علم المسيح

رؤيا الثلاثاء: الإنباء بالدينونة



رؤيا الثلاثاء: الإنباء بالدينونة

رؤيا الثلاثاء:
الإنباء بالدينونة

تلك
الرؤيا التي انبعثت منها، أما م المسيح، الساعات الحوالك التي سوف تنزل بإسرائيل
قضاء الويل، ألعلها هي التي أفضت به – عن طريق المقايسة – إلي ذكر دينونة أخري سوف
تزان فيها البشرية بموازين الأبد؟.. أو لعل توقع الفاجعة المتربصة به، قد أهاب به
أيضاً إلي تمثل تلك اللحظة التي سوف يعقد له فيها النصر المخلد؟ من امتيازات
النبوة أن تخرج بصاحبها عن حدود الزمن. ولما كانت أفكاره غير منتظمة في سلك الزمن،
فهي تتلاحم عن طريق المقاومة، وتتلا بس عن طريق المجانسة، وذلك ما يخلع حتماً علي
أقوال الأنبياء حجاباً من الإبهام. والمخلص نفسه قد خضع لهذا الحال، يوم استسلم،
باختياره للروح النبوي، فجعل يلبس خراب أورشليم بخراب الكون، مجرداً من علائق
الزمن، أوصاف الكوارث الكبرى في تجانسها الموضوعي ” {للكاتب جوزيف دي مستر،
في الحوار الحادي عشر من ” امسيات سانت بترسبورغ “}. والحق أن ليس من
إبهام في أقوال المسيح هذه. بيد أن فكرته قد خضعت – بلامراء – لقانون المجانسة، أ:
ثر مكن تقيدها بقوانين المنطق. والمجانسة إنما هي من أعمق وسائل المعرفة البشرية،
ولكن من أشدها غموضاً. هذا، وقد أصاب التلاميذ أنفسهم وجه التقارب بين الدينونتين،
فسألوه في شأن ” المنتهي “.

 


مثلما أن البرق ينبثق من المشرق، ويلمع حتى المغرب، كذلك يكون مجيء ابن البشر
” فسأله التلاميذ: ” يا معلم أبن ذاك؟” فقال: ” حيثما تكون
الجثة، فهناك تجتمع النسور!” جواب غامض! ولكن لا أدري أي نور سماوي ينبعث
منه، فأذا به من أروع ما جاء في الإنجيل من وحي شعري: فكما يهتدي النسر إلي رزقه،
يهتدي الصديقون إلي مخلصهم. أو – في تفسير أخر – حيثما تكون الخطيئة، تلك الجثة
المتفسخة، ينقض عدل الله عليها انقضاض الكواسر..

مقالات ذات صلة

 


وعلي الأثر، بعد ضيق تلك الأيام، تظلم الشمس، والقمر يحبس ضوءه، وتتساقط الكواكب
من السماء، وتتزعزع قوات السماوات، ويكون كرب للأمم علي الأرض، حيرة من عجيج البحر
وجيشانه، وتزهق الناس من الخوف في انتظار ما سيأتي علي المسكونة ” ”
وعندئذ تظهر علامة ابن البشر. وعندئذ أيضاً ينوح جميع قبائل الأرض، ويشاهدون ابن
البشر آتياً علي سحاب السماء في كثير من القدرة والمجد. ويرسل ملائكته بالبوق
العظيم، فيجمعون فيجمعونه مختاريه من مهاب الرياح الأربعة، من أقصي السماوات إلي
أقصاها.”

 

مثل
هذه الأقوال كم كان – ولا شك – وقعها في نفوس أولئك الأوفياء الذين كانوا يضعون
إليه! فالصور التي عمد إليها هي نفس الصور التي ألفها اليهود في كتب الأنبياء،
والتي أزهرت في كتب ” الرؤى “، القانونية منها والمنحولة. أو لم يكن
أشعيا قد أخبر أن سقوط بابل وجزاء أدوم سوف يسبقهما مثل تلك الطلائع (أشعيا 13
و34)؟ أو لم يكن إرميا قد أنبأ يمثل ذك علي أورشليم (5) وحزقيال علي مصر (32)،
ويوئيل خصوصاً، إذا أخبر عن يوم الرب المشهود، بمثل أسلوب المسيح (1: 1-10)؟ وأما
بشري مجيء المسيح في مجده، فقد كان بإمكان كل يهودي أن يتذكر ما جاء عنها في نبوءة
دانيال الشهيرة، حيث قال: ” ورأيت في رؤى الليل، فإذا بمثل ابن البشر آتياً
علي سحاب السماء..” (دانيال 7: 13-14). لكم كان إذن خوفهم؟.. فالسؤال الذي
كانوا قد طرحوا – والذي يتبادر إلي لسان كل مؤمن يفكر في تلك اللحظة الرهيبة –
ألعلهم، يا تري، كرروه: ” متي يا رب؟”

 

. أو
ليس حسبهم تلك ” العلامات ” التي أتي علي ذكرها، للتعرف بالزمان المحتوم؟
أو ليس إذا أخرجت الأشجار أوراقها، وأخذت تبعث النضج شيئاً فشئياً في ثماوها، تقرر
لهم أن الصيف بات علي الأبواب؟.. وأما أو يكشف لهم عن اليوم والساعة، فذلك مستحيل،
لان الآب وحده يملك سرهما. لقد كان الناس يأكلون ويشربون ويتزوجون، إلي أ، دهمهم
الطوفان، وكانت سدوم منغمسة في الترف يوم أطبق عليها من السماء نار وكبريت، كذلك
يكون مجيء ابن البشر: مباغتاً ومستغلقاً من جميع الوجوه! فهاتان المرأتان
الجالستان إلي الرحى، والآخذتان بمقبضة الجاروشة العيلية، تتناوبان علي إدارتها
تارة ذات اليمين وتارة ذات اليسار، سوف تؤخذ إحداهما وتترك الأخرى. وهذان القرويان
المنصرفان إلي الفلاحة، جنباً إلي جنب، سوف يخلص أحدهما، ويهلك الأخر!.. النتيجة
أذن واحدة، حاتمة ّ فقد قال المسيح في كتاب ” الرؤيا “: ” سوف أتي
ماللص!” (3: 3). فلا بد إذن من التيقظ والسهر، لئلا يأتي السارق وينقب جدار
البيت. ويجب ألا يتمثل المؤمن بالعبد المتهاون، الذي استغل غياب سيده، فطفق يأكل
ويشرب، وعندما عاد سيده وجده نائماً. فاسهروا إذن وصلوا في كل حين، فتحسبوا أهلاً
لأن نفلتوا من شر تلك الكوراث

 

بهذه
التوصيات انتهت تلك ” الرؤيا ” التي اجتمعت الأناجيل المؤتلفة علي
تدوينها (متي 24: 23-51)، مرقس 13: 21 – 37، لوقا 17: 22-37، 21: 25-36). بيد أ،
القديس متي قد أضاف إليها رواية مثلين، فالأول – مثل العذارى الحكيمات والعذارى
الجاهلات هو شبه تعليق رائع علي ضرورة السهر. وقد اتخذه نفاشو القرون الوسطى،
مراراً موضوعاً زخرفياً: فأذا خمس منهن إلي يسار المسيح، وخمس إلي يمينه، يمثلن
مشهد الدينونة الأخيرة. فالحكيمات منصرفات إلي تعهد زيت ” المشاهدة ”
والتأمل. بينما الجاهلات شاخصات باكتئاب. إلي سرجهن الصغيرة، وقد بدت مقلوبة.. وقد
أخذ المسيح هذه القصة الصغيرة مما كان مرعياً، عند اليهود، من ملاقاة العريس –
ليلة زفافه – في موكب هزج، والدخول به إلي حيث كانت تنتظره العروس، وإننا لنجد لها
– علي بساطتها وقرب متناولها – من قوة الإقناع، ما نجده في أجود أمثال الإنجيل.
وكل منا يعلم يقبنا – إذا أصغي إليها – أن ذاك الهتاف الليلي المباغت الذي يستنهض
المتهاونات. إنما هو صوت أملاك – في الأيام الأخيرة – ينادي به البشرية إلي
الحساب. (متي 25: 1-13).

 

.
والدينونة هي التي يرمز إليها أيضاً المثل الآخر: مثل الوزنات. فلقد أوتي كل إنسان
إمكاناته وطاقاته، وسوف يحاسب عنها يوماً. فالذي أوتي كثيراً، يطالب بالكثير، وليس
فقط بمقتضي العدالة البشرية! ففي عالم الروح، كل من أقتني كثيراً يعطي ويزاد، وأما
من اقتضى قليلاً، فالقليل أيضاً ينزع منه (متي 25: 13 – 30) هكذا يكون يوم المسيح!
” فمتي جاء ابن البشر بمجده، وجميع الملائكة معه، حينئذ يجلس علي عرش مجده عن
الداء. ويقيم الخراف عن يمينه، والجداء عن يساره. حينئذ يقول الملك للذين عن
يمينه: ” تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء
العالم!..”. ويقول للذين عن يساره: ” أذهبوا عني، يا ملاعين، إلي النار
الأبدية التي أعدت لإبليس وملائكته!..” (متي 25: 31 – 46)

 

لم
تكن هذه أول مرة يخبر فيها المسيح – علي هذا النحو – بالدينونة الأخيرة. فلقد كان
أنبأ، مراراً، بتوزع البشر إلي فئتين: فئة الأخيار، وفئة الأشرار، فئة الذين سوف
يثابون بالرؤية السعيدة، وفئة الذين سوف يصلون ناراً حامية: القيمين الخونة،
والعذارى الجاهلات، والمدعوين الذين لم يرتدوا ثياب العرس، والكرامين القتلة،
والزوان المفصول عن الحنطة!.. هكذا نقضي النهار علي وقع ذاك الدرس الرهيب – ولعله
أشد الدروس هلا! – ولكان وقعه أشد من أن يحتمل ” ولتشوه، من جراء ذلك، رسم
” المعلم الصالح “”، لولا تلك الكلمات الرقيقة التي ذيل بها القديس
متي الفقرات الأخيرة من هذا الفصل. فالمسيح، في يوم الحساب، سوف يقول للمباركين:
” جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني، وكنت مريضاً
فعدتموني، ومحبوساً فأتيتم إلي!”. حينئذ يجيبه الصديقون قائلين: ” يا رب
متي رأيناك جائعاً فأطعمناك، أو عطشان فسقيناك، ومتي رأيناك غريباً فآويناك، أو
عرياناً فكسوناك، ومتي رأيناك مريضاً أو محبوساً فجئنا إليك؟ “، فيجيبهم
قائلاً: ” الحق أقول لكم، أن كل ما صنعتموه إلي واحد من أخوتي هؤلاء، إلي
واحد من الأصاغر، فإلي قد صنعتموه! “. فق غمرة قد عني يذلك أن الحب إنما هو
جوهر الدعوة المسيحية، وتعزية القلوب التي تصغي إليها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى