اللاهوت الروحي

4- نفوس مضيئة في جو مظلم:



4- نفوس مضيئة في جو مظلم:

4- نفوس مضيئة
في جو مظلم:

1) جو بشري مظلم

مقالات ذات صلة

في هذا اليوم الخالد، يوم الجمعة الكبيرة، نقف
وقفه تأمل هادئة، لنري أمامنا صورة عجيبة تجمع بين أمرين هما:

 

محبة الله وخلاصه العظيم.. في ناحية وجحود البشر
وخيانتهم للرب.. في ناحية أخرى

 

كان الله في هذا اليوم، في عمق حبه وحنانه، وفي
عمق جوده وأحسانه، يقدم للبشر فداء إلهياً عجيباً، مغفرة كاملة لكل ما صدر عن
البشرية من خطية وإثم ونجاسة، وصفحاً كاملاً عن كل تعديتهم وعصيانهم وتمردهم.. حتي
أنه قدم غفراناً لصاليبه، ووعداً بالفردوس للص اليمين. يقابل هذا الحب قسوة من
البشر بلغت أقصي حدودها، وخيانة بشعة ما كان أحد ينتظرها.. ومع أنه كان هناك فرح
في السماء، بالخلاص العظيم الذي منحه الرب للبشر، كانت – في نفس الوقت – ظلمة علي
الأرض كلها!

 

كان كل شئ يبدو وقاتماً حقاً..

 

الوثنية كانت سائدة في العالم كله. فماذا عن
اليهود الذين أؤتمنوا علي أقوال الله وعلي وعوده. (رو 3: 2)؟ وماذا عن المدينة
المقدسة التي تعبد الرب؟ وماذا عن هيكلها المقدس الذي تقدم فيه الذبائح والقرابين
وتتلي فيه الصلوات والمزامير والتسابيح؟ وماذا عنى هذا الشعب الذي يفتخر أعضاؤه
بأنهم أولاد إبراهيم “ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة
والمواعيد ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد” (رو9: 4،5).

 

للآسف، كانت أورشليم طوال هذا الأسبوع مركزاً
للتآمر والدسائس. وكان كهنتها ورؤساء الكهنة فيما يخططون لأبشع جريمة في التاريخ.

 

كانوا يخططون لقتل الفادى العظيم الذي جاء لأجل
خلاصهم! وكانوا يبحثون عن تهم يلصقونها بذلك القدوس الكامل، الذي بلا خطية وحده
الذي قدم مثالية سامية لم يعرفها العالم من قبل.. كانوا يصيحون ضد القلب الكبير
الحاني، الذي أحب الكل وأحسن إلي الكل.. باذلين كل قواهم للتخلص من المعلم الصالح
الذي جمع الكل حوله.

 

حتي التآمر، وشهادة الزور، والحسد، والقسوة، وكل
ذلك كان قد زحف إلي الكهنوت اليهودي في ذلك الأسبوع..

 

وإذا بمجمع السنهدريم العظيم، الذي يضم رؤساء
الكهنة والشيوخ والقادة وأقدس شخصيات في اليهودية.. إذا بهذا المجمع يجتمع ليلاً
ضد الناموس، ويبحث أعضاؤه عن شهود زور ليشهدوا ضد المسيح (مت 26: 60).. فلم تتفق
شهاداتهم وأقوالهم.

 

وأورشليم المدينة المقدسة، مدينة الملك العظيم،
لم تعد في تلك الفترة البشعة موضع مسرته..

 

بل أنه بكي عليها وهو يقول “يا أورشليم يا
أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك
كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا. هوذا بينكم يترك لكم خراباً (مت
23: 37- 38). نعم، لقد كان الهيكل المقدس في ذلك الحين، مركزاً للتآمر والدسائس،
وفقد قدسيته. وقد أراد الرب أن يطهره في أحد الشعانين. ولكن قاده اليهود لم
يريدوا.

 

ومن يوم الأحد بدأ التآمر، وبدأت البشرية تظهر
بشاعها.

 

كان ذلك منذ أن صرح الحسد الأسود في قلوبهم
قائلاً: “انظروا، إنكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم كله ذهب وراءه” (يو
12: 19) وأمكن أغراء واحد من الإثني عشر، تلميذ الرب للأسف الشديد! وكان أحد
البارزين، إذ كان الصندوق في يده، أو كان في قلبه. إنه واحد من الذين أختارهم الرب
ليكونوا خاصية! ولكن خان سيده ومعلمه، وباعه بثلاثين من الفضة، بثمن عبد. ولم يستح
بعد ذلك من أن يجلس معه المائدة، ويغمس لقمته في نفس صحفته، ليتحقق فيه قول الكتاب
“الذي أكل خبزي رفع علي عقبه” (مز 41: 9)

 

 وقوف
أعداء الرب ضده، ربما كان أمراً منتظراً لا يدهش أحداً. أما خيانة واحد من خاصته
له، فكان أمراً بشعاً.

 

وتزداد البشاعة أن هذا التلميذ يسلمه بقبلة!
لذلك تذكاراً لقبلة يهوذا، واحتجاجاً عليها، تمنع الكنيسة التقبيل من عشية
الأربعاء (يوم التآمر) إلي نهاية أسبوع الآلام. وكذلك فإن هى تذكاراً لهذا التآمر،
تصوم الكنيسة يوم الأربعاء من كل أسبوع.. ما أبشع الصورة التي قدمتها لنا البشرية
في هذا الأسبوع. ما أبشع معاملتها لمن أحبها وأتي لخلاصها! ومن أمثلة هذا أن
اليهود الذين كانوا يركزون كل آمالهم في التخلص من حكم الرومان، والذين نادوا
بالمسيح ملكاً يوم الأحد، لكي يخلصهم من حكم قيصر، عادوا في هذا الأسبوع يتملقون
قيصر، ويهتمون المسيح بأنه ضد قيصر (لو 23: 2)، ويلجأون إلي بيلاطس الحاكم
الروماني لكي يخلصهم من المسيح الرب ويقتله! فلما قال لهم بيلاطس في تعجب “أقتل
ملككم؟!” ردوا عليه في هوان وصغر نفس، قائلين “ليس لنا ملك إلا
قيصر” (يو 19: 15). كم كانت حينئذ مذلتهم، وكم كان كذبهم، في سبيل التخلص من
المسيح مخلصهم، الذي نادوا به ملكاً منذ أيام!!

 

بل ما أعجب رفضهم أن يكتب علي صليبه عبارة
“ملك اليهود” (يو 19: 21) مدافعين الآن عن قيصر الذي أذلهم، وملتمسين
رضا ذاك الذي خلط دمهم بذبائحهم. (لو 13: 1).

 

أن يهوذا لم يكن هو الخائن الوحيد في قصة الصلب.

 

ألم يكونوا خائنين أيضاً أولئك الذين صرخوا
قائلين (اصلبه اصلبه) (دمه علينا وعلي أولادنا) (مت 27: 25)، هؤلاء الذين شفي
المسيح مرضهم، وأخرج من بعضهم شياطين، وأطعم جياعهم، وصنع معهم معجزات لم يصنعها
أحد من قبل.. وأخيراً نسوا له كل إحساناته، وفضلوا عليه لصاً هو بارا باس..! (مت
27: 20) ولم يكتفوا بالاتهامات والشكاية إلي الحكام، إنما أشبعوه إهانات وسخرية
وتهكماً ولطماً وضرباً وبصاقاً.. وكانوا يلطمونه قائلين “تنبأ لنا أيها
المسيح من ضربك؟ (مت 26: 68). كل هذا، ضد المسيح الوديع الطيب، الذي قال عنه
الكتاب (لا يخاصم، ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف،
وفتيلة مدخنة لا يطفئ” (مت 12: 20، أش 42: 3). حقاً كم كان أبشع البشرية يوم
الجمعة الكبيرة.

 

هذا عن العامة وعن الأعداء. فماذا عن تلاميذه؟

 

يكفي أنه تحقق فيه قوله “تأتي ساعة – وقد
أتت الآن – تتفرقون فيها كل واحد إلي خاصته، وتتركونني وحدي،” (يو 16: 32) من
كان يظن أن الأحد عشر القديسين يتركونه أيضاً وحده! ولكن هذا هو الذي حدث في بستان
جثسمانى، في أشد أوقاته صراعاً عنا تركه أعمدة تلاميذه، أعني الثلاثة الكبار، بطرس
ويعقوب ويوحنا، هؤلاء الذين قالوا لهم: “امكثوا ههنا واسهروا معي” (متي
26: 38). فناموا وتركوه. ومع أنه عاتبهم أكثر من مرة قائلاً (أما قدرتم أن تسهروا
معي ساعة واحدة)، إلا أنه في تلك الساعة الحرجة، “كانت أعينهم ثقيلة”
(مت 26: 43). وعندما قبض عليه، نقرأ في الإنجيل عبارة مؤلمة هي:

 

“حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا”
(مت 26: 65).

 

ومع أن هذا كان موفق البشرية – في أعلي قممها –
من السيد المسيح، إلا أنه لم يغضب بسبب أن تلاميذه تركوه وهربوا، بل أنه هو أيضاً
أراد لهم أن يمضوا حفظاً علي سلامتهم، لكي لا يصيبهم ضرر وقتذاك بسببه. فليفعل به
الأعداء ما يشاءون، أما تلاميذه فليظلوا سالمين. وهكذا قال للجند الذين أتوا للقبض
عليه: أنا هو. فإن كنتم تطلبونني، دعوا هؤلاء يذهبون. ليتم القول الذي أعطيتني لم
أهلك منهم أحد (يو 18: 8،9).

 

وعندما وقف المسيح للمحاكمة، لم يقف معه احد.

 

لم يدافع عنه احد، وهو الذي دافع عن أشر
الخطاة.. لم يوجد شجاع واحد يقول فيه كلمة حق. ولم يوجد شجاع واحد يحتج علي شهادات
الزور.. وقبل السيد المسيح هذا الظلم، ولم يدافع عن نفسه. وفي فمه نبوءة أشعياء
النبي عنه “قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد” (أش 63:
3).

 

والمؤلم أن تلاميذه لم يتركوه فحسب، بل قال عنهم
كلكم تشكون في، في هذه الليلة. (مر 14: 37)

 

ما أقسى علي القلب المحب، أن يشك فيه محبوه،
ومحبوه كلهم، وأن يجرح في بيت أحبائه (زك 13: 6). بل ما أقسى أن ينكره أحباؤه! من
يستطيع أن يحتمل هذا ولكن السيد المسيح أحتمل أن ينكره بطرس ثلاث مرات في ليلة
واحدة، أمام جارية، ويسب ويلعن ويجدف ويقول لا أعرف الرجل (مت 26: 70- 74). إلي
هذا الحد المؤلم، وصلت البشرية يوم الجمعة الكبيرة.

 

الأعداء تآمروا وأسلموه للموت. والأحباء خافوا
وتركوه وهربوا.

 

ووقف المسيح وحده، يحتمل خيانة الأردياء، ويحتمل
ضعف الأحباء، ويشفق علي هؤلاء وأولئك. ويقول لله الآب “يا أبتاه أغفر لهم،
لأنهم لا يريدون ماذا يفعلون). كان السيد المسيح هو النور الوحيد وسط هذه الظلمة
البشرية. وقد قال للمتآمرين عليه:

 

“هذه ساعتكم، وسلطان الظلام” (لو 22:
53).

وكان الظلام يعمل بكل قوته. وبدأت النعمة تعمل.

 

2) النعمة تعمل

حقاً كانت الصورة قاتمة، يسيطر عليها سلطان
الظلام. ولكن علي الرغم من كل هذا ظهرت نتائج واضحة لعمل النعمة في الناس. وكما
قال الرسول:

 

“حيث كثرت الخطية، أزدادت النعمة
جداً” (رو5: 20).

 

وهكذا وجدنا أضواء تظهر في هذا اليوم. بعضها كان
مضيئاً حقاً، واستمر كنور مضيء وسط الظلمة. والبعض أضاء حقاً واستمر كنور مضيء وسط
الظلمة. والبعض أضاء قليلاً ثم خبا واستلم لسلطان الظلام. والبعض أضاء ثم أخفاه
الظلام ثم رجع لضيائه مرة أخرى، واستمر نوراً وتوهج..

 

أما هذا النوع الأخير، فيمثل القديس بطرس
الرسول.

 

 كان هذا
القديس في منتهى الحماس، عملت فيه النعمة بقوة في هذا اليوم. وقد تبع السيد المسيح
حتي بعد القبض عليه. وظهر حماسه في أنه استل سيفه دفاعاً عن معلمه، وضرب عبد رئيس
الكهنة فقطع أذنه.. حقاً أنها وسيلة خاطئة، وقد وبخه الرب عليها قائلاً له: رد
سيفك إلي غمده. لأن من أخذ بالسيف، بالسيف يأخذ (مت 26: 52) ولكن علي الرغم من كل
هذا، كانت الغيرة المقدسة موجودة، والشجاعة أيضاً كانت موجودة، وكذلك الإخلاص
والوفاء. ولكن هذا كله لم يستمر. وسرعان ما ضعف بطرس، وجرفه الخوف، وأنكر ثلاث
مرات أنه يعرف المسيح. وسب ولعن وجدف! ولو أن النعمة عادت وعملت فيه، فندم وبكي
بكاء مراً. وبالتوبة أضاء ثم توهج فيما بعد، بعد حلول الروح القدس،

 

ومن الذين عملت فيهم النعمة، ثم جرفهم التيار:
بيلاطس.

 

لا شك أن النعمة كانت تعمل أيضاً في بيلاطس
البنطى. ولا شك أنه استجاب لها في بادئ الأمر. كان هناك صوت قوى في دخله يحذره، كي
لا يقع في خطأ.. ولعل النعمة عملت أيضاً في إمرأة بيلاطس عن طريق أحد الأحلام.
وهكذا أرسلت إلي زوجها تقول له “إياك وذلك البار لأني تألمت اليوم كثيراً في
حلم من أجله” (مت 27: 19). ومن دلائل عمل النعمة في بيلاطس أنه قال عن السيد
المسيح ثلاث مرات “لا أجد عله في هذا الإنسان” (لو 23). ويقول الكتاب في
هذا “ودعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب، وقال لهم: قد قدمتم إلي هذا
الإنسان كمن يفسد الشعب. وها أنا قد فحصت قدامكم، ولم أجد في هذا الإنسان علة مما
تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضاً، لآني أرسلتكم إليه. وها لا شئ يستحق الموت صنع
منه. فأنا أؤبه وأطلقه” (لو 23: 13-16) (لو 23: 4) “وقال لهم ثالثة، فأي
شر عمل هذا. إني لم أجد فيه علة للموت). وكان يريد أن يطلق يسوع بلاً من بارا باس
(لو 23: 20) (يو 18: 39) وقد شهد بيلاطس عن الرب يسوع أنه بار. ولكن خوف بيلاطس
علي وظيفته، غلب عليه، وكذلك رغبته في مجاملة اليهود. فلم يستمر في استجابته
للنعمة. والنور الذي ظهر منه، عاد فخبا، واستسلم لسلطان الظلام. وهكذا أسلمهم الرب
يسوع ليصلب. وفي محاولة يائسة لإرضاء ضميره، غسل يديه بماء وقال “إني برئ من
دم هذا البار” (مت 27: 24). وقد تذكر القديس بطرس محاولة بيلاطس لإطلاق
المسيح، فقال لليهود بعد معجزة شفاء الأعرج).. يسوع الذي أسلمتموه. أنتم وأنكرتموه
أمام وجه بيلاطس وهو حاكم بإطلاقه. ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يوهب
لكم رجل قاتل” (أع 3: 13، 14). عمل النعمة في بيلاطس جعله يقتنع ببر الرب
وبراءته، ويرغب في إطلاقه. ولكن بيلاطس لم يستجب طويلاً لعمل النعمة.

 

أن عمل النعمة في إنسان، لا يرغب علي فعل الخير.
إنما ينبغي أن يستجب لعمل النعمة، ويستمر في الاستجابة.

 

ومثال بيلاطس واضحاً جداً. استطاعت النعمة أن
تقود بيلاطس حينما كان مستجيباً لها. ولكنه لما فضل أن يستجب لها لرغباته الخاصة،
تركته النعمة إلي حرية إرادته، ولم ترغمه علي عمل الخير. لأن نعمة الإرشاد، لا
تلغي نعمة الحرية.

 

مثال آخر لعمل النعمة، في يهوذا الاسخريوطى..

 

حتي يهوذا الخائن، لم يتركه النعمة، وظلت تعمل
فيه، وأتت بنتائج عجيبة جداً. فشعر يهوذا بأنه قد أخطأ،، ووبخه ضميره، وأراد أن
يصحح ما يستطيعه من أخطائه، فذهب إلي رؤساء الكهنة والشيوخ، وأرجع إليهم الثلاثين
من الفضة، واعترف أمامهم بأنه قد أخطأ، فقال “أخطأت إذا أسلمت دماً بريئاً.
وطرح الفضة في الهيكل وأنصرف (مت 27: 3-5). إلي هنا، كانت النعمة ناجحة في عملها،
وكان يهوذا مستجيباً لها.

 

ولكن نلاحظ أن يهوذا لم يتحرك ضميره إلا أخيراً..

 

بعد أن “أوثقوا المسيح ومضوا به ودفعوه إلي
بيلاطس البنطى)، بعد هذا يقول الإنجيل “حينئذ لما رأي يهوذا الذي أسلمه أنه
قد دين، ندم..” (مت 27: 1-3). “لما رأي أنه قد دين” وانتهي الأمر..
حينئذ ندم! لقد أحتمل ضميره الخائن أن يسلم. ولكن نتائج خيانته كان فوق الاحتمال،
فاستجاب لتوبيخ النعمة، وندم.. ولكن الشيطان أنتهر فرصة الندم الشديد الذي اشتعل
في ضمير يهوذا. وجعل شدة الندم تتحول إلي يأس، فمضي يهوذا وشنق نفسه. والنور الذي
أضاءت به النعمة، قضي عليه سلطان الظلام..

 

3) نفوس كانت مضيئة

علي الرغم مما ظهر يوم الجمعة الكبيرة من خيانته
وتأمر في جانب، وضعف وخوف وإنكار في جانب آخر. وعلي الرغم مما ظهرت به البشرية في
قسوتها التي سيطر عليها سلطان الظلام، إلا أنه كانت توجد في هذا اليوم نفوس مضيئة،
نذكرها بكل فخر في هذا اليوم ونحييها. تحيى أولاً أولئك الذين وقفوا إلي جوار الصليب
مع السيد المسيح، وثبتوا معه إلي آخر لحظة في قصة الصلب.

1- نحيى القديسة العذراء مريم.

2- وأختها مريم زوجة كلوبا.

3- والقديس يوحنا الحبيب.

4- والقديسة مريم المجدلية.

هؤلاء الذين رافقوا المسيح حتي الصليب، ولم
يتخلوا عنه في أخرج أوقاته. لا خافوا من بيلاطس، ولا من هيرودس، ولا من حنان
وقيافا، ولا من الجند، ولا من كل القوى الثائرة وجمهور الشعب الصاخب الذي قال
أصلبه أصلبه..

 

يقول الإنجيل المقدس “وكانت واقفات عند
صليب يسوع: أمه، وأخت أمه مريم زوجه كلوبا، ومريم المجدلية” (يو 19: 25″
وقفت هؤلاء النسوة القديسات معه إلي جوار صليبه، وليحدث ما يحدث. وقفن معه في ألمه
وضيقه وصلبه.. ليس في وقت صنعه المعجزات، إنما في وقت ظن فيه الرومان واليهود أنه
قد هزم، وأنه في ضعف، وأنه لم يستطيع أن يخلص نفسه، وأن المجتمع اليهودي قد استطاع
أخيراً أن يتخلص منه..‍

 

وقف هؤلاء النسوة القديسات معه بكل القلب وكل
الحب، ومعهن يوحنا الحبيب، في أثناء تعيير الناس له، واستهزائهم به واعتدائهم
عليه، وفي أثناء تسميره علي الصلب. وكن معه في كل الآمة.. قلوباً مخلصة محبة إلي
جواره.. لم يزعزع إخلاصها زوال مجده، أو ما يظنه اليهود من زوال مجده. أن حبه هو الذي
يربطهم به، وليس المجد..

5- وبالمثل نحيى باقي النسوة القديسات..

 

 4)
الجموع التي تبعته من بعيد

أولئك الذين قيل عنهم في الإنجيل “وتبعه
جمهور كثير من الشعب، والنساء اللواتي كن يلطمن أيضاً وينحن عليه” (لو 23:
27) وأيضاً “وكان جميع معارفه ونساء كن قد تبعته من الجليل، واقفين من بعيد
ينظرون ذلك” (لو 23: 49). وقد قال القديس متي الإنجيلي عن هؤلاء النسوة
“وكانت هناك نساء كثيرات ينظرون من بعيد، وهن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه.
وبينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي” (مت 27، 55،
56). وقد ذكرهن أيضاً مرقس الرسول (مر 15: 40، 41). نحيي كل هؤلاء النسوة فيما
أظهرت النسوة فيما أظهرنه من حب ومن إخلاص، وفي كل خطوة خطونها وهن يتبعن المسيح.
ونحيى أيضاً النسوة اللائى أخذن الأطياب وذهبن اللائي قبره. وهن يعرفن أنه مغضوب
عليه من رؤساء الكنهة ومن الشيوخ ومن الكتبة والفريسيين، ومحكوم عليه من الدولة..
وبطرس نفسه خاف وأنكر أمام جارية. أما هؤلاء النسوة فأظهرن مشاعر الحب من نحوه في
أحلك الأوقات، وليكن ما يكون. إن الحب إن كان عميقاً، لا يبالى بالخوف. وقد ظهر
وفاء النسوة للسيد المسيح في الوقت الذي تخلي فيه الجميع عنه. تحية لكل واحدة
منهن..

 

5) نُحيّي أيضاً القديس يوسف الرامي

هذا الذي – في ذلك الوقت العصيب – “تجاسر
ودخل إلي بيلاطس وطلب منه جسد يسوع” (مر 15: 43).. وأخذه “أنزله، ولفه
بكتان نقي” (ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجراً
كبيراً علي باب القبر” (مت 27: 57-60) (لو 23: 52، 53). موقف يوسف الرامي
كانت فيه شهامة ورجولة.. ما أكثر الذين ساروا وراء المسيح في مجده، ولكننا في ألمه
لم نبصر أحداً منهم فكأنهم كانوا يتبعون المجد وليس الشخص.. أما يوسف الرامي، فذهب
إلي بيلاطس الوالي الروماني، ليطلب منه جسد إنسان حكم عليه بيلاطس، وأسلمه للموت،
وصلبه اليهود خارج المحلة لئلا ينجس المحلة وكان رؤساء الكهنة يتتبعون أنصار هذا
المصلوب لفتكوا بهم، حتي هرب التلاميذ واختفوا. أما يوسف فلم يهرب، ولم يختف.
وإنما “تقدم إلي بيلاطس وطلب جسد يسوع). هذا النبل يهز النفس من الداخل.
وبهذه المناسبة، نذكر كلمات جميلة قالتها الأناجيل عن يوسف الرامي. قال عنه القديس
لوقا الإنجيلي “وإذا رجل أسمه يوسف، وكان مشيراً ورجلاً صالحاً وباراً. وهذا
لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم. وهو من الرامة مدينة اليهود. وكان هو أيضاً ينتظر
ملكوت الله” (لو 23: 50، 51)، وقال عنه مرقس الرسول أنه كان مشيراً شريفاً
منتظراً ملكوت الله (مر 15: 43). وقال عنه القديس متي الإنجيلي “ولما كان
المساء، جاء رجل غني من الرامة أسمه يوسف. وكان هو أيضاً تلميذاً ليسوع” (مت
27: 57).. هنا ظهر تلاميذ يسوع الحقيقيون، الذين في قلوبهم حب وشجاعة. والذين لم
يهزهم الخوف في وقت هز فيه الكثيرين.. والعجيب أن الأناجيل لم تكن قد ذكرت أسم
يوسف الرامي من قبل لكنه ظهر في الوقت المناسب ليعمل عملاً لم يجرؤ عليه أحد.

 

6) نيقوديموس

نحيي في هذا اليوم أيضاً في هذا اليوم أيضاً
نيقوديموس:

نيقوديموس الفريسى وعضو مجمع السنهدريم الأعلى،
هذا أيضاً جاء واشترك مع يوسف الرامي في تكفين جسد المسيح. ويقول في ذلك القديس
يوحنا الإنجيلي “وجاء أيضاً نيقوديموس الذي أتي أولاً إلي يسوع ليلاً، وهو
حامل مزيج مر وعود نحو مئة مناً. فأخذا جسد يسوع، ولفاه بأكفان مع الأطياب” ودفناه
(لو 19: 39- 42).

 

كان في موقفه خطورة، لأنه عضو في مجمع السنهدريم
الذي حكم علي المسيح ظلماً، وهو لم يكن موافقاً لهم. ولكن لسان حال نيقوديموس
يقول: سأعلن تبعيتي للمسيح، حتي وهو ميت في نظر الناس ومصلوب ومحكوم عليه وقد أحصي
مع الأثمة. أنا لا أتخلي عنه في هذا الوقت، بل أعلن تبعيتي له، متحملاً كل نتائج
هذا العمل. حقاً إنها نفوس كريمة نبيلة، أضاءت في هذا اليوم.. لو إن المسيح جاء
الآن بيننا وأقام ميتاً، لكنا نري الآلاف تصرخ وتقول كلنا أتباع المسيح. أما أن
يكون المسيح مصلوباً كأثيم، وقد مات ثم يأتي واحد من الرؤساء ويقول أنا من أتباع
ويأخذ جسده ويكفنه فهنا النبل والرجولة والحب وهذا ما فعله يوسف الرامي ونيقوديموس
والنسوة. نحيي هذه النفوس المضيئة في هذا اليوم، ونحيي معها القديس سمعان
القيرواني.

 

7) سمعان القيرواني

هذا الذي لما وقع المسيح تحت ثقل الصليب في يوم
الجمعة الكبيرة جاء سمعان القيراونى هذا وحمل الصليب عنه. فاشتراك مع المسيح في
حمل الصليب (لو 23: 26). المسيح الذي يقول “تعالوا إلي يا جميع المتعبين وأنا
أريحكم)، لما كان في تعب بالجسد، سمح لهذا القديس أن يأتي ويريحه.. “ويدخل في
شركة الآمة”. هنا ويصمت القلم. لا يجسر أن يقول أكثر..

نحيى في هذا اليوم أيضاً، رجلاً أممياً هو قائد
المئة (القديس لنجينوس).

 

8) قائد المائة (القديس لونجينوس)

هذا الرجل Saint
Longinus
الذي هو مرتبط بالعسكرية
وأحكامها، وهو إنسان له صفة رسمية في الدولة، ومكلف من الوالي الروماني بحراسة هذا
المحكوم عليه بالإعدام والمنفذ فيه الحكم.. شهد هذا القائد عن المسيح أمام الجميع
ومجد الله قائلاً “بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً” (لو 23: 47). وقال
أيضاً “حقاً كان هذا ابن الله” (مت 27: 54، مر 15: 39). وقد آمن هذا
القائد فيما بعد وصار شهيداً. والكنيسة تذكرة في السنكسار في يومين هما:

أ‌- 23 أبيب: عيد استشهاد القديس لونجينوس قائد
المئة (قطع رأسه).

ب‌- 5 هاتور: عيد ظهور رأسه المقدسة.

 

تحية لهذا القديس، كنفس مضيئة أنارتها النعمة في
هذا اليوم وتحية لشهادته عن السيد المسيح. إننا نحييه إلي جوار الصليب، ونحيى معه
علي الصليب: اللص اليمين.

 

9) اللص اليمين

إنه قديس آخر بين القديسين، يكفيه أن الرب قد
قال له ” الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43). هذا
اللص كان يعير السيد المسيح مع زميله، كما ذكر القديسان متي ومرقس (مت 27: 44، مر
15: 32). ثم عملت النعمة، وبدأ قلبه يتغير وهو علي الصليب. فلما رأي زميله يجدف
علي المسيح “انتهره قائلاً: أولاً تخاف أنت من الله، إذ أنت تحت هذا الحكم
بعينيه. أما نحن فبعدل (جوزينا) لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل
شيئاً ليس في محله” (لو 23: 39-41). ولم يكتف بهذا أنه اعترف بخطاياه
وباستحقاقه للموت، موبخاً لزميله، ومدافعاً عن السيد المسيح، إنما اعترف أيضاً
بالسيد المسيح رباً وملكاً وقادراً علي أن يخلصه، فقال له “اذكرني يا رب متي
جئت في ملكوتك”. وهكذا آمن واستحق الخلاص. ومات مع المسيح، فاعتبر موته هذا
معمودية له. نحييه في هذا اليوم الذي أنكر فيه التلميذ، واعترف اللص. نحييه
لاستجابته لعمل النعمة وإيمانه، علي الرغم من رؤيته للمسيح في آلامه مصلوباً معه
ومعبراً من الجميع..

 

أن الكنيسة تلقب هذا القديس باللص الطوباوي،
وتحييه في طقس الجمعة الكبيرة بمديح طويل ولحن (أمانة اللص اليمين). أنه من النفوس
المضيئة في الفردوس علي الرغم من أن لقب (لص) سيظل يتبعه وهو في ظل القديسين في
فردوس النعيم. ولكنه لص استطاع أن يسرق الفردوس في آخر لحظات حياته..

 

10) جماعة من غير البشر

نحيى أيضاً في هذا اليوم جماعة من غير البشر

نحيى من الطبيعة الشمس التي أظلمت، الأرض التي
تزلزلت، والقبور التي تشققت، وحجاب الهيكل الذي انشق. إن الطبيعة التي أظهرت عدم
رضاها علي ظلم الأشرار، حيت المسيح بالأسلوب الذي يناسبها.. وكانت نقطة مضيئة في
هذا اليوم. وربما بسببها آمن قائد المئة، كما آمن اللص اليمين، وآمن فيما بعد القديس
ديونيسيوس الأريوباغي (أع 17: 34). لقد انطبق علي الطبيعة في هذا اليوم، قول السيد
المسيح “إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ” (لو 19: 40). كل هذه أضواء في يوم
الجمعة الكبيرة، ولكن:

 

النور الأعظم الحقيقي، كان هو نور المسيح
وفدائه..

 

كان يشع منه نور الحب، ونور البذل والفداء، أكثر
من الشمس كان مشرقاً في هذا اليوم بطريقة قضي علي سلطان الظلمة. وبالموت داس
الموت. وكما أشرق هنا الحب، أشرق أيضاً علي الراقدين في الجحيم، علي رجاء. فنقلهم
إلي الفردوس.. وأشرق أيضاً كنور أمام الآب، وأعطي به اجمل صورة للإنسانية الكاملة،
غطي بها علي أخطاء البشرية كلها، وكان محرقة وقود رائحة سرور للرب.. ونحن نقف
أمامه في إشراقه العجيب، وهو مسمر علي الصليب ونقول له تسبحتنا المستمرة:

لك القوة والمجد والعزة والبركة إلي الأبد آمين،

يا عمانوئيل ملكنا وإلهنا.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى