علم المسيح

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل
الثاني

العشاء
الأخير

[دواء الخلود وترياق
عدم الموت.]
([1])

[أكل الإنسان الأول
فسقط ومات بعيداً عن الله، وأكل الإنسان
الجديد فارتفع وعاش مع
الله].

لقد
ثبَّت المسيح وجهه نحو أُورشليم بعد أن أكمل عمله، وفي أُورشليم كان ينتظر الساعات
بثقة من قدَّم نفسه للآب لتكميل المشيئة المرسومة. وكان المعروف وقتها، والآن
أيضاً، أنه كان عالماً بكل ما سيأتي عليه، لأنه لم يكن غريباً عن صميم عمله الذي
جاء ليكمِّله بالخروج المُحْكَم، لتكميل خلاص العالم.

ولابد
أن أخبار خيانة يهوذا وتخاطبه مع رؤساء الكهنة كانت قد بلغته من أصدقائه في المجمع
مثل: يوسف الرامي ونيقوديموس. لذلك رتَّب المسيح أن يخرج هذا التلميذ من وسط
الجماعة قبل البدء في الفصح.

والمعروف
عند العلماء أن المسيح رتَّب أن يكون العشاء قبل الفصح مساء الخميس 13 نيسان صابح
الجمعة 14 نيسان ميعاد ذبح الحمل(
[2]). وواضح أنه في صباح الجمعة
عند بدء المحاكمة، رفض رؤساء الكهنة أن يدخلوا دار الولاية ليتابعوا التحقيق مع
المسيح بحجة: “ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان صبح. ولم
يدخلوا هم إلى دار الولاية لكي لا يتنجَّسوا، فيأكلون الفصح” (يو 28: 18).
وأيضاً يوضِّح إنجيل ق. يوحنا أن الصلب حدث يوم الجمعة، وكان الخوف أن تبقى
الأجساد على الصليب فيدخل السبت، وهذا محرَّم بالناموس: “ثم إذ كان استعدادٌ
(= باراسكيفي أي يوم الجمعة، وهو استعداد للسبت)، فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب
في السبت، لأن يوم ذلك السبت (الذي يقع في عيد الفصح) كان عظيماً، سأل اليهود
بيلاطس أن تُكسَر سيقانهم ويُرفعوا.” (يو 31: 19)

وهكذا
أكمل المسيح خطته المضادة لخطَّة رؤساء الكهنة؛ إذ رتَّبوا أن لا يحدث، لا القبض
ولا الصليب يوم العيد. ولكن إذ أكمل المسيح تدبيره بالدخول الملكي المظفر إلى
أُورشليم وترائيه في وسط الهيكل وجموع الشعب الغفيرة التي تعلَّقت به، أجبرهم على
سرعة القبض والصلب، لأنه رأى أن يكمِّل فديته في ميعاد ذبح الحمل تماماً، ليكون
فصحاً جديداً للعالم: “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا” (1كو 7: 5)،
بعد أن ألغى الفصح القديم إلى الأبد. ويلاحظ أن رؤساء الكهنة أُجبروا تحت ضغط الحقد والكراهية أن يخالفوا الناموس
ويقترفوا جريمة قتل يوم العيد لتُحسب
ضدَّهم!

أمَّا
العشاء(
[3]) كونه كان يوم الخميس مساءً “عشية
الجمعة”
التي خرجوا فيها بالليل وتوجَّهوا إلى جبل الزيتون، فقد أشار
إليه ق. بولس في رسالته الأُولى إلى أهل كورنثوس هكذا: “لأنني تسلَّمت من
الرب ما سلَّمتكم أيضاً، إن الرب يسوع في الليلة التي أُسلم فيها (عشية
الخميس ثم ليلة الجمعة)، أخذ خبزاً..” (1كو 23: 11)

كذلك
هناك شهادة أخرى من إنجيل ق. متى تؤكِّد أن عشاء الخميس كان بشبه فصح تعويضي عن
الفصح الذي كان يتعذَّر فيه على المسيح أن يحضره لأنه سيصلب فيه حسب التدبير، هكذا
لمَّا أرسل المسيح تلميذيه ليُعِدُّوا للفصح: “فقال: اذهبوا إلى المدينة، إلى
فلان (الاسم سرِّي حتى لا يسمعه يهوذا مسبقاً) وقولوا له: المعلِّم يقول إن
وقتي قريب
(بمعنى لن أحضر يوم الفصح وعليَّ أن أرسمه قبل ذهابي). عندك أصنع
الفصح مع تلاميذي” (مت 18: 26)، أي الفصح قبل الفصح، بمعنى أصنعه اليوم، أي
قبل الفصح. وفعلاً صنعه في نفس اليوم، وكان يوم الخميس قبل الغروب، ولكنه انتهى في
المساء؛ فيكون مساء الخميس هو “عشية الجمعة”، وهو اليوم الذي صُلب فيه!

لذلك فإن المسيح باشر في عشاء الخميس كل طقس الفصح اليهودي
ما عدا أكل الخروف، إذ استبدل به الجسد والدم. والأمر الطريف في الموضوع أن اليهود
الذين تنصَّروا أصبحوا يقيمون الفصح في ميعاده، ولكن بطقس
مسيحي([4]). هذا هو الذي دعا الأناجيل
الثلاثة المتناظرة أن تقول إن العشاء تمَّ في اليوم الأول من الفصح.

وقد
تميَّز هذا العشاء الأخير بأمرين:

الأمر
الأول:
غسل
أرجل التلاميذ.

الأمر
الثاني:
تأسيس
سر الإفخارستيا.

 

132- غسل
أرجل التلاميذ

+” مَنْ أراد أن يصير
فيكم أولاً يكون للجميع عبداً”

(مر
44: 10)

§ وهوذا السيد والمعلِّم غسل أرجل تلاميذه.. من هنا يبدأ معنى
السيادة والتعليم في المسيحية.

لكي
لا يكون هذا الفصل غريباً عن الأذهان، يلزم أن نسجِّل للمسيح أقواله السابقة التي
تكشف عن سر هذا التقليد الجديد:

(لو
22: 26و27): “
وأمَّا
أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدِّم كالخادم. لأن مَنْ هو
أكبر؟ ألذي يتكئ أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ؟ ولكني أنا بينكم كالذي يخدم”

(مت 26: 20-28): “فلا يكون هكذا فيكم (التسارع للمكان
الأعظم). بل مَنْ أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومَنْ أراد أن يكون
فيكم أولاً فليكن لكم عبداً. كما أن ابن الإنسان
لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخْدِم، وليبذل نفسه
فدية عن كثيرين”

واضح، إذن، من غسل المسيح لأرجل تلاميذه، أنه أراد أن يضع
قاعدة العمل في المسيحية التي هي

بعينها قاعدة العمل لحساب الملكوت. وهو أن يكون المتقدِّم في الجماعة هو أكثرهم
قرباً من المسيح والملكوت، وهذا لن يتأتَّى إلاَّ بالرجوع والعودة إلى روح الطفولة
في إنكار الذات والإحساس بعدم الاستحقاق عن
صدق ويقين الضمير والفكر. فنحن بصدد ملكوت جلال ومجد الله، وقداسة
وطهارة
ملائكة وأرواح قديسين أبرار. فأين نقف من هؤلاء إلاَّ بقامة طفل يتودَّد ويتقرَّب
بدالة العدمية!!

وقصة غسيل أرجل التلاميذ في العشاء الأخير لا تأتي هامشية،
بل تقع في
صميم الاحتفال المقدَّس، إذ تقول الرواية وهم جالسون
للعشاء: ” قام عن العشاء، وخلع ثيابه (كما يفعل الخادم والعبد)، وأخذ
منشفة واتَّزر بها- أي ربط وسطه كما يفعل الخادم- ثم صبَّ ماءً في مِغْسَلٍ،
وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ
(وهم
جلوس أمامه)
ويمسحها بالمنشفة التي كان
مُتَّزراً بها”
(يو 13:
4و5)

اندهش
التلاميذ للمنظر وأخذتهم الحيرة كيف يتصرَّفون! لأن المسيح في مقام الكرامة العليا
بينهم، فأن يقوم بعمل وضيع هو عمل الخدم والعبيد، أمر أربك مشاعرهم، ولكن لمخافتهم
كمُّوا أفواههم وتبادلوا نظرات الحيرة والخوف، وجمدوا في أماكنهم دون مقاومة. غير
أن بطرس كالعادة انفجر بالتذمُّر: “لن تغسل رجليَّ أبداً” (يو 8: 13).
ولكن في هدوء الأطفال ووداعة الحملان ردَّ عليه: “إن كنت لا أغسلك فليس لك
معي نصيب”! والمعنى عميق عمق الأبدية! فأنا أغسل عنك كبرياءك وادِّعاءك
بالأولوية، لتصير مثلي عبداً بالمشيئة بعد ألوهية المجد! لتملك معي في مجدي ويكون
لك معي نصيب!

وبالرغم
من أن بطرس لم يفهم إلاَّ التهديد فقط فَقَبِلَ، بل طلب غسيل يديه ورأسه أيضاً.
لكن المسيح أقنعه أن الذي اغتسل (اعتمد) فهو طاهر لا يحتاج إلاَّ لغسل رجليه
(للاتضاع). ولا يعني المسيح بها إلاَّ عمله هو: “كخادم يغسل الرجلين”
حتى يتعلَّم بطرس ومعه بقية التلاميذ العِبْرة من ذلك. بمعنى أن يعمل كعمل المسيح،
أي ينزل إلى مستوى العبد، إن هو أراد أن يكون له نصيب مع المسيح العبد الذي يخدم
وهو الإله. فالطاهر لا يحتاج إلاَّ أن يأخذ شكل
العبد!! ثم عاد ليقول: “وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم” (يو
10: 13)، لقد استثنى الذي نجَّس الشيطان قلبه:
“لأنه عرف مسلِّمه.” (يو 11: 13)

+
“فلمَّا كان قد غسل أرجلهم وأخذ ثيابه واتكأ أيضاً، قال لهم: أتفهمون ما قد
صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلِّماً وسيداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك. فإن كنت
وأنا السيد والمعلِّم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض.
لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً.” (يو 13: 1215)

وكأن
المسيح أراد في نهاية تعاليمه كلها أن يعطي الدرس الأخير وهو قمة التعليم، ومضمونه
أنه جاء ليكون مثالاً للذين عزموا عزم الإيمان واليقين أن يتبعوا الرب من كل
قلوبهم. غسل أرجلهم لا ليغسلوا أرجل بعض وحسب، بل ليعملوا عمل العبد لا السيادة.
فإن كان وهو الإله أخذ صورة عبد، فأصبح الطريق إليه معروفاً من خلال صورة العبد
ذاتها. وهكذا أنهى قوله: “الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد أعظم من سيده
(المسيح)، ولا رسول أعظم من مُرسله. إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه!!” (يو
13: 16و17)

وهذا هو نفس الدرس الذي استوعبه بولس الرسول من الرب نفسه
وقدَّمه لنا بلغته العملية هكذا:

+
“فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً: الذي إذ كان في صورة الله،
لم يَحْسِبْ خُلْسَة أن يكون معادلاً لله.
لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه
الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت
الصليب.” (في 2:
58)

 

133- خروج
الخائن من وسط الجماعة

[كل الظروف كانت مواتية
ليهوذا ليكون كبطرس ويوحنا، ولكنه وثق في نفسه أنه أعظم، فخسر الكل].

لقد
سبق المسيح وأشار في عدة مواقف إلى يهوذا، مثل قوله السالف: “أنتم طاهرون
ولكن ليس كلكم” لكي يشير إشارة واضحة إلى يهوذا حتى لا يؤخذ التلاميذ بفعلته
السوداء حينما تظهر للعلن. كذلك لئلاَّ يعتقد التلاميذ أن المسيح نفسه كان على غير
دراية بأعمال يهوذا وخيانته. وأيضاً لعلَّ ضمير الخائن يستيقظ، ولكن لمَّا لم
يرعوِ يهوذا، بل سار في غيِّه سادراً، كشف المسيح عن شخصه: “أنا أعلم الذين
اخترتهم، لكن ليتم الكتاب: الذي يأكل معي الخبز رفع عليَّ عقبه.. الحق الحق أقول
لكم: إن واحداً منكم سيسلِّمني” (يو 13: 18و21). فكانت مفاجأة أتعبت الأبرياء
منهم وجعلتهم يستفسرون عن الفاعل، وأوعز بطرس إلى يوحنا، وهو الجالس على شمال الرب
كأصغر الجماعة سنًّا، أن يسأل المسيح. فأعطاه المسيح العلامة بأن غمس اللقمة
وأعطاها ليهوذا. ويقول الكتاب إن بعد اللقمة دخله الشيطان، فقام عن المائدة،
ولعلَّ قيامه واضطرابه كان لمَّا أحسّ بأن التلاميذ قد كشفوا سريرته. وما كان من
المسيح بعدها إلاَّ أن قال له: “ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة” (يو 27: 13)، ليس كأنه يعطيه أمراً أن يعمل، بل أن
يكمِّل خيانته التي نوى
عليها لعلَّه يراجع ضميره؛ فما راجع وما رجع، بل
سار يقوده الشيطان إلى حتفه.

فلمَّا
خرج يهوذا في ظلام الليل كان أن تنفَّس المسيح الصعداء وكأن كابوساً كان على صدره،
فقال مشيراً إلى موته الذي بدأ يتحقَّق بذهاب يهوذا لتسليمه: “الآن تمجَّد
ابن الإنسان وتمجَّد الله فيه.. فإن الله سيمجِّده.. سريعاً” (يو 13: 31و32).
ولم يَقُلها المسيح إلاَّ في يقين إحساسه بأن ذبيحة موته سيتمجِد الله فيها
ويتمجَّد هو بمجد الله هذا. لقد كان المسيح يحس بطهارة حياته ونقاوة قلبه وفكره،
فلم تتعكَّر نفسه لا بأعمال التهديد ولا بأعمال الوعيد. فإن كان الموت للقديس بولس
ربحاً، فكم يكون الربح للمسيح من أجلنا جميعاً؟ فبافتخار البشرية فيه قالها مرَّة:
مَنْ منكم يبكتني على خطية واحدة فعلتها!! فأين يسكن فيه الخوف من الموت أو المحنة
وهو قد سَمَا بروحه فوق قمم البشر. لقد طال
السماء لشموخ قداسته وما خانته نفسه لحظة ولا هوى جسده لطرفة
عين!

لقد
استمدَّت الطفولة منه وداعتها، واستودع نفسه لمن يقوده في طاعة الحمل حتى إلى
الموت. ولكن السر الذي نودّ أن نعرفه: كيف احتمل المسيح يهوذا ثلاث سنوات ونصف؟
أليس معه كان يعاشر الموت كل يوم! أليس هنا، وليس هنا فقط، نكتشف وداعة المسيح
وحلمه ونسيانه للخطايا وتحمُّله للرزايا وصفحه للإساءة حتى ولو بلغت حجم الموت؟ ثم
أليس من هنا، وليس من هنا فقط، ندرك سر تعليمه بل سر علمه لا كمَنْ يحكي عن نموذج
يراه، بل عن نموذج يتكلَّم منه وعنه. هذا هو الإنسان يسوع المسيح، قياسه كقياس
السماء في صفائها، وطبيعته كطبيعة النور في
وضوحها، ومحبته كينبوع لا يكف عن
فيضانه.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى