علم المسيح

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

الذين قالوا بصلب المسيح وأسباب قولهم
بذلك

 

‏1 – عدم وضوح معنى الآية: ‏

‏ كما سبق أنْ بينّا من عدم وضوح معني قوله ” وَلَكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ
” فقد وُجد هناك ‏أربعة أراء لأربع مجموعات من العلماء
المسلمين: ‏

1 – الرأي الأول والذي يقول
بإلقاء شبه المسيح علي آخر،
ولكن كيف ومتي ومن ‏هو الشبيه فهذا
غير معلوم، وهذا ما يتلخّص في قول الإمام محمد أبو زهرة (إنَّ ‏القرآن
الكريم
لم يُبَيّن لنا ماذا كان من عيسي بين صلب الشبيه ووفاة عيسي أو ‏رفعه علي الخلاف
في
ذلك؟، ولا إلي أين ذهب؟، وليس عندنا مصدر صحيح يُعْتَمَد ‏عليه)، وهذا هو الرأي
التقليديّ ورأي الأغلبية.‏

‏ ومن ضمن أصحاب هذا الرأي الذين نقلوا روايات عن جهلاء أهل الكتاب
العرب‏، كما يقول ابن خلدون، أو الذين راحوا يؤلّفون روايات من وحي خيالهم هم!!‏

2 – الرأي الثاني والذي يري أنَّ
المسيح صُلِبَ فعلاً
وإنما قول القرآن جاء من باب ‏مجادلة اليهود
والمقصود بها التنقيص من شأنهم، كقول د. عبد المجيد الشرفي ” ‏هذا فليس من
المستبعد أنْ يكون إنكار قتل اليهود عيسي وصلبه من باب المجادلة ‏المقصود بها
التنقيص من شأن المجادلين”.‏

3 – الرأي الثالث والذي يقول
بصلب المسيح فعلاً
ولكن بعدم موته علي الصليب، ‏ومن هؤلاء الأستاذ
الجوهري فضلاً عمّا يناور ويقول به السيد أحمد ديدات!!‏

‏‏4 – الرأي الرابع والذي يقول
بصلب المسيح كما جاء في الأناجيل
، سواء عن ‏طريق النقل من الإنجيل
بأوجهه الأربعة دون تعليق، مثل المؤرّخ الإسلامي ‏اليعقوبي، والأستاذ خالد محمد
خالد. وغيرهم. هذا فضلاً عن البيضاوي الذي ‏نقل قول النسطورية: ” وقيل صُلِبَ
الناسوت ولم يُصْلَبْ اللاهوت “. ‏

‏ ولو كان نصّ الآية واضحًا تمامًا لما إختلف المسلمون عبر التاريخ في
جزئيّة ‏واحدة حول معني الآية، ولكن اختلاف المفسّرين، بهذه الصورة دليلُ علي عدم
‏وضوحها، وخاصّة أنّها الآية القرآنيّة الوحيدة التي تكلّمت عن هذا الموضوع،
‏باستثناء آيات الموت والوفاة، وهذا موضوع آخر.‏

 

‏2 – العلماء والمؤرخون المسلمون الذين قالوا بصلب المسيح: ‏

‏ ظهر بعض الكتاب والعلماء والمؤرخين المسلمين الذين حاولوا التوفيق
بين حقيقة ‏وتاريخية صلب المسيح وتفسيرهم لقوله
“‏ وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ‏الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا
فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا
اتِّبَاعَ
الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً
” ‏‏(النساء:
157
). ولذا فقد قالوا بصلب المسيح، وفيما يلي أهم من قالوا بذلك: ‏

(1) وقال الشيخ احمد بن أبي يعقوب، اليعقوبي،
الذي يُعدّ من أقدم مؤرّخي ‏الإسلام والذي قال ” ولما طلب اليهود من بيلاطس
أنْ يُصْلَبَ المسيح. قال لهم
خذوه أنتم
واصلبوه أمّا أنا فلا أجد عليه علّة. قالوا قد وجب عليه القتل من أجل أنَّه ‏قال
أنَّه ابن الله. ثم أخرجه وقال لهم خذوه أنتم واصلبوه فأخذوا المسيح وحملوه
‏الخشبة التي صُلِبَ عليها ” (
تاريخ اليعقوبي ج 1: 64).

(2) وقال أخوان الصفا من القرن الخامس الهجري (457 – 459):
فلما أراد ‏الله تعالى أن يتوفّاه (أي المسيح) ويرفعه إليه اجتمع معه حواريّوه في
بيت المقدس ‏في غرفة واحدة، وقال أني ذاهب إلي أبي وأبيكم وأوصيكم بوصية 00 وأخذ
عهدًا ‏وميثاقًا فمن قبل وصيّتي وأوفى بعهدي كان معي غدًا 000 فقالوا له ما تصديق
ما ‏تأمرنا به. قال أنا أوّل من يفعل ذلك. وخرج في الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم
‏ويعظهم حتى أُخذ وحُمل إلي ملك إسرائيل فأُمر بصلبه. فصُلِبَ ناسوته (جسده) ‏وسُمِّرَتْ
يداه علي خشبتي الصليب وبقي مصلوبًا من صحوة النهار إلي العصر. ‏وطلب الماء فسُقِيَ
الخل وطُعِنَ بالحربة ثم دُفِنَ في مكان الخشبة ووُكِّلَ بالقبر ‏أربعون نفرًا.
وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه فلمّا رأوا ذلك منه أيقنوا ‏وعلموا أنَّه لم
يأمرهم بشيء يخالفهم فيه. ثم اجتمعوا بعد ذلك بثلاثة أيام في ‏الموضع الذي وعدهم
أنْ يتراءى لهم فيه. فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم ‏وفشا الخبر في بني
إسرائيل أنَّ المسيح لم يُقْتَل. فنُبِشَ القبر فلم يُوجّد فيه الناسوت ‏‏”(
رسالة
إخوان الصفا ج 4: 96-97
). ‏

(3) ويقول د. عبد المجيد الشرفي (عميد كلية
الآداب بتونس، وله كثير من ‏المقالات التي تتعلق بالعلاقات المسيحيّة – الإسلاميّة):
” وكما نفي القرآن ألوهيّة ‏عيسي وعقيدة الثالوث، فإنَّه نفى في الآية 157 من
سورة النساء أنْ يكون اليهود ‏قتلوا عيسي أو صلبوه (
وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ 000 وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً

‏فهل تعني هذه الآية أنَّه قُتل وصُلب، لكن علي غير أيدي اليهود أم أنَّه لم يُقتل
‏ولم يُصلب البتة؟ لا شئ مبدئيًا يمكّننا من ترجيح أحد الاحتمالين إنْ اقتصرنا ‏علي
النصّ القرآني وحده، ولم نعتمد السنّة التفسيريّة التي بتّت في اتجاه نفي ‏الصليب
جملة في أغلب الأحيان. علي أنَّ هذه الآيات لا يجوز أنْ تُفصل عن الآية ‏‏33 من
سورة مريم: {
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ
أُبْعَثُ حَيًّا
}، ‏وكذلك عن الآية 55 من آل عمران: { إِذْ
قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
}، وعن
الآية 117 ‏من المائدة: {
وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا
دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ

وهي صريحة في أنَّ عيسي يموت ويتوفّي.‏‏

 

فليس من المستبعد أنْ يكون إنكار قتل اليهود عيسي وصلبه من باب
المجادلة ‏المقصود بها التنقيص من شأن المجادلين،
لا سيّما
أنَّ كل الأحداث المتعلّقة بحياة ‏المسيح لم تزلْ منذ القديم محلّ أخذ ورد
واختلاف، ولا أحد يستطيع إدعاء اليقين ‏فيها. يُضاف إلي هذا أنَّ إقرار القرآن
برفع عيسي في الآية الموالية يتّفق والعقيدة ‏المسيحية في هذا الرفع، بل ويتماشي
والعقليّة الشائعة في الحضارات القديمة ‏والمؤمنة بهذه الظاهرة. والأمثلة علي ذلك
كثيرة. فهل نحن في حاجة إلي التنقيب ‏عن مصدر العقيدة القرآنيّة المتعلّقة بنهاية
حياة المسيح في آراء الفرق الظاهرانية ‏‏(‏
Docetiste‏)؟¨، ” أليس في منطق الدعوة ذاته ما يفسّر هذا الموقف الواضح
في ‏سائر الأنبياء من جهة، والذي يترك الباب مفتوحًا للتأويل واعتماد المعطيات
‏التاريخيّة في أمر من جهة أخري “. ويقول المؤلف أيضًا تحت عنوان: الصلب: ‏

‏ ” من اليسير أولاً أنْ نسجّل أنِّ هذا الفرض لم يكنْ محلّ
عناية كبيرة من قِبَل ‏المفكّرين المسلمين، رغم أنَّه غرض محوريّ في المنظومة
اللاهوتيّة المسيحيّة ‏ويحق لنا أنْ نتساءل عن علّة هذا الإعراض النسبيّ، وهل ينمّ
عن نوع من ‏الحرج في مواجهة الرواية ذات الصبغة التاريخيّة المتعلّقة بالصليب
والسائدة في ‏أوساط النصاري 000 بمجرّد آية قرآنية؟ أم هل اعتبر المسلمون أنَّ
نظريّة الفداء ‏تسقط بطبيعتها إنْ لم ترتكز علي أساس متين بعد النقد الصارم الذي وُجّه
إلي ‏عقيدتي التثليث والتجسّد؟ “(
المسيح في
كشمير. د. فريز صموئيل ص139-140
). ‏

(4) وقال عبد الرحمن سليم البغدادي الذي كان
عراقيًا وُلد وعاش ومات في بغداد ‏‏(1832‏
‏1911)، وكان رئيسًا لمحكمتها التجارية وانتخب نائبًا في المجلس
‏العثماني ” (
مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)
لا يُفهم منها أنَّ المسيح لم يمتْ قطّ، بل هو ‏نصّ صريح في أنَّ القتل والصلب لم
يقعا علي ذاته من اليهود فقط “. ربما يقصد ‏إنما صُلب
علي
أيدي الرومان(
المرجع السابق ص 141).‏

(5) وقال الأستاذ نبيل الفضل ” إنَّ
عملية الصلب لا يهمّ أنْ تكون
علي عمود
رأسي ‏وآخر أفقي كما في الصليب، بل قد تكون علي عمود رأسي فقط. وصلب
المسيح
‏ربما كان علي صليب ذي عمودين رأسي وأفقي، أو ربما علي عمود رأسي فقط‏، فإنْ كان
المسيح قد ُصلب علي عمود رأسي فقط، فإن تعبير(صلب المسيح) ‏يكون تعبيرًا غير
كامل.
فتعبير صلب يجوز في حالة وجود عمود رأسي وأفقي، ‏فإنْ كان عمود واحد فالأدق أنْ
يكون التعبير هو (تعليق المسيح) لا (صلب المسيح)‏‏. ورغم أنَّ الحالتين تؤدّيان إلي
الوفاة بالاختناق، إلا أنَّ هذا يذكّرنا بقول القرآن ‏‏(
وَمَا
صَلَبُوهُ
) “(” هل بشّر المسيح بمحمد ”
نبيل فضل. رياض الريس للكتب والنشر. لندن ص 72-73؛ قبر المسيح في كشمير ص 142
).‏

(6) وقال المفكر والفيلسوف الدكتور فؤاد حسنين على أستاذ الفلسفة
قتلوه وما ‏قتلوه، صلبوه وما صلبوه
ولكن شبه لهم. قتلوا الجسد وما قتلوا الكلمة، صلبوا ‏الجسد وصعدت الروح إلي
خالقها
000″
. ثم تحدّث عن محاكمات المسيح وكلماته ‏علي الصليب وإستهزاء اليهود به
ثم‏
قال ” أسلم يسوع روحه فصعدت إلي ربها ‏راضية مرضية ” وتحدّث
عن صلب المسيح وموته
باستفاضة
وكذلك عن دفنه حتى ‏وصل إلي قيامته من الموت فقال ” وموت المسيح علي الصليب
ليس
هو معجزة ‏المسيحيّة.
والعكس هو الصحيح أعني قيامة المسيح
من بين الموتي
” إلي أنْ ختم ‏مقاله بقوله ” إِذْ قَالَ
اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ
000إلخ “(جريدة أخبار اليوم في 22/4/1970).‏

(7) وكذلك تبني السيد أحمد ديدات وناشر كتبه
السيد على الجوهري لقول الفرقة ‏القاديانية التي تعتقد أنّ المسيح صُلِبَ علي
الصليب ولكنّه لم يمتْ عليه بل أُغْمَي
عليه وأُنْزِلَ
من علي الصليب حّيًا (
أنظر كتاب ” صلب المسيح بين
الحقيقة والافتراء ” أحمد ديدات ترجمة علي الجوهري
)!!

(8) بل وقال الأمير شكيب أرسلان في كتابه ” حاضر العالم “:
” قال درنغم (أحد ‏المستشرقين): فقول القرآن (
وَلَكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ
) يذكّرنا بأقوال العهد الجديد 000 إننا ‏لو فرضنا وجوب أخذ هذه الآية
علي ظاهرها فلا مانع من ذلك حسب عقيدة ‏الكنيسة نفسها، لأنَّ آباء الكنيسة ما
زالوا يقولون، إنَّه ليس ابن الله هو الذي صلبه ‏اليهود، وأماتوه علي الصليب،
وإنما الطبيعة البشرية في المسيح. وهكذا لا يكون ‏اليهود قتلوا كلمة الله الأبديّة،
ولكن يكونون قتلوا الرجل الذي يشبهها، واللحم ‏والدم المتجسّدين في بطن مريم
“.‏

‏ ” وقال (المستشرق): فلا يكون القرآن فيما قاله بشأن الصلب إلا
مؤيدًا عقيدة ‏الكنيسة الكبري، وهي أنَّ في المسيح طبيعتين: إلهيّة وبشريّة، وأنَّ
القتل وقع ‏علي الطبيعة البشريّة فقط 00 “. وقال الأمير أرسلان معلقًا ”
ولا نريد أنْ نفرغ من ‏هذه المسألة بدون أنْ نُعلّق علي بعض الملاحظات علي ما قاله
درنغم فيها. فأمّا ‏ذهابه أنّ مراد القرآن بالآية الكريمة: (
وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
) إنما
‏هو وقوع القتل علي الجسد فقط، وأنَّ الله بعد ذلك رفعه إليه، (فأن له وجها
‏وجيهاً) لا سيما وأنَّ آية أخرى: ”
{ إِذْ
قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
} تعزز هذا الرأي “(كتاب
” مقدمة في نشأة الكتابات الدفاعية بين الإسلام والمسيحية ” حسني يوسف
الأطير: ص 25- 28
). ‏

(9) وقال الإمام محسن فاني في كتابه الدابستاني في القرن التاسع
للهجرة
” أنه ‏عندما قبض اليهود علي عيسي، بصقوا علي وجهه المبارك
ولطموه ثم أنَّ بيلاطس ‏حاكم اليهود جلده حتى أنَّ جسمه من رأسه إليى قدمه صار
واحدًا 000 ولما رأي ‏بيلاطس من إصرار اليهود علي صلب عيسي وقتله قال ” أني
بريء من دم هذا ‏الرجل وأغسل يدي من دمه “، ” فوضعوا الصليب على كتف
عيسى وساقوه ‏للصلب “(
عن كتاب ” إنجيل برنابا في
ضوء العقل والدين ” لعوض سمعان ص 110
). ‏

‏(10) وقال الكاتب الإسلامي المعروف خالد محمد خالد،
بعد أنْ تكلّم في فصل ‏كامل عن محاكمات المسيح: ” لقد كان الصليب الكبير الذي
أعدّه المجرمون ‏للمسيح يتراءى له دومًا “. ” المسيح قد حمل الصليب من
أجل السلام “.” الصليب ‏الذي حمله المسيح سيف أراد اليهود أنْ يقضوا علي
ابن الإنسان ورائد الحق “. ‏

‏ ثم قال ” وأريد للمسيح أنْ تنتهي حياته الطاهرة علي صورة تشبه
الأحقاد الملتوية‏، الملتاثة. لخراف إسرائيل الضالة “(
كتاب
” معًا علي الطريق محمد والمسيح ” ص 34 و 181
).‏

(11) ونقل الكاتب محمود أبو ريه فقرات
كاملة من الإنجيل بأوجهه الأربعة خاصة ‏بكلام المسيح قبل صلبه مباشرة وكلام المسيح
وهو معلق على الصليب وعند قيامته ‏‏. وذلك كحقيقة تاريخية(
كتابه
” محمد والمسيح أخوان ” ص 46
).‏

(12) ويرى د. محمد أحمد خلف الله (في كتابه
الفن القصصي في القرآن الكريم) ‏أنّ القصة القرآنيّة لم يُقصد بها التاريخ، ولكن
العظة والاعتبار ولذلك يُهمل الزمان ‏والمكان، وهي تمثّل الصور الذهنيّة للعقليّة
العربيّة في ذلك الوقت ولا يلزم أنْ ‏يكون هذا هو الحق والواقع ومن حقنا أنْ نبحث
وندقّق. وهذا هو ما كتبه بالنص: ‏

‏+ ” يدلنا الاستقراء علي أنَّ ظواهر كثيرة من ظاهرات الحريّة
الفنيّة توجد في ‏القرآن الكريم، ونستطيع أنْ نعرض عليك منها في هذا الموقف ما
يلي: ‏

‏1 – إهمال القرآن حين يقصّ لمقومات التاريخ من زمان ومكان 000
“. ‏

‏2 – اختياره لبعض الأحداث دون البعض، فلم يعنِ القرآن بتصوير الأحداث
الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أمة تصويرًا تامًا كاملاً، وإنما كان
يكتفي ‏باختيار ما يساعده علي الوصول إلي أغراضه.‏

‏3 – كما لا يهتم بالترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث
وتصويرها وإنما ‏كان يخالف هذا الترتيب ويتجاوزه. ‏

‏4 – إسناده بعض الأحداث لأناس بأعينهم في موطن ثم إسناده نفس الأحداث
لغير ‏الأشخاص في موطن آخر.‏

‏5 – إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد عبارات مختلفة حين يكرّر
القصة.‏

‏6 – وجود مواقف جديدة لم تحدث في سياق القصة التي تصور أحداثًا وقعت
‏انتهت. ”
القرآن يجري في فنه البياني علي أساس ما كانت
تعتقد العرب وتتخيّل، ‏لا علي ما هو الحقيقة العقليّة ولا علي ما هو الواقع العمليّ
“.‏

‏ ” إنَّ المعاني التاريخية ليست مما بُلّغَ علي أنَّه دين يُتّبَع،
وليست من مقاصد ‏القرآن في شئ، ومن هنا أهمل القرآن مقوّمات التاريخ من زمان ومكان
وترتيب ‏للأحداث 00 إنَّ قصد القرآن من هذه المعاني إنما هو العظة والعبرة أي في
‏الخروج بها من الدائرة التاريخيّة إلى الدائرة الدينيّة. ومعني ذلك أنَّ المعاني
‏التاريخيّة من حيث هي معانٍ تاريخيّة لا تُعْتَبَر جزءًا من الدين أو عنصرًا من
‏عناصره المكوّنة له. ومعني هذا أيضًا أنَّ قيمتها التاريخيّة ليست مما حماه
القرآن ‏الكريم ما دام لم يقصده.‏

‏ ” إنَّ ما بالقصص القرآني من مسائل تاريخيّة ليست إلا الصور
الذهبيّة لما يعرفه ‏المعاصرون للنبي من التاريخ، وما يعرفه هؤلاء لا يَلْزَم أنْ
يكون الحق والواقع، ‏كما لا يُلْزِم القرآن أنْ يُصَحّح هذه المسائل أو يردّها إلي
الحق والواقع، لأنَّ القرآن ‏الكريم، كان يجئ في بيانه المعجز علي ما يعتقد العرب،
وتعتقد البيئة ويعتقد ‏المخاطبون. ويضيف الكاتب أيضًا: ‏

 

” إنّ القرآن الكريم لا يطلب الإيمان برأي معين في هذه المسائل
التاريخيّة. ومن ‏هنا يُصْبِح من حقّنا أو من حقّ القرآن علينا أنْ نُفْسِح المجال
أمام العقل البشريّ ‏ليبحث ويدقّق، وليس عليه بأس في أنْ ينتهي من هذه البحوث إلي
ما يُخَالِف هذه ‏المسائل، ولن تكون مخالفة لما أراده الله أو لما قصد إليه القرآن
لأنَّ الله لم يردْ ‏تعليمنا التاريخ، ولأنَّ القصص القرآنيّ لم يقصدْ إلا الموعظة
والعبرة وما شابههما ‏من مقاصد وأغراض. ونوجز ما سبق فيما يلي: ‏

1 – القصة القرآنية، قصة لا تتوافر فيها مقومات
التاريخ، ولم يكنْ هدفها التاريخ ‏بل العظة والاعتبار. وهي ما يعرفه المعاصرون
للنبيّ من تاريخ، ولا يلزم أنْ ‏يكون هذا هو الحق والواقع.‏

2 – هناك أقوال جاءت علي لسان بعض الأشخاص، لم
ينطقوا بها بل القرآن ‏أنطقها علي لسانهم.‏

3 – القرآن لا يطلب منا الإيمان برأي معين في هذه
المسائل التاريخيّة ومن حقّنا ‏أو من حقّ القرآن علينا أنْ نبحث ونفتّش لمعرفة
الحدث التاريخيّ كما وقع ‏ومخالفتنا للقصة القرآنيّة لا يمسْ القرآن.‏

‏ وإذا طبّقنا هذه المبادئ علي حادثة صلب المسيح نري: ‏

+ أنَّ اليهود لم يقولوا أنَّ المسيح هو رسول الله، وإن القول ” وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ
” ‏هو ما يعرفه بعض
المعاصرين.‏

+ إنّ القرآن لا يطلب منّا الإيمان بعدم قتل وصلب المسيح. إذا رأينا من
الكتب ‏المقدّسة أو من التاريخ ما يُؤكّد حقيقة صلب وموت المسيح، فالواجب علينا أو
من ‏حق القرآن علينا أنْ نُؤمن بذلك، ولهذا فالمسيح قد صُلِبَ ومات علي الصليب.‏

‏ ” إن القرآن لم يقصد إلي التاريخ من حيث هو تاريخ إلا في
النادر الذي لا حكم ‏له، وأنَّه علي العكس من ذلك عمد إلي إبهام مقومات التاريخ من
زمان ومكان “. ‏

‏ ” إنَّ وصف عيسي بأنَّه رسول الله في قول اليهود الذي حكاه
عنهم القرآن في ‏قوله تعالي: {
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا
الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ
}، لا يمكن
أنْ يُفهم ‏علي أنَّه قد صدر حقًا من اليهود، فهم لم ينطقوا بهذا الوصف وإنما
القرآن هو الذي ‏أنطقهم به، ذلك لأنَّ وصفه بالرسالة ليس إلا التسليم بأنَّه رسول
الله وهم لم يسلّموا ‏بهذا، ولو سلّموا بهذا لأصبحوا مسيحيّين، ولما كان بينهم
وبينه أي لون من ألوان ‏العداء، ولما كان قُتل وصُلب. إنَّ اليهود إنما يتهمون عيسي
بالكذب، ويُنكرون ‏عليه أنَّه رسول الله، ويذكرونه بالشرّ، ويقولون إنَّه ابن زنا
وأنَّ أمه زانية. يقول ‏اليهود كلّ هذا وأكثر منه، ومن هنا لم يستطعْ العقل
الإسلاميّ أنْ يُسَلّم بأنَّ وصف ‏عيسي بأنّضه رسول الله قد صدر حقًا من
اليهود”.‏

‏ ” مصادر القصص القرآني في الغالب هي العقليّة العربيّة،
فالقرآن لم يبعدْ عنها ‏إلا القليل النادر، ومن هنا جاءت فكرة الأقدمين القائلة:
إن القرآن ليس إلا ‏أساطير الأولين، وذلك لأنهم نظروا فوجدوا الشخصيات القصصية
والأحداث ‏القصصية مما يعرفون
“(” الفن القصصي في
القرآن ” محمد أحمد خلف الله مع شرح وتعليق خليل عبد الكريم، وكتاب ”
قبر المسيح في كشمير ” د. صموئيل فريز 151-152)
. ‏

(13) الأستاذ على الجوهري: والذي ترجم عددًا من كتب
السيد أحمد ديدات ‏والتعليق عليها، وكان رأيه في قضية موت المسيح، كما بينّا في
الفصل السابق، ‏هو كالآتي: ” إذا لم يكن معني قوله سبحانه وتعالي: ولكن شبه
لهم هو إلقاء شبه ‏المسيح علي شخص آخر غيره، فما هو معناها؟ هل لها معني آخر؟، وما
هو هذا ‏المعني الأخير؟ ثم يركّز بعد ذلك علي القول بعدم موت المسيح علي الصليب
‏وإنزاله من علي الصليب حيًا، مغمي عليه(
أنظر
تعليقه علي كتاب ” أخطر مناظرات العصر، هل مات المسيح علي الصليب”
)!!!‏

‏ وقد تصوّر بذلك أنَّه حلّ مشكلتين الأولي عدم تاريخيّة ومعقوليّة
ومنطقيّة إلقاء ‏شبه المسيح علي آخر، والثانية هي إبطال عقيدة الفداء بدم المسيح.‏

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى