علم

الآباء والعقيدة



الآباء والعقيدة

الآباء
والعقيدة

جوزيف
موريس فلتس

 

يُعرّف
الآباء بأنهم [المعلّمون الذين ساهموا في تحديد مضمون الإيمان أو في صياغته أو
شرحه، حيث المقصود بالإيمان ليس هو العقيدة فقط بل هو كل التقليد الذي استلمته
الكنيسة من الرسل وهو ما عبر عنه القديس يهوذا في رسالته بعبارة ” الإيمان
المسلم مره للقديسين” (يهو3)

مقالات ذات صلة

 

وهو
يشمل الإيمان بالمسيح ابن الله وكل العقائد الأخرى المتصلة به وبالخلاص الذي أتمه
بالصليب والقيامة، يشمل عبادة الكنيسة في الليتورجيات كلها وخاصة ليتورجية
الإفخارستيا كما يشمل الحياة الروحية المسيحية الجماعية والشخصية وما فيها من
أخلاق السلوك المسيحي].

 

[
وآباء الكنيسة هم معلمو العقيدة وهم الذين ساهموا فى تحديد مضمون الإيمان وصياغته
وشرحه حتى استقر فى الإطار الذي أجمعت عليه الكنيسة في مجامعها المسكونية حتى
المجمع المسكوني الثالث فى أفسس في القرن الخامس ].

 

إن
ما قام به الآباء كان محصله لنعمه خاصة وعمل قوى للروح القدس ولهذا فإن الكنيسة
تعطى لكتابات الآباء نفس الأهمية تقريبًا التي تعطيها لنصوص الكتاب المقدس. ففي
كتاباتهم نجدهم يعبرون باستمرار ويؤكدون أن معرفتهم بالحقيقة الإلهية تمت فقط
بنعمة الروح القدس وإنارته لقلوبهم، فالقديس كيرلس الأسكندرى يشهد قائلاً: [ إننا
لا نستطيع أن ندخل إلى الحقيقة الإلهية ما لم نستنير بعمل الروح]. أيضًا يوضح
القديس غريغوريوس النيسى في تفسيره لسفر نشيد الأناشيد فيقول: [ أن الروح القدس هو
الذي يعطينا قوة ويحرك أفكارنا ويتقدم أقوالنا ].

 

فحقيقة
أن الآباء قد كتبوا وهم مرشدين بالروح القدس، لهو أمر مقبول فى الكنيسة بل ويمثل
إيمانًا غير مشكوك فيه بالمرة، هذا من جانب، ومن جانب آخر ربما يتساءل المرء: هل
أضاف الآباء بكتاباتهم وخبراتهم الروحية شيئًا جديدًا للحقيقة الإلهية التي
استعلنت مرة فى الإنجيل وعاشتها الكنيسة الأولى؟.

 

ولاستيضاح
ذلك الأمر علينا أن نلاحظ الآتي:

أ
بصفة عامة:

إن
الحقيقة الإلهية والتي تتطابق مع الواقع الإلهي أُعطيت وتُعطى للإنسان بطريقة
كشفية استعلانيه، فلقد اتضحت هذه الحقيقة (الله مثلث الأقانيم وعمله الخلاصي من
أجل الإنسان) على مراحل بالناموس الأنبياء الإنجيل يوم الخمسين… إلخ.

 

هذه
المراحل يسميها القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات “بالتحولات الحياتية”

والمرحلة
الأخيرة من هذه النقلات تبدأ بيوم الخمسين والذي يستمر عمله داخل إطار الكنيسة كما
يؤكد ذهبي الفم.

ويعتبر
القديس. غريغوريوس اللاهوتي أن هذه المرحلة أي مرحلة الإرشاد أو الاستنارة التي
يعطيها الروح القدس داخل إطار الكنيسة كأنها “رجاء تكميلي” (
Elp…doj sumplhrèsij) على حد تعبيره.

 

أما
القديس كيرلس الأسكندرى فانه يوضح المعنى المطلوب كثيرًا عندما يكتب قائلاً
“إن الابن الوحيد لم ينته بعد من استعلانه لنا”. (
oÙ katšlhxen ¢pokalÚptwn ¹m…n Ð
monogen»j
). ويفسر ما يقوله تباعًا
فيضيف بأن عمل الاستنارة المعطى للكنيسة بواسطة الروح القدس هو عمل الابن أيضًا.
وهذا يعنى أن المسيح قد كشف لنا جزءً من الحق الإلهي بينما الروح القدس سوف يقودنا
بإرشاده إيانا إلى “جميع الحق”، وعلينا أن نطلب ونتضرع للروح القدس لكي
يتمم عمله هذا فينا. ومن أجل هذا فإن السيد الرب قد علّمنا أنه من الممكن أن نتعلم
أكثر من الروح القدس.

 

إن
قناعه الآباء بأن ما فى تعاليمهم من أمور تنسحب عليها صفة “الإعلان الإلهي
” بواسطة عمل الروح القدس فيها لهو أمر مؤسس على كلمات السيد المسيح نفسه
لتلاميذه عندما قال لهم: ” بهذا كلمتكم وأنا عندكم وأما المعزى الروح القدس
الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو25: 1426).
وأيضًا ” وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يو12: 1613).

 

إن
كلمات الرب هذه لتتطلب انتباهًا شديدًا من اللاهوتيين فالتحديدات التى تضعها
بالنسبة لقضية إستعلان الحقيقة الإلهية هي عميقة وفى نفس الوقت تمثل أساسًا ثابتًا
وقويًا لتقييم عطاء الآباء اللاهوتي فيما يختص بالحقيقة الإلهية وعقيدة الكنيسة.
وما سبق أن أشرنا إليه يدل على أن الآباء قد فهموا ما جاء في أقوال المسيح هذه.

 

إذن
فعلى حسب كلمات المسيح والفهم الصحيح من جانب الآباء لها فإن السيد الرب كانت لديه
أقوالاً أخرى يقولها وتعاليمًا أخرى يسلمها لتلاميذه ولم يقلها ولم يسلمها والمعزى
الروح القدس سوف يرشد إلى كل الحق ويعلم كل شئ (حسب الحاجة).

 

وبالطبع
فإن كلمات المسيح هذه سوف تقودنا إلى موضوع “تدبير الاستعلان الإلهي”
بمعنى إلى الطريقة التي بواسطتها أعلن الله عن الحق الإلهي عن نفسه. ولكن من
الضروري أن نورد بعض التوضيحات بشأن ما نسميه هنا “الحقيقة الإلهية”.

 

فطالما
أن السيد المسيح لم يستَعلن لنا الحقيقة كاملة وطالما أن في شخص المسيح لدينا ملء
الحقيقة، فهذا يعنى أنه غير محدود، فليس من الممكن أن يُستعلن بكل عمقه وعرضه حتى
ولو كان الله الكلمة قد تجسد. فالتجسد أو بمعنى آخر “التدبير الإلهي” هو
بالفعل استعلان حقيقي وأصيل لكلمة الله. ولكن هذا الاستعلان وهذا الظهور لا يعنى
أن الله الكلمة يُظهِر ويُستعلن كل الحقيقة في كل عدم محدوديتها، في كل عمقها وفى
كل عرضها.

 

فعندما
نقول استعلان الحق الإلهي نقصد الفعل الإلهي ذو الشقين ويتمثل في الآتي:

الله
يستعلن للإنسان الحق الإلهي بناءً على خطة، فعن ذلك الإنسان الذي يجاهد ويطلب بتعب
وصلاه يرفع ذلك الحجاب الذي يعوقه عن المشاركة في الحقيقة الإلهية وبالتالي يصبح
قادرًا على أن يعرف الحق الإلهي، أي بمعنى أن يصبح الإنسان قادرًا على تصور
الحقيقة الإلهية تلك الحقيقة التي سوف تظل غير محدودة بالنسبة له طالما أن الإنسان
مازال محدودًا.

 

وبالتالي
فعلى قدر ما يعرف الإنسان المحدود من الحق الإلهي فسوف يظل الحق الإلهي غير مستنفد.
أما معيار تلك المعرفة ومقياسها فهو حاجة الإنسان لكي يخلص، لكي يتحد بالله وأيضًا
درجة استيعابه لقبول شيئًا جديدًا.

 

ولأن
الإنسان يخلص طالما هو مُشتركٌ في الحق الإلهي وطالما هو مستوعبٌ له، فهنا تظهر
مشكله في بعض الأحيان وهذه المشكلة تتمثل في مدى أصالة هذه الشركة الإلهية وهذا
الاستيعاب للحقيقة الإلهية بين أعضاء الكنيسة.

 

ولأن
خلاص الإنسان يتوقف على مدى صحة وأصالة هذه الشركة أو عدم أصالتها وصحتها فإن
الموضوع يأخذ أبعادًا واسعة، أبعاد قضية حياه أو موت. وعلى هذا يستطيع المرء أن
يُدرك مدى خطورة الأمور والمسائل اللاهوتية داخل الكنيسة ولماذا تعددت هذه المشاكل
وبمعنى آخر لقد كانت هناك أمورًا كثيرة لم يقلها السيد المسيح، أمورًا لا تحصى وأن
الروح القدس سوف يُعطى لنا فيها استنارةً. إن عمل الروح القدس المعزى لم يفترض أن
استعلان الرب غير كامل. لأن المسيح هو الإله المتجسد وهو نفسه استعلان للحق الإلهي
في حد ذاته، وبالتالي فإن استعلان الحق الإلهي في شخص يسوع المسيح هو أصيل وكامل…

 

لكن
هل نستطيع أن نقول إن السيد المسيح الذي هو الحق الإلهي يمكن أن يُستنفد؟ هل
تُستنفد الحقيقة الغير محدودة؟ بالقطع لا.

 

وهكذا
فالله يُستعلن لنا بذاته في شخص يسوع المسيح لأجل خلاصنا، ويعّلم عن شخصه ما يضمن
للإنسان خلاصه، وبينما استمر المسيح في الكنيسة ولدينا كل ما قاله المسيح عن نفسه فإننا
لا نستطيع أن نقول إننا استنفدنا كل الحقيقة (كل المسيح) وهذا يتضح على الأقل من
خلال المحاورات اللاهوتية الكبيرة. فهذه المحاورات اللاهوتية (عن الثالوث وعن
طبيعة السيد المسيح)، تثبت أن المؤمنين مع أنهم كان لديهم الحق الإلهي (المسيح)
ولكنهم كانوا فى احتياج لفهم أعمق لهذه الحقيقة وذلك لكي يتمكنوا من مواجهه تعاليم
آريوس على سبيل المثال، مثلما حدث في حالة أثناسيوس الرسولى الذي واجه تلك
التعاليم وهو مستنير بنعمة الروح القدس كما قال عنه القديس غريغوريوس اللاهوتي.

 

أنه
لسر عميق أنه بينما نشترك نحن مع المسيح فإن معرفتنا بالمسيح (الحق) غير المحدود
هي معرفة لها حدود.

 

بعد
هذا نستطيع أن نقترب أكثر من مفهوم وعود الرب لتلاميذه بشأن إرساله الروح القدس
المعزى لكي يرشد إلى جميع الحق ولكي يّعلم كل شئ.

 

فلقد
وعد الرب بأن المعزى سوف يرشدنا إلى فهم أعمق وأشمل لنفس هذه الحقيقة. فالحقيقة
“الكاملة” تعنى بالطبع ما هو ضروري ولازم لخلاص الإنسان على مدى العصور.

 

ولهذا
نستطيع أن نفسر تطور المسائل المتعلقة بشخص المسيح داخل إطار الكنيسة.

مع
أن المسيح بشخصه تحدث عن نفسه كما أن الرسل كتبوا شارحين عمله الخلاصي فقد ظهر
أولاً موضوع الثالوث وبعد ذلك جرت المجادلات حول علاقة الأقانيم الثلاثة الأمر
الذي يعنى أن الروح القدس أرشد إلى الحقيقة القائلة بأن المسيح الذي هو ابن الآب
هو من نفس جوهر الآب “
ÐmooÚsioj” (هومواوسيوس) له نفس طبيعة وقوة الآب. بعد ذلك ظهر على
السطح موضوع الطبيعتين في شخص المسيح يسوع.

 

إننا
نرصد إذًا إنه في حقل اللاهوت الآبائي إجراءات ثابتة تمثل قاعدة يمكن من خلالها
الوصول إلى فهم متصاعد أفضل وبالتالي إلى معرفة أكثر للحقيقة، تلك الحقيقة التي قد
استُعلنت بالفعل في الكتاب المقدس ولكنها كحقيقة غير محدودة تبقى غير مستنفدة.

 

إن
هذا الفهم الأعمق والمتصاعد للحقيقة الإلهية يتحقق بواسطة الروح القدس الذي يستخدم
بعض أعضاء الكنيسة لكي يصبحوا بهذا الشكل آباء أو معلمين فيها.

 

وفى
عرضهما لمسيرة الإعلان الإلهي المتصاعد هذا فإن القديسين غريغوريوس اللاهوتي
ويوحنا ذهبي الفم يبرران هذا التصاعد في الإعلان الإلهي ويؤيدانه. فهؤلاء الآباء
يرون أنه: [ لم يكن ممكنًا للذين كانوا يسمعون السيد المسيح وهو يتكلم عن نفسه أن
يفهموه وهو يقول لهم إنه مساوٍ للآب لأنهم لم يكونوا قد استطاعوا أن يفهموا إنه
ابن الآب ].

 

ويؤكد
القديس غريغوريوس اللاهوتي على جانب آخر للموضوع يقودنا إلى تفسير لاهوتي لظاهرة
التطور في فهم الحقيقة الإلهية فيقول إن الله لم ير حسنًا أن يعلن للناس الحقائق
الإلهية بدون أن يريدوها أو أن يطلبوها بأنفسهم.

 

وبالتالي
فإن شغف الناس في الكنيسة الأولى وفى فترة ما بعد حلول الروح القدس لإيضاح أكثر
وأعمق للحقيقة يعتبر عاملاً أساسيًا لتحقيق هذا الهدف بواسطة الله نفسه مستخدمًا
في ذلك آباء الكنيسة.

 

وهكذا
ففي الفترة التي صيغ فيها تعبير “
ÐmooÚsioj
(هومواوسيوس) أو تلك الفترة التي نوقشت فيها طبيعة السيد المسيح فإن المؤمنين
كانوا يطلبون معرفة هذه الحقائق اللاهوتية بصبر وإصرار ولهذا فإن الله تراءف عليهم
وأوضح وكشف وأعلن لهم نفس الحقيقة الإلهية أو نفس هذا الحق الإلهي الذي هو المسيح،
من تلك الناحية التي كانت غامضة عليهم.

 

إن
آباء الكنيسة ومعلميها هم هؤلاء الأشخاص الذين تعلن بواسطتهم تلك الحقائق، بمعنى
أنهم يُستخدمون بواسطة الله لنمو الكنيسة في التعليم والعقيدة كما يعلق القديس
يوحنا ذهبي الفم: [ونحن نحب بالحق نحب الله كما نحب القريب وليس لدينا عقيدة كاذبة
ولا نعيش في نفاق، فإننا ننمى كل شئ لدينا وننمو في كل حياتنا ].

 

(ب)
الحقيقة التي كتب عنها الآباء هل هي توضيح واستنارة أم إعلان وكشف؟

بعد
ما سبق استعراضه يبقى التساؤل عن:

ماهية
العطاء اللاهوتي للآباء، أو بمعنى آخر ما هي تلك الحقيقة التي يعبر عنها الآباء
كفهم أعمق للحقيقة الإلهية التي سبق أن اُستعلنت في الكتاب المقدس ومن خلال
التقليد الكنسي؟

 

أول
كل شئ لابد أن نعى أنه حتى وان كنا نتحدث عن فهم أعمق، فإنه ليس لدينا حقيقة إلهية
جديدة. فهذا أمر مستحيل فالقديس ايريناوس وهو يتحدث عن ذلك الشيء
“الإضافي” الذي يستطيع اللاهوتي الحاذق أن يقدمه يشير بوضوح إلى أن هذا
اللاهوتي الحاذق لا يقدم جديدًا أو خلقًا جديدًا، ولكنه وبطريقة ما فإنه يدخل فى
عمق أكثر داخل تلك الحقيقة ويحاول فهم موضوعات التدبير الإلهي معطيًا إجابات على
المشاكل التي تواجه من يعيشون تلك الحقائق الإلهية.

 

إذن
فطالما أنه ليس لدينا حقيقة جديدة فنحن بصدد توضيح أو تفسير لتلك الحقيقة التي هي
موجودة بالفعل. وهذا الأمر لا يقبل الشك بالمرة ولابد أن نلاحظ أن عملية التوضيح
في هذه الحالة هي شئ أكثر وأعمق منه في حالات وموضوعات أخرى لغوية وتاريخية ولهذا
فإن التعبيرات المستخدمة في تلك الحالات لا تكفى ولا تفي الأمور التي يتناولها
الآباء في مباحثاتهم.

 

إن
الحقيقة التي نحن بصددها هنا لا يُقترب منها بطريقة بشرية.. تفسيرية وغيرها من
الطرق المنهجية وذلك لان تلك الحقيقة لم تستعلن بطريقة طبيعية. هكذا فإن عملية
استيضاح تلك الحقيقة تستلزم من الآباء والمعلمين دخولاً إلى داخل هذه الحقيقة
الإلهية ومشاركة فيها بطريقة ما أكثر عمقًا وأكثر أتساعًا (إذا صح لنا التعبير) من
تلك التي وصل إليها معلمون سابقون في عصر سابق لهم.

 

فإن
لم يكن الاقتراب للحقيقة والمعرفة هما شئ كامل (ولن يتم هذا حرفيًا) فحينئذ ستصبح
عملية الاستيضاح هذه هي عملية غير كافية وفى حالات كثيرة تصبح عملية خطيرة لأنه من
السهل أن يقدم لاهوتي تفسيرًا على أنه أصيلٌ وسليمٌ ويكون في الواقع هو نتاج فكرى
وعقلي وغير واقعي وحينئذ سنكون أمام ظاهرة الهرطقة بعينها.

 

فمثلا
في حالة العلاقة بين الآب والابن، فإن عملية استيضاح الحقيقة هنا تعنى التعبير عن
تلك العلاقة بمصطلح “
ÐmooÚsioj” (هومواوسيوس) ذلك التعبير لا يوجد في الكتاب المقدس بالحرف
الواحد بل إن النصوص المتعلقة به (بهذا المصطلح) لو فسرت بالطرق والوسائل الفلسفية
فقط فإنها لن تقودنا إلى فهم واضح لمعنى المصطلح “
ÐmooÚsioj” (هومواوسيوس) وعندما مر حوالي قرنين، ساد خلالهما الشك بسبب
الفكرة القائلة بخضوع الابن للآب (
Subordinatio) في القرنين الثاني والثالث. انتهت الكنيسة إلى حقيقة عَبَّرت
عنها باصطلاح “
ÐmooÚsioj” (هومواوسيوس).

 

فلو
أن النصوص المتعلقة بهذا الأمر أوضحت بشكل مباشر معنى هذا المصطلح لما عرفت
الكنيسة تلك المشاكل لمدة قرنين من الزمن. وعندما توصلت الكنيسة إلى إيضاح المعنى
الحقيقي لهذا المصطلح الذي يتعلق بخلاص أو هلاك المؤمنين، فإن هذا يعنى أنها وصلت
إليه باستعلان أو استنارة إلهية.

 

إن
الأب أو المعلم يستنير أو يصبح قادرًا على استيعاب الحقيقة بصفة أعمق بمعنى أنه
يمتلك خبرة أوسع لتلك الحقيقة وهكذا يستطيع أن يقول أو يعّلم شيئًا إضافيًا عما
قيل من قبل.

 

وهذه
الإضافة هي التي تميز وتفرز كاتبها وتجعله يكون أبًا ومعلمًا في الكنيسة، فعطاء
وتقدمة ومساهمة الآباء توصف بأنها استعلان إلهي وهى بالفعل كذلك لأنها نتيجة لاستنارة
الروح القدس كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي وأيضًا يعلق القديس أثناسيوس بأن
الله كشف لبعض الأشخاص اللاهوتيين شيئًا لم يستطع غيرهم أن يفهموه ولهذا يشجع أن
نلجأ لمثل هؤلاء الأشخاص الذين كشفت لهم الحقيقة أكثر من الآخرين.

 

وفى
مقاله اللاهوتي الثاني يعطى غريغوريوس اللاهوتي للروح دور “الموحى” وفى
مقاله رقم 41 عن يوم الخمسين يطلب قائلاً ” فليرافقني الروح لأعطى كلمة
” ليكتب ما كتب عن ماهية الروح القدس… فهو يؤمن أنه لا يستطع أن يكتب
لاهوتًا بدون أن يكون الروح القدس هو لب هذا العمل. والشخص الذي سيكتب لاهوتًا تحت
هذه الشروط لن يحصل بالقطع على خبرة الحقيقة الإلهية في أبعادها اللانهائية، لن
يعرف “كل شئ” في الحقيقة في عمقها وعرضها، لكنه سيحصل فقط على شئ
“إضافي” أزيد مما حصل عليه شخص آخر في تقليد الكنيسة.

 

هذا
الشخص الذى يقدم العلوم اللاهوتية، يحصل على ذلك الشيء “الإضافي” فيما
يتعلق بإستعلان الحقيقة الإلهية، يدعوه غريغوريوس اللاهوتي “بالأفضل”
وهو شخص قديس تدعوه كل الكنيسة الأب أو المعلم. هذا وقد ذكرنا من قبل أن الشيء
“الإضافي” أو الشيء “الأكثر” الذي يحصل عليه ذلك اللاهوتي
يوصف بأنه يتم بإستنارة من الله. وإنه لشيء واضح أن القديس غريغوريوس وهو يقيّم
عطاء القديس أثناسيوس الرسولى وإضافاته فيما يختص بحقيقة الروح القدس فإنه يُرجع
هذه الإضافة إلى الكشف الإلهي الذي أُعطى للكنيسة لأول مرة بواسطة القديس أثناسيوس.

 

(ج)
عطاء الأب والمعلم هو توسع في المعرفة الإلهية وليس تطورًا لها:

لقد
قدم الآباء وهم مستنيرون بالروح القدس، على طول مسيرة الكنيسة، شيئًا إضافيًا في
إيضاح الحقيقة الإلهية.

 

وهكذا
فعلى الأساس الكتابي وذلك الشيء الإضافي الذي يقدمه الآباء يكون لدينا لبنة ما
نسميه بعلم اللاهوت، وهو العلم الذي يتعامل مع القضايا اللاهوتية بعد أن يمحصها
بطريقة دقيقة ومجهود كبير لكي يُعبر عن الحقيقة الإلهية مستخدمًا في ذلك الوسائل
والطرق اللغوية والتاريخية.

 

ولكن
هل يعنى النمو في علم اللاهوت المدعم بمشورات الآباء وآرائهم اللاهوتية، أنه قد
حدث تطور في الإعلان الإلهي الأول (الأصلي)؟ أم شئ آخر. وبمعنى آخر هل حسّن الآباء
وطوروا ما قد استلموه من الرب ومن الرسل ومن سبقوهم من الآباء؟ بالقطع لا.

 

فما
يوجد في الكنيسة كحقيقة هو شئ حق وأصيل ولا يقبل إعادة نظر وتطورًا. وذلك لأن أية
تعاليم عن الإعلان الإلهي هي تعاليم من الرب ولأجل خلاص الإنسان وهذه تبقى حقائق
ثابتة على مر العصور من القرن الأول وإلى اليوم وإلى آخر الدهور.

 

فلو
كان ما يقدمه علم اللاهوت هو تطورًا للحقيقة فإن هذا يشككنا في أصالة الكنيسة في
كل عصر يظهر فيه عطاء جديد للآباء الأمر الذي يعنى في الواقع إنكارًا لماهية
الكنيسة نفسها.

 

إن
آراء الآباء اللاهوتية والعقيدية هي تمثل خبره روحيه ومعرفة للحقيقة تضاف إلى
الخبرات السابقة فالكنيسة تتقدم عن طريق معلّميها في المعرفة الإلهية للحقيقة
بواسطة عمل الروح، فهي تعيش في مراحل معينة ظاهره نمو، ليس نموًا للحقيقة ولكن نمو
في خبره الحقيقة الإلهية.

 

فالحقيقة
الإلهية نفسها لا تقبل الزيادة أو النقصان لأنها تتطابق والواقع الإلهي. والشيء
الوحيد الذي يمكن أن يحدث هو أن يتمكن الإنسان من أن يختبر هذه الحقيقة بطريقة
أوسع، وبهذا الشكل فنحن لدينا “استكمال” لخبراتنا بالحقيقة الإلهية بما
يتناسب مع المشاكل اللاهوتية التي تواجهنا بين الحين والآخر.

 

وفى
المصطلحات اللاهوتية المعتادة فإننا نسمى بالحقيقة الإلهية كلاً من “الواقع
الإلهي” نفسه وخبرة هذا الواقع الإلهي والمعرفة الحية بهذا الواقع الإلهي.

 

وهذا
ربما يسبب الخلط وسوء الفهم الحادث في بعض الأحيان، ولهذا فإننا نريد أن نوضح وبكل
الطرق أنه بالنسبة للآباء الذين أضافوا إلى التعليم والتقليد الكنسي والعقيدة
فإنهم يضيفون فقط خبرة ومعرفة بالحقيقة الإلهية وهذا يتضح من موقف القديس باسيليوس
الذي واجهه نفس سوء الفهم هذا والذي يرى أنه لا يجب أن نضيف حقائق إلهية أو عقائد
أخرى في الكنيسة ولكن خبرات وإضافات تتعلق بمعرفتنا للحقيقة ذاتها.

 

وأخيرًا
نود أن نذكر بعض الموضوعات التي كان العطاء اللاهوتي للآباء فيها لا ينطبق تمامًا
مع النصوص الكتابية بالرغم من أنه لم يكن غريبًا عن روح الكتاب نفسه. مثل قانون
الكتاب المقدس، بتولية والده الإله القديسة مريم، تكريم القديسين، إكرام الأيقونات.
هذه الموضوعات، على وجه العموم تواجه بطريقة سليمة من ذلك الشخص الذي يعيش في
التقليد الأصيل بداية من الكتاب المقدس ووصولاً إلى مشاركات الآباء اللاهوتية. أما
حقيقة أننا لا نجد بعض المصطلحات مثل تعبير “
ÐmooÚsioj” (هومواوسيوس) في الكتاب المقدس فإن هذا لا يقلل من شأن
مشاركة الآباء هذه في قضايا بمثل هذه الأهمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن
الأمثلة السابقة التي ذكرناها تمثل موضوعات إيمانية وتعبر عن فرادة هؤلاء الآباء
وعن أرثوذكسيتهم، فنحن أمام سيرة مقدسة.. تتوافق نهائيًا مع غاية التاريخ البشرى.

 

(د)
الآباء دخلوا إلى ” الشيء المخفي ” أو إلى ” البهاء المتواري
” في النصوص الكتابية:

إن
آراء الآباء ومعلمي الكنيسة بالنسبة للخبرة والمعرفة بالحقيقة الإلهية ليس هو
بالأمر المستقل أو المنعزل بل هو استمرار وتوسع لواقع معين، هذا الواقع الذي يحتويه
الكتاب المقدس ولهذا فكل ما يحدث في حياة الكنيسة هو مرتبط بشده بالحقيقة الإلهية
المُعّبر عنها داخل الكتاب المقدس.

 

فالآباء
بالتالي كتبوا لاهوتهم على أساس كتابي فالجانب الأعظم من كتاباتهم كان يتعلق
بجوانب تلك الحقيقة الإلهية الواردة في الكتاب المقدس، وذلك لأن الآباء كانوا
يؤمنون في داخل ضمائرهم بأن الكتاب المقدس هو كتاب ” موحى به ” يعبر عن
حقيقة إلهية وواقع أصيل وفريد، لقد رأوا أن الكتاب المقدس هو تعبير عن الحقيقة
الإلهية وليس الحقيقة الإلهية عينها وذلك بالطبع لأن الحقيقة نفسها لا يمكن لأي
كتاب أو أي شكل أن يستوعبها.

 

لقد
كانت لديهم القناعة بحقيقة أن نصوص الكتاب المقدس هي تعبير وشكل، هي نوع من
الكتابة التي تستخدم بطريقة تناسب كل الأحداث ليفهمها القارئ وهي تعبر عن وجهات
خلاصية للحقيقة الإلهية.

 

ولقد
تحدث الآباء دائمًا عن ضرورة الدخول إلى ما هو “مُخفي” أو إلى ذلك
“البهاء المتواري” والذي يوجد خلف أو أسفل أو أبعد من الحروف الكتابية
وهم يتحدثون عن هذا لأن إسهاماتهم اللاهوتية كانت وظهرت أنها مرتبطة بشده بالحقيقة
الكتابية الإلهية.

 

فالجديد
الذي يقدِّموه هو جديد بالفعل بالنسبة للنصوص الكتابية ولكنه في نفس الوقت يمثل
فقط تعبيرًا عن وجهات أخرى لنفس الحقيقة الإلهية الواحدة التي كانت مختفية بين
سطور النصوص الكتابية.

 

وبتشديدهم
على هذه النقطة فإن الآباء خلقوا معيارًا ومقياسًا لصحة أو زيف أية إسهامات وآراء
يقدمها اللاهوتيون الكنسيون بمعنى أنه لو كان هذا الجديد الذي يقدم بين الحين
والآخر كتعبير عن الشيء “المخفي” للحقيقة الإلهية أو عن “البهاء
المتواري”، يشهد ويوافق ويمثل امتدادًا طبيعيًا لتلك التي عُبر عنها من خلال
النصوص الكتابية لكان هذا الجديد أصيلاً وصحيحًا ولكان نتيجة طبيعية لعملية
استنارة حقيقية بالروح القدس، الأمر الذي يمكنه أن يشكل يقينًا وإيمانًا وتقليدًا
للكنيسة.

 

ولابد
أن نذكر أن الآباء هم فقط الذين أتبعوا هذه الطريقة للدخول إلى ما هو
“مُخفي” أو إلى ذلك “البهاء المتواري” بين نصوص الكتاب المقدس.

 

ولهذا
فإن أعمالهم وكتاباتهم هي إضافات أصيلة وصحيحة تعبر عن شرح ما هو موجود بالفعل
داخل هذه النصوص. على العكس من هذا فإن الهراطقة اتبعوا طريقة أخرى، فقد أظهروا
تمسكًا شديدًا بالنصوص وشجبوا كل ما هو غير موجود بها. وعبروا عن أراء في بعض
الأمور لا تشهد ولا توافق ما عبرت عنه صراحة تلك النصوص. لقد زعموا مرات كثيرة،
ولكي يبرروا مواقفهم وأراءهم اللاهوتية غير الصحيحة هذه، أنهم يملكون تقليدًا من
رسائل رسولية شفوية.

 

من
الأمثلة التي تبين وجهات ذلك الشيء “المخُفي” أو ذلك “البهاء
المتواري” في الحقيقة الإلهية والتي لم يعبر عنه صراحة في نصوص الكتاب المقدس،
أن الروح القدس إله مساوٍ (
omoousioV). لقد كان القديس غريغوريوس اللاهوتي هو المعبر الأساسي عن ألوهية
الروح القدس ولقد اعتمد في كتاباته على ما قد سبق أن قدمه القديس أثناسيوس.

 

فالكتاب
المقدس لم يذكر صراحة أن الروح القدس هو مساوٍ للآب في الجوهر وأن له نفس طبيعة
الآب، ومع ذلك فإن حقيقة مساواة الروح القدس بالآب في الجوهر تتفق تمامًا وتشهد
بما جاء في الكتاب المقدس عن ذلك الأمر. وهذا يقنعنا أن اصطلاح “
ÐmooÚsioj” (هومواوسيوس) هو تعبير أصيل لوجه الحقيقة الإلهية هذه
والغير واردة في الكتاب المقدس الذي يتحدث عن الحقيقة الإلهية بالنسبة للروح القدس
بصفة عامة.

 

وعليه
فلقد توصل القديس غريغوريوس لحقيقة ألوهية الروح القدس بفهمه العميق للكتاب المقدس
من ناحية وبواسطة إنارة الروح القدس له من ناحية أخرى لأنه هو نفسه يقول: [ فقط عن
طريق الله يستطيع الإنسان أن يعرف أشياءً كثيرةً عن الله ] وفي نفس المقال يستطرد
فيقول: [ أنه من الضروري للإنسان أن يقتنى نعمه “التفكير المشترك” مع
الروح القدس لكي يعرف ماهية الروح القدس ].

 

إن
دخول الآباء إلى “البهاء المتواري” للحقيقة الإلهية هو عمل لا نستطيع أن
نحلله بالمنطق فهو عمل يتم عن طريق معطيات وقوانين لا يمكن فحصها بعمل المنطق البشرى
بالرغم من أن الواقع الروحي للمعرفة الإلهية وبالتالي لعلم اللاهوت يرتبط
بالالتزام والتوافق المنطقي فإن المعرفة الأشمل للحقيقة الإلهية لا تتم في غياب أو
بالانفصال عن قوى الإنسان الفكرية بصفة عامة. فعندما نتكلم عن استنارة الروح القدس
فإننا نعنى أن عقل الإنسان يتسع بقوة الروح القدس فيه فيصبح قادرًا على أن يفهم
وبالحرى يقبل حقائق أكثر مما قبل، فيصل إلى نتائج لم يكن يعرف من قبل حتى بمجرد
وجودها.

 

وأخيرًا
فإن الآباء عاشوا في أحضان الكنيسة، والكنيسة عاشت وتعيش تعاليمهم وتقواهم التي
اعتبرتها دائمًا أصيلة وأرثوذكسية… وفى ضميرها الحي رأت فيهم استمرارًا
وامتدادًا للرسل.

 

فقد
سلم الرسل الاثني عشر خدمتهم الشخصية وهى التعليم لآباء الكنيسة كما يقول القديس
إيريناوس.

 

وهذا
ما دعا كنيستنا الملهمة بالروح أن تلقب مثلا أبًا ومعلمًا فيها وهو القديس
أثناسيوس بلقب الرسولى أي أنه امتداد للرسل في القول والفعل. فترتل له قائلة:


أيها الراعي الأمين الذي لقطيع المسيح البطريرك المكرّم أثناسيوس رئيس الكهنة الذي
بتعاليمه المقدسة ملأت العالم كله… الذي صار رسولاً مثل التلاميذ في القول
والفعل “.

 

كما
أن الكنيسة اليونانية تكرمه فتقول: [ أيها الأب… إن النسمة الحاملة الحياة، نسمة
روح المسيح التي حلت قديمًا من العلاء في البرية وانسكبت على التلاميذ قد انبثت
فيك بجملتها كما يليق بالله فأظهرتك رسولاً ثالث عشر كارزًا بالإيمان المستقيم
الرأي].

===

تفسير
إنجيل يوحنا
PG 74,537B.

2
تفسير نشيد الأناشيد
IB PG 44,1016
AB
.

3S. G PapadopÒlou, Patrolog…a A, b
œkdosh, Aqhvai 1982. 6.25
.

(حيث
يمثل هذا الكتاب مرجعًا أساسيًا لهذا الموضوع).

ذهبي
الفم.
PG 50,454 العظة الأولى على عيد البندقسطى.

غريغوريوس
اللاهوتي
PG 36,456 AB المقالة 41 عن الروح القدس.

كيرلس
الأسكندرى
PG 74,576 في شرحه لإنجيل يوحنا الإصحاح 12.

يوحنا
ذهبى الفم فى شرحه لأعمال الرسل
PG
36. 16 1
.

ق.
غريغوريوس اللاهوتي المقال اللاهوتي رقم 31: عن الروح القدس
PG 36. 161.

ذهبي
الفم في شرحه لرسالة أفسس
PG 124,
1088 D – 1089A
.

إيريناوس
elegcoV، AC3.

القديس
أثناسيوس: عن المجامع 40,3.

ق.
غريغوريوس اللاهوتي
PG 36، 125 BC.

القديس
باسيليوس: الرسالة 223: 5
PG 32، 829 B.

ق.
غريغوريوس اللاهوتي: 43: 65
PG
36,584 AB
.

إيريناوس:
Elegcoj G 3,1.

ذكصولوجية
فى يوم تذكار الآية العظيمة التى صنعها الرب مع القديس أثناسيوس يوم 30 توت.

الأودية
الرابعة لأثناسيوس، يوم 18 كانون الثاني.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى