علم المسيح

ثالثاً: اليونان والامبراطورية الرومانية



ثالثاً: اليونان والامبراطورية الرومانية

ثالثاً:
اليونان والامبراطورية الرومانية

ما
ساهمت به اليونان وروما في التمهيد لمجيء المسيح والكرازة بالإنجيل

دور
اليونان:

كان
العالم يذخر بنتاج الفكر البشري في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تعتز بالتوراة
والثقافة التي أسَّسها موسى في كل مناحي الحياة. فكان الجزء الأقدم من العالم، وهو
الجزء المدني، ينمو في حدوده التي رسمها لنفسه، والثاني ينمو في حدوده التي رسمها
له الله على يد موسى. وكأنهما كانا على ميعاد ليتقابلا معاً لتغتني البشرية من هذه
الذخائر المدنية والإلهية بآن واحد، لكي تنمو البشرية بما وهبها الله على كل
المستويات الروحية والمادية والثقافية لخير الإنسان.

وكأنما
كانت اليونان والرومان تعدَّان القالب البشري الطبيعي المتقن فكراً وفنًّا ولغةً
لكي تصبَّ فيه اليهودية أثمن ثمراتها التي بلغتها في المسيحية. وهكذا إذا تعمَّقنا
الواقع النهائي لنشاط الإنسان وما وهبه الله في النهاية، نجد أن هاتين الدولتين قد
ساهمتا بوضع الأساس البشري الطبيعي للإنسان الحديث، ثم أكملته اليهودية بمذخراتها
فوق الطبيعية أو الروحية بالمعنى الأفضل. فهذا هو إنسان المستقبل الذي كلما تعمَّق
أصوله الطبيعية يجد منابع أساساته التي بنى عليها على أرقى ما تكون الأساسات أدباً
وفنًّا ولغةً لا تكفيه عشرات السنين لكي يطَّلع على مناهجها الثمينة.

وهكذا
جاء المسيح في وقت متأخِّر جداً من تاريخ العالم، فهو لم يشأ أن يؤسِّس ملكوته على
أرض خربة وإنسان بدائي، بل سبق وأعدَّ منذ زمن بعيد ما يَعُدُّ وجه الأرض أمامه.
فكان هؤلاء الفلاسفة والأدباء والعلماء المتضلِّعون في كل مواهب الحكمة والعلم
والأدب يعملون بنشاط متعدِّد الاتجاهات، هذه المئات من السنين الأخيرة ليهيِّئوا
الأساس البشري المتقن لكي يُوقِّع عليه المسيح لمساته لتبدأ رحلة الإنسان الجديد
صوب الأبدية.

ولقد حبا الله الجنس اليوناني من المواهب ما يُذهل العقل،
فبالرغم من نقص تعدادهم البشري، إلاَّ أن مقدار ما قدَّموه للعالم من علوم وفنون
وآداب راقية للغاية ولغة فريدة في عمقها ما ملأ وجه الأرض وغطَّى حاجة البشر إلى
ما شاء الله. وإن أول وأعظم ما يُذكر
لهم من المعروف
هو
قدرة أدبائهم وشعرائهم
في
التخلُّص من الغيبيات القديمة
التي كانت تلوِّث الشرق لتشكِّل ظلمة فكرية قادرة أن تسد منافذ
النور لتقطع خط الرجعة على أي انتقال أو نهضة روحية صادقة.
إذ كان يحكم فكر
الشرق قوى الظلام التي تعبث بمصائر
الناس، ومعها تصوير قُوى الطبيعة الغامضة
كأعداء تتربَّص بالإنسان. وبتدرُّجٍ نَشِطٍ استطاع الفكر الصافي المضيء أن يتخلَّص
من هذه الخرافات كما رأينا في أفلاطون الذي يسير جنباً إلى جنب مع التأملات
المسيحية وهي في أوج قمتها على يد قديسيها الأماجد.
ولا شك، وهذه حقيقة ثابتة، أن أفلاطون وغيره قدَّم للمسيحية بعض ما يمكن أن يكون أدواتها
الممتازة للارتفاع بالروح دون خوف من السقوط أو الانحراف. وفي مجال الحق والضمير،
قطعوا قبل المسيحية أشواطاً لا يُستهان بها حتى بلغوا إلى ما بلغوا إليه، مما يمكن
اعتباره ضميراً سوياً إنما بحسب الطبيعة، يستطيع أن يحكم على الأعمال حكماً لا
يخرج عن الأصول والحقوق كما يراها عظماؤهم الذين وضعوا أُسس التعامل وقوانين
الحياة الاجتماعية.

وهكذا استلمت المسيحية دراسة منهجية متقنة عن كل مناحي
الضمير الطبيعي، ما يفيده وما يضره، لتصب فيها أو عليها أعمال المسيح تجاه الضمير،
من غسل وتطهير وتقديس بالنور، ليرتقي ضمير الإنسان فوق مضار كل الإحساس الثقيل
بالخطية، على أساس يقين عمل الخلاص الفريد المقدَّم مجَّاناً لكل إنسان، وتلافي
الوقوع في اليأس إثر أعمال الخطايا التي تترسَّب بطبيعتها في الضمير لتفسده.

فإذا
خرجنا من محيط هذه الإحساسات التي لا يكفي
لسردها وبحثها أمام القارئ مجلَّدات برمّتها، لنأتي إلى اللغة اليونانية، فاللغة
اليونانية للذي يعرفها ويجيدها تُحسب معجزة الدهر. فهي تعبِّر عن مضمون الفكر
تعبيراً من شأنه أن يزيد نفسه عمقاً وعلواً إلى ما لا نهاية، إذ لها قدرة على
تصوير الحدث تصويراً مذهلاً يفيد: متى وقع، وكيف وقع، وهل هو إلى زمن محدَّد في
الماضي أو أنه ماضٍ يمتد إلى أعماق المستقبل. فندرك من الفعل صوراً للفكر يصوِّر
بها الحقيقة لنراها جديرة بالفهم، بل وترقى إلى شبه القانون تُخضع الإنسان تحت
الالتزام. فالفعل بتصرُّفه يشرح مضمون الحادثة ومدى أهميتها ولزومها وسلطانها.

وتعوزني
المعرفة في أن أفيض وأزيد في القواعد التي تحكم لغة اليونان لتجعل منها ملحمة
أدبية وأعماقاً مرسومة كأساس ثابت. فما عليك إلاَّ أن تفكِّر ثم تنطق أو تكتب
لتخرج الكتابة أو الكلام له قدرة جمع شتات الفكر مرتبط أوله بآخره، وغايته مقروءة
فيه دون عناء. وهكذا ساهمت اليونان بتقديم اللغة للإنجيل التي جعلت منه في لغتها
أعظم المناهج الأدبية طرًّا. فأضفت اللغة على المعاني جمالاً هو جمال سماوي أو هو
بهاء الله وشعاع من مجده يُبهر الفكر والقلب والروح معاً. وهكذا أعدَّ الله لكلمته
وعاءها الذهني الذي يحفظ لها قوتها ورزانتها وبهاءها، يصوِّرها أبلغ تصوير ويعطيها
بريقها وكأنها خارجة من فم الله(
[1]).

وهذا
الاتفاق المذهل بين إتقان الروح في إلهام الفكر في الإنجيل، واتقان اللغة عند
اليونان، وكأنهما عمل من أعمال الله المرسومة بحسب مشيئته العظمى قبل الدهور؛
يجعلنا نجزم ونقول إن الروح الذي جمع هذا صنع ذاك، ليتقابلا معاً في الإعداد
لملكوته، وكأنها ذبائح الإنسان ينشدها نشيداً لمسرَّة قلب الله.

وعلى
مستوى هذه الموهبة التي انسكبت على هذا الشعب الموهوب في نحت اللغة بأصولها
وفروعها وحركاتها وآدابها، وهبهم الله هبة النحت على الحجر لإخراج صور ومناظر تحكي
كما تحكي اللغة عمَّا في قلب الإنسان وفكره. فأصول النحت عند اليونان جعلت الحجر
يتكلَّم ويحكي ويصوِّر الحقيقة بغير لغة اللسان. إنها ترقى إلى إحساس الروح! هذه
الموهبة أخذتها الكنيسة الغربية وصنعت بها ما صنعت لتعبِّر عن قضايا الروح فأبدعت،
وإن كان طقسنا القبطي يتمنَّع في قبول النحت والتمثال في العبادة، وما ذلك إلاَّ
لأننا أوتينا من الوعي الروحي والانطلاق بالرؤى إلى ما فوق كل لغة وكل نحت وكل
تمثال. ولكن ليس الجميع مَنْ أوتوا هذا الوعي الذي يفوق الواقع.

ولكن
العجيب حقًّا، هو ما سنراه في أمر الرومان، كيف يبعث الله مَنْ ينشر هذه اللغة عن
إلزام في جميع أنحاء العالم لتكون هي لغة العالم التي تربط البلاد والقارات بنظام
واحد، فكانت لغة المسيحية التي انتشر بها الإنجيل دون عناء أينما وقعت أقدام
المبشرين بالخيرات.

والأعجب
من أمر الرومان هو ما قام به اليهود أيضاً في هذا المضمار، إذ لمَّا انتشرت اللغة
اليونانية وغطَّت الأقطار وكل الأنحاء، رأى اليهود ضرورة أن يترجموا التوراة إلى
اللغة اليونانية لحاجة اليهود في الشتات في جميع أنحاء العالم الذين فقدوا لسانهم
العبري وحتى الأرامي، وباتوا جميعاً لا يتكلَّمون ولا يفهمون إلاَّ اليونانية،
فخرجت من تحت أيدي سبعين عالماً يهودياً من الربِّيين المتضلِّعين في اللغة
اليونانية المستوطنين في الإسكندرية، النسخة السبعينية للتوراة تتلألأ بالمعاني
المتقنة كما صاغها هؤلاء العلماء اليهود
الربيُّون الذين كانوا على أعلى مستوى من الإدراك الروحي والأدبي
واللغوي للتوراة العبرية في أصولها الأُولى. وهكذا
أيضاً حُفظت كلمة الله في القديم في وعائها
الذهبي حتى تلقَّفتها المسيحية التي اعتمدت على الإلهام والنبوَّة كأساس
راسخ لاستعلان حقيقة
المسيَّا.

فانظر،
أيها القارئ السعيد، كيف وضع اليونان اللغة، ثم كيف نشرها الرومان بسلطة واقتدار،
ثم أخذها اليهود لينشروا بها توراتهم
وتراثهم.. وأخيراً تمَّ تسليم هذا كله إلى يد الرسل لخدمة
وانتشار الإنجيل.
فمَنْ لا يلحظ هنا يد الله التي كانت تعمل في صبر وهدوء على مدى طويل في العالم
لتُعِدَّ نفسها إعداداً متقناً يفوق العقل والحصر لمجيء المسيح واستعلان الله. هذا
مما جعل شيشرون خطيب روما الشهير يقول:

[إن
اليونانية تُقرأ في جميع الأُمم، أمَّا الرومانية فمحدودة بحدود بلادها.](
[2])

ثم نأتي إلى أخطر منجزات الفكر اليوناني تأثيراً على
المسيحية، وهو ما وضعه كُلٌّ من أفلاطون وأرسطو من اصطلاحات لاهوتية لاستيعاب
الفكر البشري للصفات والأعمال الإلهية أو الحق كما استطاعوا أن يستشفُّوه من وراء
تصوُّر الآلهة. فقد صارت هذه الاصطلاحات القاعدة اللغوية والفكرية التي تشرح حركة
الفكر في الاقتراب إلى الحقائق العُليا، فاعتُبرت قواعد للاَّهوت الطبيعي. هذه
استطاعت المسيحية أن تصبَّ فيها الحقائق المسيحية والتعابير اللاهوتية الدقيقة
جداً مثل: الأقنوم، الوجه، الجوهر، الطبيعة، الذات، التساوي، التشابه، المطلق
الزمني، وكلي الوجود، وواجب الوجود، والمحدود، والخيال، وعالم الإلهيات، والحقيقة،
وشبه
الحقيقة،
والتزييف، والكذب. ولم تجد المسيحية أي معاناة في استخدام هذه الاصطلاحات مع تعديل
في مفهومها لتصيغ بها حقائق اللاهوت المسيحي. وبهذا يكون الفكر المسيحي اللاهوتي
قد اغتنى بنتاج الفكر الفلسفي الهلليني
وامتدت المعاني بكل حذر ودقة للتفريق بين الحقائق الإلهية بصورة عميقة وغنية ومفرحة للقلب الواعي. فمَنْ ذا يتصوَّر
أننا نبلغ إلى تصوير اللاَّهوت المسيحي بهذه
التعبيرات المسيحية الواضحة المضيئة للعقل والروح بدون هذه
الاصطلاحات،
والتي مَنْ يسمعها يعتقد أنها من ضمن الملهمات للروح المسيحية، مع أنها خرجت من قلوب وأفكار أشخاص عاشوا قبل المسيح بأجيال.

ثم
هذا “المنطق” في الأسلوب اليوناني الذي كان مادة الخطابة والحوار
واستعراض مناهج الفلاسفة من فوق منابر أثينا، يسمعها الشعب ويفهمها ويخرج يناقش
بها بعضه ويتحاور بها حتى تتغلغل طبيعة فكرهم. هذا نفسه دخل كسلاح للدفاع عن
وحدانية الله ولاهوت المسيح الابن الوحيد، لمَّا دخل أسلوب البشارة والوعظ
بالإنجيل وصار وكأنه لغة الإنجيل بعد أن تعمَّد في أفواه الرسل والقديسين الذين
أغنوا المنبر: كيوحنا ذهبي الفم والآباء الكبادوكيين. والذي يلزم أن نعيه، هو أن
تأملات أفلاطون أصبح لها وجود في صياغة الفكر المسيحي ومدوّناته، وكذلك تأملات
بلوتارخ كما يصفها شاف(
[3]). وقد لاحظ العلماء أن بعض
أفكار بولس الرسول لها ما يشبهها في أفكار سنيكا(
[4]) الفيلسوف الروماني وهو
المعاصر لبولس الرسول.

وكثير
من آباء الكنيسة الذين انتفعوا من الدراسات اليونانية خاصة في الأجيال الأُولى
صرَّحوا أن الفلسفة اليونانية محسوبة عملياً أنها كالقنطرة للعبور إلى الإيمان
المسيحي الجزل، كمعلِّم مدرسي يقود في طريق معبَّد، ومنهم الشهيد يوستين وكليمندس
الإسكندري وأوريجانوس وأغسطينوس. أمَّا الكنيسة اليونانية ذاتها فما من شك أن
أساسها الأول قام على اللغة والمعرفة والفلسفة اليونانية الصرف التي أخذت طابعها
الروحي المسيحي على أيدي الرسل.

ولكن
على واقعنا الحي المعاصر نستطيع القول أن الطابع المسيحي الحر البسيط أخذ استقلاله
في كنائس الشرق دون أن ينبني في كثير أو قليل على الفلسفة اليونانية. أمَّا اللغة
اليونانية فبسبب ضعف الدارسين لها توقَّفت في كنيسة الشرق توقُّفاً حزيناً مؤلماً
عن الامتداد في ميراث الآباء من جهة الشرح والتفسير للإنجيل والرسائل، والخسارة في
ذلك لا تقدَّر. فنحن بسبب جهلنا باللغة اليونانية انفصلنا انفصالاً حزيناً مؤلماً
عن فكر الآباء وعمقهم الروحي.

ولكن
يشاء الله أن عظمة اليونان وفخر لغتها وآدابها وفلسفتها وثقافتها المتعددة الأوجه
تخبو وتنطفئ بظهور المسيحية، لترث الكنيسة ما هو قيِّم وصالح فيها وتتجنَّب نواحي
الانحراف والفساد منها وهي كثيرة. مما يجعلنا نفكِّر أن قيام النهضات الأُولى
المبكِّرة جداً في اليونان، سواء في اللغة أو الفلسفة والآداب والمواهب الأخرى،
إنما قامت لتُعِدَّ الطريق لتحمل بناء المسيحية الضخم، وعندما كملت الرسالة انتهى
دور العالم الوثني بعد أن ورَّث المسيحية أمجد منجزاته.

دور
الرومان:

بقدر
ما رأينا اليونان بلد المواهب الفكرية والحكمة والأدب والفن والفلسفة واللغة
المبدعة، بقدر ما نجد الرومان بلد العمل والإصلاح والقانون والسياسة. ففكرة قيام
حكومة عالمية وقانون مدني موحَّد يحكم الشعوب ملأت وجدان الرومان وتغلغلت فيهم حتى
الجذور. ففكرة الامبراطورية الرومانية طغت على كل طموحات أباطرتها، فتصورتها
ورسمتها من الفرات حتى الأطلنطي، ومن صحراء ليبيا إلى شواطئ الراين، لتضم كل خصب
الدول المحيطة في آسيا وإفريقيا وأوروبا. وقد كان. فكما تخيَّلتْ ورسمتْ في
أحلامها نفَّذتْ على الواقع، وبقدر ما جرى القلم على الخرائط والورق انطلقت الجيوش
تفتح وتضع الحدود وتقيم الحصون وترصف الطرق وتضع علامات الفراسخ أي الأميال (
Milestones) التي تملأ آثارها
المتاحف. وأصبح المثل حقيقة: “كل الطرق تؤدِّي إلى روما”، لأن كتابة
الأميال عليها تبدأ من روما فتعرف وأنت سائر كم من الأميال تسير لتبلغ إلى روما.
وأحصى الرومان تعداد الواقعين تحت سلطانها، فكان الرقم ما يقرب من مائة مليون نسمة(
[5])، وكان هذا وقتئذ يُعتبر ثلث
العالم كله. ويقول العالِم المؤرِّخ شارل مريفيل في كتابه عن تاريخ روما بخصوص التعداد الكلِّي لمَنْ هم تحت
الامبراطورية الرومانية أيام أغسطس قيصر، وذلك في بدء المسيحية، أنه كان يبلغ 85
مليوناً، منهم 40مليوناً في أوروبا، 28 مليوناً في آسيا،
17 مليوناً في
إفريقيا، ولم يعطِ عدداً لفلسطين(
[6])، ومن امتدادها الجغرافي تظهر
قيمتها التاريخية والسياسية.

وإن كان الله قد منح اليونان مواهب الفكر ليسودوا على العالم
باللغة والآداب، فللرومان وهب أصلب الأخلاق وكأنما وُلِدَت أباطرتها لتحكم العالم!
وإن كان اليونان في عجرفتهم ينظرون إلى غيرهم كبرابرة أي همج
ذلك بالنظرة الأدبية الفلسفية، فالرومان كانوا ينظرون إلى كل مَنْ ليس رومانياً
أنه عدو إلى أن يخضع ويصير مواطناً تحت القانون الروماني. وكان فخر الرومان
وعظمتهم في الحروب والانتصارات؛ وكما غلب الرومان العالم بالسيف، حكموه بالقانون.

وكان
مفروضاً على كل إنسان أن يخضع لروما وينحني أمام مجدها ويخدم سلامها بالمال وبالفن
وبالجمال. ولكن حاولت روما أن تقلِّد اليونان
في حبها للفلسفة والآداب والخطابة والتاريخ
والشعر!

وقد
استطاع أغسطس قيصر أن يحوِّل روما من مدينة الأكشاك المصنوعة بالطوب الأحمر، إلى
قصور من الرخام. واستورد كل شيء من اليونان وزيَّن المدينة بأقواس النصر والأعمدة
السامقة، وجلب لها من كل أرجاء الدنيا كل ما بلغ علمه من تحف وفنون
وفي هذه الغمرة المحمومة من الإعمار، انطلق هيرودس وهو ربيبهم، في بناء الهيكل في
أُورشليم وجلب له أعمدة الرخام وكل ما وصلت إليه يداه.

واستتبَّ
الأمن في كل البلاد وحُفظ لكل مواطن حقوقه بالقانون، وارتقى مستوى المجتمع في كل
مكان مع حقوق الحياة والحرية والكلام، ودخل كل متعدٍّ تحت العقاب مهما كان مركزه،
وبدأت تطل المدنية على العالم الروماني في كل الأنحاء، وعمَّ السلام والطمأنينة؛
فانفتحت الطرق، وامتدت المواصلات للسفر والتجارة في كل أنحاء الامبراطورية، وذلك
تحت راية القياصرة. وكان لأي إنسان أن يسافر إلى آخر الدنيا آمناً ومعه تجارته:
الذهب والماس والأحجار الكريمة، تُرسل من الشرق إلى روما دون خوف، وتحف وتماثيل
وأعمال النقش من اليونان إلى روما.

وصار
العالم وكأنه مدينة واحدة تحت حُكم حكيم مُهاب! وأدق وصف ممكن أن نصف به روما مع
طُرقِها وتجَّارِها وغناها وعزِّها ومجدِها يُمكن أن يُقرأ بمنتهى الدقة والوضوح
في رؤيا يوحنا اللاهوتي عندما وصف سقوطها:

+
“وسيبكي وينوح عليها ملوك الأرض.. ويبكي تُجَّار الأرض وينوحون عليها، لأن
بضائعهم لا يشتريها أحدٌ في ما بعد، بضائع من الذهب والفضة والحجر الكريم واللؤلؤ
والبَزِّ والأُرجوان والحرير والقِرمز، وكل عودٍ ثينيٍّ، وكل إناءٍ من العاج، وكل
إناءٍ من أثمن الخشب والنحاس والحديد والمرمر، وقرفةً وبخوراً وطيباً ولباناً
وخمراً وزيتاً وسميذاً وحِنطَةً وبهائم وغنماً وخيلاً، ومركباتٍ، وأجساداً، ونفوس
الناس.” (رؤ 18: 913)

هذه
صورة لمدى اتساع التجارة والعظمة والسلام والأمان والعدل والقوة والسياسة المنضبطة
بالقانون التي كانت تضفيه روماعلى كل العالم ذلك كله حينما وُلِدَ
المسيح!!

فقد
انفتحت أبواب العالم كله في وجه الآتي من السماء وكأن العالم صار بيتاً واحداً،
ارتفعت منه الحواجز وانفتحت غُرَفُه على بعضها البعض شمالاً ويميناً وشرقاً وغرباً
وعليها أقواس النصر، تُحيِّي الآتي وتُسلِّمه مفاتيح الدار.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى