالتغطيس يدخل الإنسان الرمز الكوني للأشياء المبهمة التي تمثّلها الماء التي لا
صورة لها.


وإذا بكلمة المسيح تنشى، بعمل خلق جديد، حياة جديدة في هذا الإنسان المرتبط بالكون.


وعبور الماء يوجز بشكل منظور تاريخ البشرية الديني بمجمله. فالإنسان ينتقل بن
الكيان الذي لا صورة له الى الشخصية المسيحية المبنيّة على صورة المسيح الكائن
الجديد. وبشكل رمزي ومسبّق يقبل الموت كمرحلة حاسمة لا بدّ منها، ويؤكّد إيمَانه
بأنّ جسده سيعبر مع المسيح معبر الموت الخطير.

إنّ
التراث المسيحي، في الأسرار، يعتنق المعاني التي أنشأها المسيح في بعض علامات
جوهرية تتميّز بمَا فيها من تقارب مع أسس الوجود البشري. وهكذا على الوجود الطبيعي
تضفي الأسرار المسيحية سمة دخول الله تاريخ البشرية.

4-
حضور المسيح في الأسرار

إنطلاقًا
من اللقاء بين الله والإنسان في الأسرار، يمكننا فهم “حضور المسيح” فيها.
ماذا نعني بلفظة حضور، وكيف يكون المسيح حاضرًا في الأسرار؟

أ)
الحضور علاقة ديناميكية بين أشخاص

الحضور
يعني دومًا علاقة تبادل بين أشخاص. فالأشياء لا يمكن أن تكون حاضرة بعضها لبعض.
الأشخاص وحدهم يمكنهم أن يكونوا حاضرين أحدهم للآخر. فالحضور يتطلّب انفتاحًا على
الآخر وعطاء حرًّا له.

في
كل حضور انفتاح ضروري على الآخر لنتقبّله في حياتنا. الحضور ليس واقعًا جامدًا بل
هو علاقة ديناميكية تخرج الإنسان من ذاته وتفتح أمامه آفاقًا وإمكانات جديدة.
فالآخر يحذبني إليه لأحقّق معه عملاً مشتركاً أو أعيش معه في حياة مّشتركة.

في
الحضور درجات متنوّعة من الكثافة. ولكنّ الحضور الحقيقي للآخر في حياتي وفي كياني
لا بدّ له أن يغيّر حياتي وكياني. وقد يكون هذا التغيير جذريًّا.

ب)
حضور المسيح

إنّ
حضور المسيح لا يسعه أن يكون مجرّد حضور في أشياء، كالماء والخبز والخمر والزيت.
فلا حضور للمسيح إلاّ في علاقة مع شخص إنساني يؤمن به. وتلك العلاقة تتحقّق بشكل
سرّي، أي بواسطة أشياء مادّية منظورة تدعى “مادة السرّ”، كالماء، والخبز
والخمر، والزيت، ووضع اليد، تعبّر عن حقيقة غير منظورة. إن عطاء المسيح ذاته لنا
في الأسرار يكون دوماً من خلال مادة معيّنة. ولكنّ الهدف الأخير من هذا العطاء هو
إنشاء علاقة شخصية مع المؤمن.

وعندما
تنشأ علاقة بين أشخاص، لمكن القول إنّ حضورهم بعضهم لبعض هو حضور حقيقي يتّخذ أشكالاً
متنوّعة. فانطلاقاً من خبرتنا البشرية، نستطيع القول إنّنا حاضرون بعضنا لبعض في
الكلام، والوجود الصامت جنبًا الى جنب، والهدايا، وأعمال المحبة.

في
كل هذه الأنواع حضورنا هو حضور حقيقي. ولكن ما هو الحضور الأكثر حقيقة والأشدّ
كثافة؟ إنّه يصعب الجواب عن هذا السؤال إجابة جازمة. فقد يكون أحد هذه الأنواع
أكثر حقيقة وفق الظروف والأحوال. فهناك ظروف أشعر فيها بأنّ وجود أحد أصدقائي الى
جانبي وجودًا صامتًا هو حضور أصدق وأعمق من كلّ ما يستطيع أن يخاطبني به أو يهديه
إليّ.

كذلك
حضور المسيح حضوراً حيًّا وحقيقيًّا في الكنيسة هو حضور متنوّع. فحضوره في الإنجيل
متميّز عن حضوره في سر الإفخارستيا وفي الأيقونة وفي الجماعة المؤمنة.

إنّ
التقليد اللاهوتي الغربيّ منذ القرون الوسطى قد خصّ حضور المسيح في سرّ
الافخارستيّا بعبارة حضور حقيقي. إنّ هذه العبارة قد تضلّل المؤمنين، إذ توهمهم أنّ
حضور المسيح في سائر الأسرار هو حضور رمزي، أمّا في الإفخارستيا فهو حقيقي.

يجب
التأكيد أنّ حضور المسيح في جميع الأسرار هو حضور حقيقي ورمزي معًا. فالمسيح قد
قام من بين الأموات، وهو الآن حيّ في مجد الآب، ويحضر حضورًا حقيقيًّا في جميع
الأسرار، كما يحضر حضوراً حقيقيًّا في الإنجيل وفي الجماعة المؤمنة. وهنا نعني
بصفة “حقيقي” ما يكمن في الأشخاص والأشياء من معانٍ وأبعاد تتخطّى
كيانها الظاهر. فحقيقة الشخص أو الشيء هي ما يشدّ كيانه الظاهر الى ما يمكن أن
يحمله من معانٍ وأبعاد. فالفرق بين الأسرار لا يكمن في حقيقة حضور المسيح فيها، بل
في ما تحمله من معانٍ.

لذلك
لا تأتي أهمية سرّ الإفخارستيا بالنسبة إلى سائر الأسرار من أنّ المسيح حاضر فيها
حضورًا أكثر حقيقة، بل من أنّ هذا السرّ يعيد الى ما بيننا حضور شخص المسيح في
قمّة عطائه، أي في بذل ذاته حتى الموت في سبيلنا، وفي قيامته بقدرة الروح الى مجد
الآب. فالفرق بين هذا السرّ وسائر الأسرار هو في ما يحمله من معانٍ. إن محور سرّ
الإفخارستيّا هو عبور يسوع من الموت الى الحياة، وانتقاله الى مجد الله، “ذاك
المجد الذي كان له من قبل كون العالم” (يو 17: 5). في هذا المعنى يمكن الكلام
على حضور المسيح في سرّ الإفخارستيا حضورًا حقيقيًّا “أكثر سموًّا وأشدّ
كثافة” من حضوره في سائر الأسرار.

وهذا
الحضور الحقيقي هو في الوقت نفسه حضور رمزي سرّي، أي من خلال سرّ، أو علامة خارجية
منظورة. وتلك العلامة المنظورة تختلف أيضاً من سرّ الى آخر، حاملة في ثناياها
المعاني المختلفة التي تتضمنّها الأسرار.

5-
الوسم السرّي: أوّلية مبادرة الله وثبات اختياره

هناك
ثلاثة أسرار، المعمودية والميرون والكهنوت، لا تعطى للمؤمن إلاّ مرّة واحدة في
حياته. وهذا تقليد جرت عليه الكنيسة منذ نشأتها. لا شك أنّ هناك نقاشًا قد حصل في
القرن الثالث حول إعادة تعميد المهتدين من البدع إلى الكنيسة الكاثوليكية. ولكنّ
هذا النقاش لم يدم طويلاً، وأعلنت الكنيسة أنّ من اعتمد في إحدى البدع معمودية
صحيحة، أي “باسم الآب والابن والروح القدس” في كنيسة تؤمن إيمَانًا
صحيحاً بالثالوث الأقدس، لا تعاد معموديته متى عاد الى حضن الكنيسة الجامعة.

هذا
التقليد القديم عبّر عنه اللاهوت المسيحي بقوله إنّ هذه الأسرار الثلاثة تمنح من
يقبلها وسمًا لا يمحى. فما هو قوام هذا الوسم؟

لقد
كان الوسم في المجتمعات القديمة علامة تعارف تشير إلى دخول شخص جماعة معيّنة.
فالجندي كان يوسَم بالنار بالأحرف الأولى من الأمم الإمبراطور الذي كان في خدمته،
وهذه العلامة كانت تميّزه عن غيره من الناس وتكرّسه لخدمة الإمبراطور وخدمة الدولة.

إنّ
الوسم الذي تمنحه الأسرار الثلاثة هو علامة اختيار للمسيح بالنسبة الى الشخص الذي
يقبل هذه الأسرار اختيارًا لا عودة عنه. فالله هو الذي يبادر البشر بالمحبة
والنعمة ويقطع معهم عهدًا أبديًا. ولو ابتعدوا عنه فإنّه يبقى أمينًا للعهد الذي
قطعه معهم.

هكذا
بالمعمودية والميرون يتبنّى الله الإنسان ويشركه في موت المسيح وقيامته ويمنحه
روحه القدّوس. وإن خطى الإنسان وجحد إيمَانه وغادر البيت الأبوي كما فعل الابن
الشاطر، فالله يظلّ يعتبره ابنًا له، ولا حاجة لإعادة معموديته لدى عودته.

وكذلك
في سرّ الكهنوت يختار الله شخصاً ويشركه في كهنوت المسيح. ويظلّ هذا الاختيار
ثابتًا من تقلّب الكاهن في الخطيئة وأهمل واجبات خدمته الكهنوتية. وحتى إعادة
الكاهن الى الحالة العلمانية فإنّها، في تقليد الكنيسة، لا تزيل عن الكاهن الوسم
الكهنوتي، بل توقفه عن ممارسة المهامّ المتعلّقة بسر الخدمة الكهنوتية. وإذا ما
عاد الى الحياة الكهنوتيّة، فلا تمنح له من جديد السيامة الكهنوتية.

 

خامسًا-
الأسرار والإيمان والحياة

عندما
يتكلّم آباء الكنيسة عن الأسرار يستعملون عبارة أسرار الإيمان، مظهرين بذلك
العلاقة الدائمة بين الأسرار والإيمان.

في
ردّة فعل على مؤسسّات الكنيسة الكاثوليكية، ركّز لوثر على الإيمَان الفردي بقوله: “الأسرار
لا تمنح شيئًا، الإيمَان وحده هو الذي يصنع كلّ شيء”. ومع ذلك لم يرفض أهمية
الأسرار. وبالمقابل نرى بعض الكاثوليك يعتبرون الأسرار وسائل تمنح النعمة بشكل آلي،
فيعترفون دون توبة صادقة، وفي ظنّهم أن الحلّة تغفر الخطايا دون أيّ اشتراك منهم،
ويتناولون دون التزام شخصي بما يفعلون.

إنّ
الفكر اللاهوتي يركّز، في كل عصر من تاريخ الكنيسة، على إحدى النواحي التي يراها
أكثر ملاءمة والثقافة المعاصرة. وهو اليوم يؤكّد البعد الشخصي للأسرار، والذاتية
والشخصانية هما من مميّزات الفكر المعاصر.

1-
الأسرار والإيمان في العهد الجديد

لا
يمكن فصل الإيمان عن الأسرار. فلا أسرار من دون أيمان، ولا إيمان من دون أسرار.
والإيمان الذي نعنيه هنا هو في الوقت عينه إيمَان الكنيسة وإيمَان الشخص الذي
يتقبّل الأسرار.

هذا
ما نقرأه في مقاطع متعدّدة من العهد الجديد. ففي مرقس 16: 15- 16، يقول يسوع
لتلاميذه: “اذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها. فمن آمن
واعتمد يخلص”. فالإيمان والمعمودية متلازمان. وهذا ما صنعه الرسل إذ راحوا
يكرزون بالإنجيل، وكان كلّ الذين يقبلون كرازتهم ويؤمنون بالإنجيل يعبّرون عن
إيمانهم بالمعمودية.

فهوذا
بطرس يقول للشعب في خطبته الأولى بعد العنصرة: “توبوا، وليعتمد كلّ واحد منكم
باسم يسوع لمغفرة خطاياكم.. فاعتمد الذين قبلوا كلامه، وانضمّ إلى الكنيسة في ذلك
اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس” (أع 2: 38، 41).

وكذلك
أهالي السامرة “لمّا آمنوا بمَا كان يبشرّ به فيلبّس عن ملكوت الله واسم يسوع
المسيح.، أخذوا يعتمدون رجالاً ونساءً” (أع 8: 12).

وهذا
ما فعله أيضاً بولس وسيلا مع سجّان فيلبي، فبعد أن “بشّراه وجميع من في بيته
بكلمة الربّ، أخذهما في تلك الساعة، وغسل جراحهما، واعتمد من فوره هو وذووه
أجمعون” (أع 16: 33).

وكذلك
بعد أن بشّر بولس في كورنثس، يقول سفر أعمال الرسل: “كثيرون من الكورنثيين
الذين سمعوا الكلمة آمنوا واعتمدوا” (أع 18: 8).

من
هذه النصوص يمكننا أن نخلص إلي أنّ المعمودية هي التعبير الخارجي عن إيمَان
الإنسان ورغبته في أن يعتنق تعاليم المسيح ويشترك في الخلاص الذي جاءنا به.

2-
الأسرار تعبير عن الإيمان

إنّنا
لا نعتبر الأسرار والإيمان عملين مختلفين، بل عملاً واحدًا في وجهين متميّزين،
فالإيمان لا يكتمل إلاّ بالتعبير عنه، والأسرار هي أحد السبل الأساسية للتعبير عن
الإيمان.

أ)
الأسرار تعبّر عن إيمان الكنيسة الجماعي

إنّ
النعمة التي تمنحها الأسرار مرتبطة بالإيمان. لكن لا بدّ من التمييز في هذا
الموضوع بين النعمة المقدَّمة والنعمة المقبولة. فالنعمة المقدَّمة هي التي يمنحها
الله من خلال الكنيسة التي تحتفل بالأسرار، وهي مرتبطة بإيمَان الكنيسة لا بإيمَان
الشخص الذي يحتفل بها ولا بإيمَان الشخص الذي يقبلها. لذلك تُمنح هذه النعمة حتى
وإن كان الكاهن الذي يحتفل بها في حال الخطيئة. وهذا ما أكّدته الكنيسة منذ القديم،
معلنة أنّ نعمة الله المقدَّمة تتخطّى كلّ ما يمكن الشخص أن يضع أمامها من عقبات
وحواجز. وفي هذا يقول القديس أوغسطينوس: “أبطرس عمّد أم يهوذا، فالمسيح هو
الذي يعمّد”.

ليس
البشر أفرادًا عائشين كل في جزيرته يحاول الوصول بمفرده الى الله، بل هم أشخاص
مرتبطون بعضهم ببعض في علاقات دائمة. لذلك تتّسم أقوالهم وأعمالهم كلّها ببعد
جماعي. والإيمَان الذي هو علاقة الإنسان بالله ليس مجرّد عمل فردي. إنّه يعبّر عن
علاقة الجماعة البشرية بالله خالقها ومخلّصها. لا شكّ في أنّ الإيمَان هو التزام
شخصي بالله، ولكن، حسب قول بولس الرسول، “كيف يؤمنون بالله إن لم يسمعوا
به؟” (رو 10: 14). إنّ ما نؤمن به اليوم هو حصيلة خبرة أجيال من المؤمنين
قبلنا.

هذا
البعد الجماعي للإيمَان تعبّر عنه الأسرار أعمق تعبير، إذ تظهر أنّ الخلاص الذي
يحصل عليه الإنسان هو خلاص جماعي. فالإنسان الذي ينال سرّ المعمودية يحصل شخصيًا
على الخلاص. إنّمَا بالمعمودية يدخل أيضاً في كنيسة، ويصير عضوًا في جماعة قد حصلت
هي أيضاً على الخلاص. إنّه يتّحد بالمسيح رأس الكنيسة وبجميع المسيحيين أعضاء جسده
معًا. وسرّ المعمودية الذي يعبّر عن الخلاص الجماعي يحقّق أيضاً هذا الخلاص، إذ
يسهم في بناء جسد المسيح على مدى الزمن. والقول نفسه يصحّ في سائر الأسرار التي
يعمل كلٌّ منها على خلاص الشخص وبناء الكنيسة.

وانطلاقًا
من هذا المبدأ درجت الكنيسة منذ القرون الأولى على منح أسرار التنشئة، أي
المعمودية والميرون والإفخارستيا، حتى للأطفال، معبّرة بذلك عن أوّلية المبادرة
الإلهية بالنسبة الى الاختيار الإنساني.

ب)
الأسرار تنمي الإيمان الشخصي

إلاّ
أنّ الإيمان ليس شيئًا جامدًا يحصل عليه الإنسان ويثبت فيه دونما تغيير، بل هو
علاقة حيّة مع الله في جماعة معيّنة. والعلاقات الحيّة تتغذّى وتنمو. إنّ الأسرار
مرتبطة بالإيمَان ارتباطًا جدليًا، فهي تفترض الإيمَان في الشخص الذي يقبلها، أو
على الأقلّ في الجماعة التي ينتمي إليها، ولكنّها كذلك تغذّي هذا الإيمَان وتنمّيه.
لذلك، وإن كان إيمان الشخص الذي يتقبّل الأسرار إيمانًا بدائيًا، فهو ينمو بممارسة
الأسرار، لا سيّما إذا تمّت في جماعة مؤمنة تمارس الأسرار ليس في الاحتفال الطقسي
وحسب، بل في مجمل حياتها أيضاً. يقول المجمع الفاتيكان الثاني:

كونها
علامات، فإنّ لها أيضاً دورًا تعليميًّا. فهي لا تفترض الإيمَان وحسب، بل تغذّيه
أيضاً، بمَا تتضمّنه من أقوال وأفعال، وتقوّيه وتعبّر عنه. لذلك دعيت أسرار
الإيمَان. لا شكّ أنّها تمنح النعمة، ولكن، علاوة على ذلك، فإنّ الاحتفال بها
يهيّئ المؤمنين تهيئة فضلى لقبول هذه النعمة وتأدية العبادة لله كما يجب، وممارسة
المحبة” (دستور في الليتورجيا، 59).

3-
الأسرار والحياة والتألّه

أ)
الأسرار في الحياة اليومية

في
كل سرّ زمنان، زمن أوّل لا يدوم إلاّ لحظات، إبّان الرتبة الطقسية عينها، وزمنٌ
ثانٍ يدوم الحياة كلّها. ففي الزمن الأوّل يعيش المؤمن بكثافة معنى السرّ بكامله،
ولكن يلزمه وقت طويل لاكتشاف مختلف أبعاده ومعانيه. فكلّ سرّ من أسرار الكنيسة
يدخل المسيحي سرّ شخص المسيح وسرّ الكيان الإلهيّ. ولكنّ إدراك أبعاد المسيح والله
لا يمكن أن يتمّ في بضع لحظات. لذلك لا يدرك المؤمن أبعاد التزامه بالله من خلال
الأسرار إلاّ بشكل تدريجي وبالاحتكاك بالحياة نفسها.

فالأسرار
إذًا لا تخرج المسيحي من واقع حياته اليومية، بل تعيده إليه. إنّها تذكّره بأنّه
لن يجد الله إلاّ من خلال أحداث حياته اليومية، وبأنّ البحث عن الله خارج أطر
حياته اليوّمية وأحداثها البسيطة هو وهم وسراب.

إنّ
المسيحي لا يدرك أبعاد معموديته، أي اتّحاده بموت المسيح وقيامته، إلاّ على مدى
الحياة كلّها التي تتطلّب منه موتًا مستمرًّا عن الخطيئة وقيامةً دائمة الى حياة
المسيح. وهو لا يجد المسيح الذي اعتمد له إلاّ في أحداث حياته اليومية.

فالمسيحي
الذي يشترك في سرّ الإفخارستيا في جسد المسيح ودمه لا يمكنه اكتشاف أبعاد هذا
الاشتراك إلاّ في حياته اليومية التي تتطلّب منه عطاء دائمًا في سبيل الله
والآخرين.

والزوجان
اللذان يقترنان أحدهما بالآخر في سرّ الزواج لا يدركان أبعاد حضور المسيح في
حياتهما الزوجية إلاّ بالاحتكاك بالحياة في مختلف أفراحها ومصاعبها. إنّ الاحتفال
بالزواج كسرّ من أسرار الكنيسة يُدخل الزوجات سرّ محبة المسيح للكنيسة، وبقبولهما
هذا السرّ يعلنان رغبتهما في الالتزام بتجسيد تلك المحبة في أطر حياتهم الزوجية
اليومية.

والكاهن
لا يكتشف أبعاد التزامه الكهنوتي إلاّ ضمن حياته اليومية في الكهنوت: في صلاته وفي
الأسرار التي يقيمها للجماعة المؤمنة، وفي علاقاته مع الناس حيث يكتشف معنى العطاء
والتضحية وأبعاد اشتراكه في كهنوت المسيح.

والتائب
الذي ينال مغفرة خطاياه يلتزم أن يغفر للآخرين كما غفر له الله.

والمريض
الذي يحضر المسيح إلى جانبه في سرّ مسحة المرضى يدرك أنّه لا يجد الله في الصحة
والعافية فقط، بل أيضاً في المرض وعلى فراش الموت. وندرك جميعنا أنّنا، “إن
متنا أو حيينا، فلّله نحن”.

هكذا
تعيدنا الأسرار إلى واقع حياتنا اليومية، وتحوّل الزمن الذي نعيش فيه من مجرّد
تتابع دقائق وساعات وأيّام إلى زمن مقدّس ممتلئ بحضور المسيح. فبواسطة الأسرار
تتجدّد حياتنا، إذ يملؤها حضور الرب وحضور روحه المحيي.

قد
لا يكون لحياة الإنسان في ذاتها أيّ معنى، إنّما الإنسان هو الذي يعطيها المعنى.
والأسرار التي تعيد حضور دخول الله التاريخ في شخص المسيح، تسهم في إضفاء هذا
المعنى على حياة الإنسان. وعندما تتّخذ الحياة معنى في أعيننا، إذّاك تصير ذات
معنى للآخرين، إذ تغدو الموضع الذي يحضر المسيح فيه ويتجلّى الله. فإن عشنا نحن في
الله ومعه وبه، يتجلّى الله للعالم فينا ومعنا وبنا.

الأسرار
عنصر جوهري في حياة المسيحي، شرط ألاّ تُفصَل عن الحياة. إنّ أهمّ ما في الحياة هو
المحبة، محبة الله لنا أوّلاً ثمّ محبتنا نحن لله ولإخوتنا. ففي الأسرار نحتفل
أوّلاً بمحبة الله لنا، تلك المحبة التي ظهرت لنا في تجسّد المسيح وموته وقيامته،
فندخل هذا الجوّ الإلهي، ونمتلئ من تلك المحبة الإلهيّة، ليتاح لكلمة الله متابعة
تجسّده في الكون من خلالنا.

وهكذا
تمسي الأسرار أحد عناصر تألّه الكون.

ب)
البعد الإسختولوجي للأسرار: الأسرار والتألّه

“الإسختولوجيا”
لفظة يونانية تعني “التحقيق الأخير والأقصى والنهائي لملك الله في
العالم”، أي تحقيق تألّه الكون، وقد بدأ هذا التألّه في تجسّد كلمة الله في
العالم في شخص يسوع المسيح.

والأسرار
ليست مجرّد وسائل يستخدمها الإنسان للحصول على نعمة الله ومساعدته على عمل الخير.
إنّ نظرة فردية للأسرار تشوّه الدين المسيحي وتجعله بحجم الإنسان.

فالأسرار
هي أوّلاً الاحتفال بهذا الحدث العظيم والفريد في تاريخ البشرية، حدث التجسّد، حدث
دخول كلمة الله عالمنا البشري لتأليهه. لذلك تحضر في الأسرار عناصر الكون كلّها من
بشر ومادّة. فالبشر يحضرون، ليس كأفراد بل كجماعة، للاحتفال بدخول الله عالمنا.
لذلك يُحتفَل بالأسرار في الكنيسة وبحضور الجماعة المسيحية المخلَّصة كلّها.
والمادّة تحضر في مختلف عناصرها، من ماء وخبز وخمر وزيت. وبقدرة الروح القدس الذي
حضر على المسيح وحلّ على التلاميذ، ولا يزال يحضر ويحلّ على الجماعة المؤمنة
بالمسيح، تتقدّس الجماعة البشرية والمادّة وتتألّهان معًا.

“أذكر
أعمال الله منذ القديم”. في الأسرار نحتفل بالماضي، ولكن ليس لمجرّد الذكرى،
بل ليصير الماضي حاضرًا وتصير الذكرى فاعلة في عالم اليوم. إنّ اليوم لفظة تردّدها
الكنيسة في كل طقوسها وأسرارها، معلنة أنّها ليست جماعة الماضي بل الحاضر. إنّ
الكنيسة لا تلتئم لتبكي الماضي، بل لتحيي الحاضر بحياة الله وتدفع المسيحيين إلى
بناء مستقبل ممتلئ بحضور الله.

عندما
تحتفل الجماعة المسيحية بتحوّل بعض الخبز والخمر إلى جسد الإله تعلن إيمانه بأنّ
الكون كلّه مدعوّ الى التألّه، والتزامَها العمل على تحقيق هذا التألّه.

لذلك
لا يمكن فصل الأسرار عن حياة البشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فالتألّه الذي
يحتفل به المسيحيون في الأسرار، جاعلين الماضي حاضرًا، يعملون على تحقيقه في
مستقبل يكون على صورة الله.

إنّ
التئام الجماعة المسيحية في الأسرار هو علامة مسبّقة لالتئام الجماعة البشرية في
الملكوت، الذي ليس حقيقة لحياة ما بعد الموت وحسب، بل يجب أن يحضر في حياة هذا
العالم. لذلك تظلّ العلامات المسبّقة التي تتضمّنها الأسرار علامات فارغة إن لم
يتحقّق منها شيء في الحياة. فالجماعة المسيحية تحتفل في الأسرار بدخول الله عالمنا،
وتسبّحه وتمجّده وتباركه وتشكر له ما أفاضه علينا من محبة ومغفرة وعطاء، فتمتلئ من
حياة الله هذه لتفيض بها على العالم محبة ومغفرة وعطاء.

في
الأسرار تتألّه الجماعة المسيحية لتعمل بدورها على تأليه الكون.

خلاصة

“الأسرار:
تلك هي الطريق التي خطّها لنا المسيح، وهذا هو الباب الذي فتحه..

وها
هو اليوم يعود إلى البشر من خلال هذه الطريق وهذا الباب”. بهذه الكلمات يوجز
اللاهوتي نيقولاوس كباسيلاس معنى الأسرار في تفسيره لليتورجيا المقدّسة. الأسرار
هي إحدى الوسائل الأساسية في الديانة المسيحية، يعود من خلالها السيد المسيح إلينا.
في الأسرار لا يوجّه الإنسان أنظاره إلى ذاته بل إلى بهاء الله الذي يأتي إلينا
اليوم كما أتى إلينا منذ ألفي سنة في شخص سيّدنا يسوع المسيح.

الأسرار
هي أعياد نحتفل فيها بلقاء العرش، ونعيش معه بضع لحظات، فيشّع على وجهنا نور وجهه،
ونمتلئ من حضوره، ونتحوّل إلى كيانه.

الأسرار
هي طرق متنوّعة نحيا فيها مختلف أبعاد السرّ الفصحي، سرّ عبور المسيح منالموت إلى
الحياة. فنلج إلى أعماقه لنعبر نحن أيضاً مع المسيح من الموت إلى الحياة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى