بدع وهرطقات

عقيدة الكتاب المقدس حصراً



عقيدة الكتاب المقدس حصراً

عقيدة
الكتاب المقدس حصراً

Sola Scriptura” مناقشة لاهوتية

عدنان
طرابلسي

 

مقالات ذات صلة

ليس
من المبالغة القول إن عقيدة “الكتاب المقدس حصراَ” –ترجمة اصطلاحية- هي
حجر الزاوية أو العمود الفقري للاهوت البروتستانتي. فكل إنسان يؤمن بتعاليم
الإصلاح البروتستانتي (سواء أكان يدعو نفسه بروتستانتياً أو لا) قد بنى فكره
اللاهوتي على هذا المبدأ. وأكثر من أية عقيدة أخرى. فإن عقيدة “الكتاب المقدس
حصراً” هي التي تعرِّف البروتستانتية. ومثل العقائد البروتستانتية الأخرى،
فإن عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” تعني أشياء مختلفة لجماعات كنسية
بروتستانتية مختلفة. لهذا فمن المستحيل أن نحدّد فهمنا لهذه العقيدة التي يقبلها
بشكل شامل جميع البروتستانت في كل مكان. فمن جهة لدينا الإصلاحيون مثل
“لوثر” و “كالفن” الذين علّموا أن الأسفار المقدسة هي المصدر
الكافي للمعرفة الخلاصية؛ ومن جهة أخرى يوجد إصلاحيون متطرّفون يصرّون على أن
الأسفار المقدسة لا تؤلّف فقط المصدر الكافي للتعليم ولكنها أيضاً المرشد الأوحد
للعبادة و لحياة الشركة.

 

هكذا
حسب هذا النوع من تعليم أو تعريف عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” فإن
الكتاب لا يحوي فقط على كل شيء نود أن نعرفه أو يمكن أن نعرف عنه، بل على كل شيء
نحتاج أن نعرف عنه.

 

مهما
يكن تعريف عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” لدى البروتستانت فإنه يمكننا
القول إن كلا التعريفيين يعارضان عزو أية سلطة للتقليد الكنسي. وهكذا فإن عقيدة
“الكتاب المقدس حصراً” ليست مجرد تأكيد على الكتاب المقدس بقدر ما هي
مجرد تأكيد على رفض التقليد الكنسي وحياة الروح القدس وشهادته في الكنيسة. بمعنى
آخر، بما أن عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” هي وليدة الحركة المدعوة
بالحركة الإصلاحية التي انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية، وبما أن هذه الحركة كانت
تهدف إلى قطع أية علاقة أو صلة لها بالكنيسة الكاثوليكية من حيث الشكل و المضمون
والتعليم، ومن حيث العبادة و العقائد و اللاهوت و التنظيمات الكنسية الإدارية
المختلفة، لهذا رفضت هذه الحركة الإصلاحية كل ما يمت بأية صلة من الصلات إلى
الكنيسة الكاثوليكية، ولم تقبل سوى بالكتاب المقدس كمصدر أوحد للتعليم.

 

لقد
ظن الإصلاحيون أنه بعملهم هذ، بالعودة إلى الكتاب المقدس وحده وقبوله كمصدر أوحد،
أنهم يعودون إلى أصل المسيحية وأصل الكنيسة الأولى. ربما كانت غيرتهم صادقة لكن
نتيجتها كانت وخيمة. فالشيء المضحك و المثير للسخرية هنا هو أن هذا المبدأ نفسه
الذي استعمله الإصلاحيون للعودة إلى نقاوة الكنيسة الأولى لم يكن (هذا المبدأ
نفسه) معروفاً في الكنيسة الأولى! فعقيدة أو فكرة “الكتاب المقدس حصراً”
هي من اختراع حركة الإصلاح في القرن السادس عشر ولم يذكر أو يؤكد أي أب من آباء
الكنيسة أو أي مجمع من مجامع الكنيسة الأولى أن الأسفار المقدسة بحد ذاتها وبدون
أية مرجعية للكنيسة هي قاعدة كافية للعقيدة و الإيمان. حتى أن الكتاب المقدس نفسه
ينقض عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” كما سنرى. إذ، إن عقيدة “الكتاب
المقدس حصراً” الإصلاحية كانت اختراع الإصلاحيين أنفسهم. هذا يعني أنه منذ
يوم العنصرة المجيدة وحتى 31 تشرين الأول 1517 أي حوالي 1488 سنة، فإن هذا النوع
من اللاهوت الذي يتبجّح به البروتستانت على أنه لاهوت أصيل، لم يوجد قط. بمعنى آخر،
إن الكنيسة الأولى التي كان يريد البروتستانت أن يعودوا إليه، كان لها لاهوت مختلف
تماماً عن اللاهوت الذي تبنّاه أو اخترعه البروتستانت.

 

وحتى
نفهم عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” بشكل صحيح يجب أن نفهم الافتراضات
التي تطرحها هذه العقيدة و الرد عليها.

 

1-
الافتراض الأول: الأسفار الإلهية تشهد بنفسها على صحتها
self-authenticating:

إن
القول بأن الكتاب المقدس هو المصدر الكافي للتعليم يفترض أن يعرف المرء تماماً ما
يؤلف الكتاب المقدس وما لا يؤلفه. هذا الافتراض يتجاهل كلياً حقيقة أن حدثية تعريف
قانون العهد الجديد قد استغرقت عقوداً طويلة. لم يوجد قانون للعهد الجديد في كنيسة
القرون، وهي الفترة التي تُعتبر عصر المسيحية الأولى. يقول الإصلاحيون إن الكنيسة
لم تؤسس قانوناً للكتاب المقدس ولكنها شهدت له.

 

الرد:
إن قانونية كتب العهد الجديد تُعرّف بواسطة استعمالها ضمن الكنيسة خاصة القراءة
العلنية في كل مكان و من قبل كل الكنائس. كانت الوظيفة القانونية للأسفار المقدسة
في الكنيسة الأولى وظيفة ليتورجية. ففي الاجتماعات الافخارستية، كانت الأسفار
المقدسة تُقرأ وتُشرح. ويصف القديس يوستينيانوس الشهيد ليتورجيا يوم الأحد في
منتصف القرن الثاني الميلادي ذاكراً أن كتابات الرسل و الأنبياء كانت تُقرأ ثم يلي
ذلك موعظة لحضّ المستمعين. تم جمع كتابات العهد الجديد من قبل كنائس محلية
لاستعمالها في الخدم العبادية وليس لدراسة الكتاب المقدس الخاصة (بالمفهوم
البروتستانتي) لهذ، فضمن الكنيسة كجماعة متعبّدة، كانت تقرأ الأسفار المقدسة
وتفسّر. كانت توجد مجموعات مختلفة من الأسفار المقدسة في كنائس مختلفة، وذلك بسبب
صعوبة تداول وتبادل هذه الأسفار بين الجماعات الكنسية الأولى، بسبب البعد الجغرافي.
ويظن بعض الناس حالياً بصورة ساذجة أنه كانت توحد آنئذ أسفار العهد الجديد الحالية
(27 سفراً)، وما كان على الكنيسة سوى أن تجمع هذه الأسفار في مجموعة واحدة تسمّيها
العهد الجديد. لكن الحقيقة أنه كانت توجد عشرات و عشرات الكتب أو الأسفار في
القرنين الأولين للمسيحية، يحمل بعضها أسماء رسل معروفين لكي يعطيها صفة قانونية
أو قبولاً لدى جماعات المؤمنين. لهذا لم يكن من السهل على الكنائس أن تميّز
الأسفار المُلهمة من الأسفار الأخرى غير الملهمة. وفي القرنين الثاني و الثالث
الميلاديين يقول القديس إيريناوس و كلمندوس الإسكندري و أوريجنس معهما صراحة أنه
توجد فقط أربعة أناجيل قانونية أو مقبولة وهي متّى ومرقس و لوقا ويوحن، لأنه كان
يوجد عدد أكبر من الكتب التي كانت تسمى أناجيل في ذلك الوقت. إن أول قائمة من
أسفار العهد الجديد تطابق القائمة الموجودة حالياً هي الموجودة في الرسالة الفصحية
للقديس أثناثيوس الإسكندري (367). أما في الغرب فإن قانون العهد الجديد لم يتم
البت فيه إلا في مجمع قرطاجة (379). هكذا إذن، في القرون الثلاثة الأولى من
المسيحية لا يمكن للمرء أن يشير إلى قانون واحد مقبول في كل مكان، سواء للعهد
القديم أو للعهد الجديد. فإذا كانت الأسفار القانونية حقاً ذاتية الشرعية أو
الأصالة و تشهد لنفسها بنفسه، فلماذا استغرقت الكنيسة الأولى ثلاثة قرون لتعرّف
أسفاراً هي، بحسب الإصلاحيين، تشهد على صحتها بنفسه، وتعرّف عن نفسها بنفسها
وذاتية الوضوح؟ أيض، من قال للإصلاحيين في القرن السادس عشر إن الكتاب المقدس الذي
كان بين أيديهم هو الكتاب المقدس؟ ومن حفظه طيلة 16 قرناً آنئذ وما يزال يحفظه
الآن وإلى الأبد؟ أليست هي الكنيسة التي يحاربون تقليدها وآبائها و قديسيها
وشهدائها و رسلها؟ (1).

 

2-
الافتراض الثاني: الأسفار المقدسة تفسّر ذاتها بذاتها:

الافتراض
الثاني لعقيدة “الكتاب المقدس حصراً” هي أن الأسفار المقدسة تفسّر ذاتها
بذاتها. يقول لوثر إن النص المشكوك به هو سيء بسوء غياب النص تماماً. أي بكلمات
أخرى، لا يوجد معنى من وجود نص مُلهَم ذاتي الاكتفاء إذا كان معنى هذا النص غير
واضح.

 

الرد:
لقد أظهر أينشتاين أن المراقب هو جزء لا يتجزأ (أو موروث) من أية ملاحظة علمية.
ولا يوجد شيء على الإطلاق هو موضوعي 100%. إن كانت هذه حقيقة بالنسبة للعالم
الطبيعي فكم بالحري هي حقيقية أكثر بالنسبة لتفسير نصوص الكتاب المقدس. فالنصوص لا
توجد في المطلق. ومع ذلك فهذا ما تفترضه عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”: النص
المجرد أو العاري يجب أن يفرض معناه على القارئ بطريقة ما.

إن
سخافة هذا الإدعاء واضحة تماماً بوجود عدد لا محدود من التفسيرات المتناقضة لآلاف
الجماعات البروتستانتية المختلفة التي تفسّر النص الكتابي الواحد نفسه بطرق مختلفة.
ورغم أن عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” تفترض أن النص يفسّر ذاته بذاته،
إلا أن البروتستانت عملياً لا يؤمنون بأن النص هو ذاتي التفسير (2).

ففي
أمريكا وحدها توجد آلاف الفئات البروتستانتية التي تدّعي الإيمان بالكتاب المقدس
حصراً. ومع ذلك فالفروق العقائدية والعبادية والأخلاقية والتفسيرية فيما بينها هي
أمرٌ يدعو للأسف والحزن عليها وعلى سذاجتها ووقوعها في شرك الشيطان. وإن سألت أحد
رعاة هذه الفرق قال لك: “نحن نؤمن بما جاء في الكتاب حصراً. فنحن على صواب
وسوانا على خطأ”!. ونظرة واحدة إلى المكتبات البروتستانتية في العالم تُرينا
كم من كتب تفاسير الكتاب المقدس موجودة بصورة مختلفة ويتجاوز حجمها حجم الكتاب
المقدس نفسه بمئات إلى آلاف الأضعاف. فلو كان الكتاب المقدس يفسر نفسه بنفسه (كما
يقول البروتستانت) فلماذا كتب المفسِّرون البروتستانت آلاف الصفحات تفسيراً لعدة
صفحات من الكتاب المقدس، ولماذا تتناقض هذه التفاسير البروتستانتية فيما بينها؟
ولماذا يوجد العديد من المفسّرين المختلفين ضمن التقليد البروتستانتي الواحد
والذين يكتبون تفاسير تختلف فيما بينها؟ إن كلمة “تقليد” مهمة هنا، لأن
كل تفسير أو تعليق على الكتاب المقدس هو مكتوب ضمن تقليد ما. السؤال الحقيقي هو
ليس فيما إذا كان الكتاب المقدس يتضمن تقليداً، ولكن فيما إذا كان التقليد يفسّر
الكتاب المقدس بصورة صحيحة. ففي أعمال 8: 26-39، نجد أن القديس فيليبس قد صادف
خصياً أثيوبياً كان يقرأ من نبوة أشعيا بدون أن يفهم. فسأله القديس فيليبس: “ألعلك
تفهم ما أنت تقرأ. فقال: كيف يمكنني إن لم يرشدني أحدٌ؟”. هنا لم يُخير
فيليبس الخص أن يصلّي كي يستنير ويُلهمه الروح القدس ليفهم ما يقرأ، وأن النص
يفسّر نفسه بنفسه وأنه لا يحتاج إلى معونة بشر لفهم معنى النص الكتابي (كما يقول
البروتستانت). لكن نص أعمال الرسل يقول: “ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا
الكتاب فبشّره بيسوع”. عنا فيلبس، كرسول ليسوع المسيح، فسر الكتاب المقدس
للخصي الحبشي. بالتأكيد كان الخصي سينال تفسيراً مختلفاً لسفر أشعيا لو كان الذي
يفسّر له نص أشعيا هذا هو حاخام يهودي.

مؤيدو
عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” كثيراً ما يشيرون إلى أن آباء الكنيسة
الأولى كانوا يلجأون إلى الأسفار المقدسة لدعم مواقفهم في المناقشات العقائدية في
القرون الأولى، أي إن مصدر تعليم الآباء هو الكتاب المقدس. ولكن ما يتناساه هؤلاء
المؤيدون هو أن الهراطقة أيضاً كانوا يلجأون إلى الكتاب المقدس لدعم هرطقاتهم.
المثال الكلاسيكي الذي سأورده هنا هو هرطقة آريوس التي انتهت في النهاية بتحديدات
عقائدية بخصوص الثالوث القدوس. فهرطقة آريوس بدأت من تفسيره لأمثال 8: 22، وقد
استنتج آريوس من تفسيره أن اللوغوس أو الكلمة كان مخلوقاً، ولو كان أعلى وأفضل من
كل الخلائق. بينما كانت ومازالت الكنيسة الأرثوذكسية تعلّم أن اللوغوس أو الكلمة،
ربنا يسوع المسيح هو الخالق والإله المتجسد. هنا توجد لدينا فئتان من المفسِّرين: فئة
هرطقة آريوس التي توصلت من تفسيرها لهذه الآية إلى أن المسيح الكلمة هو مخلوق وليس
خالقاً، ومن جهة أخرى، نجد الكنيسة التي تؤمن بأن الآية نفسها تشير إلى المسيح
ولكنه الخالق وليس خليقة. طبعاً لم يكن النص يشرح نفسه بنفسه هنا. ولكن السؤال
يبقى: كيف قرّر هؤلاء المفسِّرون أي تفسير هو الأصح؟ يوجد مبدأ بروتستانتي شائع
جداً هو تفسير النصوص الغامضة بنصوص أخرى أوضح منها. ولكنه لم يكن من الواضح
دائماً أي نصوص هي الواضحة وأي نصوص هي الغامضة. فهل نفسّر النصوص التي تشير إلى
لاهوت المسيح بالنصوص التي تشير إلى ناسوته أم العكس بالعكس؟ على كل حال، كان
تفسير آريوس مبيناً على الوحدة العددية لله. وبكلمات أخرى، فقد افترض آريوس ومن
مبدأ فلسفي أن الله لا يمكن أن يكون ثلاثة أشخاص -أقانيم- وبالتالي لا يمكن للمسيح
إلا أن يكون مخلوقاً. بينما افترض القديس اثناثيوس من جهة أخرى أن الخلاص لا يمكن
أن يأتي إلا من الله، وبالتالي لا يمكن للمسيح، كمخلِّص، إلا أن يكون إلهاً
متجسداً، وبالتالي فهو خالق. وأن الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً. إذاً
التفسير الأرثوذكسي لأمثال8: 22 مبني على إيمان سابق (موجود ضمن تقليد الكنيسة)
بأن الله وحده هو الذي يمكنه أن يخلّص الإنسان. إذاً لم يكن النص نفسه أو بحد ذاته
هو الأداة لمعرفة المعنى، ولم توجد نصوص كتابية أخرى يمكنها أن توضح معنى هذا النص
بالذات، ولكن كان لا بد من اللجوء لحياة الكنيسة وتقليدها لتفسير هذا النص. إن
هرطقة آريوس أدّت إلى انعقاد المجمع المسكوني الأول في نيقية 325 وإلى إدخال تعبير
فلسفي جديد لأول مرة إلى اللغة اليونانية هو “
Homoousios والذي له وللآب الطبيعة الواحدة ذاتها” وذلك بما يتعلق
بتعليم الكنيسة عن المسيح. طبعاً، كان آباء المجمع المسكوني الأول يفضّلون أن
يستعملوا فقط الكلمات أو التعابير التي وردت في الكتاب المقدس، لكن استعمال الكتاب
المقدس بالذات من قِبَل آريوس هو الذي أجبرهم على استحداث كلمة لم تأتِ في الكتاب
المقدس لكي يحافظوا على التفسير الصحيح للكتاب المقدس. إن تاريخ الكنيسة المسيحية
مملوء من هذه الأمثلة وسواها. وأشهر مثال معاصر على مثل هذه الهرطقات هو هرطقة
شهود يهوه الذين يستعملون الكتاب المقدس للوصول إلى تعاليم مخالفة لتعاليم الكنيسة
ولتفسيرات مخالفة لتفسيرات الكنيسة. فلو كان النص الكتابي يفسّر ذاته بذاته لما
بدأ ظهور الهرطقات والبدع منذ القرون الأولى للمسيحية ولم ينقطع حتى يومنا الحالي.
ولم تنجح الكنيسة في دحض هذه الهرطقات والبدع فقط بناءً على تفسير أصحّ للنصوص
الكتابية أو على تفسير النصوص الغامضة بنصوص أوضح، ولكن بسبب أنها كانت تتعبّد
للمسيح، وأنها كانت تعرف أن الذي كانت تتعبد له هو الله المتجسد. إذاً في كل
مناقشة أو مسألة لاهوتية في الكنيسة الأولى، لم تُحل القضية بالرجوع إلى مجرد نصوص
عارية مجردة للكتاب المقدس وتفسيرها بطريقة أو بأخرى، ولكن بالرجوع إلى حياة
الكنيسة الحية أو إلى تقليد هذه الكنيسة. لم يُطرح أبداً سؤال: “ماذا يقول
الكتاب المقدس؟”، بل “ماذا يعني الكتاب المقدس؟”.

الرب
يسوع نفسه سأل الناموسي (3) الذي جاء ليجرّب الرب: “ما هو مكتوبٌ في الناموس؟
كيف تقرأ؟” (لو10: 26). تقليد الكنيسة الأرثوذكسية في هذه النقطة واضح: تقليد
الرسل هو اللحمة المفسِّرة ذات السلطة التي ضمنها يجب أن تُفهم الأسفار المقدسة
بصورة صحيحة. إن أسفار العهد القديم والعهد الجديد هي العنصر البدئي المكتوب
للتقليد الرسولي. فإن أُخذت هذه النصوص خارج التقليد الرسولي أو خارج حياة الكنيسة
لتحوّلت إلى نصوص عتيقة عٌرضة لتفسيرات لا حصر لها بحسب تخيّلات الذين يقرأونها.
وفي الحقيقة لم يحذف الإصلاحيون منذ القرن السادس عشر تقليد الكنيسة فحسب، ولكنهم
ألغوا قيمة الكتاب المقدس منذ أن نزعوا الكتاب المقدس من لحمته الطبيعية أو الوسط
الذي يحيا فيه وهو الكنيسة وتقليد الكنيسة الرسولي (4).

قبل
ختام هذه الفقرة، أود أن أذكر أساليب التفسير البروتستانتي للكتاب المقدس باختصار.

 

 الأسلوب
الأول: اقرأ الكتاب حرفياً، فالمعنى واضح: هذا هو أول أسلوب استعمله الإصلاحيون
المنشقّون عن الكنيسة. لكنهم سرعان ما اكتشفوا نواقص هذا الأسلوب. ومع ذلك ما زال
الأسلوب الشعبي الساذج الأول بين البروتستانت: “الكتاب يقول ما يعني ويعني ما
يقول”. طبعاً هذا الأسلوب جذاب وبسيط ولهذا فهو شعبي. أما عندما يقرأ البروتستانت
بعض النصوص التي يختلفون فيها عن سواهم، فتراهم فجأة يثبون قائلين: “ليس
المقصود هنا هكذا. لا يمكنك الأخذ بهذا النص بصورة حرفية”!. مثلاً: إعطاء
سلطان الحلّ والربط للرسل (يو20: 22-23)؛ جسد المسيح مأكل حقيقي ودمه مشرب حقيقي
(يو6: 55)؛ إلخ.

 الأسلوب
الثاني: الروح القدس يمنح الفهم الحقيقي للنص: كل فئة بروتستانتية تدّعي أن الروح
القدس يُلهم أعضاءها الأتقياء بالتفسير الصحيح والفهم القويم للنص الكتابي.
وبالتالي، كل فئة بروتستانتية أو غير بروتستانتية أخرى تخالف تفسير فئة معينة هي
غير مُلهمة. بالطبع لو كان هذا الأسلوب صحيحاً، لما كان لدينا آلاف الفئات
البروتستانتية المختلفة فيما بينها، وكلها تدّعي أن الكتاب المقدس هو مصدر تعليمها
الأوحد. فإما أن يكون الكتاب المقدس مخطئاً (حاشا)، وإما أن تكون هذه التفاسير
مخطئة. كل بروتستانتي عالم من علماء التفسير. ولكن إن جمعنا بقدرة الروح القدس
وحدة تفاسيرهم لوجدناها متضاربة أو غير متّفقة. الروح القدس يجمع. فمن فرَّقهم حتى
صار كل واحد منهم مذهباً؟! هذا التمزّق البروتستانتي ليس من الله. فليعودوا جميعاً
إلى لوثر لنستطيع أن نرى فيهم شيئاً من الكنيسة.

 الأسلوب
الثالث: النصوص السهلة تفسّر النصوص الصعبة: أي أن الكتاب المقدس يفسّر نفسه بنفسه.
الصعوبة هنا أمام هذا الأسلوب الجذّاب ظاهرياً هي: أي نصوص هي الصعبة وأي نصوص هي
السهلة؟ هذا بالإضافة إلى ما سبق ذكره.

 الأسلوب
الرابع: التفسير النقدي-التاريخي: هذا الأسلوب “العلمي” ظاهرياً وجد
قبولاً واسعاً في القرن الماضي، قرن الاكتشافات والاختراعات العلمية. فعلماء
الكتاب المقدس البروتستانت فحصوا النواحي العلمية المتعلّقة بالكتاب المقدس: التاريخية،
الجغرافية، اللغوية، إلخ. سلّطت بعض هذه الدراسات الضوء على بعض الجوانب المهمة في
الأدب الكتابي، لكنها فشلت في الوصول إلى الغاية التي تدّعي الوصول إليها، وهي
الفهم الموضوعي للكتاب المقدس وبصورة حيادية نزيهة. أسباب هذا الفشل كثيرة وخارج
إطار هذا الجواب. لكننا نذكر هنا النقاط التالية المتعلّقة بهذا الأسلوب بدون
تعليق:

 

لو
كان هذا الأسلوب أسلوباً علمياً، أي حيادياً موضوعيا، لكان قد توصّل إلى النتائج
نفسها دائماً مهما كان الذي يطبّق هذا الأسلوب (صفة الموضوعية وصفة الثباتية
والتكرارية). ولكن ويا للأسف ليس الحال هكذا، لأن النتائج مختلفة باختلاف الذين
يطبّقون هذا الأسلوب وباختلاف طرق التطبيق. فالوضع البروتستانتي الممزّق ما زال
على حاله. والخلافات التفسيرية موجودة بين علماء الكتاب المقدس البروتستانت أنفسهم
حتى بين الذين يدّعون النزاهة العلمية. والسبب هو أن هذا الأسلوب هو أسلوب علمي في
مجالات مختلفة إلا في مجال الكتاب المقدس، وأيضاً لأن كل عالم بروتستانتي (أو غير
بروتستانتي) كتابي يمارس عمله ضمن إطار من التقليد الكنسي أو الفكري أو الفلسفي
الذي ينتمي إليه (المراقب جزء من الجدث). لهذا، فكل عالم كتابي يقدم دراسته
انطلاقاً من بديهيات وفرضيات في خلفيته الفكرية والثقافية والروحية. أوضح مثال على
هذا هو ما ذكرته في معاني المعمودية للمسيحين الأولين. يوجد أمامي كتابان كل منهما
معنوَن “المعمودية في العهد الجديد”. مؤلف الكتاب الأول عالم كتاب مقدس
مرموق جداً وبروتستانتي، وهو أوسكار كولمان (5).

مؤلّف
الكتاب الثاني (6) عالم كتاب مقدس مرموق جداً وبروتستانتي (معمداني)، وهو
G.R.Beasley-Murray. إذاً يتساوى الأول والثاني من حيث التصنيف العلمي والإيمان
مبدئياً. لكن من يقرأ الكتابين يستنتج بسهولة أن معمودية الأطفال، بحسب العهد
الجديد، كانت تُمارس أيام العهد الجديد بحسب دراسة الأستاذ كولمان، ولم تكن تُمارس
أيام العهد الجديد بحسب دراسة المؤلف الثاني! الدراستان مبنيتان على الكتاب المقدس،
فأين الحقيقة إذاً؟ من الواضح أن الأستاذ الإنكليزي أخضع دراسته
“العلمية” ليدعم وجهة نظر كنيسته (المعمدانية) من معمودية الأطفال. من
هنا نستنتج أن نصوص الكتاب المقدس وحدها لا تكفي في كثير من الأحيان بحسب إدعاء
الطريقة “العلمية”، ولا بد من الاحتكام إلى تعليم الكنيسة على مرّ
العصور. البروفسور المشهور
J.Jeremias، وهو عالم كتابي بروتستانتي أثبت أن الكنيسة كانت تعمّد الأطفال
في القرون الثلاثة الأولى للمسيحية وذلك بناء على شهادات غير مباشرة من العهد
الجديد ومباشرة من تاريخ الكنيسة الأولى (7).

ولهذا
فالاحتكام إلى تقليد الكنيسة (في مثال المعمودية هذا) كان الوسيلة الوحيدة لتفسير
موقف العهد الجديد والكنيسة الأولى من معمودية الأطفال.

 

3-
الافتراض الثالث: الكتاب المقدس هو جواب لكل شيء:

الافتراض
الثالث لعقيدة “الكتاب المقدس حصراً” هو التعليم أن الأسفار المقدسة
مكتوبة بطريقة يجب أن تكون معها المرشد الكامل والكافي للمسيحيين. فكل شيء يجب أن
يتم وبدقة “بحسب الكتاب”.

 

الرد:
يفترض هذا التعليم أن الكتاب يحتوي على كل التعليمات الضرورية للمسيحي. لكن نظرة
واحدة مُقارنة بين العهد القديم والعهد الجديد تُظهر لنا أن أسفار العهد القديم
كانت أسفار عبادية تصف بصورة دقيقة أموراً طقسية متعلقة بأماكن العبادة وبطرق
ممارستها، إلخ؛ بينما لا يوجد شيء من مثل هذا في العهد الجديد على الإطلاق. مثلاً،
لا توجد تعليمات خاصة بالعبادة في العهد الجديد، وإنما توجد تلميحات كيف أن
المسيحيين الأولين كانوا يجتمعون “في أول الأسبوع” للعبادة (أع 20: 7)
بدون تفاصيل أخرى. وأيضاً لا توجد تفاصيل عن كيفية الاحتفال بسر الشكر الإلهي
(الافخارستيا). قال الرب يسوع “اصنعوا هذا لذكري” (لوقا 22: 19). لكن لا
كتبة الأناجيل ولا القديس بولس يسجّلون معلومات إضافية أخرى عن كيفية ممارسة
الافخارستيا. لقد أُخبرنا في أعمال 20: 7 أن المسيحيين الأوائل كانوا يجتمعون في
أول أيام الأسبوع ليكسروا الخبز، ولهذا فمعظم الإصلاحيين الحاليين يأخذون هذه
المقولة على أنها فرض. فمعظمهم يحتفل بما يشبه سر الشكر الإلهي ظاهرياً (أو عشاء
الرب) مرة كل شهر أو مرة كل سنة بحسب الفئة البروتستانتية! أيضاً ما يُخبرنا به
القديس بولس في 1كورنثوس عن الافخارستيا إنما عبارة عن تصحيح لما كانت تمارسه
كنيسة كورنثوس بدون أن يُخبرنا عن أية تفاصيل أخرى. كانت رسائل بولس في معظم
الأحيان رسائل ظرفية مكتوبة لأشخاص معينين أو لكنائس معينة في أوقات معينة ولأسباب
معينة. إن غياب التفاصيل بما يتعلق بالافخارستيا والأمور الأخرى (كالصوم والصلاة)
هو بالضبط ما نتوقّعه في رسائل ظرفية كهذه. وبالطبع ليس هذا ما كنا سنتوقّعه لو
كنا نعتبر العهد الجديد هو المرشد الشامل والوافي للحياة المسيحية بكل جوانبها، أو
لو كان كتبة أسفار العهد الجديد أنفسهم قد وضعوا نصب أعينهم هذا الهدف من كتابتهم
لهذه الأسفار. لنأخذ مثلاً موضحاً عن المعمودية. فالفئات البروتستانتية المختلفة
بأنواعها كلها تأخذ بالكتاب المقدس على أنه المصدر الوحيد والكافي للتعليم لديها.
لكن نظرة واحدة على تعاليم هذه الفئات عن المعمودية تُرينا اختلافات جذرية فيما
بينها. فالبعض يؤمن بالمعمودية كمجرد رمز والآخر كمجرد طقس يمكن الاستغناء عنه.
البعض يمارس المعمودية بالرش، والبعض الآخر بالتغطيس والبعض الآخر يسكب المياه على
المعتمد. البعض يقول بمعمودية البالغين حصراً، والآخر بمعمودية الناس من كل
الأعمار بما في ذلك الأطفال. البعض يمارس المعمودية باسم الثالوث القدوس والآخر
باسم يسوع المسيح. البعض يؤمن بالمعمودية لمغرفة الخطايا والآخرون بمعمودية للتوبة
لا تغفر الخطايا. كل فئة من هذه الفئات البروتستانتية تحاول جاهدة أن تستشهد
بالكتاب المقدس لتدل على صحة تعاليمها المتعلقة بالمعمودية. ألعلَّ سبب هذه
الخلافات الجذرية حول المعمودية بين الفئات البروتستانتية هو في الكتاب المقدس
نفسه، أم في طريقة تفسيره من قبل هذه الفئات التي لم تلجأ إلى تقليد الكنيسة
وممارستها وفهمها للمعمودية منذ القرون الأولى المسيحية؟ بالنسبة للكنيسة
الأرثوذكسية، إن أي مفهوم للمعمودية (على سبيل المثال هنا) لا يمكن أن يؤخذ بصورة
حصرية من الكتاب المقدس ما لم يُقارن هذا اللاهوت مع ما فهمته ومارسته الكنيسة
المسيحية عبر العصور الأولى وحتى يومنا الحالي. (يمكن مراجعة الموضوعين المتعلقين
بمعاني المعمودية للمسيحيين الأولين وبمعمودية الأطفال). يمكننا القول هنا: إن
كانت الكنيسة المسيحية منذ الأيام الأولى للمسيحية وحتى يومنا الحالي تؤمن بأن
المعمودية هي الولادة الجديدة وهي دفن مع المسيح وقيامة معه لحياة جديدة، وأنها
تتم بالتغطيس باسم الثالوث القدوس لمغفرة الخطايا، وأن الأطفال وجميع أهل البيت
كانوا يُعمَّدون مع أهاليهم عندما كان رب (أو ربة) البيت يعتنق المسيحية، فإن أي
لاهوت مخالف لهذا اللاهوت وأية ممارسة مخالفة لهذه الممارسة هما غير مقبولين حتى
لو حاول المؤمنون بهما أن يستشهدوا على موقفهم من الكتاب المقدس. لأن إيمانهم قد
انحرف عن إيمان الكنيسة وفهم للكتاب المقدس هو مختلف عن فهم الكنيسة الرسولية له
عبر العصور وفي كل مكان ومن قبل الكل. إذاً، إن فكرة أن أي إنسان كان يستطيع أن يستنتج
أو يستنبط تعاليم لاهوتية من الكتاب المقدس وحده فقط بدون الرجوع إلى تقليد
الكنيسة، هو مفهوم يعطي الضوء الأخضر لظهور هرطقات وتعاليم تخالف الكتاب نفسه
والتقليد معاً.

 

4-
الافتراض الرابع: المسيحية كفكرة:

إن
عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” تفترض أيضاً أن المسيحية بحد ذاتها أو
بطبيعتها هي مجرد فكرة أو أيديولوجية. فالقول إن الأسفار المقدسة تحتوي على كل ما
هو ضروري للإيمان المسيحي والممارسة المسيحية يعني أنه يمكن للكتاب المقدس أن
يستوعب كل ما هو ضروري. وهكذا فإن عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” تفترض أن
المسيحية هي مجرد فكرة إيديولوجية. بحسب هذه الفكرة فإن الإنجيل يحتوي على أفكار
وجملة من التعاليم، وهكذا يمكن لأي إنسان أن يلتقط الكتاب، لأن الكتاب ذاتي
التفسير، يمكن لهذا الإنسان أن يقتطف منه أي شيء يحتاجه للإيمان والممارسة
المسيحية. ولأن الكتاب المقدس يحتوي على كل شيء ضروري لخلاص المسيحي، فإنه يمكن
للمسيحي الاستغناء عن الكنيسة وتقليدها ولاهوتها وتفسيرها وحياتها وشهادتها، إلخ.
وهكذا تستحيل المسيحية إلى جملة من العقائد والتعاليم والأفكار.

 

الرد:
المسيحية بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية هي حياة جديدة وليست مجرد ديانة جديدة، لأن
المسيحية هي الحياة في المسيح، وهو الذي يعيش في المعتمدين باسمه. إذاً ليست
المسيحية جملة تفاسير وتعاليم وعقائد، بل هو وحدة عضوية بالمسيح يسوع من خلال جسده
الكنيسة المقدسة (8).

 

الافتراض
الخامس: الإيمان بالكتاب المقدس بحد ذاته:

اعتراف
Westminster الإيماني، وهو الوثيقة العقائدية الرئيسية لأتباع كالفن الناطقين
بالإنكليزية، تبدأ بالتأكيد على السلطان المنفرد للأسفار المقدسة. أيضاً، اعترافات
لندن، وكل اعترافات المعمدانيين الإيمانية اللاحقة تبدأ بالتأكيد على الإيمان
بسلطان الكتاب المقدس. وحقاً، مع استثناءات بسيطة، فإن الاعترافات البروتستانتية
ودساتير إيمانها المختلفة دائماً تقريباً تبدأ بمقولة تؤكّد سلطان الكتاب المقدس.
لهذا ليس من المبالغة القول إنه بالنسبة للبروتستانت الكتاب المقدس هو موضوع إيمان.
أي، أن البروتستانت لا يؤمنون فقط بما كُتب بالكتاب المقدس وبالوحي الذي به كُتب
الكتاب المقدس، ولكنهم يؤمنون أيضاً بالكتاب المقدس بحد ذاته. هذه بديهية بالنسبة
للبروتستانت.

 

الرد:
سنناقش هذا الموضوع من خلال مناقشة عدة نقاط موضحة. نقول بشكل عام: الكنيسة هي جسد
المسيح والكتاب كلامها. يجعلون كلامها سيّدها. في النهاية وضعوا العجلة أمام
الحصان، فضلّوا سواء السبيل. يسوع أسّس كنيسة. الروح القدس أقامها يوم العنصرة
وأقام فيها. هل يُقيم في الكتاب المقدس؟ هل يستطيع الكتاب المقدس أن يعمِّد بالروح
القدس ويصنع الخبز والخمر جسد الرب ودمه؟ الكنيسة تصنع ذلك لا الكتاب.

 

 “على
ما في الكتب”: إن الإيمان بالكتاب المقدس كموضوع إيمان، وكخاضع لدستور
الإيمان العقائدي يمثّل انحرافاً جذرياً عن إيمان الكنيسة الأولى. فلا يوجد أي من
دساتير الإيمان الأولى للكنيسة يبدأ بمقولة متعلقة بالكتاب المقدس؛ كل دساتير
الإيمان هذه تبدأ بالتأكيد على الإيمان بالله الواحد. هذا أيضاً صحيح بالنسبة
لدستور الإيمان النيقاوي (القرن الرابع) وسواه. على كل حال، تحتوي دساتير الإيمان
القديمة على تأكيد إيماني لا يوجد في دساتير إيمان البروتستانت الحديثة: وهو
الإيمان بالكنيسة. في دستور الإيمان النيقاوي تعترف الكنيسة بإيمانها بالله الواحد
الآب الضابط الكل، وبالرب الواحد يسوع المسيح، وبالروح القدس، وبالكنيسة الواحدة
الجامعة القدوسة الرسولية. بالنسبة للكنيسة القديمة، فإن الكنيسة نفسها كانت موضوع
إيمان وبند إيمان من بنود دستور الإيمان. فالكنيسة الأولى اعترفت بالإيمان
بالكنيسة نفسها كاعترافها بالله.

إذاً،
لا يذكر دستور الإيمان الأسفار المقدسة، وهذه الإشارة هي المفتاح لفهم كيف رأت
الكنيسة الأولى الكتاب المقدس وكيف استعملته. فعند الحديث عن تجسد المسيح وعمله
على الأرض، يؤكّد دستور الإيمان النيقاوي “تألم وقُبر وقام في اليوم الثالث
على ما في الكتب”. “على ما في الكتب” تفترض سلطان الأسفار المقدسة.
هذا يعني أن المسيح قد تجسّد وعاش وتألم وصُلب ومات وقام في اليوم الثالث كما تشهد
الكتب بذلك. أي إن الأسفار المقدسة هي شهادة على ما فعله الله للإنسان بيسوع
المسيح. إن تعبير “على ما في الكتب” هو اقتباس مباشر من 1كور15: 3-4
“فإنني سلّمت إليكم من الأول ما قبلته أنا أيضاً، أن المسيح مات من أجل
خطايانا على ما في الكتب، وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث على ما في
الكتب”. كان القديس بولس هنا يشير إلى نبوات العهد القديم المتعلّقة بالمسيّا.
ففي كل مكان كان يحادّ اليهود “من الكتب، موضحاً ومبيّناً أنه كان ينبغي أن
المسيح يتألّم ويقوم من الأموات” (أع17: 2-3). بالطبع لم توجد كتب العهد
الجديد آنئذ بعد. قصص شهود العيان، وهم الرسل، عن حياة المسيح كانت متداولة
ومنتشرة شفوياً. هذه القصص الشاهدة قد تم اختبار صدقها بالشهادة التي أعطاها
الأنبياء أنفسهم عن المسيّا. إن المفهوم الرئيسي هنا هو الشهادة. فأنبياء العهد
القديم ورسل العهد الجديد كانوا شهوداً للمسيح: “هذا هو التلميذ الذي يشهد
بهذا وكتب هذا. ونعلم أن شهادته حق” (يو21: 24). إن شهادة الأسفار المقدسة هي
صحيحة والكنيسة لم تشك بذلك أبداً. لكن الموضوع الذي يُبنى عليه الإيمان كان، وهو
أبداً، موضوع الشهادة وليس الشهادة نفسها. هكذا تؤمن الكنيسة بدون شك بشهادة
الأسفار المقدسة ولكن الكنيسة لا تؤمن بالكتاب المقدس لأن الكتاب المقدس ليس هو
الله. إنها تؤمن بالوحي الذي كتبه وتؤمن بمحتواه وبشهادته ولكنها لا تؤمن بالكتاب
بحد ذاته كبند إيمان.

 “كسر
الخبز”: بعد قيامة يسوع ظهر للوقا ورفيقه في الطريق إلى عماوّص، فلم يعرفاه: “ثم
ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما الأمور المختصة به في جميع
الكتب” (لوقا24: 23-27). حتى عندما كان الرب يقرأ ويشرح أسفار العهد القديم
لهما لم يعرفاه أنه الرب الناهض من الأموات. ولم يعرفاه إلا بعد كسر الخبز معهما: “فلما
اتكأ معهما اخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه” (لو 24: 30-31).
إذاً، كان قلبهما ملتهباً عندما كان المسيح يشرح الأسفار ولكنهما لم يعرفاه رغم
ذلك، إلا عند كسر الخبز. أيضاً، يستعمل القديس لوقا تعبير “كسر الخبز”
مرة ثانية في أعمال الرسل (أع2: 42). إذاً الأسفار المقدسة تشهد للمسيح. قلوبنا
تلتهب فينا عندما تُقرأ الأسفار المقدسة، أي عندما يُبشَّر بالمسيح. على كل حال،
ليست الأسفار المقدسة هي المسيح. الافخارستيا (سر الشكر الإلهي) هو الحدث الذي به
تعبّر الكنيسة عن جوهر حياتها بصورة خاصة. في الافخارستيا فقط نحن نعرف يسوع
المسيح بعد أن تنفتح أعيننا، وتكون لنا شركة حيّة معه. إذ يقول له المجد: “من
يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل
حق ودمي مشرب حق. من يأكل من جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو6: 54-56).

 “ها
أنا معكم كل الأيام”: المرة الوحيدة التي كتب فيها الرب يسوع في الأناجيل هي
في يوحنا 8: 6، ولم نرَه أبداً يكتب كتاباً أو يترك تعليماً مكتوباً أو مدرسة أو
أكاديمية (مثل أفلاطون)، بل على العكس: الشيء الوحيد الذي خلّفه يسوع المسيح وراءه
هو الكنيسة. فقبل صعوده بعد تلاميذه بوجوده الدائم معهم: “ها أنا معكم كل
الأيام إلى انقضاء الدهر” (متى28: 20).ويعدهم بإرسال الروح القدس على
التلاميذ: “وأما المعزّي الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل
شيء” (يو14: 26). إذاً وعدهم بالروح القدس، روح الحق الذي يرشدهم إلى جميع
الحق (يو16: 13). الله خلق العالم بالكلمة والروح القدس (مز33: 6). في بشارة
العذراء، حلّ الروح القدس عليها فحبلت بالكلمة الإلهي (لو1: 35). وفي معمودية
المسيح في نهر الأردن حلّ الروح القدس عليه بشكل حمامة بعد صعوده من المياه،
متمَّماً نبؤة أشعيا (61: 1؛ لو3: 21-22؛ 4: 17). أيضاً، عندما نزل الروح القدس
يوم العنصرة على التلاميذ والرسل مسحهم ليكونوا الكنيسة، جسد المسيح نفسه (أع2).

ليس
المقصود هنا الحطّ من قيمة الكتاب المقدس، لا سمح الله. “كل الكتاب هو موحى
به من الله، ونافعٌ للتعليم والتوبيخ” (2تيمو3: 16). لكن النقطة الرئيسية هنا
هي أن الكنيسة، لا الكتاب المقدس، هي جسد المسيح. فالأسفار الإلهية كُتبت في
الكنيسة وبإلهام الروح القدس له المجد. وهكذا، من شهادة الأسفار المقدسة يأتي
الناس إلى معرفة الحقيقة وقبولها (1تيمو2: 4)، ويتحدون بالمسيح في الكنيسة.
فالكنيسة، وليس الكتاب المقدس، عي “عمود الحق وقاعدته” (1تيمو3: 15).
والكنيسة القدوسة، وليس الكتاب المقدس، هي “ملء الذي يملأ الكل في الكل”
(أفسس1: 23).

لهذا
نجد أن البروتستانتية قد استبدلت بالكنيسة القدوسة الكتاب المقدس واستبدلت بجسد
المسيح الحي، وهو الكنيسة، نصاً حرفياً، ولو أنه موحى به بالروح القدس. هكذا نجد
أن الفروق بين إيمان البروتستانت وإيمان الكنيسة الأولى هي فروق كبيرة جداً.

 “الكنيسة
موضوع الإيمان”: تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية بأن الأسفار المقدس ليست المسيح
ويجب ألا تكون موضوع إيمان بحد ذاتها. من جهة أخرى، تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية
(والكاثوليكية) بأن الكنيسة (كجسد المسيح بالتعريف الكتابي) هي موضوع إيمان وبند
من بنود دساتير الإيمان. هذا ما تؤمن به الكنيسة الأرثوذكسية وتردّده في دستور
إيمانها. إنه أمر شائع بالنسبة للمفسِّرين البروتستانت المعاصرين أنه يجب ألا نأخذ
حرفياً القول بالإيمان بالكنيسة. إنهم يقولون إن الكنيسة ليست الله، وبالتالي
موضوع الإيمان يجب ألا يكون الكنيسة بل الله، لهذا الإيمان بالكنيسة لديهم يجب ألا
يؤخذ بصورة حرفية حقيقية بل مجازية في أفضل الأحوال. يقول الكثيرون إنه يجب أن
نؤمن بالروح القدس العامل بالكنيسة لا بالكنيسة نفسها (9).

فالقول
إنه يجب ألا نؤمن بالكنيسة لأن الكنيسة ليس الله يبدو قولاً منطقياً ظاهرياً، وهو
يبدو وكأننا نقي أنفسنا من خطر التشويش الوثني بين الخالق والخليقة. لكن هذا الهوس
بحماية الكرامة اللائقة بالله (أو الغيرة التي ليست بحسب المعرفة) هو بالضبط كان
الدافع وراء هرطقة آريوس وهرطقة نسطوريوس. كان لدى آريوس مفهوم عقلاني عن الله لا
يفسح المجال لفكرة ثلاثة أشخاص (أقانيم) لهم الجوهر الواحد الإلهي عينه. وبالتالي
لا يمكن لله أن يصير إنساناً، لهذا استنتج أن كلمة الله لا بد أن يكون مخلوقاً.
نسطوريوس من جهة أخرى استنتج لسبب عقلاني أنه لا بد من وجود شخصين في المسيح. شخص
إلهي وشخص بشري، وبالتالي فيسوع البشري هو الذي ولد من العذراء وصُلب ومات وقام.
لأنه بالنسبة لنسطوريوس لا يمكن لله أن يولد من عذراء وأن يتألم ويُصلب. فوقع
كلاهما في الهرطقة. لكن يجب أن نعرف أن ناسوت المسيح لا يمكن أن يوجد بدون لاهوته
ولم يوجد بدونه. فالكلمة الإلهي (الأقنوم الإلهي الثاني) اتخذ طبيعة بشرية من
العذراء مريم يوم البشارة وصار شخصه الإلهي شخصاً لهذه الطبيعة التي لم يمكن لها
أن توجد بدون هذا الشخص. إذاً الطبيعة البشرية للمسيح لم توجد ولا يمكن لها أن
توجد بدون أن تكون متحدة، منذ وجودها، بالطبيعة الإلهية في شخص الابن الإلهي. لهذا
لا يوجد يسوع البشري بدون أن يكون إلهاً متجسداً. لهذا فرض مجمع أفسس (431)
الإيمان بأن العذراء هي “أم الله” لأن المولود منها لم يكن سوى الله
المتجسد نفسه وليس إنساناً قد اتحد بالله.

بحسب
القديس بولس إن الكنيسة هي جسد المسيح “ملء الذي يملأ الكل في الكل”
(أفسس1: 21). وأيضاً يقول: “لأننا أعضاء جسمه، من لحمه وعظامه” (أفسس5: 30).
والمسيح نفسه يقول: “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه” (يو6: 56).
لم يستطع نسطوريوس أن يقبل اتحاداً حقيقياً بين الله والإنسان لهذا نكر أنه يمكن
لابن الله أن يولد من امرأة. رفض نسطوريوس القول بأن مريم هي “أم الله”
إلا بمعنى مجازي غير حقيقي. على غرار هذا، إن الذين ينكرون بأن تكون الكنيسة
الموضوع الحق للإيمان، فإنهم مجبرون على تفسير كلمات بولس الرسول بصورة مجازية غير
واقعية. فإن جسد المسيح، أي الكنيسة، مستحقٌ المجد نفسه اللائق بالابن كلمة الله.
لهذا، كل من ينكر أن تكون الكنيسة موضوع إيمان -بحجة أن “الكنيسة ليست
الله”- يقول بأن الكنيسة ليست جسد المسيح بأي معنى حقيقي للكلمة، وبالتالي
يضع نفسه مخالفاً بولس الرسول.

لقد
رأينا أنه في القرنين الأولين للمسيحية كانت توجد، بالنسبة للكنيسة، علاقة وثيقة
لا تنفصم بين عقيدة التجسد والحضور الحقيقي للمسيح في الافخارستيا. فنكران أحدهما
يعني نكران الآخر. لهذه الحقيقة تطبيقات كنسية بالغة الأهمية، لأن الافخارستيا
تُظهر بصورة واضحة وبالغة طبيعة الكنيسة. لهذا لهذا، فالتجسد والافخارستيا وعقيدة
الكنيسة مرتبطة كلها ببعضها بعضاً. أو بالحري هي ثلاثة أوجه لعقيدة واحدة: الاتحاد
الحقيقي لله والإنسان في يسوع المسيح. لهذا بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية، إن
الخريستولوجيا (علم المسيح) وعلم الكنيسة
ecclesiology
لا ينفصلان. لهذا فالقول بأننا نؤمن لا بالكنيسة بل بالروح القدس الفاعل في
الكنيسة لهو مفارقة عقائدية. مع ملاحظة مهمة هنا: إنه عندما نقول
“الكنيسة” فلا نعني البطريرك أو المطران أو الكاهن أو القسيس أو الواعظ
أو البناء أو مجالس الرعية وما إلى ذلك. إننا نتكلم عن الكنيسة، جسد المسيح القدوس.
الفرق واسع جداً بين المفهومين. فالكنيسة بالمعنى اللاهوتي هي جسد المسيح المقدس
والمؤلّه. أما العناصر البشرية في الكنيسة فمنها الصالح ومنها الطالح. لهذا نتفق
مع البروتستانت في النفور من كل شيء طالح في الكنيسة ولا نتفق معهم في رفض الكنيسة
كجسد المسيح الحي أبداً (10).

 

النصوص
الكتابية التي تبرهن على عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” بحسب البروتستانت”:

سنناقش
هنا وبصورة سريعة أكثر النصوص الكتابية شيوعاً والتي تستعملها الفئات
البروتستانتية للبرهان على صحة عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”:

 

 1-
“كل الكتاب موحى به من الله ونافعٌ للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي
في البرّ. لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح” (2تيموثاوس 3: 16-17).
الملاحظة الأول أن كلمة “الكتاب” التي يستعملهما بولس الرسول هنا تشير
إلى أسفار العهد القديم. فالكتب المقدسة التي كانت متوفرة لدى طفولة تيموثاوس كانت
بالطبع أسفار العهد القديم. ثانياً، تطبق الكنيسة الأرثوذكسية كلام بولس الرسول
على العهد الجديد أيضاً ولكن قانون العهد الجديد لم يوجد قبل القرن الثالث
الميلادي كما اشرنا سلفاً. لهذا لو كان بولس الرسول يقصد هنا أن الكتاب وحده كافٍ
(أي العهد القديم) لكان هذا يلغي ضرورة وجود العهد الجيد. ثالثاً، بولس يؤكد
بطريقة غير مباشرة أن العهد القديم غير كافٍ وحده. فالآية الثامنة من النص نفسه
تذكر اسمين هما “ينيس ويمبريس” (2تيمو3: 8)، هذا بالإشارة إلى خروج 7: 11-12.
لكن سفر الخروج لا يذكر أسماء هذين الساحرين؛ أي أن بولس يستعمل اسمين أخذهما من
التقليد اليهودي وليس من أسفار العهد القديم. مما يعني بالنسبة لبولس أنه
باستشهاده من تقليد شفوي كتابي يؤكد على أن الكتاب المقدس (العهد القديم في أيامه،
والعهدين القديم والجديد في أيامنا) لا يلغي ضرورة الحاجة لوجود تقليد كتابي شفوي
مُعترف به ويُؤخذ به. في هذا النص نفسه يقول بولس لتيموثاوس “وأما أنت فقد
تبعت تعليمي وسيرتي وقصدي إيماني وأناتي ومحبتي وصبري،إلخ..” (2تيمو3: 10).
ويقول في الآية 14: “وأما أنت فاثبت على ما تعلّمت وأيقنت عارفاً ممن
تعلّمت”. إذاً يخصّ بولس تيموثاوس هنا على حفظ التعليم الذي استلمه تيموثاوس
من بولس ومن معلِّمين آخرين. عندئذ يقول بولس لتيموثاوس: “وإنك منذ الطفولية
تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع”
(2تيمو3: 15). هنا الخلاص يأتي من الإيمان بالمسيح وليس من الأسفار المقدسة بحد
ذاتها. فالكتب المقدسة ترشد إلى الإيمان بالمسيح يسوع، وهذا الإيمان بالمسيح هو
الذي يخلّص. وهذا ما يؤكده بولس في الآية 16 عندما يقول: “كل الكتاب هو موحى
به من الله، ونافعٌ للتعليم والتوبيخ، إلخ…”. أي، إن العهد القديم في أيام
بولس، والكتاب المقدس بعهديه فيما بعد، هو موحى به من الله، وينفع لتعليم وتوبيخ
المؤمن بالمسيح والذي صار لله هذا الكتاب كتاباً موحى به. أما بالنسبة لغير المؤمن
بالمسيح، فالكتاب المقدس لا يعني له شيئاً أكثر من مجرد عمل أدبي أو تاريخي. لذلك
المهم هو الإيمان المسيحي وهو الذي يجعل المسيحي مؤمناً بأن الكتاب المقدس هو موحى
به من الله وهو الذي يجعل الكتاب نافعاً للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي
في البرّ، وهذا ما يكشفه بولس في الآية 17 عندما يقول: “لكي يكون إنسان الله
كاملاً متأهباً لكل عمل صالح”. أي يقول بولس إن الكتاب المقدس نافعٌ للتعليم
والتوبيخ… لإنسان الله، فلو لم يكن هذا الإنسان هو إنسان الله لما كان هذا
الكتاب هو كتاب الله، كتاباً مقدساً ونافعاً؛ أي الكتاب المقدس بحد ذاته لا يخلّص
إنساناً حتى ولو كان يحفظه عن ظهر قلب. فيمكن للوثني أن يحفظ الكتاب المقدس بصورة
أفضل من المسيحي، ومع ذلك لا يخلص إلا إذا آمن بالمسيح واعتمد. الإيمان بيسوع هو
الذي يخلّص الإنسان، وهذا الإيمان يقود المسيحي إلى المعمودية ليولد من المسيح
ثانية، وهو الذي يقود المسيحي إلى الاعتراف بأن الكتاب المقدس كتاباً مقدساً
ونافعاً، إلخ. إن تأكيد بولس على أن العهد القديم في أيام تيموثاوس هو موحى به من
الله ونافع إنما ناجمٌ عن وجود تيارات فكرية وغنوصية كانت تطعن بالعهد القديم في
تلك الأيام، وهذا واضح من رسائل بولس (1تيمو6: 20؛ 1تيمو1: 4 و4: 7؛ و2تيمو4: 4).
لهذا يقول بولس لتيموثاوس إن تعليمي لك لا يحلّ محل الفائدة الناجمة من معرفة
الكتاب المقدس (العهد القديم في هذه الحالة). إذاً، يسأل بولس تلميذه تيموثاوس أن
يحفظ الوديعة (1تيمو6: 20)، وأن يثبت في تعلّمه، واثقاً وعارفاً مصدر تعليمه
(2تيمو3: 14)؛ ومعظم ما تعلّمه كان شفهاً غير مكتوب. وضد التيارات الغنوصية التي
كانت تطعن بالعهد القديم، فإن بولس الرسول كان يؤكد لتلميذه تيموثاوس أن الكتاب
المقدس (العهد القديم هنا)، والذي درسه تيموثاوس منذ طفوليته، هو حقاً موحى به من
الله ونافعٌ.

 2-
النص الثاني الكتابي الذي يستعمله مناصرو عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”
هو: “… أن لا تفتكروا فوق ما هو مكتوب كي لا ينتفخ أحدٌ لأجل الواحد على
الآخر” (1كورنثوس4: 6). من القراءة الأولى لهذا النص وظاهرياً يبدو أنه على
المسيحيين أن يلتصقوا بالكتاب المقدس فقط وحتماً. لكن نظرة متمعنة إلى هذا النص
تُظهر أن لا علاقة له أبداً بمسألة سلطة الكنيسة. فأولاً، يجب أن نأخذ بعين
الاعتبار الإطار الذي كُتبت فيه رسالة كورنثوس الأولى، حيث يناقش بولس الرسول
المشاكل التي كانت في هذه الكنيسة. ففي 1كور1: 12 يقول بولس إن بعض الكورثنيين
يتبعون بولس وبعضهم أبولس، إلخ. أي كانت توجد انشقاقات فيما بينهم. والسؤال هنا
مطروح على الفئات البروتستانتية المنقسمة على بعضها بعضاً: هل المسيح منقسمٌ؟ ومن
الواضح أن الانقسام في كنيسة كورنثوس وصل إلى نقطة كان الناس فيها يقارنون الرسل
ببعضهم بعض ويحكمون على أن بعض الرسل أفضل من البعض الآخر. إجابةً على هذه النقطة،
يؤكد بولس الرسول بأن القضاء أو الدينونة هي لله وحده ويجب على أهل كورنثوس أن لا
يفتكروا فوق ما هو مكتوب، قائلاً: كي لا ينتفخ أحدٌ لأجل الواحد على الآخر. إذاً
لا علاقة لهذا النص بالأفكار التي تطرحها عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”.

ومن
جهة أخرى، يبقى السؤال هنا بخصوص هذه الآية: ما المقصود من كلمة “ما هو
مكتوب” في ذهن بولس؟ لو نظرنا إلى مقاطع سابقة من الرسالة نفسها في 1كور1: 19
إلخ، و1كور1: 31، إلخ، و1كور3: 19-20، إلخ، نجد أن كلمة ما هو مكتوب تشير إلى هذه
الاقتباسات السابق ذكرها. فبولس الرسول يذكّر أهل كورنثوس بأن الله وخده هو الذي
يدين وهو الذي يمجّد وأن الحكمة البشرية والدينونة البشرية لا تؤخذان بعين
الاعتبار عند الله. وهكذا نرى أن قول بولس في هذه الآية “أن لا تفتكروا فوق
ما هو مكتوب” لا علاقة له بعقيدة “الكتاب المقدس حصراً”.

 3-
“وأما الأخوة فللوقت أرسلوا بولس وسيلا ليلاً إلى بيرية، وهما لما وصلا مضيا
إلى مجمع اليهود. وكان هؤلاء أشرف من الذين في تسالونيكي، فقبلوا الكلمة بكل نشاط،
فاحصين الكتب كل يوم هل هذه الأمور هكذا” (أعمال17: 10-11). هذا هو المقطع
الإنجيلي الثالث الذي يستعمله أتباع عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”
للدلالة على صحة تعليمهم. لا يقول هذا النص بشكل مباشر إن الكتاب المقدس وحده كافٍ
للإيمان والممارسة، ولكن قيمته لدى البروتستانت تأتي من وجوب أن يكون المسيحيون
على مثال أهل بيرية، متفحصين كل الأشياء بحسب الكتب. هنا سمع أهل بيرية في المجمع
اليهودي من بولس الرسول أن يسوع الناصري هو المسيح الموعود. قارن أهل بيرية ما
قاله بولس الرسول بالنبوات الواردة في العهد القديم، وآمن الكثيرون منهم إذ وجدوا
أن يسوع الناصري هو حتماً المسيح الموعود المنتظر، متمَّماً كل ما قاله الأنبياء
في الكتب. الكتب المذكورة هنا والتي تفحّصها أهل بيرية هنا هي أسفار العهد القديم.
لو كان أتباع عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” مصيبين في رأيهم في استعمالهم
لهذه الآية، لكان على المسيحيين أن لا يستعملوا سوى أسفار العهد القديم حصراً
لأنها كانت التي استعملها أهل بيرية. من اللافت للانتباه هنا هو أن أهل بيرية
كانوا اشرف من الذين في تسالونيكي لا لأنهم كانوا يتفحّصون الكتب، بل لأنهم قبلوا
الكلمة بكل نشاط.

 4-
“لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبؤة هذا الكتاب، إن كان أحدٌ يزيد على هذا
يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحدٌ يحذف من أقول كتاب
هذه النبوة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا
الكتاب” (رويا22: 18-19). ظاهرياً، تبدو هذه الآيات وكأنها تؤيد المدافعين عن
عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”. لكن لننظر إلى الإطار الذي كُتبت فيه هذه
الآيات. يقول المفسر المشهور البروتستانتي وليم باركلي إن مقولات كهذه هي شائعة في
الأدب القديم. فأمثال هذه التحذيرات موجودة في تثنية 4: 2 وتثنية 12: 2 وأمثال 30:
5و6. أيضاً إن سفر أخنوخ (وهو من الأدب المنحول في العهد القديم) يحذّر ضد تغيير
النص أيضاً. وبحسب باركلي فإن الغاية من هذه التحذيرات هي ضمان نقل هذه الكتب
بصورة دقيقة بدون تغيير من قبل الكتبة الذين كانوا ينسخونها. وفي نص يوحنا السابق
ذكره فإن يوحنا يشير بصورة خاصة إلى نبؤة هذا الكتاب (أي سفر رؤيا يوحنا) هي
المقصودة، ولا يوجد شيء يشير إلى كل الأسفار المقدسة أو الكتب المقدسة ككل. حتى لو
عمّمنا كلام يوحنا هنا وجعلناه يشمل أسفار العهدين القديم والجديد لاستنتجنا أن
قانون الكتاب المقدس هو مُعطى من الله ولا يمكن تغييره، وهذا بالضبط ما تؤمن به
الكنيسة الأرثوذكسية إذ أقفلت قانون الكتاب المقدس إلى الأبد. فلو وجد أي سفر لم
يُعرف سابقاً في الكنيسة وتم اكتشافه حديثاً، لما أدخلته الكنيسة في الكتاب المقدس،
حتى ولو كان سفراً أصيلاً وصحيحاً، لأنه لم يكن قيد الاستعمال من قبل الكنيسة في
كل مكان وفي كل عصر، ومن قبل جميع المؤمنين.

 

طبيعة
التقليد:

 في
الدفاع عن عقيدة “الكتاب المقدس حصراً”، يدّعي البروتستانت أن الكنيسة
الكاثوليكية تقبل بمصدرين للتعليم هما الكتاب المقدس والتقليد، وأن هذا التقليد قد
جٌعل مساوياً للكتاب المقدس. ويقولون إن اعتماد الكنيسة الكاثوليكية على التقليد
قد أدّى إلى عقائد مستحدثة مثل الحبل بلا دنس، وعصمة البابا، لهذا يستنتج
البروتستانت أن عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” هي الوحيدة التي تضمن عدم
تطور عقائد مخالفة للكتاب المقدس.

 

 بادئ
ذي بدء الكنيسة الأرثوذكسية ترفض العقائد الكاثوليكية السابق ذكرها (الحبل بلا دنس،
عصمة البابا وأولويته، المطهر، إلخ) لأنها لا تنتمي إلى التقليد الكنسي الأرثوذكسي.
أيضاً، الكنيسة الأرثوذكسية لم تقبل بمصدرين للسلطة في الكنيسة. فالكنيسة
الأرثوذكسية تميّز مصدراً واحداً للسلطة ألا وهو التقليد الرسولي الذي يشمل في قدس
أقداسه التقليد الرسولي الكتابي أي الكتاب المقدس (وهو المصدر المكتوب للوحي
الإلهي الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل عبر العصور)، والتقليد التقليد الرسولي غير
الكتابي (وهو مكتوب وشفوي).

 

 لننظر
ماذا يقول العهد الجديد في التقليد أو التقاليد. لنبدأ بمثال موضح من الترجمة
الإنكليزية “الترجمة العالمية الجديدة”
NIV
للعهد الجديد وهي من أكثر أكثر الترجمات المستعملة لدى البروتستانت (وهي من أشهر
الترجمات الإنكليزية بعد ترجمة
King
James
) حيث نجد عشرة أماكن عن
“التقليد” وهي: متى15: 2، 3، 6؛ مر7: 3، 5، 8، 9، 13؛ وغلا1: 14 وكول2: 8.
في كل حالة من هذه الحالات يُقدَّم التقليد على أنه شيء سلبي ويعاكس الحقيقة
الإلهية. الأمر نفسه حاصلٌ تماماً في ترجمة فان دايك البروتستانتية العربية
المشهورة. مثلاً في مر7: 8: “لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد
الناس”. على ضوء هذا ليس من المستغرب أن نجد أن البروتستانت يجدون صعوبة في
إيجاد أي شيء إيجابي يمكن أن يقولوه في التقليد. لكنهم يجهلون أو يتجاهلون صعوبة
أنه بالإضافة إلى النصوص السابقة توجد ثلاثة نصوص أخرى في العهد الجديد (تغفلها
الترجمات البروتستانتية) تذكر التقليد على أنه شيء إيجابي. وبالحري فإن هذه النصوص
الثلاثة تأمرنا أن نحفظ التقاليد الشفوية التي استلمناها من الرسل. البروتستانت
يجهلون هذه الآيات، جزئياً لأنهم يعيرون انتباهاً كبيراً للآيات الأخرى، وجزئياً
لأنهم يستعملون ترجمات بروتستانتية تحرّف الآيات التي تعاكس التعاليم
البروتستانتية كما سنُظهر في هذا المثال الموضح. لو عدنا إلى العهد الجديد
اليوناني، لوجدنا أن كلمة التقليد اليونانية
paradosis
وتأتي 13 مرة في العهد الجديد ولبس 10 مران! ومن اللافت للنظر أن ترجمة
NIV تترجم كلمة paradosis اليونانية بكلمة “تقليد” في كل مرة إلا في ثلاث آيات هي:
2تسالونيكي2: 15، 2تسالونيكي3: 6 و1كورنثوس11: 2. فالمثال الأول هنا جاء في النص
العربي (ترجمة فان دايك البروتستانتية) والنص الإنكليزي (الترجمة العالمية
الجديدة): “فاثبتوا إذاً أيها الأخوة وتمسكوا بالتعاليم التي تعلّمتموها،
سواء كان بالكلام أم برسالتنا”. بينما في النص اليوناني لم ترد كلمة
“تعاليم” بل كلمة “تقاليد
paradosis” وهذا ما
نجده في ترجمة
King James الإنكليزية المشهورة أيضاً. فتصير الآية: “فاثبتوا أيها
الأخوة وتمسكوا بالتقاليد التي تعلّمتموها، سواء كان بالكلام أم برسالتنا”. كلمة
“تقاليد
paradosis” اليونانية هنا مشتقة من فعل paradidomi اليوناني الذي يعني “يسلّم أو ينقل أو يتناقل” (11). من
السهل لأي إنسان عارف باللغة اليونانية معرفة عادية أن يدرك أنه يوجد تحريف في
الترجمة لتغيير المعنى ولإبعاد أي معنى إيجابي في ذهن القارئ مرتبط بكلمة
“تقليد” أو “تقاليد”. فالمترجمون البروتستانت هنا حرّفوا النص
اليوناني لكي يطابق عقائدهم ولم يغيّروا من عقائدهم لتتوافق من النص الإلهي
المكتوب. من الواضح أن الترجمة العالمية الجديدة
NIV
قد حرصت على إبقاء كلمة “تقليد” أو “تقاليد” في النص
الإنكليزي في كل مرة تأتي هذه الكلمة بالمعنى السلبي، ولكنها تحرص في الوقت نفسه
على استبدال الكلمة اليونانية نفسها
paradosis بكلمة أخرى غير “تقليد” أو “تقاليد” بل بكلمة
قريبة منها مثل “تعليم” أو “تعاليم” في كل مرة تأتي هذه
الكلمة اليونانية بالمعنى الإيجابي (12)! لو كان الكتاب المقدس فعلاً يفسّر نفسه
بنفسه وكافٍ بحد ذاته فلماذا يلجأ البروتستانت إلى تحريف بعض النصوص الإنجيلية في
ترجماتهم لتوافق هواهم ولاهوتهم؟ أو هل يفهم البروتستانت تعليم القديس بولس عن
السلطة بصورة أفضل منه؟ هذا المثال هنا عن كلمة “تقليد” وترجمتها تعطينا
نقطة مهمة جداً: لا بدّ لكل إنسان يقترب من الأسفار أو من الكتاب المقدس أن يقترب
ضمن تقليد معين، وكل ترجمة للكتاب المقدس لا تتم إلا ضمن تقليد معيّن وتعكس جوانب
هذا التقليد. فتوجد ترجمة بروتستانتية وأخرى كاثوليكية وأخرى أرثوذكسية وهكذا.
أيضاً، كل تفسير للكتاب المقدس يُقدَّم ضمن إطار أو تقليد معيّن ويختلف هذا
التفسير عن غيره بحسب خلفية التقليد الذي ينطلق منه هذا التفسير (13).

لنتذكّر
هنا: المراقب هو جزء من الحدث.

 

 2تسالونيكي2:
15 يقول: “فاثبتوا إذاً أيها الأخوة وتمسّكوا بالتقاليد التي تعّلمتموها،
سواءٌ كان بالكلام أم برسالتنا”، و2تسالونيكي3: 6 يقول: “ثم نوصيكم أيها
الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنّبوا كل أخٍ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التقليد
الذي أخذه منّا”. وفي 1كورنثوس11: 2 يقول: “فأمدحكم أيها الأخوة على
أنكم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التقاليد كما سلّمتها إليكم”. هذه الآيات
تناقض ظاهرياً ما قاله بولس في كولوسي2: 8 “انظروا أن لا يكون أحدٌ يسبيكم
بالفلسفة وبغرور باطلٍ حسب تقليد الناس، حسب أركان العالم وليس حسب المسيح”.
هذا يعني أنه يوجد نوعان من التقليد بالنسبة لبولس الرسول. النوع الأول هو تقليد
أو تقاليد الناس، والثاني هو تقليد أو تقاليد الكنيسة أو الرسل. فعلى المسيحيون أن
يبتعدوا عن تقاليد الناس وأن يلتصقوا بتقاليد الرسل كما استلموها. يقول القديس
يوحنا الذهبي الفم في مواعظه (4: 2) على الرسالة الثانية لتسالونيكي: “فاثبتوا
إذاً أيها الأخوة وتمسكوا بالتقاليد التي تعلّمتموها، سواءٌ كان بالكلام أم
برسالتنا. هنا، من الواضح أنهم لم يسلّموا كل شيء بالرسالة بل كان يوجد الأكثر
أيضاً، الذي لم يُكتب. وعلى نسق ما قد كُتب، فإن ما لم يكتب يستحق التصديق أيضاً.
لنعتبر تقليد الكنيسة أيضاً مستحق التصديق. أهو تقليد؟ لا تسأل أكثر”.

 

 المسألة
أو المشكلة هنا هي أنه يوجد تباين كبير بين البروتستانت من جهة وآباء الكنيسة من
جهة أخرى بخصوص مفهوم وطبيعة المسيحية. فالمسيحية بالنسبة للبروتستانت هي
“جملة من الحقيقة” محفوظة “بدون عيب” في الكتاب المقدس حصراً.
أما بالنسبة لآباء الكنيسة الأرثوذكسية، ليست المسيحية “جملة” أو
“نظاماً”، بل هي “الحياة في المسيح”. هذه الحياة لا يمكن أن
تُحال أو تُحوَّل إلى مجموعة مُثُل أو أفكار مكتوبة أو إيديولوجية نظرية. القديس
بولس نفسه يوضح هذا قائلاً في 2تسالونيكي3: 6: “ثم نوصيكم أيها الأخوة باسم
ربنا يسوع المسيح أن تتجنّبوا كل أخٍ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التقليد الذي أخذه
منا”. ومن ثم يشرح ماذا يعني بوصفه طريقته في الحياة معهم، وكيف عمل بحيث لا
يكون عبئاً عليهم، حتى ولو كان يحق له كرسول أن يعيش على نفقتهم. لقد أعطى هذا
الرسول العظيم مثالاً حياً لأهل تسالونيكي عليهم أن يعيشوا وفقه وهذا المثال صار
جزءاً من التقليد الحي الرسولي. هذا هو ما تعنيه الكنيسة بالتقليد. فالتقليد ليس
جملة من العقائد تسير بصورة متوازية للعقائد المذكورة في الكتاب المقدس. لكنه
الحياة التي سلّمها المسيح لرسله، وهم بدورهم سلّموها للكنائس التي أسسوها. فقط
ضمن هذه الحياة (أو التقليد) يمكن للمرء وبصورة صحيحة أن يفهم ما هو مكتوب في
الأسفار الإلهية. لهذا السبب كان الرسول بولس ملحّاً أن يحفظ أهل تسالونيكي
التقاليد، أي الحياة التي سلّمها لهم. فقط بهذه الطريقة يمكنهم أن يفصلوا الرسائل
الصحيحة عن الدخيلة. فقط بهذه الطريقة يمكنهم أن يفهموا بحقٍ ما قد كتبه الرسول
بولس لهم.

 

 القديس
باسيليوس الكبير (القرن الرابع) في مقالته “في الروح القدس” يُظهر بوضوح
حقيقة كون التقليد المقدس هو أكثر من كونه مجموعة من الأفكار أو المثُل. رداً على
هرطقة محاربي الروح القدس (المكدونيين) القائلين بأن المجلة: “المجد للآب
والابن والروح القدس” ليست كتابية، يجيب القديس باسيليوس أنه إذا كان شيءٌ لم
يُكتب فلا يعني أنه ليس عنصراً أصيلاً من التقليد الرسولي:

“بالنسبة
لتعاليم الكنيسة، سواء المُعلنة علناً (البشارة) أو المحفوظة لأعضاء بيت الإيمان
(العقائد)، فإننا تسلّمنا بعضها من مصادر مكتوبة، بينما أُعطيت المصادر الأخرى لنا
سراً، بالتقليد الرسولي. للمصدرين معاً قوة متساوية في الديانة الحقة. فلا أحد
ينكر أي مصدر، لا أحد بأي حال إن كان متآلفاً ولو قليلاً مع قوانين الكنيسة. إذا
هاجمنا العادات غير المكتوبة، مدّعين بأنها ذات أهمية قليلة، فسوف نشوّه الإنجيل
بصورة مميتة، مهما كانت نيّاتنا أوب بالحري، سوف نُنقص تعاليم الإنجيل إلى كلمات
عارية”. الرسل بنوا الكنائس عقائدياً وروحياً فأوصى بولس بالحفاظ على ما وضع
من بنية (غلا1: 8-9). في هذه البنية نزل الكتاب المقدس كقلادة. ليس هو البنية.
البناء قام قبله وبدونه. هو هرياً في المنزل ولكنه ليس المنزل. المنزل هو ما بناء
الرسل شفوياً. لهذا، فالمسيحية هي الحياة في المسيح، وليست جملة من العقائد
والتعاليم. إنها المسيح في المسيحي والمسيحي في جسد المسيح أو الكنيسة. لهذا ليست
المسيحية ديانة كتاب، بمعنى أنها ليست ديانة مرتبطة ومعرَّفة بتعاليم محتواة في
كتاب ما، بل هي المسيح في المسيحيين. لهذا إنقاص المسيحية إلى مجرد ديانة كتاب هو
نحر المسيحية ونحر الإنجيل نفسه الذي يتعارض لاهوته مع القول إن المسيحية هي ديانة
كتاب، لأن “الحرف يقتل لكن الروح يُحيي” (2كور3: 6). المسيحية ليست
الكتاب المقدس. الكتاب يتكلّم عن المسيح والمسيحية. المسيحية هي في الكنيسة. في
الكنيسة (لا في الكتاب) يعتمد المرء ويُمسح بالميرون ويتناول جسد الرب ودمه،
ويجاهد ضد الأهواء والخطية حتى الموت. ويشرح القديس باسيليوس لماذا بقيت هذه
الممارسات الكنسية غير مكتوبة حتى يومنا الحالي:

“أليست
هذه الأمور كلها موجودة في تعاليم غير منشورة وغير مكتوبة، والتي حرسها آباؤنا
بصمت، آمنة من التطفل والفضول التافه؟ لقد تعلّموا درسهم جيداً؛ فأفضل طريقة
لتشجيع توقير الأسرار هي الصمت. فلم يكن يُسمح للمبتدئين بحضور الأسرار؛ فكيف
يمكنك أن تتوقع أن يتم استعراض هذه التعاليم في وثائق عامة؟. هذا يذكّرنا اليوم
بقاعدة أنه لا يجوز إلا للمؤمنين (أعضاء الكنيسة المعتمدين) بحضور الجزء من القداس
الإلهي الذي يُدعى “قداس المؤمنين”.

 

في
النهاية عقيدة “الكتاب المقدس حصراً” أو
Sola Scriptura كانت وليدة غيرة ولكن ليس بحسب المعرفة تجاه التجاوزات البابوية.
ربما لا يقصد البروتستانت (أو معظمهم) أن ينتهي الأمر بهم إلى هذه النتائج الوخيمة،
لكن الحقيقة لا يمكن كبتها أو تغطيتها. المطلوب اليوم هو العودة إلى إيمان الكنيسة
الأولى، كنيسة العهد الجديد، كنيسة الرسل والشهداء والآباء المدافعين والمعلمين
والنسّاك، إلخ… وليس العودة إلى الاجترارات الفكرية الفلسفية بغية الربح بعلم
باطل. كل البروتستانت الذين تحوّلوا إلى الأرثوذكسية في الولايات المتحدة (وسواها)،
وعددهم الآلاف، تجمعهم خبرة واحدة مشتركة: لقد وجدوا في الكنيسة الأرثوذكسية
اللؤلؤة الضائعة، حبة الخردل، الخميرة الدفينة في العجين، النور الساطع للعالم.
وعندما أقول الكنيسة الأرثوذكسية لا اقصد فلاناً من المطارنة أو البطاركة أو
الكهنة. حاشا! وإنما أقصد أو يقصدون بالحري الكنيسة الأرثوذكسية كجسد المسيح الحي
الذي حفظ عبر العصور السابقة وبدون تبدّل الإيمان الرسول الذي سلّمه إلينا رسل
المسيح يسوع له المجد والسجود إلى الآبد. آمين.

 

—-

(1)
أيض، لماذا استغرق الأمر 1100 سنة أخرى قبل أن تأتي جماعة من المسيحيين
(الإصلاحيين) وتقرّر بأن الكتب اليونانية للعهد القديم لم تكن مُلهمة؟ (أي الكتب
السبعينية اليونانية التي لم تكن موجودة في القانون العبراني و التي لم يقبل بها
يهود مجمع
Jamin سنة 90م، والتي يشير إليها الإصلاحيون بأنها قانونية ثانوية).

(2)
خلال حياة مارتن لوثر نفسه ظهرت ما لا يقل عن 12 فئة مختلفة فيما بينها تدعي
الإيمان “بالكتاب المقدس حصراً”. “ناكروا المعمودية” تحدّوا
لوثر بناء على “الكتاب المقدس” فحاربهم اللوثريون وقتلوا الآلاف منهم.

(3)
وهو الذي يتمسّك بحرفية الناموس.

(4)
دحضت الكنيسة كل الهرطقات بكونها مخالفة لما هو ساري المفعول فيها. الهرطقة إحداث
طارئ شاذ مخالف لقانون الإيمان. قبل ظهور العهد الجديد آمنت الكنيسة بفضل بشارة
الرسل الشفوية. قَبِلَت العهد الجديد لأنه موافق لإيمانها. رفضت المزوّرات لأنها
مخالفة له. هي القاضي. هي مالكة الكتاب المقدس الذي تحفظه بالروح القدس (2تيمو1: 14).

(5)
Oscar Cullmann: Baptism in the
New Testament
، The Westminster Press، Philadelphia، 1950.

(6)
G.R.Beasley-Murray: Baptism in
the New Testament
، Eerdmans Publication Co،. Michigan، USA، 1990.

(7)
Joachim Jeremias: Infant Baptism
in the First Four Centuries. The Wsetminster Press
، 1960.

(8)
أخطر ما في البروتستانتية هو الفردية، بينما الكنيسة هي جسد المسيح الواحد
والمؤمنون هم أعضاؤه. هي تفكّك هذا الجسم ليصبح كل بروتستانتي كنيسة مستقلة. ولكنه
كنيسة اسماً لا فعلاً. يحذف نفسه من الوحدة.

(9)
مرة أخرى نقول إن هذه عملية بتر جديدة. يسوع هو رأس الكنيسة. بتروا الرأس فبقيت
الكنيسة جيفة. منطقهم الأعوج يهودي: الله لا يتجلّى في التاريخ والبشر. يبقى
قابعاً في علياته. بترو سر التجسد الإلهي بينما نؤمن نحن أن العنصرة هي استمراره
فينا إلى الأبد. البروتستانتية تنفي يسوع إلى السماء بينما نحن نستقر فيه كما قال
هو في إنجيل يوحنا. الكنيسة هي مسكن الله على الأرض ومكانه إنجيله. حذفوها فحذفوه
من وجودهم. لذلك الخلاف الكبير هو قرب الله وبعده. المسيحية قرّبته. هم عادوا إلى
اليهودية وخوفها من يهوه. يجب تطهيرهم من اليهودية.

(10)
البروتستانت نفروا من سلطات البابا غير المعقولة وامتيازاته الخيالية فرفضوا
الكنيسة جملةً وتفصيلاً. نفروا من المبالغة في تكريم العذراء فرفضوا لقبها
“والدة الإله” وبتوليتها الدائمة وشفاعتها. نفروا من رجال الدين فرفضوا
الأسرار الإلهية بما فيها سر الكهنوت. نفروا من صكوك الغفران والاستحقاقات و..و..
فرفضوا الإيمان العامل بالمحبة ونادوا بعقيدة “الكتاب المقدس حصراً”
و”الإيمان حصراً”. رفضهم للكنيسة وللقب “والدة الإله” يعني
رفضهم للتجسد الإلهي (وهم لم يقصدوا ذلك لا سمح الله).

(11)
كلمة “تقليد” أفضل من “تسليم”. يُقال: قلّده الوسام، والمنصب
والقضاء والسيف. والقلادة….

(12)
في 2تسالونيكي3: 6 كلمة “تقليد” اليونانية تم استبدالها بكلمة
“تعليم” في ترجمة فان دايك البروتستانتية العربية وترجمة
NIV الإنكليزي. الأمر نفسه نراه في 1كور11: 2، حيث استبدلت كلمة
“تقاليد” اليونانية بكلمة “تعاليم”. النصان يحضّان القارئ على
التمسّك بالتقليد أو التقاليد التي سلّمها بولس الرسول للمؤمنين والتي أخذوها منه.

(13)
هذه قاعدة عامة تنطبق على الحياة بجوانبها المختلفة. فالمراقب جزء من الحدث وينقله
بصورة مختلفة عن غيره. هذا ما نراه بأجلى بيان في تباين الأخبار المنقولة عبر
مراسلين تختلف تقاليدهم بعضها عن بعض.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى