علم المسيح

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل
الثاني

البدء
بالخدمة والتعليم

4- معجزة
صيد السمك الوفير وتأثُّر بطرس

المسيح
يبدأ التعليم بوصوله إلى الجليل.

لمَّا
بدأ المسيح خدمته بدأها خارج المجمع (السيناجوج)، وذلك في الجماعات التي كانت تلتف
حوله. ولكنه لم يذهب في البداية إلى الناصرة وطنه إنما اتجه إلى بلدة كفرناحوم
الصغيرة التي تقع على بحيرة الجليل. وكان التلاميذ الذين انضموا إلى المسيح في
إقليم بيرية بشرق الأُردن من سكان المدن الصغيرة حول كفرناحوم وبيت صيدا، وكان
المسيح يتحيَّن الوقت المناسب ليضمّهم إليه. وأخيراً جاءت الفرصة المناسبة، إذ
بينما كان سائراً على شاطئ البحيرة في المكان المدعو جنيسارت
وهي كلمة مختصرة من “جنة
السرور”
وإذ بمجموعات متزايدة تهرع
إليه ليسمعوه بشغف كثير. ووجد جماعة صيَّادين كانوا قد عادوا في الفجر بسفينتين
بعد محاولة صيد فاشلة طول الليل، وكان الإرهاق والحزن بادياً عليهم وقد تركوا
سفنهم على الشاطئ ونشروا شباكهم الفارغة. هنا ابتدر المسيح أحدهم
وهو سمعان الذي كان يملك أحد القاربين
الذي دخله المسيح
وطلب منه أن يدفع مركبه في
البحيرة بعيداً قليلاً عن الشاطئ. وابتدأ يكلِّمهم من السفينة كلاماً حلواً:
“ولمَّا فرغ من الكلام قال لسمعان: ابعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد.
فأجاب سمعان وقال له: يا معلِّم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً. ولكن على
كلمتك أُلقيِ الشبكة. ولمَّا فعلوا ذلك أمسكوا سمكاً كثيراً جداً، فصارت شبكتهم
تتخرَّق.. وملأوا السفينتين حتى أخذتا في الغرق (بالفعل). فلمَّا رأى سمعان بطرس
ذلك خرَّ عند ركبتي يسوع قائلاً: اخرج من سفينتي يا رب، لأني رجلٌ خاطئٌ. إذ
اعترته وجميع الذين معه دهشةٌ على صيد السمك الذي أخذوه. وكذلك أيضاً يعقوب ويوحنا
ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان. فقال يسوع لسمعان: لا تخف! من الآن تكون تصطاد
الناس! ولمَّا جاءوا بالسفينتين إلى البر تركوا كل شيء وتبعوه.” (لو 5: 411)

وهكذا
كان يختلق المسيح المناسبات بإحكام بديع ليضمّهم عن قناعة ورضا. هذه قصة البداية
في اختيار المسيح لتلاميذه، وهي قصة حيَّة عميقة المعاني وتشير عن بُعد كيف أمضى
سمعان ومَنْ معه عمرهم السالف في ليل وضنك ولم يفوزوا في حياتهم بشيء، والآن دخلوا
في كار آخر كثير النفع والمنفعة. وواضح لنا من مخاطبة سمعان بطرس للمسيح بلقب
“يا رب” أن المعجزة قد كشفت له عن حقيقة شخصية المسيح. فالمعجزة استطاعت
أن ترفع نظرة بطرس من الوضع المادي الميئوس منه. فالصيد بقرب الشاطئ لا يوفِّر
سمكاً لأي صيَّاد شباك، وتجربة الليل كله التي أنهكت قواه جعلته ينظر إلى الأعداد
الوفيرة للسمك الذي اصطادوه نظرة أخرى. لقد انتقل بطرس من الواقع المادي الميت إلى
الواقع الروحي الحي المُفرح مرَّة واحدة. هذا هو الذي رفع الستار عن عيني بطرس ليرى
في المسيح هذه النقلة عينها. صحيح أنه في الظاهر إنسان مثلهم، ولكن العمل الذي
عمله لا يعمله إلاَّ مَنْ له قوة فائقة للعقل والطبيعة والعُرف والتقليد المهني.
فرؤية بطرس للمسيح كرب هي من واقع ناطق أمامه، الأمر الذي أدخل فيه الرهبة وجعله
يسجد تحت رجلي المسيح سجود التوقير والعبادة، ويرى أنه ليس من اللائق بعد أن يوجد
المسيح الرب في سفينته، هذا أعلى من استحقاقه!

بهذا
يفهم القارئ كيف اجتمع التلاميذ إليه، وكيف صاروا من الأمناء المخلصين التابعين
بالقلب والروح، وكيف تركوا كل شيء وتبعوه بفرح وقناعة. لقد أنساهم المسيح بحديثه
وآياته العالم والبيت والمهنة والمستقبل وكل شيء. إنه الرب!! “إني أحسب كل
شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي.. وأوجد فيه.” (القديس
بولس: في 3: 8و9)

وكانت لحظة أن قال لهم هلموا ورائي فأجعلكم صيَّادي الناس
لحظة الحسم.

ولكن
تظل هذه اللحظة التي فيها يرى الإنسان ويقرِّر الفرق بين المادي والفائق عن
الطبيعة لحظة حرجة للغاية قلَّ مَنْ رصدها، ولكن كل مَنْ رصدها ترك كل شيء وتبع!!
فهي نفسها الرؤية التي يرتفع فيها نظر الإنسان للمسيح من إنسان إلى رب. فالمعجزة
أول ما تَسْتعلن تَستعلِن المسيح نفسه فيقع الإنسان على وجهه ساجداً، وبعدها لا
يطيق الانحصار في ما هو مادي زائل، لأن القوة الفائقة التي عملت في المعجزة حينما
يستوعبها الإنسان بروحه ينفتح على مجالها ويعيشها!

كانت
هذه الأيام عند التلاميذ وظلَّت أيام ذكرى لعيد امتدَّ بهم عبر مآسي العالم دون أن
يحسُّوا، كما كانت عند المسيح أقوى ذكريات حبِّه: “ستأتي أيام فيها تشتهون أن
تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان” (لو 22: 17). لقد انفتحت عيونهم على
الأبدية السعيدة، وذاق المسيح فيهم وذوَّقهم مسرَّة الكرازة من أول لحظة.

 

5- دعوة
نثنائيل

كانت
لكل تلميذ من التلاميذ لحظته الحاسمة وذكرى عيد دعوته الذي لن ينساه، بل وذَكَرته
وتذكره له الكنيسة كل يوم. لقد شاركناهم أعيادهم ونحس ونسعد بدعوتهم ونرى فيها عيد
دعوتنا الدائم.

كانت
البداية مع يوحنا لما انفتحت بصيرته على كلام المعمدان فيما يخص الحمل الوديع الذي
يحمل خطية العالم. فلم يطِق أن يقف بعد ذلك في مجال التوبة الضيق في محيط
المعمدان، فانطلق هو وأندراوس أخو بطرس والتحقا معاً بمعيَّة المسيح. وقد رأى
يوحنا “الحَمَلَ” لأول مرَّة فرأى فيه حياته وخلاصه ورآه المسيَّا
الموعود: “وجدنا الذي كتب عنه موسى.” (يو 45: 1)

أمَّا
نثنائيل فيبدو أنه كان أكثرهم عناداً كالسمكة التي تشاغل الصنَّارة، فلم يصدِّق
حينما أخبروه عن كيف وجدوا الذي قال عنه موسى؟ ويبدو هنا أنهم كانوا يتدارسون معاً
مَنْ هو مسيَّا ومتى يأتي. فكان جوابه لمَّا علم أن المسيح من الناصرة:
“أَمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح” (يو 46: 1)، فكان أول مَنْ
عثر في المسيح وفي وطنه. وكان فيلبُّس قد تعرَّف على المسيح قبله فلم يستطع أن
يقنع نثنائيل، غير أنه دعاه ليأخذ خبرته بنفسه: “تعال وانظر” (يو 46:
1). فلمَّا رآه المسيح قادماً رأى حَيلَه(
[1]) وعناده في الحق كإسرائيل
فسُرَّ به وقال له يداعبه: “هوذا إسرائيلي حقا لا غش فيه” (يو 47: 1)،
ورآه يصلح لملكوته. أمَّا نثنائيل فلمَّا رآه وسمعه طفر قلبه بين ضلوعه وكأن قوة
قد اندفقت فيه، وسأل المسيح من أين تعرفني؟ فلمَّا قال له المسيح إنه رآه وهو تحت
التينة (المكان الذي كان واقفاً فيه قبل أن يدعوه فيلبُّس، ويبدو أنه كان واقفاً
يفكِّر في أمر المسيَّا)، أدرك نثنائيل أن المسيح سبق أن سمعه وعرفه ورآه فصار
كأنه عريان مكشوف أمامه. وفي الحال انفتحت بصيرة نثنائيل وأدرك الذي لا يُدرك. لقد
رفعت النبوَّة رؤية نثنائيل ليُبَادِل المسيح معرفة بمعرفة “يا معلِّم أنت
ابن الله أنت ملك إسرائيل” (يو 49: 1). وتزاحمت شخصية المسيح في معرفة
نثنائيل، فرآه ليس المسيَّا تحت غلالة الجسد، بل ابن الله في أصله وملك إسرائيل في
غايته.

فارتاح
المسيح إذ أحسَّ في نثنائيل أن ملكوته قد صار مكشوفاً لعيون هؤلاء المبتدئين،
وإيمانهم بدأ يتحرَّك بحركة الكرازة، فانطلق المسيح في استعلان نفسه بقدر ما
احتملت أسماع نثنائيل بإيمانه الفتيّ، إنه: “من الآن (من هذا الإيمان وبهذه
الروح) ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان”
(يو 51: 1). المسيح النازل من السماء يصنع من جسد ابن الإنسان سلَّماً يصل الأرض
بالسماء، فيتآخى الجسد مع الملائكة ويصير هو باب السماء المفتوح. الآن نراه ولكن
بالإيمان نصعد نحن أيضاً عليه بعد أن جعله على الصليب طريقاً حيًّا حديثاً عِوَض
الحجاب، أي جسده، وبثقة ندخل إلى الأقداس ومعنا دم كفَّارته لنجد فداءً أبدياً.

ونحن نتعجَّب
كيف أن المسيح وهو يتحدَّث مع نثنائيل الذي آمن لتوِّه؛ يكشف له سرّ البداية
والنهاية، سرّ جسده الواصل إلى السماء، سر ابن الإنسان على الأرض وهو في السماء،
سر الملائكة تخدم الخلاص وقد اتخذت من تجسُّده طريقاً وسلّماً تنحدر عليه إلينا
وتصعد به إلى الآب.

وهكذا،
وبالمقارنة مع الثلاثة أناجيل الأخرى، نجد أن بدء كرازة المسيح فيها “بقرب
الملكوت والدعوة إلى التوبة” يجيء في إنجيل ق. يوحنا على مستوى سر التحقيق
بالرؤيا والإيمان، حيث فُتحت السماء واتصل جسد ابن الإنسان من الأرض بالسماء،
وبدأت الملائكة كرُسل السلام للملكوت تعمل عملها لتُسلِّم الأخبار أولاً بأول.

 

6- عُرس
قانا الجليل وتحويل الماء خمراً طيبا

[في
العهد القديم كانت العلاقة بين يهوه الله وإسرائيل كعلاقة عريس بعروس، ولكنه في غضبه خاطبهم: ” أين كتاب طلاق أمكم؟”
(إش 1: 50)

في العهد الجديد نفَّذ الله الوعد أكيداً فخطب المسيح لنفسه
البشرية. ولكن هذه المرَّة ضمّها لنفسه باتحاد الجسد. وهكذا دخلت الكنيسة كبشرية
مفدية بالدم: ” أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم
نفسه لأجلها” (أف 25: 5). لهذا بدأ خدمته باشتراكه في أفراح عُرس كمدخل صادق
لملكوته].

قانا
الجليل(
[2]) لها ذكرى حسنة في الإنجيل،
فمنها كان تلميذ المسيح الإسرائيلي الذي لا غش فيه
نثنائيل الذي يذكره إنجيل ق. يوحنا بعد القيامة:
“كان سمعان بطرس وتوما الذي يُقال له التوأم ونثنائيل الذي من قانا
الجليل..
” (يو 2: 21). فالقصة هنا ذات صلة وثيقة باختيار التلاميذ، والمسيح كان في قانا لأنه التقط منها تلميذه الذي
أحبَّه، الذي كان قد رآه
تحت التينة
يوم أخبره صديقه فيلبُّس عن المسيَّا “الذي كتب عنه موسى.” (يو

45: 1)

واسم
نثنائيل في التلمذة هو برثولماوس أو “ابن تيما” بحسب رأي الكنيسة
مؤخراً، وله في التاريخ الكنسي ذكرى حسنة، إذ يقول يوسابيوس القيصري المؤرِّخ إن
العالِم الإسكندري بنتينوس (150200م) لمَّا سافر إلى الهند وجد هناك
إنجيل ق. متى بالعبرية الذي كان قد تركه في يد برثولماوس أحد الرسل(
[3]). وتقول عنه الروايات في
التقليد الكنسي إن برثولماوس طار وهو حيّ إلى البانوبوليس في أرمينيا. وتُعيِّد
الكنيسة له في الغرب في 24 أغسطس وفي الشرق في 11 يونية. وتُعيِّد له الكنيسة
القبطية في أول توت أي 11 سبتمبر.

وبهذا
يأتي عُرس قانا الجليل هنا في هذا الموضع بالذات لدخوله ضمناً في مجال اختيار
المسيح لتلاميذه. ويُلاحِظ القارئ الرباط الوثيق الذي يربط آخر مقابلة مع نثنائيل
التي فيها كشف المسيح عن انفتاح الملكوت بانفتاح السماء، والصلة الأساسية التي
ستربط البشرية بالله في تجسُّده الذي ربط الأرض بالسماء، وعُرس قانا الجليل الذي
أكمل فيه سرّ استعلان حقيقته بعمله الفائق للطبيعة في تحويل الماء إلى خمر كعربون
لما سيتم في ملكوت الله من تحويل القديم إلى الجديد في خلقة الإنسان، وتقديم صورة
مصغَّرة لكيف سيجعل من الخمر يوماً ما فصحاً جديداً بدمه؛ حينما يشرب الإنسانُ
الجديدُ بالروح بالإيمان دمَ ابن الإنسان، حيث يكون التحوُّل بالإعلان في داخل الإنسان
الجديد. على أن حقيقة التحوُّل هنا في عرس قانا الجليل من ماء إلى خمر طيِّب تعطي
أيضاً انطباعاً مبدئياً لِمَا يحدث سرًّا في قوة المعمودية، حيث بالنداء بالاسم
والصلاة وحضور الروح القدس يصير من الماء والروح القدس تحوُّل في كيان الإنسان من
حياة طبيعية ساذجة عديمة الفعالية إلى حياة فائقة على الطبيعة، روحية ذات فعالية
لتغيير مستقبل الإنسان لتؤهِّله إلى حياة الملكوت، الذي يُعبَّر عنه بالميلاد
الثاني أو الجديد أو من فوق. لأن تحوُّل الماء في عُرس قانا الجليل كان تحوُّلاً
في طبيعة الماء ليعطيها طبيعة أخرى تماماً هي طبيعة الخمر. وكل من الماء والخمر
يحمل سرًّا من أسرار الروح. أمَّا التحوُّل في
المعمودية فيقع في طبيعة الإنسان وليس
الماء.

وتبدأ
القصة بوجود العذراء كمدعوة للعرس، فلمَّا جاء يسوع من رحلته المضنية من بيت عبرة
إلى الناصرة (حوالي 90 ميلاً) دُعي في الحال، إذ يبدو أن العرس كان لذوي قرابة. ثم
يبتدئ الحديث بفراغ الخمر من أيدي المدعوين والداعين، فتقدَّمت العذراء القديسة
مريم لترفع خجل العريس والعروس، فتوسَّلت لدى ابنها وهي واثقة من قدرته، أن يسد
هذا النقص المفاجئ، مع رغبة غامرة منها أن يُظهر نفسه للعالم. هذا كلّه أحسَّه
المسيح منها ورأى فيه شيئاً من التعجُّل لبدء استعلانه، ولكنه استجاب من أجل عوز
الموقف وحرج المناسبة وتوسُّل أُمه بعد أن أرسل لها في الخفاء رسالة عتاب:
“مالي ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد” (يو 4: 2)، لأن الأُم العزيزة لم
تكن تعلم أن باستعجالها لظهوره استقدمت ساعة موته. وهكذا حينما نتدخَّل في شئون
أولاد الله نسيء إليهم دون أن ندري!!

ولكن
لو نظرنا إلى حفلة العرس هذه بجملتها نجدها إشارة بحد ذاتها إلى أن العريس قد حضر
وهو يعلن عُرسه علانية. فالحفلة بكل جزئياتها هي استعلان بدء ملكوت الله. وعلى
القارئ أن يعرف أن المسيح لمَّا قدَّم لتلاميذه أمام الكتبة والفرِّيسيين مثلاً عن
واقع ملكوته من الرافضين قدَّمه هكذا: “إنسان ملك صنع عُرساً لابنه”
وضمَّنه بالتورية رفض الكتبة والفرِّيسيين الحضور وكان ما كان: “أهلك أُولئك
القاتلين وأحرق مدينتهم.” (مت 22: 17)

بل
وأكَّد دور العريس في مَثَل الملكوت مرَّة أخرى مشيراً إلى نفسه في قصة العشر
عذارى وحرمان الخمس الجاهلات من الدخول إلى العُرس، أمَّا الحكيمات أصحاب السهر
والزيت فدخلن مرحباً. بل ولمَّا عيَّر تلاميذ المعمدان تلاميذ المسيح بأنهم لا
يصومون، أجاب المسيح مشيراً إلى نفسه قائلاً: إن ما دام العريس معهم فلا يليق أن
يصوموا. وهكذا، وفي هذا المَثَل المبكِّر جداً في إنجيل ق. يوحنا عن بدء الملكوت،
يؤكِّد المسيح أنه عريس البشرية. لقد حضر العُرس مجرَّد حضور، عُرساً شرَّفته أُمه
بحضورها فشرَّف مقدمها وصنع خمراً جديداً كطلبها ليبهج الحاضرين بوجوده. فالخمر في
العهد الجديد تعبير عن بهجة الخلاص ومنها استقينا كأسها من يديه وكان بدمه. وهكذا
كان مناسباً لافتتاح ملكوت الله عند المسيح تحويل فرح الناس في الأرض إلى بهجة
خلاص وفرحة السماء في حدود السر المخفي حتى يأتي زمانه.

أمَّا
عن نقص الخمر وانقطاعه فجأة فكانت النبوَّة قديماً: “اصحوا أيها السكارى
وابكوا وولولوا يا جميع شاربي الخمر على العصير لأنه انقطع عن أفواهكم” (يؤ
5: 1). وها قد جاء العريس الحقيقي ليكمِّل عجز النبوَّة في حينها. وفيها نطق نفس
النبي يوئيل بالنبوَّة: “فتُملأ البيادر حنطة وتفيض حياض المعاصر خمراً..
(يؤ 24: 2). نعم وقد فاضت في عُرس قانا الجليل. فعدد الأجران التي كانت مملوءة
ماءً للتطهير ستة أجران لستة أيام الأسبوع، فالسابع راحة ليس فيه تطهير، والجرن
الواحد يسع مطرين، وبالتحويل إلى مقاييسنا تكون عدد الجالونات التي حوَّلها المسيح
من ماء إلى خمر 134 جالونا، علماً بأن الجالون يساوي 4.54 لتراً. والمعنى هنا
عميق: فانظر وتأمَّل عزيزي القارئ كيف تحوَّل ماء التطهير للجسد والأواني إلى خمر
للبهجة والفرح، وكأن الله استجاب للتطهير ودعاهم لدخول ملكوت الله الذي هو بمثابة
العرس.. ألم يقل إنه جاء ليكمِّل!!

ولكن
السؤال هو: هل صنع المسيح من الماء خمراً ليجعل شرب الخمر كالماء، أم ليؤكِّد
قدرته على تحويل الماء إلى خمر لينقل فكرهم من شرب الخمر إلى سلطانه الأعظم؟
فالآية تنتهي بهذا المعنى: “هذه بداية الآيات، فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر
مجده،
فآمن به تلاميذه” (يو 11: 2). فكل الآيات التي صنعها يسوع عملها
أساساً لا لكي ننتفع بها مادياً
لأن الماديات كلها فانية ولكن لترفع إيماننا ليلتصق به فنصبح نحن
أنفسنا آية! ونربح الحياة الأبدية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى