كتب

مزامير سليمان المنحولة



مزامير سليمان المنحولة

مزامير
سليمان المنحولة

من
نصوص وادى قمران

 

مدخل الى مزامير سليمان المنحولة

عُرفت
مزامير سليمان (مز سل) في بداية القرن 17. قدّم لاساردا للعلماء طبعة رئيسيّة تضمّ
النصّ اليونانيّ وترجمة لاتينيّة وملحقات، وذلك في ليون (فرنسا). اكتفى لاساردا
بطبع نسخة أوصلها إليه أحدُ مراسليه، عن مخطوط هو: كودكس فندوبونانسيس.

بعد
ذلك، وُجدت مخطوطات أخرى يونانيّة (كاملة أو جزئيّة) تتوزّع بين القرن 10 والقرن
16. هذه المخطوطات، وعددُها أحد عشر مخطوطاً، تضمّ بشكل عام الأسفار الحكميّة
المنسوبة إلى سليمان: أي، أم، جا، نش، حك، سي. وبعض المرات مز سل. مخطوطاتٌ
متأخّرة بلا شك. ولكن الكودكس الاسكندرانيّ الذي يبدأ بفهرس، يذكر في ما يذكر مز
سل. إذن، نستطيع أن نفترض وجود مخطوط قديم تضمّن مز سل، وضاع اليوم.

حين
نقرأ النصّ بتمعّن، نكتشف طرق تعبير عبريّة. بل هناك جمل لا تُفهم إلاّ إذا
نقلناها إلى العبريّة. هذا ما جعلنا نقول إن مز سل دُوّنت في العبريّة. أما النصّ
اليوناني الذي بين أيدينا فهو ترجمة. هذا يفترض الحاجة إلى عودة متواصلة إلى ما
يمكن أن يكون النصّ العبريّ. في هذا المجال، قام عددٌ من العلماء بتصحيح النصّ
اليونانيّ. وقد حاول بعضهم أن يُعيدوا ترجمة النصّ من اليونانيّة إلى العبريّة.

في
بداية القرن العشرين، كُشفت مخطوطات سريانيّة تتضمّن مز سل. نُشر مخطوط أول سنة
1909، ثمّ مخطوطٌ ثانٍ وجزء من مخطوط ثالث. وكانت طبعة نقديّة أولى في مانشستر
(انكلترا)، وطبعة نقديّة ثانية في لايدن (هولندا) ولكن يبدو أن النصّ السريانيّ
نُقل عن اليوناني، لا عن العبري. غير أن الاختلافات بين النصّ اليوناني والنص
السرياني، تجعلنا نقول إنّ السرياني عرف العبريّ، أو أقلّه لجأ إلى نصّ يونانيّ
غير النصوص التي نعرفها، ويمكن أن يكون هذا النصّ قد ضاع.

نُقلت
مزامير سليمان إلى لغات عديدة، كالفرنسيّة والانكليزيّة والايطالية والاسبانيّة،
والعربيّة. وها نحن نقدّم ترجمة تنطلق من اللغه اليونانيّة واللغة السريانيّة، في
إطار مجموعة «على هامش الكتاب»، بحيث يكون في يد القارئ العربيّ مجمل النصوص
البيعهديّة.

 

دراسة فى مزامير سليمان المنحولة

تتضمّن
مزامير سليمان الثمانية عشرة جواباً قدّمته مجموعةٌ من اليهود الأتقياء على سقوط
أورشليم بيد الرومان في القرن الأول ق.م. فالمزامير 1، 2، 8، 17 تروي كيف أن
موظّفَين من أهل البلد وضعا أيديهما على السلطة واستعملا امتيازاتهما استعمالاً
سيّئاً. غير أن هذين المتسلّطين أزاحهما مجتاحٌ غريب، فقتل واحداً وسبى الآخر.
ولكن احتلال الأمم لأورشليم كان شراً من المتسلّطين، فأدخل العبادات الغريبة
وممارسات اجتماعيّة أفسدت عدداً من المواطنين. فلا خلاص يُنتظر، بسبب القدرة
الواسعة التي ينعم بها المجتاح. والأتقياء الذين صلّوا هذه المزامير، انتظروا
ملكاً شرعياً يظهر فيقودهم في ثورة على القوى المحتلّة، ويُبعد كلَّ تأثير غريب،
ويثبّت الدولة اليهوديّة المستقلّة. وتضمن مز 17 نشيداً مسيحانياً طويلاً يصوّر
عهدَ هذا الملك، هذا «المسيح»، الذي هو إبن داود. أمّا سائر المزامير فتُشبه تلك التي
نقرأها في الكتاب المقدّس، وفي كتابات قمران، ونحن نجد فيها كلاماً عن الشرّ
والخير، عن الخطيئة والخلاص، عن التهديد والنجاة.

 

1-
الوجهة الأدبيّة في مزامير سليمان

 

أ
– النصوص

حُفظت
مزامير سليمان، كلُّها أو بعضُها، في أحد عشر مخطوطاً يونانياً، وأربعة مخطوطات
سريانيّة تتوزّع من القرن العاشر إلى القرن السادس عشر ب. م. كثرةُ المخطوطات
اليونانيّة تمنعنا من الكلام عن كل واحد منها. لهذا كان نصٌّ نقديّ قدّمه رايت مع
ترجمة له، فاستفدنا منه.

أوّلُ
إشارة تاريخيّة عن مزامير سليمان تعود إلى القرن الخامس ب.م. ساعة ذُكرت «مزامير
سليمان الثمانية عشر» في لائحة، في بداية الكودكس الاسكندراني، مع العهد القديم
والعهد الجديد والرسائل الاقليميّة. إن أوراق نهاية الكودكس، التي كان بالامكان أن
تضمّ نصّ مز سل قد ضاعت. وكانت حسابات دلّت على أن مزسل تملأ الاثنتي عشرة صفحة في
الكودكس السينائي.

لائحة
مزسل ترد مع موسل كأسفار للعهد القديم، يُشكّ في قانونيّتها، وتتبع أسفار
المكابيّن، مع خبر بطالسيّ نجهله وسوسنة سابقة في «إزائيّة الكتاب المقدّس» لزعم
اثناسيوس، في القرن السادس. هي في لائحة الكتب المنحولة، في القرن السادس،
والمؤلّفة من «ستين كتاباً» في نهاية «الأسئلة والأجوبة» لأناستاسيوس السينائيّ،
وذلك بعد الأسفار القانونيّة الأولى والأسفار القانونيّة الثانية. وسوف تظهر مزسل
في القرن التاسع، في حوار شعري لنيقيوفورس بين الكتب الأبوكريفة. كلُّ هذه الحواشي
تشير إلى مزامير سليمان.

أما
المخطوطات فلا تقدّم النصّ حسب تقسيم الأشعار. فالتقسيم يعود إلى رالف في
السبعينيّة، وفي نشرة رايل وجايمس، وفي طبعة تشارلس سنة 1913 داخل قوسين.

ب-
اللغة الأصليّة

يرى
معظمُ العلماء أن مزامير سليمان دُوّنت في العبريّة، وتُرجمت سريعاً إلى
اليونانيّة، ثمّ بعد بعض الوقت إلى السريانيّة. ليس في حوزتنا مخطوطاتٌ في
العبريّة، والوثائق اليونانيّة جاءت متأخرّة. هناك صوتٌ واحد أعلن أن مزسل دوِّنت
في اليونانيّة، فاستند إلى ايرادات جاءت من السبعينيّة وجُعلت في هذه المزامير.
ولكنْ مثلُ هذه الايرادات تدلّ على أن الناقل أخذ النصوص من السبعينيّة مباشرة حين
وجدها في النصّ الأصليّ. وكانت محاولات عديدة لنقل النصّ اليونانيّ إلى العبريّ،
ولكن لم يكن لهذا النقل من قيمة تاريخيّة أو لغويّة.

من
الواضح أن النصّ اليونانيّ هو ترجمة. وقد بيَّن رايل وجايمس، ثم غراي سمات مشتركة
مع سائر الترجمات: أخطاء في النقل من العبريّة، تركيب ساميّ في اليونانيّة. وأضاف
هان التحليل على مستوى النحو، لا الصرف وحسب، فثبّت ما قيل من قبله عن هذا النقل
من العبريّة إلى اليونانيّة. هذا ما يُبعدنا عن مؤلَّف دُوِّن في الأصل في
اليونانيّة، مع عودة واعية إلى نصوص السبعينيّة. هذه اليونانيّة تبدو في لغة بسيطة
وألفاظ محدودة. وفي عدد من المقاطع يبقى المعنى غامضاً، فكانت محاولات افتراضيّة
لدى العلماء في القرون الوسطى كما في أيامنا.

ويبدو
أن النسخة السريانيّة نقلٌ عن اليونانيّة، مع أن هناك بعض اليقين أنها نُقلت عن
العبريّة. النقلُ السرياني قريب من المخطوط اليوناني 253 وأسرته، مع بعض التشابهات
مع اليوناني 769 و336. أمّا ما يميّزه، فمحاولات تسهيل صعوبات القراءة. في عدد من
المقاطع حيث النصّ صعب ومختلف بين مخطوط وآخر، يحاول السريانيّ أن يجعله مفهوماً
فيقترب قدر الامكان من المخطوط 253 وأسرته.

إن
نصّ يشوع بن سيراخ وسفر الحكمة في المخطوط 253، هو جزء من التقليد النصوصيّ في
الهكسبلة (الكتاب المقدّس في ستة عواميد. ألّفه في اليونانيّة اوريجانس)
السريانيّة. هذا ما يُثبت التشابهات بين هذه المجموعة والجماعة السريانيّة التي
حفظت مزسل مع موسل. أما باروك، في النسخة السريانيّة الأصليّة، فقد أورد مزسل، وهو
يعود إلى نهاية القرن الأول المسيحيّ، لأنه يذكر دمار الهيكل. هذا يعني أن مزسل
نُقلت في منتصف القرن الأول ب م. وهكذا تبقى المخطوطات اليونانيّة أوّل شاهد عن
مزسل.

ج
– تاريخ تدوين مزامير سليمان

اليقين
الأول هو أننا لا نستطيع أن نعود إلى أبعد من القرن الخامس، بدليل الاشارة إلى
مزسل في الكودكس الاسكندراني الذي يعود إلى تلك الفترة. ولكن العلاقة بباروك
تُفهمنا أن مزسل وُجدت في اليونانيّة قبل نهاية القرن الأول المسيحيّ. هذا على
المستوى الخارجيّ. أما على المستوى الداخلي ودراسة النصّ في ذاته، فنجد أمرين:
الأول، تلميح إلى صراعات محليّة بين اليهود. الثاني، إشارات إلى أحداث دوليّة.

إن
صاحب مزسل يبدو قلقاً حول الوضع في اسرائيل. فالملكيّة هي في أيدي مغتصبي السلطة،
الذين لا يراعون العهود القديمة. والهيكل يخضع لمدنّسيه الذين تجاوزوا الطقوس وروح
العبادة. ومع أن عدداً من المنشقّين، في فترات مختلفة، هاجموا هذا الحكم، فأفضل
وقت هو حقبة الحشمونيّين في النصف الأول من القرن الأول ق.م. هذا من جهة. ومن جهة
ثانية، الصراع بين الخطأة والأتقياء، الذي لا زمان محدّد له، يُثبت بعض الشيء هذا
اليقين الأول.

ووصفُ
المحتلّ الغريب مع المصير الذي ناله، يتوازى مع أسلوب سفر دانيال. وهكذا تماهى
المحتلّ مع أنطيوخس ابيفانيوس، هيرودس الكبير، تيطس. وحاول كل باحث أن يدافع عن
نظرته. ولكن يتوافق التلميح أكثر ما يتوافق مع بومبيوس. فالمحتلّ شخص وثنيّ جاء من
الغرب (17: 12). في البداية، استُقبل استقبالاً حسناً في أورشليم، أقلّه لدى بعض
أهل الحكم والشعب (8: 16- 18). ولكنه لاقى في الداخل معارضة حين وصل إلى الهيكل،
فأُجبِر على تقوية جيشه واستعمل آلات لشدّ الحصار (1: 2). وبعد أن سقطت المدينة،
دخل هو وجيشه إلى الهيكل، ونزع عنه طابعه القدسيّ (2: 2). وبعد أن ترك أورشليم،
مضى إلى مصر، حيث قُتل. ظلّ جسده دون أن يُدفن على الشاطئ (2: 26- 27). إذا قابلنا
كل هذا مع خبر يوسيفوس، نراه يتوافق مع ما قيل عن حياة بومبيوس القائد الرومانيّ،
الذي أخذ أورشليم سنة 63 ق.م.

أقدمُ
تلميح مباشر في مزسل إلى حدث تاريخيّ خاص، هو اجتياح بومبيوس للمدينة سنة 63 ق م.
وآخر تلميح يذكر موته سنة 48 ق م. وأوسع حدود تقع بين 125 ق م والقسم الأول من
القرن الأول ب م. وإذا أردنا أن نحدّد أكثر قلنا، بين سنة 70 وسنة 45 ق م، مع
العلم بأن المزامير التي لا يمكن أن نحدّد تاريخها، قد تعود إلى قبل هذه الحقبة أو
بعدها. أمّا المجموعة ككلّ، فقد جاءت بعد ذلك الوقت.

نُجّست
أورشليم ولكنها لم تدمَّر. هذا يعني أن مزسل وصلت إلى شكلها الأخير قبل سنة 70 ب.
م. وتسلسلُ الأحداث، التي يمكن أن تكون قريبة مع أحداث حصلت في منتصف القرن الأول
ق. م. لا ترد في النصّ بحسب ورودها في الزمن. هذا يعني أن تجميع المزامير، الذي قد
يكون صار كما هو الآن في الترجمة اليونانيّة، تمّ بيد ناشر اقتصر اهتمامُه على
المستوى الأدبيّ، فلم يعرف ولم يتطلّع إلى توالي الأحداث التي تشير إليها هذه
القصائد.

وهناك
يقين آخر يشير إلى عمل الناشر، يظهر في تفكّكات داخل النصّ. فالرباط بين 1: 1- 2:
18 و2: 9- 31؛ وبين 8: 1- 22 و8: 23- 34؛ وبين 17: 1- 15 و7: 21- 24 لا يبدو
واضحاً. إن 18: 10- 12 يبدو كملحق. وعناوين بعض المزامير الفرديّة ترتبط قليلاً
بسياقها، والملاحظاتُ الموسيقيّة أو الليتورجيّة ليست في محلّها. وهكذا نكون أمام
عمل قام به الناشر. والمزامير الباقية لا تحمل معطيات تاريخيّة، ولا تساعدنا على
اكتشاف الكاتب أو زمن الكتابة.

خرجت
مزسل من تقليد عرفته جماعةٌ يهوديّة في القرن الأول ق.م. لا فائدة من الجدال إن
كنّا أمام كاتب واحد أم كتّاب عديدين: فالتشابهات التي نجدها في النصوص تُقنع
أولئك الذين يتحدّثون عن كاتب واحد، والاختلافات تقول بوجود أكثر من كاتب. فمن
الأفضل أن نفهم هذه الأناشيد كنتاج جماعة. من الواضح أن الكاتب ينطلق من جماعة
محدَّدة ويتكلّم من أجل جماعة يضربها الاضطهادُ فتتطلّع إلى المستقبل. فالمواضيع
المعبَّر عنها ليست فرديّة، بل جماعيّة. وهكذا نكون أمام تقليد جماعيّ، يعيننا لكي
نفهم التشابهات التي تجمع مزموراً إلى آخر، والاختلافات التي تفصل نشيداً عن آخر.
وهكذا نتجنَّب التصلّب الدقيق الذي لا يرى سوى العناصر الجامدة. فإن كان من وحدة
في مزسل، فهي وحدة على مستوى التقليد.

ونسبةُ
مجموعة هذه المزامير إلى سليمان، بدت طبيعيّة بالنسبة إلى الناشر. فالتشابه بين
مزسل 17 (أهمّ مزمور) ومز 72 في الكتاب المقدّس، المعروف بمزمور سليمان، جعلت نسبة
هذه المجموعة إلى من اعتُبر شاعراً، شأنه شأن داود (1 مل 4: 32). والشبه بين
سليمان ووجه «المسيح» واضح: كل منهما دُعي ابن داود. كل منهما وسّع الحدود. وأعاد
بناء أورشليم وجمّلها، ودافع عن عبادة يهوه. كلاهما نالا الجزية من الملوك الغرباء
الذين جاءوا ليروا مجدهما، وتفوّقا على سائر الحكّام بالحكمة والعدل. غير أن
سليمان خطئ حين جمع الفضّة والذهب، والخيل والمركبات والسفن، وكان مخطئاً حين
تجبَّر وضايق شعبه. أمّا «المسيح» فلم يقترف هذه الفظاعات (17: 33).

د
– مصدر مزامير سليمان

لا
شكّ في أن أورشليم هي مصدر مزسل. فهذه المدينة تتفوّق تفوّقاً على سائر المدن. هي
موضع عددٍ من الأحداث، ويصوّرها الشاعر مع تفاصيل عديدة. هو يتحدّث إليها (11: 1
ي) ويكلّمها (1: 1 ي). هي مركز السنهدرين أو المجلس الأعلى (4: 1). أما الرذائل
المذكورة فهي خاصّة بعالم المدينة.

غير
أن سؤالاً يبقى حول مصدر مزسل الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ، ولا سيّما في ما
يتعلّق بالتعرّف إلى عددٍ من المجموعات التي يندّد بها أو يمتدحها، وإلى المجموعة
التي هي مصدر هذه المزامير. هناك صورة عن ثلاث مجموعات: الأمم الوثنيّة. الخطأة.
الأتقياء. الوثنيّون يمثّلهم بومبيوس المحتلّ، والرومان الذين عاثوا فساداً في
الهيكل: هم غرباء عن شعبنا، جاءوا من الغرب. جهلوا العادات الدينيّة والاجتماعيّة،
ولكن الله استعملهم ليعاقب بني اسرائيل بسبب خطاياهم. والخطأة هم اليهود الذين
يعارضون الاتقياء، هم الصادوقيّون والحشمونيّون. وضعوا يدهم على الحكم بالعنف 1(7:
5- 8، 22)، ولم يهتمّوا بالطهارة الطقسيّة ولا بالممارسات المفروضة في الاحتفالات
(1: 8؛ 2: 3، 5؛ 7: 2؛ 8: 12؛ 17: 45). وقد أخذوا طوعاً بعادات الغرباء (8: 22).

وتبقى
هويّة الأتقياء التي هي موضوع تساؤل. حسب التقليد، هم الفريسيّون. لهذا، كان عنوان
مزسل عند رايل وجايمس: مزامير الفريسيّين. ومع ذلك، بعد أن قدّمت لنا وثائقُ قمران
معلومات جديدة حول معتقدات الأسيانيّين وممارساتهم، برزت إمكانيّةٌ أخرى: حينئذ
يمكن أن نقول إن مزسل تتأصَّل في جماعة اسيانيّة تعارض الصادوقيّين وتفترق عن
الفريسيّين. وقد رأى أيسفالدت عدداً من نقاط الاتصال بين مزسل وعدد من النصوص القمرانيّة.
واقتنع دوبون سومر أن مزسل وعدداً من كتابات ذاك الزمان كانت اسيانيّة في أصلها.

إن
التماهي بين الأتقياء من جهة والفريسيّين أو الاسيانيّين من جهة أخرى، يتركّز على
لاهوت مزسل ونظرتها إلى الله وصفاته: (1) التيوقراطيّة أو الربّ هو الملك (2: 30،
32؛ 5: 18، 19؛ 17: 1، 34، 46). (2) الشريعة مقدّسة، وقد أساء استعمالَها أعداؤها
(4: 8). ولكنها كانت البرهان على اهتمام الله بشعبه (10: 4) وعنايته الإلهيّة (5:
3، 4). هذا ما يقوله يوسيفوس عن الفريسيّين والاسيانيّين، بحيث يميّز هاتين
الفئتين عن الصادوقيّين. والتعليم عن المجازاة (2: 34، 35؛ 13: 6؛ 15: 12، 13؛ 17:
8) يميّز أيضاً الفريسيّين والاسيانيّين عن الصادوقيّين.

ليس
من الحكمة أن نعلن أن هذه المزامير هي فريسيّة أو اسيانيّة فنقدِّم رأياً قاطعاً.
فنحن لا نعرف سوى القليل عن الفكر الفريسيّ قبل دمار أورشليم، سنة 70 ب.م.
فمراجعُنا الوحيدة عنهم هي متأخّرة: العهد الجديد، يوسيفوس، الكتابات الرابينيّة.
ومع أننا مقتنعون اليوم بأن بعض الاسيانيّين أقاموا في أورشليم، فلسنا مقتنعين أن
أفكارهم وعوائدهم ميّزتهم عن سائر اليهود الذين عاصروهم. والإقرار بأن بعض الأفكار
في مزسل، تشبه ما عند الفريسيين أو الاسيانيّين، ينسى أن هاتين الفئتين تشابهتا
تشابهاً كبيراً. ويرى بعض العلماء أن جماعة الاسيانيّين التي عاشت في قمران، تلقّت
رفداً من الفريسيّين الذين هربوا من أورشليم في العقود الأخيرة من القرن الأول
ق.م. وفي النهاية، وبحسب فيلون ويوسيفوس، هناك عددٌ كبير من اليهود لم ينتموا إلى
فئة من الفئات الدينيّة. فقد وُجدت مجموعاتٌ يهوديّة، غير التي نعرفها،
كالصادوقيّين والفريسيّين والاسيانيّين والغيورين (جاءوا بعد مزسل). من أجل هذا
قلنا إنه ليس من الحكمة أن نحصر هذه المزامير في نموذج فريسيّ أو اسياني، ولا نخرج
من هذا النموذج.

 

2-
مزامير سليمان وأهميّتها

 

أ
– الأهميّة التاريخيّة

تُقدّم
مزسل نظرة إلى الصراع الداخليّ والاجتياح الخارجي اللذين عرفتهما أرضُ يهودا في
منتصف القرن الأول ق.م. هي تُقدّم في لغة مكتومة وسرّية ما أحسّت به مجموعة من
اليهود الأتقياء، العائشين في أورشليم: بلبلتهم أحداثٌ قريبةُ العهد، هي اجتياحُ
المنطقة واحتلالُها، وفسادُ الحكام على المستوى السياسيّ والدينيّ. ونتج عن
محاولتهم مصالحةُ اللاهوت مع الواقع. أمّا الجواب الواحد على هذه الأزمة،
فالمسيحانيّة الجليانيّة. لم يكن أعضاءُ هذه الجماعة من المسالمين على المستوى
السياسيّ. وإن هم هدأوا الآن، فلأن الفرصة لم تسمح لهم بالقيام بأي نشاط (12: 5).
تفوّهوا بالشتائم على أعوانهم (4: 1- 5؛ 6: 14- 20)، وانتظروا الانتقام حين تعود
إليهم قوّتُهم في حكم «المسيح» (12: 6؛ 17: 22- 25). غير أنهم ترجّوا رجاء
لاواقعياً أن يستولوا على السلطة السياسيّة، فتقبّلوا الصعوبات الحاضرة على أنها
عقاب من الله (14: 1؛ 16: 10). وقد وثقوا أن الأمور سوف تتبدّل، إن لم يكن في
الدهر الحاضر، فبكل تأكيد في الدهر الآتي (2: 34- 35). دخلوا في عهد قمران، فقبلوا
بوضعهم الحاضر، وتطلّعوا إلى هزيمة أعدائهم في النهاية.

نمتلك
أكثر من سمة عن هذه المجموعة العائشة في المدينة. فبعض الاتّهامات الموجّهة ضدّ
أعدائهم، تنطبق على عدد من الأزمنة والأوضاع (الجشع، الزنى). وهناك اتّهامات واضحة
وخاصة، كالملكيّة اللاشرعيّة، ووضع اليد، بدون حقّ، على القرابين المقدّسة (1: 8؛
2: 3؛ 8: 11- 12، 22). ويتشكّى الأتقياء من علمنة (غاب الدين) النظام الذي يمتلك
السلطة، من جشع السلطة الدينيّة، وعدم الاهتمام بالشريعة الدينيّة والمدنيّة،
وتمازج الأمّة اليهوديّة مع أمم العالم. لهذا السبب كان الاجتياح الذي قام به هذا
الغريبُ الذي اسمه بومبيوس والرومان.

ونتيجة
ذلك، احتفظت مزسل بانتظار مسيحانيّ دقيق في القرن السابق للمسيحيّة. فلقبُ «مسيح»
الذي يعود بشكل عام إلى ملك أو كاهن عُيِّن بشكل شرعيّ، والذي صار في العالم
اليهوديّ المتأخّر مناخاً مؤاتياً لجميع الذين لم تتحقّق رغباتُهم المثاليّة في
الزمن الحاضر، سيطر على هذه المزامير التي صوّرت شخص المسيح، ورسمت طابعَ حكمه في
الدهر الآتي. ففي مزسل نجد أفكاراً حول المسيح لا نجدها في أيّ كتاب يهوديّ آخر.
يتماهى المسيحُ هنا مع ابن داود، الذي سيأتي ليقيم ملكوتَ الله الأبديّ. ومع أنه
ليس فائقَ الطبيعة، فهو (مع الأتقياء الذين يملك عليهم) يكون بلا خطيئة، ويحكم بكل
الصفات القديمة في أسمى ارتفاعها: الحكمة، العدل، الرحمة، القوّة. وسيُعيد تقسيمَ
القبائل كما في الماضي، وطرقَ البرّ والأمانة بحسب الطرق القديمة كما في زمن
البريّة، بحيث يُعيد شتاتَ اسرائيل إلى وطنٍ تطهّر من كلِّ نجاسة. وتأتي الأممُ
فتقدّم خضوعَها لأورشليم ولملكها. وفي النهاية، ترتبط هذه المزاميرُ بما سيقوله
انجيل لوقا عن يسوع الذي هو «المسيح الربّ» (21: 1)، وبما يتوسّع فيه العهد الجديد
من أجل كلام عن الكرستولوجيا، عن شخص يسوع المسيح.

ب
– الأهميّة اللاهوتيّة

مزسل
أدبٌ في قلب الأزمة. ولكنها أكثر من أزمة سبّبها جيشٌ غريب أتى واحتلّ الوطن. هي
واقعٌ قاسٍ يجتاحُ اللاهوت التقليديّ. فحين دخل جيش بومبيوس إلى أورشليم، وجالوا
في حرم الهيكل، حطّموا المواعيد القديمة، وداسوا العهد الذي لا يمكن أن يُنتهك. ومع
أن حقبات تاريخيّة عديدة، ومع أن أدباً كثيراً أنتجته هذه الحقباتُ فكان «أدب
أزمة»، فصاحبُ مزسل قد انصدم بسيل من الأحداث كادت تجرفه، فحرّكت ضيقاتُ الزمن فيه
شكوكاً لاهوتيّة عميقة. أمسكته فجاءةُ الأحداث، فبحث عن معنى لهذا الوضع، يكونُ
معقولاً ويُبعده عن نظرة يائسة. فكانت نظرته إلى الله موضوعاً عاد إليه أكثر من
مرّة (2: 1، 15- 18؛ 3: 3- 5؛ 4: 8؛ 8: 3، 23- 26؛ 9: 2).

أ
– نظرة مزامير سليمان إلى الله

هنا
نرى صاحب المزامير ينتقل من حلول «بيبليّة» عُرفت قبل المنفى، وحلول تأمَّلها في
أيامه. فمن الواضح أنه لم يتخلّ عن فكرة تقول بعدالة الله في هذه الحياة، حيث
الأبرار يَنجحون والأشرار يُعاقَبون. فالنجاح والعقاب علامتان منظورتان تدلاّن على
رضى الله أو عدم رضاه. ولكن هذه الظرة «البيبليّة» إلى الله حرّكت برهاناً ذا
حدّين: فالأحداث الأخيرة أثّرت على الأمّة وعلى الفرد، فرمت الشكّ في نظرة كانت
واثقة ممّا تقول. فقد لاحظ الكاتبُ بسرعة، أن الأمّة عُوقبت بسبب خطاياها. فهذه
الضربات تتوخّى أن تعرض الخطايا الخفيّة وتبيّن أن الله هو الديّان القدير
والعادل، الذي لا يُفلت أحدٌ من حكمه (2: 8؛ 9: 1- 3؛ 17: 1 ي). غير أن المصلّي
العارف بعدالة عمل الله، واجَه صعوبةً حقيقيّة: كيف سمح الله للأمم الوثنيّة بأن
تدمِّر اسرائيل؟ تذكّر كم كرّر الله أن اسرائيل هو شعبه المحبوب الذي عقد معه
عهداً دائماً (7: 8- 9؛ 9: 8- 11؛ 11: 7؛ 14: 5؛ 17: 4)، وطلب من الله أن لا يسمح
للأمم بأن تنتصر على شعبه انتصاراً كاملاً (2: 22- 25؛ 7: 3- 5؛ 8: 27- 31).

وكانت
محاولتُه الأخيرة، إيجادَ حلّ لصعوبات اسرائيل في الملك المسيحانيّ، في الأيام
الأخيرة (7: 10؛ 11: 1 ي؛ 15: 12؛ 17: 1ي؛ 18: 6- 10). ولكن هذا الرجاء الطيّب ليس
لمستقبل بعيد. بل إن ضيق اسرائيل الحاضر أقنع صاحبَ المزامير أنَّ يومَ ملكوت الله
قريب، لأن الله لا يقدر أن يسمح لهذا التهديد الخطير أن يستمرّ ويدوم.

وحين
واجه المصلّي مسألة ألم الأبرار الضروريّ، كان موضوعُ تبرير الله أكثر حدّة. فمع
أنه يقبل بأن يندّد بخطايا الأمّة (2: 8- 9؛ 17: 10)، فهو يُعلن أنه يعتبر نفسه وجماعة
الأتقياء، بدون ذنب. إذن، لماذا يتألّمون؟ إن فكرة الذنب لدى الجماعة، ليست منتشرة
بحيث تُتيح له بأن يبرّر الله الذي سمح أن يتألّم الأبرارُ كما يتألّم الأشرار.
وفي بعض الجمل، سيرى أن اضطهاد الابرار لا يأتي من العالم الوثنيّ، بل من إخوتهم
اليهود (4: 1 ي). وهذا يتطلّب حلاً يختلف عن الحلول التي استعملها من قبل، ليشرح
ألمَ الأمّة كلِّها.

وبحث
المصلّي من جديد عبر الشروح العديدة. فكان جوابٌ أوّل يقول إن هذه العدالة تأخّرت،
والميزان يميل إلى جهة القبر (2: 1 ي؛ 5: 1 ي). في ذلك الوقت لن يسمح الله أن يهلك
البار هلاكاً أو أن يسقط تحت المحنة (2: 36؛ 16: 12- 15).

بعد
ذلك، تأمّل الكاتب في فكرة تقول إن الله يمتحن البارّ بالضيق ليبرهن عن أمانته
(16: 14). هذه الفكرة تظهر مرّة واحدة. من الواضح أن الكاتب ليس أيوب، لأنه يقدّم
الألم على أنه لا يعوّض عن الشرّ. قد يكون البارُّ اقترف بعض الخطايا، ربّما بدون
إرادة، فينبّه الله ذاك البارَّ إلى خطاياه عبر الضيق بحيث يُصلح المؤمنُ حياتَه
وينجو من عقاب أقسى. فالله يعاقب البار بطريقة تختلف عن عقاب الشرّير. هو يؤدّبه
كما يؤدّب أبٌ ابناً يحبّه (13: 8- 10؛ رج 18: 4 والكلام عن اسرائيل). وأحدُ
البراهين عن برّ انسان من الناس، هو الطريقة التي بها يتجاوب مع تأديب الله. إنه
عكس الخاطئ: لا تَثبط همّتُه ولا تأكله المرارةُ بسبب الضيق، بل يعترف بخطيئته
ويُعلن أن الله عادل (3: 3- 10؛ 10: 1- 3).

والرجاء
الاسكاتولوجيّ بالنسبة إلى الفرد، يلعب ذات الدور بالنسبة إلى الأمّة. فاليوم
الأخير قد يأتي سريعاً ليُنهي الألم والاضطهاد. ولكن هذه النظرة المقبلة لا تخفّف
حاجة المصلّي لكي يشرح لماذا يتألّم البار الآن. هو لا يستعمل مرّة ثانية موضوع
الدهر الآتي فقط كتعزية عن الصعوبات الحاضرة، بل لكي يحذّر الأبرار أيضاً من
الخطايا التي قد تقود إلى دمارهم، وتنقّيهم استعداداً للملكوت. لسنا قريبين هنا من
«لاهوت الألم» الذي نجده في تفكير اليهود والمسيحيّين أمام مسألة الشرّ. فالكاتب
يؤمن أن الألم يحمل التنقية والخلاص (10: 1- 3). وسيقول إن الأبرار اختِيروا من
أجل تأديب خاص، ولكنه لا يعطي أبداً للألم مدلولاً إيجابياً، ولا يجعله علامة
اختيار. فالألم في نظره يبقى ألماً بسبب الخطيئة.

إذا
كان المصلّي غير ثابت في هذه النقطة، فهو في موضع آخر مفكّر عميق وواثق بنفسه.
فتعليمُه عن العناية الالهيّة يحمل قوّة وعزماً: إن الله ناشط في كل ظرف من ظروف
التاريخ والحياة الشخصيّة. وصفاتُ الله التي يُشدّد عليها أكثر ما يشدِّد، هي التي
تتعلّق بمراقبته الحياة البشريّة مراقبة مستمرّة: فهو الملك والديّان في الأرض
كلها (2: 32؛ 8: 24؛ 17: 3)، والمهتمّ بكل حياة (5: 1 ي). ومع أنه قاسٍ على الخطأة
القساة، إلاّ أنه يرحم في كل حال ويغفر، وهو حنون بشكل خاص في حبّه لاسرائيل (5:
9- 11؛ 18: 1- 4؛ رج 7: 4- 5؛ 9: 6- 7). إنه ملجأ المساكين والضعفاء (5: 2؛ 10: 6؛
15: 1؛ 18: 3). ومع أن البشر لا يقدرون أن يتساووا مع الله على مستوى الرأفة (5:
13- 14) والقوّة والأمانة (17: 1- 3)، فالله ليس بعيداً عن البشريّة، بل هو قريبٌ
جداً منها. لهذا يتوجّه المصلّي إلى الله مباشرة، كما يتوجّه إلى ملك أرضيّ. فحسّه
بمُلك الله لا يقف على مستوى التجرّد أو الرمز. فالله هو مَلك يتصرّف كما يتصرّف
الملوك (2: 30، 32، 5: 19).

وبما
أن الله قريب من الانسان، جاءت مكانةُ الكهنة في مزسل ضئيلة. وكذا نقول عن عالم
الأرواح: فملاك الموت يُذكر في 7: 4، ولا يُذكر الملائكة بعد ذلك.

ب
– نظرة مزامير سليمان إلى الانسان

نظرة
المصلّي إلى الانسان (الانتروبولوجيا) بسيطة وواضحة، وهي تقابل، أقلّه في جزء
منها، تلك التي نسبها يوسيفوس إلى الفرّيسيين أو الاسيانيّين. الانسان حرّ في ما
يريد (9: 4)، وإن دفعه الله بعضَ المرّات دفعاً إلى الخير. لكل انسان حظّ (أو
قسمة) محفوظ له، ولكن هذا يرتبط بالخط الصالح لا بتعليم مغالط. ومن الواضح أيضاً
أن مصير الانسان ليس محدّداً سلفاً بحيث لا يتبدّل، وأن الله يقدر أن يُصلح حياتنا
على أساس أعمالنا.

تتركّز
الحياةُ كلها، بعد الموت، على رجاء بقيامة الأجساد (2: 31؛ 3: 12). ونحن لا نجد
أثراً عن الاعتقاد بخلود النفس. فحياةُ الأبرار «تسير إلى الأبد» (13: 11)، في
الملكوت، بعد «يوم الرحمة» (14: 9). وهكذا يتحدّث المصلّي عن انسان في جسد. وإن هو
تحدّث عن النفس، فالنفس تعني الشخص ككلّ. وهكذا لا نكون أما ثنائيّة النفس والجسد.
فالكون له فرادته، وكذلك الطبع البشريّ.

والمصلّي
صاحبُ علم أخلاقيّ دقيق. فبطهارة الحياة يستطيع الانسان أن يُرضي الله. وحتّى
الخطيئة اللاطوعيّة يمكن أن يكفّر عنها (3: 7- 8؛ 13: 7) مع التوبة والاعتراف (9:
6- 7) والصوم وسائر الإماتات (3: 8) وقبول تأديب الله بتواضع (13: 10؛ 10: 1).
تُذكر الشريعةُ بشكل خاص في موضعين (4: 8؛ 14: 1- 3). ولكن ساعة يستخرج المصلّي،
بدون شكّ، نظرته إلى متطلّبات الله من الشريعة، لا نجد الكثير في تعليمه الخلقيّ
ما يفترض تتمّة الشريعة كما يقول الفريسيّون. فاهتمامُه بالفرائض العباديّة يعبَّر
عنه بشكل رئيسيّ، عبر اشمئزازه من بعض اليهود الذين شوّهوا الطقوس في الهيكل.
والتمييز بين اسرائيل والأمم، حادٌّ قاطع. فالكاتب لا يعرف الشموليّة. فالأمم بلا
شريعة، في طبعهم، وقد رذلهم الله (2: 2، 19- 25؛ 7: 1- 3؛ 8: 23؛ 17: 13- 15)، وإن
اختارهم، في ظرف من الظروف، كأداة غضبه على اسرائيل الخاطئ (8: 1 ي). لا أمل في أن
يهتدوا إلى الله. وإحدى بركات العهد المسيحانيّ ستكون طرْدَ الأمم من أرض اسرائيل
(17: 1 ي). لقد اختار الربّ شعب اسرائيل فوق جميع الأمم، واختاره إلى الأبد (9: 8-
11) كموضوع حبّ خاصّ، واهتمام اسرائيل بالرسالة بين الأمم محدود جداً.

وإذ
يعود المصلّي إلى العهد، فهو يتذكّر ابراهيم مرّتين (9: 9- 10؛ 18: 3)، ويتذكّر
سيناء مرّة واحدة (10: 4). فمركزُ العهد في فكره هو العهد الداودي. هذا الاهتمام
واضح في مزسل 17، وضمنيّ في غضب المصلّي على الحشمونيّين الذين استولوا على
السلطة. وهناك تطلّعه إلى الدور السامي المعدّ لأورشليم، في الزمن الحاضر وفي
الزمن الآتي. تصوّر المدينةُ على أنها مقدّسة. إنها أعظم مقام لله في اسرائيل (2:
19- 21؛ 8: 4)، ومركز تجمّع المؤمنين في الأيام الأخيرة.

ونهايةُ
الزمن، في مزسل، في متناول اليد. عاد الكاتب إلى تاريخ اسرائيل حتّى زمانه،
فاستنتج أن الحلّ الوحيد يرتبط بتدخّل الله المباشر في التاريخ. هذا ما يُسمّى يوم
افتقاد الله (15: 12) لشعبه (10: 4؛ 11: 6)، اليوم الذي فيه يُمسك اللهُ بمصير
اسرائيل. في ذاك اليوم، يوم الدينونة، ينال الخطأة الدمار (2: 31، 34؛ 15: 12)،
والأبرار يُكرَمون ويقومون (2: 31؛ 3: 12). فالخطأة لن يشاركوا في القيامة (3: 9-
12؛ 14: 9- 10).

وحين
يظهر «المسيح»، فهو يظهر في وجه ملكيّ، ويَخرج من بيت داود. فيه يتجلّى مُلكُ الله
على اسرائيل وعلى العالم، فيدوس المحتلَّ الوثنيّ، ويطرد الخطأةَ وجميعَ الغرباء،
ويجمع أمّةً منقّاة يقودها في البرّ والعدالة والحكمة المقدّسة (17: 23- 25).
ومشتّتو اسرائيل سيعودون إلى وطنهم (17: 31؛ رج 8: 28؛ 11: 1ي)، وتتوزّع الأرض حسب
النهج القديم الذي عرفته القبائل (17: 28). وأورشليم تتقدّس من جديد، ومثلها
الهيكل (17: 30- 31). وتخضع الأمم الوثنيّة لملك اسرائيل، وتمجَّد أورشليمُ
وإلهُها عبر الكون كله.

ومع
أن هذا «المسيح» ملك، وله سلطة سياسيّة، فليس برجل حربيّ في المعنى العاديّ
للكلمة، لأن ينبوع سلطانه روحيّ كله (17: 33- 34). ليس انساناً يتفوّق على البشر،
مع أنه بلا خطيئة (17: 36). حلّ عليه روحُ القداسة (17: 37)، فما عاد يُغلب إن
قاومه أحدٌ، وصار حكمُه كاملاً إن هو حكم. هذا الوجه للملك المسيحانيّ (قدرته في
أن يطهّر شعبه، ويمنحه الحكمة المقدّسة) يتساوى مع الخلاص الذي يحمله لبني
اسرائيل، من المغتصب الوثنيّ. ومع أن بعض الشرّاح أبرزوا التعارض بين مزسل ومقاطع
مسيحانيّة أخرى في الأدب اليهوديّ، لأن مزسل تتوقّف فقط عند تقديس اسرائيل، إلاّ
أن هذه المزامير تربط ربطاً وثيقاً بين الازدهار الروحي والازدهار الماديّ. وإذا
كان النشيد المسيحاني لا يذكر السعادة الماديّة في نهاية الزمن، فلأنّ فكر المصلّي
يتطلّع إلى تجديد البرّ في اسرائيل.

إن
مزسل تقدّم تداخلاً بين مواضيع معروفة في الأدب البيبليّ وفي الأدب البعد البيبليّ
من أجل بناء جديد. ضُمّت الخلقيّاتُ إلى سفر الأمثال والانتظار الجليانيّ. وكفالةُ
العهد الداودي تمّت في الانتظار المسيحانيّ. والنظرة إلى «الممسوح بالزيت» صارت
ملموسة في انتظار سيتمّ في الزمن القريب. واللقبان المسيحيان، «ابن داود» و«الربّ
المسيح» صارا نتيجة نظرات قديمة، بعد أن صار اللقبُ الثاني مستعملاً في الأدب
اليهوديّ. فابنُ داود هو الآن أكثر من قائد مع نسب خاص، وإن يكن هذا حقاً هدف
المصلّي. إنه الملكُ النهائيّ، الجليانيّ، الذي يمتلك مثالَ الفضائل الملكيّة في
أرفع درجاتها، ويُتمّ كلَّ عمل لم يتمّه أبناء داود.

الربّ
المسيح (لقب استعمله لوقا) هو أساس لاهوت العهد الجديد. إنه يضمّ مقولات عن كل
العاملين الذين مسحهم الربّ بالزيت المقدّس (من الكاهن، إلى النبيّ، إلى الملك) مع
ربوبيّة يُمارسها على الأرض من يقوم مقام الله. الله هو الذي يقود الكون، بواسطة
«عامله» الربّ المسيح.

إن
الدراسات الأخيرة حول طبيعة الحركة الجليانيّة بشكل خاص والأدب اليهوديّ بشكل عام،
بيّنت أن «الجليانيّ» لا ينحصر في أجزاء أو مجموعات خاصّة، بل تتحكّم به ظروفُ
توسّع تاريخيّ على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ. فحين تمنع الظروفُ التاريخيّة
تتمّةَ الوعد الالهيّ، يتطلّع الأتقياء إلى تتمّة آمالهم خارج الظروف التاريخيّة.
على المستوى الاجتماعيّ، تقف الجماعةُ الجليانيّة في موقف من لا قوّة له بحيث لا
يستطيع أن يتحرّر من العبوديّة. فالأتقياء ينتظرون تدخّلاً مباشراً ودراماتيكياً
يقوم به الله، فيتجاوز محدوديّةَ الوضع التاريخيّ ويجعل آمالَ الشعب تتمّ.

وتنضمّ
الظروفُ التاريخيّة في العالم الجليانيّ إلى أزمة لاهوتيّة. فالقدرة التي عُرفت في
اللاهوت الملكي القديم (الملكيّة لا تُقهر)، وفي اللاهوت الاشتراعيّ (أورشليم لا
تُؤخذ)، صارت اليوم ظاهرةً في فساد الملك والكاهن، في فساد الحكم وشعائر العبادة.
فحين يعجّل انهيارُ التاريخ الذي هو وسيلة للعهد والوعد، الأزمةَ في اللاهوت، وحين
يزول الرجاءُ من انتظار سياسيّ لجماعة مضايَقة، فيَطلب المؤمنون من الله أن يُوقف
التاريخ، تَبرز الاسكاتولوجيا الجليانية، فتتطلّع الجماعةُ المضطَهدة إلى تحقيق
الآمال الحاضرة والقديمة، والنجاة من اللاهوت التقليديّ.

في
الخاتمة، نلاحظ علاقة بين مزسل والمزامير كما نقرأها في العهد القديم. ونشير إلى
اقتراب مزسل 17 من مز 72 (رج مز 28). وهناك تقارب مع سفر باروك وإش 11. وعلى مستوى
الأسفار المنحولة، نرى تقارباً بين مزسل وباروك في نسخته الحبشيّة. كما أن هناك
تقارباً مع الأدب القمرانيّ، كما سبق وقلنا. ونطرح السؤال: ما ها تأثير مزسل على
الأدب اليهوديّ اللاحق والأدب المسيحيّ؟ يكاد يكون معدوماً. فأول إشارة إلى مزسل
تعود إلى القرن الخامس. والمخطوطات تعود إلى نهاية الألف الأول، بل بعد ذلك الوقت
بقرون.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى