الارشاد الروحىالبنيان

الحياة المسيحية على مستوى السرّ كخبرة وحياة

في الواقع الاختباري المُعاش، يُقدم لنا الله كلمته لا على مستوى الفكر والمعلومة بل على مستوى أنها خارجه من فمه كقوة وحياة متدفقة من شخصه إلينا لتُتمم قصده فينا، وقصد الله هو تشكيلنا على صورته هو ليرفعنا إلى المستوى الفائق الذي للطبيعة الإلهية، هذا الذي منحنا إياه بتجسده كالتدبير، لذلك نستطيع أن نقول أن الله لم يُقدم لنا الكتاب المقدس ولا التقليد المسيحي عموماً من جهة الفكر والمعلومة [ رغم أهميتها ]، لأن الله ليس بصاحب معلومات، بل يُعطي ما لهُ وبكونه هو الحياة فهو يُعطي حياة، لذلك من يبحث ويُفتش عن معلومة ليُقدم للناس ما هو جديد، ويظن أن هذه هي خدمة عُظمى، فأنه يكون قد فقد جوهر الحياة المسيحية التي تُقدم حرية مجد أولاد الله في المسيح يسوع، لأن المسيحية قائمة على أساس، وهذا الأساس هو صخر الدهور، شخص الكلمة المتجسد، فالله لم يُقدم لنا نظريات ولا أفكار فلسفية مقننه لكي نعتنقها ونتكلم عنها، بل قدم لنا ذاته لكي به نحيا فعلاً ونتحرك ونوجد، لنصير نحن أنفسنا شهادة حيه لحضوره الخاص وعمل قدرته، لذلك كل واحد فينا هو شاهد وشهيد محبة الله، يشهد بإيمانه الحي من خلال ثمر عمل روح الله الظاهر في أعمال صالحة في حياته، أي أن حياته هُنا على الأرض تشهد: أن الله عاملاً فيه رغم عيوبه ونقائصه، لأنه يعترف دائماً بجزيل فضل نعمته الغنية التي اجتاحت نفسه كإعصار، إذ أنها لم تكن بالنسبة له معلومة، بل قوة فاعله في حياته، مُغيره ومجدده لقلبه من الداخل، اي على مستوى كيانه البشري ككل، وبالتالي هي ظاهره أمام الجميع أنها ليست بقدرة أو قوة بشرية، بل هي تفوق كل إمكانيات الإنسان الطبيعي، لأنها من فوق، من عند أبي الأنوار، لذلك هي سرّ الله الفائق المُقدم للإنسان…

ولكن كما قلنا سابقاً أن كلمة “سرّ” تعني ميستيكي Mystical = μυστική، وهو اللفظ اليوناني الذي يُترجم عادة بكلمة ” سري “، مع أن كلمة ” سري ” باللغة العربية لا تعطي المعنى الدقيق للفظ اليوناني الأصيل للكلمة، فكلمة سري في اللغة العربية تعني: [الخفي] وتُفهم على أساس الشيء المخفي والغير ظاهر !!!
ولكن كلمة ميستيكي Mystical = μυστική في الحياة الروحية تعني: الاختبار الباطني المباشر لله ومعرفة الإلهيات من خلال الثيئوريا θεωρία أي ” التأمل أو النظر والرؤيا في الإلهيات “، ولا يُشترط أن يكون ذلك من خلال رؤية مناظر فائقة الطبيعة، ولكن هي حالة خضوع العقل والإرادة كلياً لله واستعداد القلب للطاعة، أي طاعة الإيمان.
وترافق المستيكية (أو السرّ المسيحي) النسك: أي ضبط النفس وقمع الجسد واستعباده للروح القدس، أي بمعنى إيماني حي = الطاعة والخضوع، كإعداد فقط لقبول الاختبار السري (المستيكي) الذي هو في حد ذاته نعمة وهبة. فالحياة المستيكية هي متاحة لكل إنسان يعيش مسيحيته بإخلاص وغيرة حسنة وجهد متواصل وبالتزام المحبة بحفظ وصية الله …

ولكلمة ميستيكي Mystical = μυστική معنى آخر هو: اقتناء أو توصيل معنى روحي أو حقيقة روحية محتجبة وراء كلام أو مظاهر مرئية. وفي هذا المعنى تكمن التفسيرات الميستيكية لبعض آيات الكتاب المقدس، وكذلك معنى كلمة: الأسرار μυστήριον = mysterion الكنسية – كما ذكرنا من قبل في موضوعات متنوعة عن الأسرار على صفحات المدونة – وغيرها من الأسرار اللاهوتية.

لذلك يا إخوتي علينا أن نسعى – بكل جديه – لنحصل على الأسرار الإلهية وندخل في السرّ الأعظم هدف إعلان الأسرار الإلهية كلها، وهو سرّ حضور الله وسكناه فينا، وهذا لا يأتي بالخيال أو التمني أو الأفكار والوعظ أو حفظ معلومات، بل بتوبة القلب من الداخل وحفظ الوصية بمحبة تزداد لله يوماً بعد يوم، بالصلاة مع الطلبة وقراءة الكلمة بإيمان أنها روح وحياة تغير القلب وتجدد النفس وتشفي القلب المعتل، لذلك نبهنا الرب يسوع ورسم لنا الطريق لكي نسير فيه، لذلك علينا أن ننتبه لخطوتين مهمين جداً، هذا أن كنا فعلاً بدئنا نسير في طريق البرّ وآمنا إيمان حقيقي حي بربنا يسوع:
(1) ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين (متى 24: 12)
(2) الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا أُحبه وأُظهر له ذاتي… أن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً (يوحنا 14: 21و 23)

(1) لكثرة الإثم تبرد المحبة: فالاستهانة بالخطايا وممارستها والتمادي في الوقوع بإرادة واعية، أي بالمعنى الكتابي [ التدبير لأجل الشهوات ]، هو كفيل أن يبرد المحبة ويربك النفس ويجعلها تتعثر في الطريق، بل قد يفقدها كل حركة روحية فتخلع الرب يسوع وتلبس قوة الشهوات فتطعن نفسها بالأوجاع حتى تصل لغشاوة البصيرة التامة إذ أن من كثرة اجتيازها في الشر تخرُّب ويتقلص حبها لله وقد يصل للعدم، لذلك قال الرسول: [ بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات ] (رومية 13: 14)

(2) الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني: المحبة لها مقياس خاص عند الله، وهو [ حفظ الوصية ]، فمن يحب يبذل نفسه لأجل من يحبه، يطيع كل وصية يوصيه بها، مثل العروس الذي تحفظ وصايا حبيبها الخاص ولا تكسر له كلمه، وهذا بتلقائية بدون تغصب أو ضيق، بل من أجل المحبة مستعدة أن تتخلى عن كل شيء، لذلك مكتوب: [ أسمعي يا بنت وانظري وأميلي أُذنك وانسي شعبك وبيت أبيك. فيشتهي الملك حُسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له ] (مزمور 45: 10 – 11)
لذلك يا إخوتي النفس التي تدخل في علاقة شركة مع الله لا تتخذ شكل الدين وتصبح متدينة، لأن التدين تغصُّب يصحبه قلق واضطراب في النفس، لأنها تُريد حريه ولا تجد، لأنها مُقيده بصورة الدين والتدين [ أفعل هذا ولا تفعل ذاك، كل ولا تأكل، حرام وحلال.. الخ ]، وهذا يختلف عن المسيحي الحي بالله ولأجل الله، لأنه دخل في علاقة حرية مجد أولاد الله في داخل شخص المسيح الكلمة، فهو ارتضى أن تكون نفسه عروس، لذلك بمحبة وتقدير عظيم يقبل الوصية لأنها مقدمه من حبيبه الخاص ويجد فيها قوة الحرية لذلك يطيعها بفرح ومسرة شديدة، ربما يدخل في ضيق بسبب ضغط العالم [ في العالم سيكون لكم ضيق ]، لكنه لا يتضايق قط من وصايا حبيبه الخاص مهما ما كانت التكلفة أو حدود البذل، بل قلبه مستعد أن يقدم كل شيء حتى حياته على الأرض ذبيحه [ لأننا من أجلك نُمات اليوم كله، قد حُسبنا مثل غنم للذبح ] (مزمور 44: 22، رومية 8: 36)

عموماً بدون تطويل علينا أن ننتبه جداً في أن نبتعد بل نهرب من كل إثم لأنه خطير للغاية [ أهرب من الخطيئة هربك من الحية فأنها أن دنوت منها لدغتك ] (سيراخ 21: 2)، [ وأما أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا واتبع البرّ والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة ] (1تيمثاوس 6: 11)
وعلينا دوماً أن نلتصق بالرب بكل قوتنا ونحفظ وصاياه لأنها ليست ثقيلة لأنها بالله تكون معموله: [ من التصق بالرب فهو روح واحد ] (1كورنثوس 6: 17)
ليتنا نكتب سيرتنا هكذا: بصلاة الإيمان والخبرة [ التصقت نفسي بك، يمينك تُعضدني ] (مزمور 63: 8)، وبالأعمال التي هي ثمرة الإيمان الحي [ والتصق بالرب ولم يحد عنه بل حفظ وصاياه التي أمر بها الرب موسى ] (2ملوك 18: 6)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى