اللاهوت الروحي

الفصل الثالث عشر



الفصل الثالث عشر

الفصل
الثالث عشر

محبة
المديح والكرامة

124-
محبة الكرامة والمديح

تحدثنا
في مقال سابق عن محبة المظاهر الخارجية. ومحبة المظاهر ناتجة عن محبة المجد الباطل،
وفي مقدمتها محبة المديح والكرامة. وهنا نوجه النظر إلى مبدأ هام وهو:

مقالات ذات صلة

 

المديح
شئ. ومحبة المديح شئ أخر وقد يمدح الإنسان ولا يخطئ. ولكنه إذا أحب المديح يكون قد
أخطأ.

 

لاشك
أن المتفوقين والبارزين وأصحاب المواهب قد مدحوا في حياتهم والرسل والأنبياء
والأباء قد سعي إليهم المديح أيضاً دون أن يخطئوا حينما سمعوه والقديس بولس الرسول
قال عن خدمته وخدمة رفقائه: “بمجد وهوان، بصيت حسن وصيت رديء” (2كو6: 8).

 

إذن
نالوا مجداً وصيتاً حسناً، ولم يخطئوا في ذلك.

 

والسيد
المسيح نفسه كثيراً ما كانوا يمدحونه، ويبهتون من كلامه وتعليمه ويقول بعضهم لبعض،
ما رأينا قط مثل هذا ولكنه ما كان يهتم بهذا، بل كان يقول: “مجداً من الناس
لست أقبل” (يو5: 41).

 

125-
الذين لا يحبون المديح!

1-
نوع يسمعه: وكأنه لم يسمع.. وكما قال القديس مقاريوس الكبير:

 

[لا
يبالي بكرامة ولا بهوان].. مات عن كليهما..

 

2-
نوع آخر يهرب من المديح الذي يأتي إليه، سواء كان مديحاً من الناس أو من داخل نفسه،
أو من الشيطان.

 

3-
والنوع الثالث، من مبالغته في كراهية المديح ينسب إلى نفسه عيوباً ليست فيه..

 

كبعض
القديسين الرهبان الذين كانوا يتظاهرون بالجهل أو بالخيل أو بإهمال العبادة، ومثل
تلك القديسة الراهبة التي قال عنها القديس الأنبا دانيال: [تعالوا لأريكم عظم
فضائل هذه القديسة التي تدعونها “الهبيلة”!]

 

وهذا
النوع كان يفرح بكلمة المذمة حينما يسمعها.

 

ويمثل
هذه المذمات، كان يغطي فضائله فلا تظهر، مكتسباً فضيلة أعظم هي الاتضاع.

 

 126-
الفرح بالمديح

أما
محبو المديح فهم على درجات متفاوتة في الخطأ، نذكر من بينها:

 

النوع
الأول:

 

هو
الذي يأتيه بالمديح، دون أن يسعي إليه. ولكنه يفرح بهاذ المديح ويبتهج.

 

وهذا
النوع على درجات:

 

أ-
إنسان يسر بالمديح، ويسمعه صامتاً ومسروراً في داخله، دون أن يشعر به أحد.

 

ب-
وإنسان آخر يسمع المديح ويتسبب في الاستزادة منه. فيقول بعض العبارات التي تجعل من
يمدحه يزيد في مدحه. كأن يجره من موضوع المديح، إلى موضوع آخر يستحق المديح أيضاً..
أو يذكره بتفاصيل ق نسيها تكون موضعاً المديح جديد.

 

ج-
وهناك إنسان يحب المديح، ويسمعه هو مسرور. ولكنه يتظاهر برفضه لهذا المديح،
متمنعاً بأسلوب يجعل مادحه يزيد في مدحه. وقد يعيب هذا الإنسان في نفسه، لكي يدافع
المادح عنه بعمق أكثر! وهنا يخلط محبة المديح بالرياء أيضاً.

 

 127-
اشتهاء المديح

النوع
الثاني:

وهو
أصعب من سابقه قليلاً تمثله حال إنسان لم يأته المديح. ولكنه يشتهيه ويحب أن يسمعه.
وفي اشتهائه يسلك أحد أن سمعه. وفي اشتهائه يسلك أحد طريقين:

 

أ-
يشتهي المديح، ويظل صامتاً حتى يصله، متخيلاً أسباباً لذلك.. كأن يبدأ الحديث في
موضوع معين له فيه موقف يستحق المديح، ويتدرج في الكلام حتى يصل إلى هذه النقطة
ويترك غيره يركز عليها.

 

ب-
حالة أخري. وهى إنسان يشتهي المديح، ويعمل أعمالاً صالحة أمام الناس لكي ينظروه
وهذا ما تكلم الرب عنه في (مت6).

 

 128-
التحايُل لنوال المديح

النوع
الثالث:

وهو
أصعب من النوعين السابقين:

 

تمثله
حالة إنسان يحب المديح ويشتهيه، دون أن يصل إلى ذلك. فيتحايل بأسباب توصل سامعه
إلى مدحه ومع ذلك لا ينال ما يشتهي.

 

فيكره
الشخص الذي لا يمدحه، ويعتبره خصماً وعدواً، وينشأ بينهما نوع من القطيعة!

 

فعلي
الرغم من أن هذا الإنسان لم يغضبه إلا أنه في نفس الوقت لم يجامله ببعض الكلام
الطيب، أو لم يقابله مقابلة يتوقعها، أو بدرجة معينة من الاحترام!

 

هذا
الذي يكره من لا يمدحه ماذا يفعل إذن بمن ينتقده؟!

 

إذا
كان الساكت فقط، دون أن يمدحه، يقابل منه بهذه الكراهية، فكم يكون شعوره إذن تجاه
ناقديه؟! لاشك أن هذا النوع لا يحيط نفسه إلا بأصدقائه ومحبيه ومريديه، بالصنف
الذي يريحه..

 

 129-
الغضب بسبب عدم المديح

النوع
الرابع:

وهو
نوع تجمع فيه كل الأنواع ويزيد عليها أيضاً، فهو يشتهي المديح، ويسر عدما يسمعه
ويكره من لا يمدحه. ولا يكتفي بكل هذا..

 

إنما
يمدح نفسه، إن لم يجد أحداً يمدحه.. ويظل يحكى أمام الناس أعماله الفاضلة.

 

إنه
يتحدث كثيراً عن نفسه، ويبرز ذاته في كل مناسبة. ويدخل في كلامه عنصر الافتخار،
حتى لو بدأ أنه يسرد مجرد وقائع.

 

130-
الافتخار بالأعمال واستجداء المديح

النوع
الخامس:

وهو
أصعب من سابقه بكثير، فالنوع السابق قد افتخر بالأعمال التي قام بها فعلاً. كشفها
أمام الناس لكي يروها ويقدروها.

 

ولكن
النوع الأصعب هو هذا:

 

إنسان
يمتدح نفسه بما ليس فيه فيذكر عن نفسه فضائل ليست له، أو يبالغ في مدح نفسه، أو
ينسب إلى ذاته فضائل أو أعمال غيره.

 

وعلى
عكس هذا المثال الذي ذكرناه تحضرني قصة راهب قديس كان ينكر ذاته جداً. فحينما كان
يعمل عملاً حسناً من أجل الدير لاشك أن الكثيرين سيمدحونه عليه، كان يشرك أحد
الرهبان معه، ولو في جزء طفيف من العمل، أو في نهاية العمل تقريباً. فإذا ما سئل
عن العمل بعد نهايته، ينسب الفضل لهذا الراهب الذي ساعده، ويقول: [أبونا فلان،
البركة فيه، عمل وعمل..]

 

مثال
آخر، نذكره في عدم التركيز على الذات في المديح، وهو مثال اللاعبين الذين يلعبون
بروح الفريق
Team Work.

 

فلو
أن كل لاعب خذ الكرة مثلاً وظل يجري بها وحده، لكي يصيب الهدف بنفسه، وينال فخر
ذلك لا نهزم الفريق لا محالة. ولكننا نرى أن اللاعب يمرر الكرة إلى غيره، وهذا
يمررها أيضاً إلى غيره لكي يصيب الهدف.. المهم أن الفريق هو الذي ينتصر، وليس
المهم بواسطة من! هنا إنكار الذات الذي هي عكس محبة المديح.

 

أما
الذي يركز على نفسه، ويتجاهل دور غيره، فإن يتجاهل عمل النعمة معه، ومعونة الله له
أيضاً.

 

ففي
كل عمل حسن يعمله، ينسب كل شئ إلى نفسه، ولا يذكر اسم الله إطلاقاً، بعكس يوحنا
المعمدان الذي كان يخفي ذاته ليظهر الرب، وبعكس قول المزمور:

 


ليس لنا يارب، ليس لنا، لكن لاسمك أعط مجداً” (مز115: 1).

 

يقينا
أن كل عمل فاضل قد عملناه، لم نعمله وحدنا بدون معونة إلهية! فهوذا الكتاب يقول: “إن
لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناءون” (مز127: 1).

 

إن
نجاح أي عمل، لا يتوقف على عاملة فقط، فقد تكون هناك ظروف خارجية كثيرة ساعدت على
ذلك، ويد الله التي أعانت أو التي مهدت هذه الظروف..

 

131-
المديح لي وحدي فقط!

النوع
السادس:

وهو
أسوأ الأنواع كلها.

فبالإضافة
إلى أنه يجمع كل ما سبق من أنواع، إلا أنه يزيد في أنه:

 

قد
تزيد محبة المديح عنده، إلى أنه يحب أن يكون المديح له وحده فقط..!

 

ولذلك
فإنه يتضايق جداً إذا ما مدح أحد غيره. يتضايق من المادح ومن الممدوح ويحسد هذا
الممدوح، ويغير منه، وقد يوجه إليه عيوباً، يحقد عليه.

 

بعد
أن تحدثنا في إيجاز شديد عن هذه الأنواع الستة من محبي المديح ننتقل إلى الحديث عن:
شرور تنتج عن محبة الكرامة والمديح.

 

132-
شرور تنتج عن محبة المديح والكرامة

إنها
كثيرة جداً. وربما نتعرض في هذا المقال إلى أربعة عشر نوعاً. وهي:

 

1-
الرياء..

محب
لمديح يصير إنساناً مرائياً، يكون غرض الخير عنده هو أن يراه الناس، دون أن يكون
للخير قصد في ذاته، فهو لا يحب الخير لذاته، وإنما حباً للظهور..!

 

2-
الغضب وعدم الاحتمال..

محب
المديح دائماً يخفي عيوبه. وهكذا بالضرورة لا يحتمل أن ينسب إليه عيب.. فهو يكره
الانتقاد. وإذا انتقده أحد، لا يطيق ذلك مطلقاً. وقد لا يقف الأمر عند حدود عدم
الاحتمال، بل ربما يتطور إلى الغضب والهياج والنرفزة والثورة..

 

إنه
يحب أن تكون نفسه جميلة في عينيه باستمرار. فمن يكشف له عيوباً في نفسه، يتعرض
لغضبه، صوناً لجمال هذه النفس.

 

وهنا
نشير إلى أن أنواعاً كثيرة من الغضب، يكون علاجها بعلاج محبة المديح والكرامة،
التي فيها يعتبر الإنسان كل نقد وتوجيه كأنه إهانة وقد يتطور الأمر إلى:

 

3-
الكراهية:

فلا
يكره فقط من ينتقده، وإنما قد يكره أيضاً من لا يمتدحه، وقد يكره من يمدح شخصاً
آخر غيره، وبخاصة لو كان هذا المديح خاصاً بعل اشترك هو فيه، ويحب أن يستأثر
بالفخر كله لنفسه!

 

4-
الحسد:

الذي
يحب المديح والكرامة، يحسد كل من يناله مديح وكرامة، ويود لو كان يأخذ كل ذلك
بدلاً منه. إذ هو لا يحب أن يكون أحد أفضل منه!

 

5-
إدانة الغير والتشهير به:

وإذ
هو يحب أن يكون متفوقاً على الكل فلكي يكون مشاركوه أقل منه، قد يعيب شخصايتهم
وأعمالهم. وبهذا نراه دائماً ينتقض من قدر غيره لكي يكون هو الأفضل بالمقارنة.

 

6-
وبذلك يخسر محبة الناس:

إن
الناس يكرهون الافتخار والتباهي ففيما يسلك محب المديح بهذا الأسلوب يخسر تقدير
الناس. وفيما يشهر بغيره، ويفضل ذاته على غيره، يخسر محبة الناس أيضاً.

 

7-
ومحب المديح يحب المتكآت الأولي:

يحب
العظم، يحب الظهور، يحب أن يكون الأول، وأن يكون الظاهر موضع اهتمام الناس، وموضوع
حديثهم وكل هذا يجعله يدخل في مناقشات ومشاحنات مع غيره. وكل من يراه ظاهراً،
يحاول أن ينزله، ويقول عنه إنه رديء!

 

8-
وقد يقع في الكذب أيضاً:

لا
مانع عنده من الكذب، إن كان هذا يوصله إلى المديح. فهو ق يكذب فيما ينسبه إلى نفسه
من فضائل، وفي إعطاء الآخرين صورة مثلي عن ذاته ليست هي له. وهو قد يكذب فيما ينبه
إلى غيره من عيوب.. ويكذب بأن ينسب إلى نفسه مواقف، الفضل فيها للغير.

 

9-
وقد يقوم بمؤامرات ودسائس:

 

وذلك
ضد من يراهم منافسين له في الكرامة، حتى ينزعهم من طريقة، ويبقي الفخر كله له وحده.

 

10-
وربما يمتلئ بالشر:

فيشتهي
موت غيره لكي يأخذ مكانه! وقد يشتهي خراب الآخرين وضياعهم لكي يأخذ هو مركزهم. وقد
يشتهي بالنسبة إلى زميل له، أن يغضب عليه رؤساؤه، أو أن توجه إليه تهمة، لكي يظهر
هو، ويخلو الجو له.

 

وقد
لا يصل إلى المستوي الذي يلفق فيه تهماً ضد غيره، ولكنه يسر في داخله إذا وجهت هذه
التهم من طريق آخر..!

 

11-
ومحب المديح كثيراً ما يصبح مشكلة للمجتمع الذي يعيش فيه:

فهو
دائماً عبء على هذا المجتمع وتصرفاته توقع الآخرين في الإدانة أو في الاشمئزاز.
وسعيه لأن يصبح كل شئ في يده، وكل مديح موجه إليه، يجعله لا يعطي فرصة لغيره،
فيتعب كل من يشترك معه في عمل.

 

وعدم
قبوله النصح والتوجيه يجعله عقدة صعبه الحل أمام من يتعاملون معه.

 

وهو
قد يلغي أحياناً من الداخل، ولا يستطيع أن يقدم سبباً لغليانه.

 

فهو
مريض، لا يمكن أن يفصح عن حقيقة مرضه. وهو أيضاً مريض يرفض كل علاج. ولا يشعر في
داخله أنه مريض.

 

وهو
سريع الحساسية والتذمر.

 

لا
يحتمل أحداً. وقليلون هم الذين يستطيعون احتماله. ربما لو دخل زائر وسلم على غيره
بحرارة أكثر منه يتضايق..!

 

12-
ومحب المديح قد يتحول إلى إنسان متلون غير ثابت:

ليس
له خط واضح يسير فيه، إنما هو يسير مع كل خط يوصله إلى المديح. أنه يتلون مع الناس
كيفما كانت صورهم.

 

فهو
مع الشخص الوقور، وقور ومتزن. وهو مع محب الفكاهة، إنسان خفيف الظل إلى أبعد حد.
هو مع محب الصمت، يصمت ومع المتكلمين يتكلم، ليظهر أنه واسع المعلومات.

 

إذا
وجد الدفاع عن شخص يكسبه مديحاً، يدافع عنه.

 

وإن
وجد الكرامة في مذمة هذا الشخص يذمه ويبالغ في ذلك!

 

يدافع
عن الحق، إن كان هذا يضعه في موقف البطولة، أما إذا كان الدفاع يسبب له ضرراً، أو
يعرضه إلى ذاته تنقص من قدره، فإنه يقول لنفسه: “يصمت الحكيم في ذلك الزمان
لأن الأيام شريرة” (عا 5: 13).

 

إنه
يري المدح بأية الطرق، حتى لو كانت متناقضة!

 

واحد
محب للنسك، لا يأكل أمامه وآخر يحب الممتعة، يقدم له أصنافاً كثيرة على المائدة.

 

إنه
يلبس لكل حالة لبوسها، ويتخذ شكلاً يتفق وحالة الشخص الذي يتعامل معه، لكي ينال
رضاه وثقته ومدحه، ويكون في وضع كريم أمامه! وماذا أيضاً؟

 

13-
ومحب المديح قد يقع في الغطرسة والكبرياء..

مع
كل ما تسببه الكبرياء من نتائج سيئة.. وفي نفس الوقت إن وجد أن التواضع يهبه هذه
العظمة، ويكون به مكرماً أمام الناس، لا مانع من أن يبدو متواضعاً، لكي يمدح منهم!

 

14-
ومحب المديح يخسر حياته الروحية خسراناً كاملاً، ويخسر السماء والأرض:

يخسرها
بكل هذه الأخطاء السابقة التي يقع فيها. ويخسرها لأن الفضائل التي يعملها تفقد
روحانيتها لانحراف الهدف منها إلى محبة المديح، وهكذا لا تصبح له فضيلة على
الإطلاق.

 

إنه
مهما عمل ومهما تعب، يقف أمام الله صغر اليدين، ولا جزاء له عند الله، لأنه أخذ
أجرته على الأرض.

 

باع
كل أعماله بالكبرياء والمجد الباطل، وبالمديح والكرامة. ويقول له أبونا إبراهيم: “إنك
استوفيت خيراتك في حياتك” (لو16: 25). إنك لم تفعل فضيلة واحدة من أجل الله.

 

فيفقد
أبديته كما يفقد الأرض أيضاً وقد يفقد الكرامة أيضاً.

 

فهو
يفقد الأبدية، بسبب كل الخطايا التي يقع فيها. وهو أيضاً يفقد محبة الناس
واحترامهم. ويعيش على الأرض شقياً، يسعى بكل الطرق إلى المديح، وينافس ويحسد،
ويفقد سلامه الداخلي.

 

هو
قد يفقد الكرامة أيضاً، حسبما قال ماري إسحق عبارته الجميلة:

 

[من
سعي وراء الكرامة، هربت منه ومن هرب منها بمعرفة، سعت وراءه].

 

 133-
علاج محبة المديح والكرامة

سوف
نضع أمامك بمشيئته بعض نصائح وتدريبات، تختار منها ما يناسبك، لأن أسباب محبة
المديح ومظاهرها تختلف من شخص إلى آخر فربما ما يناسب غيرك من النصائح لا يناسبك
أنت.

وأول
نصيحة نقولها لك هي:

بطلان
الكرامة العالمية

المديح
ليس دائماً

التخلص
من إعجابك بنفسك

 

تذكر
خطاياك

 

تذكر
درجات أعلى

 

تذكر
عمل النعمة معك

 

احتمال
مذمة غيرك

 

إخفاء
الفضائل

 

الهرب
من محبة الرئاسة

 

 134-
بطلان الكرامة العالمية

لابد
أن تعلم جيداً أن مديح الناس لا يوصلك إلى ملكوت الله.. بل قد يعطلك عنه.

 

أنت
لا تدخل الملكوت برأي الناس فيك، بل برضي الله عنك.

 

وما
أكثر زيف مديح الناس..

 

البعض
قد يمدحك بسبب المجاملة والبعض بسبب التشجيع، والبعض بسبب أدبه الخاص. والبعض قد
يمدحك لغرض معين في نفسه، أو بسبب التملق، أو يمدحك لمجرد إرضائك إذ يعرف عنك أنك
تحب هذا الإطراء..!

 

فلا
تغتر بهذا الإطراء، ولا تصدق كل ما يقال فيك من مديح. ولا تلتذ به سواء كان حقاً
أو باطلاً.

 

ولا
تجعل هذا المديح يسبب لك لوناً من المجد الباطل، فهذا خطر على أبديتك.

 

وقل
مع السيد المسيح له المجد:

 


مجداً من الناس لست أقبل” (يو5: 41)..

 

وحتى
إن كنت قد عملت أعمالاً حسنة، قل لنفسك: ماذا يفيدني أن آخذ عن كل تعبي أجراً على
هذه الأرض الفانية. مديحاً، أو كرامة، أو مناصب ورئاسات وفي الأبدية أسمع تلك
العبارات المخيفة:

 


إنك استوفيت خيراتك في حياتك” (لو16: 5) ولذلك لم يعد لي نصيب فوق في السماء!
حقاً ما أخطر هذا الأمر: أن نبيع الآخرة، لكي نشتري هذه الدنيا!! واعرف أيضاً أن: 2-
المديح ليس دائماً.

 

 135-
المديح ليس دائماً

فمن
يمدحك الآن، قد لا يمدحك غداً وقد يذمك بعد غد..! ليس الناس ثابتين في مديحهم، كما
قد لا يكونون صادقين فيه..

 

وحتى
إن كانوا صادقين، إنهم يمدحون مواقف معينة. وقد تتغير المواقف أو لا تثبت..

 

وهناك
أشخاص قد يمدحون في وجهك، ويتكلمون عليك من وراء ظهرك وذمهم لك قد لا يصل إلى سمعك،
بينما يسمعه آخرون.

Temporary مؤقت

 كذلك
أيضاً الذين يكرمونك لوضع معين أنت فيه، أو لوظيفة تشغلها أو مركز كبير..

ربما
يكرمون المركز، وليس أنت. فإن زال هذا المركز، كأن تتركه أنت أو هو يتركك، حينئذ
لا يكرمونك كما كانوا يكرمونك من قبل..!

 

وربما
أشخاص يمدحونك كثيراً، ويكرمونك بدرجة كبيرة. ومع ذلك فإنهم لا يثبتون على هذه
الحال:

 

إنما
نتيجة لدسائس الآخرين يتغيرون.

 

فقد
يحسدك البعض على ما أنت فيه، أو قد يعاديك البعض لسبب ما فيشيع عنك هؤلاء وأولئك
أموراً تغير فكرة الناس عنك! وما أكثر ما يشيعه البعض إدعاء وكذباً. وهكذا تجد
إكرام الناس لك قد قيل. وتغير أسلوب معاملتهم لك!

 

وربما
كما نلت من قبل مديحاً لا تستحقه، أصبحت تعاني من الناس ظلماً لا تستحقه!!

 

إذن
اهتم قبل كل شئ برضى الله عليك، وبأجرك السماوي. ولا تضع كل اهتمامك في ما يقدمه
لك الناس من كرامة، قد تكون زائفة أو زائلة!

 

 136-
التخلص من إعجابك بنفسك

من
أخطر أنواع المديح التي تحارب الإنسان: مديح نفسه لنفسه. هوذا الكتاب يقول:


لا تكن حكيماً في عيني نفسك ” (أم3: 7).

ويقول
أكثر من هذا: “الرجل الغبي حكيم في عيني نفسه” (أم28: 11).

 

وكما
أنه من الخطأ أن يكون الإنسان حكيماً في عيني نفسه، كذلك خطأ أكبر أن” يكون
باراً في عيني نفسه” (أي32: 1).

 

وكل
هذه الكبرياء الداخلية لها اضرارها ولها خطايا كثيرة تتولد منها فإلي جوار الخيلاء
والمجد الباطل هناك أضرار أخري:

 

إن
كنت حيكماً في عيني نفسك، ربما تحتقر حكمة الآخرين، وتكلمهم من فوق، بروح التعالي!

 

وبهذه
الروح، لا تقبل نقداً من أحد ولا نصحاً، وتجد نفسك وقد اصطدمت بكل من يخالفك في
الرأي، وبدأت تهاجمه. وهكذا تفقد الموضوعية في الفكر، وتحول الخلاف فيه إلى أمور
شخصية. وتري أن من يعارض فكرك قد عارض شخصك!

 

وإن
كنت حكيماً في عيني نفسك، سوف لا تطلب الحكمة التي من فوق ولا التي عند الآخرين!

 

ربما
تصل إلى مرحلة من الاكتفاء بالذات وهكذا تفقد النمو.

 

حقاً
ما أجمل قول سيدنا يسوع المسيح، وهو يحادث الآب قائلاً: “أحمدك أيها الآب.
لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال” (مت11: 25).

 

إذن
قف أمام الله كجاهل، حتى تأخذ من حكمته. ولا تحتقر عقل أحد، لئلا ينزع الله منك
الحكمة..

 

حاول
باستمرار أن تستفيد من كل أحد. فالكتاب قد عملنا أن نأخذ درساً حتى من النملة (أم1:
6) ومن زنابق الحقل (مت6: 38).

 

ومهما
علوت في الحكمة والمعرفة، تذكر قول الكتاب..

 


وعلى فهمك لا تعتمد” (أم3: 5).

 

أما
البار في عيني نفسه، فإنه لم يعرف نفسه بعد، ولم يعرف أياً ما هي مقاييس البر!

 

ومثل
هذا الشخص، لكي يعالج نفسه، ويتخلص من هذا البر الذاتي وإعجابه بنفسه، ننصحه
بالآتي: تذكر خطاياك.

 

 137-
تذكر خطاياك

كلما
أتاك مديح من الناس من الخارج أو مديح من ذاتك من الداخل، تذكر خطاياك، وتذكر
أيضاً نقائصك وسقاتك وعيوبك.. وقل لنفسك في صراحة تامة:

 

هؤلاء
الناس يمدحونني لا يعرفونني. ولو عرفوا بعض نقائصي، لتغيرت معاملتهم لي..

 

وقل
أيضاً: أشكرك يارب لأنك سترتني. وهل بسبب سترك، أتمادى أنا وأقبل المديح من
الناس؟! أو أنسي خطاياي، وأبدأ في مديح ذاتي كأني لست أعرف ذاتي وعيوبها..!

 

وتذكار
خطاياك، إن لم يعظ على المديح، فإنه لابد سيقلل تأثيره عليك.

 

إنه
يقيم نوعاً من التوازن داخل نفسك ولا يتركها فريسة لمحبة المديح. إنما يوقظها
لتدرك حقيقتها، ويوقفها عند حد معين من الإعجاب بالذات لا تتعداه.

 

وإن
لم تذكر خطاياك الماضية، فعلي الأقل خف من الخطايا المقبلة. فالكتاب يقول: “قبل
الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم16: 18).

 

لذلك
إن قبلت المديح، أو فرحت به، قل لنفسك: أنا الآن عرضه للسقوط، بل بهذا المديح أنا
فعلاً قد سقطت. فالأجدر لي أن أعالج نفسي بالإتضاع: إن حوربت بالبر، أتذكر خطاياي.
وإن حوربت بالحكمة والمعرفة، فلا أنسي ما ينقصني من معارف، أو ما وقعت فيه أحياناً
من أخطاء فكرية.

 

 138-
تذكر درجات روحية أعلى منك

وهنا
أوجه إلى علاج آخر هو: 5- تذكر درجات أعلي:

 

كلما
حوربت بالفضيلة أو المعرفة تذكر أنك لا شئ بالنسبة إلى ما هو مطلوب منك، وبالنسبة
إلى الدرجات العليا التي وصل إليها آخرون..

 

نشكر
الله أنه في كل فضيلة من الفضائل، قد ترك لنا القديسون أمثلة عالية جداً ومستويات
تكاد تكون فوق إدركنا.. إن قارنا أنفسنا بهم، ربما تصغر نفوسنا في أعيننا.

 

وهكذا
في المعرفة أيضاً وصل آباؤنا وبعض معاصرينا إلى درجات أعلي منا بمراحل..

 

لذلك
قارن نفسك هو أعلى منك حتى تتضع وحذار أن تقارن نفسك بمن هو أقل منك كي لا ترتفع..

 

وهنا
قد تقف أمامك مشكلة أخري لتحاربك وهي قولك حقاً أنا ضعيف وقليل المستوي بالنسبة
إلى مستويات القديسين وقصص التاريخ. ولكنني أشعر أنني أعلي بكثير من مستوي الوسط
الذي أعيش فيه، فكيف أقاوم إذن الشعور بالذات داخل نفسي؟

 

حتى
هؤلاء الضعفاء الذين تنتقدهم ربما فيهم فضائل وصفات تنقصك وهذا هو الدرس الذي
ألقاه السيد المسيح على الفريسيين..

 

هذا
الفريسى الذي افتخر على العشار قائلاً: أشكرك يارب أني لست مثل سائر الناس
الظالمين الخاطئين الزناه ولا مثل هذا العشار (لو18: 1) أراه السيد المسيح أنه على
الرغم من صومه وعشوره، فإن العشار كان أفضل منه في اتضاعه وفي انسحاق قلبه. كذلك
أظهر الرب لذلك الفريسي الذي استضافه، أن المرأة الخاطئة التي بللت قدميه بدموعها،
كانت أفضل منه، وتفوقه حباً وكرماً واتضاعاً (لو7: 44- 47)..

 

لذلك
إذا قارنت نفسك بإنسان ووجدت أنك تفوقه في أشياء، افحص ربما يكون هو أفضل منك في
أمور أخري..

 

لا
تقل أنا أكثر منه علما، بل قل إنه أكثر منى بساطة ونقاوة قلب.. لا تقل أنا أفضل
منه في أصوامه وصلواتي بل قل هو أفضل مني في احتماله وتسامحه..

 

وثق
أنك لو تخيلت عن كبريائك، ستجد في غالبية الناس فضائل تنقصك.

 

وهكذا
وجد مارافرايم السرياني في المرأة الخاطئة المتبرحة فضيلة تنقصه! ووجد القديس
الأنبا أنطونيوس في المرأة التي تعرت أمامه لتستحم.. وجد فيها صوت الله إليه!
وهكذا أيضاً وجد القديس مقاريوس الكبير عند راعي البقر تعليماً ينفعه في حياته.
ووجد القديس موسي الأسود عند الصبي زكريا عطية من الروح القدس يحتاج إليها.

 

إن
الله كثيراً ما كان يختار صغاراً لكي يوبخ بهم الكبار..

 

لقد
اختار رئيس النوتية الأممي، لكي يوبخ به يونان نبي الله العظيم (يون1: 6). واختار
إيمان المرأة الكنعانية، ليوبخ به إيمان جيلها كله واختار لعازر المسكين ليوبخ به
الرجل الغني العظيم، واختار جهال العالم ليخزي بهم الحكماء بل اختار المزدري وغير
الموجود، ليبطل من يظن أنه موجود (1كو1: 27، 28).

 

لذلك
لا تظن أنك كبير، لئلا تقول لنفسك مع ذلك الجبار: أيها البرج العالي، كيف سقطت..

 

وإن
ظننت أنك كبير وقوي، تذكر أن الشيطان في غروره يهوي جداً إسقاط الكبار والأقوياء،
لذلك هو يحاربهم بكل شدة وبأشد عنف.. ولهذا قال الكتاب عن الخطية أنها:

 


طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوياء” (أم7: 26).

 

 139-
تذكر عمل النعمة معك للخروج من محبة المديح

أما
إن كنت ترى نفسك باراً على الرغم من كل ذلك وخوف عليك من سقوط فاسمح لي هنا أن
أقدم لك نصيحة أخري وهي: 6- تذكر عمل النعمة معك:

 

أنت
قائم لم تسقط، لأنك قوي، وغنما لأن النعمة هي التي تسندك..

 

لذلك
لا تفتخر باطلاً بقوتك لأنه لو تخلت النعمة عنك، لشابهت باقي الساقطين، ولا فرق!..
وكما يقول المزمور: “إن لم يحفظ الرب فباطلاً سهر الحارس” (مز127).

 

غ،
وجدت نفسك قد نجوت من هجمات الشيطان، تغني بمعونة الرب لك، وقل:

 


لولا أن الرب كان معنا.. لابتلعونا ونحن أحياء، عند سخط غضبهم علينا” (مز124)..

 

أنت
مجرد أداة في يد الله، عمل بها الرب خيراً. فلماذا تركز على الأداة وليس على اليد
التي عملت بها.

 

لماذا
تنسي عمل النعمة فيك، وتنسب عمل الله إلى نفسك؟

 

قل
لنفسك باستمرار: أنا، من أنا؟! أنا لا شئ.. حفنة تراب ورماد! كتلة من الضعف والخطأ
إن تخلت النعمة عني، لا أصبح شيئاً على الإطلاق. وهوذا السيد المسيح قد قال لنا: “بدوني
لا تقدرون أن تعلموا أن تعلموا شيئاً” (يو15: 5)..

 

لذلك
قل: أنا أخشي أنه بسب الكبرياء، تتخلي عني النعمة. وحينئذ أسقط، وانكشف أمام الناس،
على حقيقتي الضعيفة..

 

لأنه
إن كنت في كل مرة يعمل الله فيك، تنسب الفخر إلى نفسك، وتنسي عمل الله! وتقبل مديح
الناس لك، دون أن توجه هذا المجد إلى الله.. لا مانع إذن من أن يتركك الله إلى
نفسك لتعمل وحدها، حتى ترينا قوتها التي تفتخر بها، والتي تقبل المديح من الناس..!
وإن حدث هذا فلابد أنك ستسقط، لأنك بدونه لا تستطيع شيئاً.. (يو15: 5).

 

لذلك
إن أردت الاحتفاظ بعمل النعمة فيك، لا تمدح نفسك، ولا تقبل مديحاً من آخرين..

 

ولست
أقصد بعدم قبول المديح أنك ترفض سماعه.. فقد لا تستطيع هذا وربما إن رفضت، يزداد
الناس مديحاً لك، وهكذا تأتي بنتيجة عكسية. إنما أقصد أنك لا تقبل المديح في داخل
قلبك، ولا ترضي به، ولا تصدفه، ولا تلتذ به..

 

140-
احتمال مذمة غيرك للخروج من محبة الكرامة

وهناك
نصيحة أخري وهي: 7- أحتمال مذمة غيرك:

 

بعض
الذين يحاولون أن يهربوا من المديح، قد يذمون أنفسهم أمام الناس وربما ينالون بذلك
مديحاً أكثر.. عن قصد أو بغير قصد.. لذلك قال القديس سيرابيون الكبير للراهب الشاب
الذي لم يحتمل نصيحة منه، واحمر وجهه..

 

[لا
تلم نفسك ملامة باطلة. فليس التواضع هو أن تذم نفسك، وإنما أن تحتمل وتقبل المذمة
التي تأتيك من آخرين]..

 

لأنه
ما أسهل أن يقول إنسان عن نفسه: [أنا خاطئ وضعيف]. ولكنه لا يحتمل ان يقول له غيره:
[أنت خاطئ وضعيف]..

 

أتراه
يذم نفسه، وهو غير مقتنع بما بقوله؟! أو أنه يفعل ذلك لتؤخذ عنه فكرة أنه متواضع،
ويكون هذا الموقف لوناً من الرياء!!

 

أم
أنه يقول عن نفسه إنه خاطئ لأن مذمته لنفسه لا تجرحه، بينما مذمة الآخرين له تجرحه،
لأنهم أخذوا عنه فكرة كهذه..!

 

أما
التواضع الحقيقي، فإنه يقبل المذمة يعتبرها كأنها اعتراف له صدره من غيره..

 

أو
بقبلها في مقابل مديح آخر قد ناله من قبل. ويقبلها لكي يغطي بها على فضائله فلا
تظهر. أو يقبلها كجزاء أرضي له على خطايا قد ارتكبها من قبل، معروفة كانت أو غير
معروفة.

 

وقبوله
المذمة من الآخرين في داخل القلب، يعتبرها الآباء أنها الخد الآخر الذي نحوله..

 

فقد
قال القديس الأنبا أنطونيوس: [حينما يذمك أحد من الخارج، عليك أن تلوم نفسك من
الداخل، لكي تقيم توازناً بين داخلك وخارجك].

 

وبهذا
يحدث أمران: إنك لا تتعب من الداخل، ولا ترد الإهانة لغيرك من الخارج.

 

إن
الذي يحب المديح والكرامة، لا يستطيع أن يحتمل الإهانة. وقد يرد عليها بوسائل
متعددة:

 

أ-
أبسط السبل وأبعدها عن الخطأ، أن يردها بالدفاع عن نفسه واثبات نقاوته مما تنسب
إليه. وموضوع الدفاع عن النفس، وتقييمه بين الخطأ والصواب، يتوقف على لدوافع التي
تدفع إليه، هل هي نقية أم لا..

 

ب-
وقد يرد الإنسان الإهانة بإهانة مثلها، أو بإهانة أشد منها.

 

وهنا
يكون قد انتقم لنفسه بمحبته للمديح والكرامة. ويكون قد كسر وصيه الرب القائلة: ”
لا تقاوموا الشر..” (مت5: 39) ويكون قد كسر أيضاً الوصية القائلة: “لا
تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء..” (رو12: 19) ويكون قد ابتعد عن المحبة التي
من أوصافها أنها” تحتمل كل شئ” وأنها” لا تطلب ما لنفسها”
(1كو13: 7، 5).

 

ج-
وقد يرد الإهانة، عن طريق الشكوي، والتشهير بغيره واشعار الناس أنه مظلوم، لكي ينتقموا
له أيضاً من ظالمة!!

 

وهكذا
أيضاً يكون قد انتقم، ووقع في كل الخطايا السابقة، وبقي أن الذي يعتقد باستمرار
أنه مظلوم، لا يستطيع مطقاً أن يصلح نفسه، لأنه على الدوام يبرر نفسه..

 

د-
وهو قد يرد على الإهانة داخل قلبه، إذ يعتبر هذا الإنسان عدواً له ويعامله كعدو،
وربما يخاصمه أو يقاطعه..

 

ويكون
هذا منه موقفاً إيجابياً تجاه ما اعتبره أنه إهانة. كل ذلك لأجل محبة الكرامة! أما
الذي لا تهمه الكرامة العالمية، فلا يهتم بكل هذا، ولا يأخذ موقفاً ضده.

 

فالمتواضع
لا يعتبر كل مذمة تصل إليه كأنها اهانة. فقد تكون كشفاً لذاته وقد يشكر غيره على
ذلك، لأنه أظهر له نقصاً فيه يحتاج إلى علاج..

 

وهكذا
لا يعادي من ينتقده أو من يعارضه فيه هذا العيب. ويكون من وجهه إليه ساعده على
خلاص نفسه، وعلى إصلاح عيوبه.

صدق
القديس يوحنا ذهبي الفم حينما قال: [من يتكلم عنك بالذم، اتخذه لك صديقاً]..

 

 141-
إخفاء الفضائل

الذي
لا يحب المديح، تراه يخفي فضائله عن الناس، حتى لا ينال مديحاً منهم بسببها. فهو
بكل الوسائل، وبصدق نية، يعمل الخير في الخفاء حسب وصيه الرب (مت6) وحسبما كان
يفعل القديس الأنبا صرابامون أبو طرحة..

 

حقاً
إن كنت تعمل الخير من أجل الله، لا من أجل الناس، فماذا يهمك إن كان الناس يرون
هذا الخير أو لا يرون؟! تحضرني هنا قصة حدثت مع القديس الأنبا بموا. جاءت إليه في
أحد الأيام القديسة ميلانيا- قبل رهبنتها- وكانت من الأثرياء وأعطته صرة فيها كمية
كبيرة من الذهب، وطلبت إليه أن ينفقها على الرهبان الذين في البرية الجوانية.
فنادي القديس بموا على تلميذه، وسلمه الصرة دون أن يفتحها وطلب إليه أن يوزعها على
الرهبان المحتاجين في البرية الجوانية. وهنا قالت له ميلانيا: [ولكنك لم تفتحها يا
أبي. لتعرف مقدار ما فيها كم هو؟] فنظر إليها القديس في عمق وقال لها:

 

[إن
كنت يا ابنتي قد قدمت هذا لمال لله، فهو ولا شك يعرف مقداره كم هو]..!

 

وأخذت
ميلانيا درساً وحياً، ينقذها من المجد الباطل الذي يريد أن يظهر كثرة ما قدمته من
مال، أمام القديس، وأمام نفسها..

 

وهنا
نذكر قول السيد الرب:

 


وأما أنت فمتي صنعت صدقة، فلا تعرف شمالك ما تفعله يمينك” (مت6: 3)..

 

فما
معني هذه الوصية الإلهية؟ وما عمقها؟ معناها أنه لا يكفي فقط أن الناس لا يعرفون
ما تفعله أنت من الخير إنما أكثر من هذا..

 

لا
تجعل فضائلك تعرفها نفسك أيضاً اخفها عن نفسك. لا تذكرها ولا تتذكرها ولا تتأملها.

 

بعض
الناس يقدمون للفقراء، بدون عد حتى لا يعرفوا ما أعطوه. وهكذا ينفذون الوصية
حرفياً، والبعض يعطي ولا يحاول أن يتذكر تفاصيل ما أعطاه، ولا يجلس في آخر كل فترة
ليجمع حصيلة كل ما قدمه خلال تلك الفترة.

 

إن
الله لا يحاسبك فيما أعطاه لك فلا تحاسبه أنت في ما أعطيته له:

 

إنس
كل ما فعلته من خير. لا تعد تتذكره. لا تتحدث عنه أمام الناس، ولا تفكر فيه فيما
بينك وبين نفسك. ولا يكن هدفك في العطاء، أو في عمل الخير عموماً، أن يراك الناس،
أو أن يمدحوا عملك.

 

وليس
معني هذا أنك لا تعمل الخير، خوفاً من أن يراك الناس:

 

إنك
في هذه الحالة تعتبر مقصراً في حياتك الروحية، إنما افعل الخير حباً في الخير،
وحباً للناس الذين تعمل معهم الخير، وحباً له الذي أعطاك الخير الذي تفعله. ولا
تبال بعد ذلك أن يراك الناس أو لم يروك..

 

أحياناً
نظر الناس، يعطي حماساً لعمل الخير ولكنه ليس حماساً روحياً إنما هو حماس لكسب
المديح!

 

وفي
هذا الأم نذكر أن راهباً سورياً سكن في برية شهيت. وفي أحد الأيام أتي إلى القديس
مقاريوس الكبير، وقال له: [لماذا يا أبي حينما كنت في بلدي، كنت أطوي الأيام صوماً،
وهنا في البرية أشعر بالجوع الشديد قبل أن أصل إلى الغروب؟!] فأجابة القديس
مقاريوس: [حينما كنت في بلدك، كان الناس يرونك، فكنت في صومك تتغذي على المجد
الباطل. أما هنا في البرية، فإذ لا يراك أحد تشعر بالجوع!]

 

وفي
إخفاء الفضائل، قد يحارب المؤمن بأن يكون قدوة..

 

ولكن
الإنسان المتضع، لا يضع نفسه قدوة لأنه لا يري في نفسه شيئاً يقتدي به الآخروب.

 

إنه
يقول لله في صلاته: [أنت تعرف يارب حياتي، كم هي خاطئة. فهل لأنك سترتني ولم تشأ
أن تكشفني أمام الناس، استغل أنا هذا الستر، وأتمادي لأجعل نفسي قدوة! من أنا حتى
أكون قدوة!؟!].

 

لذلك
لا يجوز لنا أن نجعل هدفنا أن نكون قدوة، حتى لو صرنا قدوة بدون إرادتنا بترتيب من
الله..

 

إن
الذي يهدف أن يصير قدوة، ما أسهل أن يقع في الكبرياء وفي الرياء، ويظهر للناس بغير
حقيقته! يخفي أخطاءه، ويظهر فضائل له!

 

أما
المتواضع الهارب من القدوة، فإنه قد يظهر للناس نقائصه وضعفاته.

 

أتي
بعض رهبان من الاسقيط إلى ألأم سارة، وحكوا لها نقائصهم. فقالت لهم:

 

[بالحقيقة
أنكم أسقيطيون لأن ما عنكم من الفضائل تخفونه. وما ليس فيكم من الرذائل إلى
أنفسكم].

 

وكان
القديس الأنبا بيشوى، إذا عرف عنه تدبير روحي معين، يتركه وينشغل بتدبير آخر لا
يعرفه أحد، ولكن ليس معني هذا، أن تترك كل تدبير حسن تسير فيه.

 

فقد
يضرك هذا. إنما اثبت في كل تدبير صالح من أجل نموك الروحي، وليس لكي ينظرك الناس.
وليكن اخفاؤك لفضائلك بحكمة..

 

ومع
ذلك نقول إن بعض الأشخاص- بحكم وضعهم- من المفروض أن يكونوا قدوة، لئلا يعثروا
غيرهم. مثل رجال الاكليروس والقادة والمسئولين على أن يكون ذلك بطبيعة حياتهم،
وليس اصطناعاً أو رياء..

 

وحتى
هؤلاء أيضاً، يمكن أن تكون لهم فضائل كثيرة مخفاة. والمهم أن لا تكون اهتماماتهم
بنموهم الروحي يقولون مع الرسول: “أنسي ما هو وراء وامتد إلى ما هو
قدام” (في3: 13).

 

142-
الهرب من محبة الرئاسة

من
الأمور الهامة أيضاً في الهرب من محبة المديح والكرامة: 10- الهرب من محبة الرئاسة:

 

ليست
الرئاسة في حد ذاتها خطية فقد وضع الله رئاسات حتى بين الملائكة وقد يكون إنسان
رئيساً وفي منصب كبير، ومع ذلك يكون وديعاً ومتواضع القلب.

 

العيب
إذن ليس في الرئاسة إنما في محبة الرئاسة..

 

إن
الذي يشتهي الرئاسة، إنما يشتهي لنفسه أمجاداً على مستوي محبة العالم، وليس على
مستوي روحي، ومثل هذا، إذا حصل على رئاسة قد تتلفه وترفع قلبه.. وقد يظن أنه قد
صار شيئاً، ويجب أن يعامله الناس هكذا..

 

والذي
يشتهي الرئاسة، مصيره أن يقع في أحلام اليقظة..

 

كأن
يخلو إلى نفسه، ويتصور أنه قد صار كذا وكذا، وأنه قوبل بدرجات معينة من المديح
والتقدير والاحترام.. ويتصور أنه يقوم بأعمال عظيمة لم يعملها أحد غيره، لو أعطيت
له تلك المناصب! وكلها تخيلات من المجد الباطل، تشعره بأنه يستطيع أن يعمل ما لم
يعمله غيره.

 

وقد
يسمح الله أن تسند إلى مثل هذا الشخص مسئوليات فيفشل فيها. لأن الإنسان يمكنه أن
يعمل في الخيال ما يعجز عنه في الواقع.

 

ومثال
ذلك قصة شيخ ذهب لافتقاد راهب محارب بالمجد الباطل. وكان هذا الراهب يتصور أنه
واقف يعلم الموعوظين. وكان يلقي عظته عليهم بصوت سمعه الشيخ في الخارج. وبعد العظة
باركها وصرفهم بسلام.. هنا وقرع الشيخ الباب، ففتح له الشاب، وفكر في نفسه ما عسي
أن يقول عنه الشيخ إذا كان قد سمعه فلكي يتأكد قال: [إني أسف يا أبانا، لئلا تكون
قد جئت من زمن وتعطلت على الباب].

 

فابتسم
الشيخ وقال: [لقد جئت يا ابني وأنت تصرف الموعوظين]!

 

فاحرص
أن تبتعد عن أحلام اليقظة هذه وتتصور ما ليس لك.

 

سئل
القديس يوحنا الأسيوطي: [هل يليق بالإنسان أن يطلب رتبه وسلطاناً لتقويم المعوجين
وأبطال الشرور؟ فأجاب:

 

[كلا..
لأنه إن كان وهو بعيد عن الدرجة، يشتهي أن يكون عظيماً فماذا يعمل عندما يصل إلى
الرئاسة والعظمة نفسها؟ لأن الذي لم يعرف الاتضاع وهو في حقارته، فماذا يفعل عندما
يكون في عظمته؟!]

 

وأضاف
القديس عن مثل هذا الشخص: [إن كان منتفخاً وهو بعيد عن المناصب، فماذا يعمل عندما
يأخذ المناصب؟!] إن الرئاسة قد لا تضر الناضجين روحياً الذين يحتملونها باتضاع،
ولكنها تضر غير الناضجين. قال القديس اوروسيوس أحد خلفاء القديس باخوميوس الكبير.

 

[إن
الرئاسة مضرة للأشخاص الذين لم ينضجوا]. وضرب لذلك مثلاً فقال: [إذا أحضرت طوبة من
طين لم تحترق بعد بالنار والقيتها في الماء فإنها تذوب. أما إذا حرقت بالنار، فلو
القيت في الماء تبقي وتشتد.. كذلك الشخص الذي يصل إلى الرئاسة قبل أن ينضج قبلما
يحمص بالنار، أي باختبارات الحياة، قبلما يزول منه المجد الباطل، فإنه معرض
للهلاك].

 

كذلك
مساكين هم الناس الذي يخضعون لرئاسة شخص محب للمجد الباطل. أنه يضيع نفسه، ويضيع
معه الناس، من أجل المجد الذي يطلبه

 

ولذلك
من الخطر جداً، أن يوضع في رتبه الرعاية أشخاص يحبون الكرامة العالمية. فإن كنت
لست متضع القلب، لا تطلب لنفسك درجة الكهنوت، بل اشته لنفسك أن تكون خروفاً في
رعية المسيح عن أن تكون راعياً يطلب دم رعيته من يدك.

 

اشته
أن تكون حملاً من القطيع، يرعاك غيرك، لا أن تكون مسئولاً عن رعية.

 

لأنك
إن كنت لا تقدر أن تربح نفسك فكيف تقدر أن تربح للرب نفوساً كثيرة..؟! إن كنت في
الوقت الذي لم يكن عليك فيه أثقال، لم تستطع أن تحيى ذاتك، فكيف تقدر أن تخلص
شعباً كبيراً من شر العالم؟! الإنسان المتضع الذي يريد خلاص نفسه، ويشعر في داخله
بعجزة عن الرعاية، يهرب منها.

 

أما
إذا أمسكك الله وصيرك راعياً فأطلب منه قوة تعينك.

 

إن
كانت حاجة الكنيسة قد وضعتك في منصب، فلا تثق بقوتك ومواهبك بل اسكب نفسك أمام
الله، لكي يعمل هو بك، ولكي يعمل فيك ومعك. وتكون أنت مجرد آلة يسيرها هو حسب غني
وفرة حكمته.

 

إن
صرت راعياً، أو صاحب منصب، فكن متضع القلب..

 

لا
تعتبر نفسك أنك قد صرت من أعمدة الكنيسة، ولا تسلك بعظمة، إنما اعتبر نفسك مجرد
خادم، واسلك كخادم، كما غسل المسيح أرجل تلاميذه. وقال عن نفسه: “إن إبن
الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مر10: 45).

 

سألني
كاهن جديد، أن أقول له نصيحة بمناسبة خدمته، فقلت له:

 

[كن
ابناً وسط اخوتك، وأخاً وسط أولادك]..

 

وهكذا
لا يرفع نفسه ويستمر في اتضاعه. أما إن كان يريد أن يتمتع بكرامة في منصبه، فلا شك
أنه سيضيع نفسه. لأن المناصب ليست رفعة، وإنما خدمة. والذي يسلك فيها كخادم فهذا
سيرفعه الله، دون أن يرفع هو نفسه..

 

قال
القديس برصنوفيوس:

 

[لا
تحسب نفسك في شئ من الأمور ولا يحسبك أحد شيئاً، وأنت تنتج (أي تستريح)]..

 

ذلك
لأن الناس يحبون المتضعين، وينفرون من كل محب للمديح أو الكرامة كذلك فإن المحب
للرياسة قد يصطدم بغيره من يشتهون نفس الشهوة وينافسونه فيها. أما الذي يحب المكتآ
الأخير، فإنه لا ينافس أحداً.

 

وإن
صرت رئيساً، فلا تتسلط على أحد، بل عامل الكل بالرفق..

 

اعرف
جيداً أنك مجرد رئيس على عملهم ولست رئيساً على أشخاصهم.

 

أما
أشخاصهم، فلها عندك كل احترام وكل حب. واعرف أنك ومرؤوسيك سواء أمام الله، وربما
تكون لبعضهم منزلة عند الله أعظم. اشعر في داخلك أنك زميل لهم، وأن كنت أقدم،
تفاهم معهم بروح الود وبالبساطة.

 

فالسلطة
تعطي للبعض من أجل إدارة العمل، وليس من أجل كرامتهم الشخصية..

 

والذي
يعتبرها تكبيراً لنفسه، يكون قد انحرف عن هدفها وعن تواضعها وهذا الكلام يقال أياً
عن الأب والزوج في الأسرة، كما يقال عن المعلم مع تلاميذه، وعن المرشد مع يرشدهم،
وعن كل من يتولي مهام القيادة والأبوة والرعاية..

 

كان
القديس باخوميوس يرفض أن يحمل له أولاده حاجياته وهو سائر في الطريق..

 

بل
كان يحب أن يشابههم في كل خدمة وهكذا قال بولس الرسول أيضاً: “حاجاتي وحاجات
الذين معي، خدمتها هاتان اليدان” (أع20: 34).

 

بهذا
كان الآباء قدوة لابنائهم في الخدمة وفي الاتضاع. وبهذه القدوة كسبوا محبتهم،
وكسبوا خضوعهم أيضاً..

 

وما
كانوا ينظرون إلى أنفسهم اطلاقاً كرؤساء، إنما كآباء. ليسوا أصحاب سلطة، إنما
كأصحاب قلوب كبيرة مملوءة بالحنان والشفقة. القديس الأنبا شيشوي، حينما سلموه أخاً
جديداً ليعلمه، ما كان يصدر له أمراً في أي شئ. فلما عاتبه الآباء على ذلك، قال
لهم:

 

[أنا
لست رئيساً عليه لآمره.. فإن أراد أن يتعلم. فلينظر إلى كيف أعمل، وليعمل مثلي].

 

لذلك
فإن تواضع القلب هو شرط أساسي لكل من يتولي عملاً قيادياً، حتى لا يهلك نفسه وأنفس
الذين يقودهم أيضاً، وحتى لا يكون قدوة سيئة في عمله القيادي. وإنما عليه أن يقود
الناس بالحب والتعليم والمثال السليم، وليس بالسلطة وبالأمر والنهي.. أما عن
المواضعين الذين يهربون من الرئاسة، فإننا نضع أمامهم مثال القديس بينوفيوس.

 

 143-
مثال القديس بنوفيوس في الهرب من الكرامة

عرفنا
قصة هذا القديس من يوحنا كاسيان مؤسس الرهبنة في فرنسا.

كان
القديس بينوفيوس رئيساً على دير يضم أكثر من مائتي راهب في منطقة البرلس..

وكان
متضعاً جداً ومهاباً، وله مكانه عند الكثيرين ممن يحبون قداسته وحياته الفاضلة
ومواهبه الروحية، وكذلك بسبب شيخوخته وكهنوته.

 

وفي
أحد الأيام جلس هذا القديس إلى نفسه، وقال لها: “[وما نهاية هذا التوقير الذي
ألقاه كل يوم؟ ألعلني سوف استوفي خيراتي على الأرض وأين الطريق الضيق والكرب عملاً
بقول الكتاب: “لأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أع14: 22)].

 

لذلك
هرب القديس بينوفيوس ذات يوم من الدير، متنكراً في زي علماني وسار جنوباً حتى وصل
أحد أديره القديس باخوميوس الكبير في إسنا.

 

وطرق
الباب طالباً أن يقبلوه في الدير.. فنظروا إليه في تعجب: من هذا الشيخ الذي أتي
ليترهب؟! هل بعدما تمتع بالعالم وشبع منه، يأتي أخيراً ليصير قديساً؟!

 

وطردوه
قائلين له: [إنك لا تصلح]. فألح عليهم فقالوا له [أنك لا تستيطع أن تحتمل تعب
الرهبنة]. فظل يلح ووقف على الباب مدة دون أكل أو شرب..

 

فلما
رأوا احتماله وصبره، ادخلوه الدير على شرط أن يبقي في زي العلمانيين ولا يرسم
راهباً!

 

واسندوا
إليه مساعدة راهب شاب مسئول عن حديقة الدير. فلم يمانع وكان الشاب يأمره كخادم
فيطيع.. إنها امنيته التي اشتهاها!

 

وكان
الشاب شديداً في معاملته، وكان هو دقيقاً في طاعته. وكان في نصف الليل والرهبان
نيام يقوم بالأعمال التي يشمئز منها غيره لقذراتها، مثل تنظيف دورات المياه. وما
كان الرهبان يعرفون من الذي قام بهذا العمل..

 

وظل
على هذا الطقس ثلاث سنوات.

 

وكان
يقول للرب: [أشكرك يا سيدي من أجل عطاياك إذ منحتني ما اشتهي فهنا لا احترام ولا
توقير، بل أوامر وطاعة].. ثم بعد ذلك أتي لزيارة الدير راهب من أديره البرلس، ورأي
القديس بينوفيوس، وهو يحمل السباخ ويضعه حول الشجر. فشك في الأمر ولم يصدق أنه هو.
وأخيراً سمعه يتلو مزاميره بصوته المعهود، فعرفه وسجد له.

 

فانكشف
موضوعه، وأخذوه بمجد عظيم وأرجعوه إلى ديره. فهرب مرة أخري إلى بيت لحم..

 

وعمل
هناك خادماً في قلاية يوحنا كاسيان. وتصادف أن ذهب راهب آخر لزيارة القديس. وعندما
قابله عرفة فأعادوه مرة ثانية باحترام كبير إلى ديره.

 

وزاره
يوحنا كاسيان عند مجيئه إلى مصر، وكتب عنه في مؤلفاته. إنه مثال حي للهرب من
الرياسات.

 

إننا
نضع هذه الأمثلة الرهبانية أمامنا كمجرد أمثولة للهرب من محبة الكرامة. وقد لا
يستطيع البعض محاكاتها كما هي هنا في العالم.

 

ولكنها
مجرد درس يعلمنا على الأقل أن نبعد عن شهوة الكرامة ونهرب منها.

 

وإن
وضعنا الرب في منصب رئاسي فيه باتضاع قلب. فنكون في عمل الرئاسة، ولا تكون محبة
الرئاسة في قلوبنا.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى