اللاهوت الروحي

الفصل الثانى



الفصل الثانى

الفصل الثانى

3- ما هو الإيمان؟

مقالات ذات صلة

” جربوا أنفسكم هل أنتم في الإيمان..
إمتحنوا أنفسكم” (2 كو 13: 5)

كلمة الإيمان قد يدعيها كل إنسان يعبد الله..

وربما لا يكون مؤمناً بالحقيقة..

قد يكون له إسم المؤمن، ولكن ليس له قلب المؤمن.

 

ليس الإيمان هو أن يولد الإنسان من أسرة متدينة
تؤمن بوجود الله، فيصير مؤمناً تلقائياً بوجود الله. إنما الإيمان له معنى أو معان
أعمق من هذا بكثير.. نعم له معنى قد يشمل الحياة الروحية كلها، وله معنى قد يصنع
الأعاجيب. في إحدى المرات لم يستطيع تلاميذ الرب أن يخرجوا شيطاناً من إنسان مصروع،
فسألوا الرب عن سر ذلك فقال لهم “لعدم إيمانكم” (متى 17: 20).. ووبخ
الجمع قائلاً: “أيها الجيل غير المؤمن الملتوي” (متى 17: 17). ليكن ذلك
الجيل غير مؤمن. ولكن رسل المسيح نفسه، أنطلق عليهم حينذاك عبارة “عدم
إيمانكم “؟.. يا للهول. وهنا يستطرد المسيح قائلاً لتلاميذه: “الحق أقول
لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل: إنتقل من هنا إلى
هناك. فينتقل” (متى 17: 20).

 

حقاً، ما هو هذا الإيمان، الذي حبة خردل منه،
تستطيع أن تنقل الجبل..؟!

 

لذلك حسناً قال الرسول: “إختبروا أنفسكم: هل
أنتم في الإيمان؟ إمتحنوا أنفسكم” (2كو13: 5).

 

على أن الكتاب يروى لنا شيئاً عجيباً.. أخطر من
هذا بكثير.. فما هو؟ إنه حال إنسان يبدو مؤمناً بالرب ويصلى، ويصنع المعجزات، وهو
غير مؤمن بالحقيقة! بل غير مقبول أمام الله! هوذا الرب نفسه يقول: “ليس من
يقول لى يا رب يا رب، يدخل ملكوت السموات..” (متى 7: 21).

 

ويتابع الرب كلامه قائلاً: “كثيرون سيقولون
لى في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟
فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم قط. إذهبوا عنى يا فاعلي الإثم” (متى 7: 22،
23). ماذا نسمى هؤلاء الذين يقولون يا رب يا رب.. باسمك صنعنا كذا وكذا..؟ أهم
مؤمنون بالحقيقة؟!

 

ربما يكون هذا إيماناً ظاهرياً، إيماناً
شكلياَ‏ً، أو إيماناً بالإسم، أو مجرد إيمان عقلي، ولكنه ليس إيماناً حقيقياً
مقبولاً أمام الله!

 

فما هو إذن الإيمان الحقيقى المقبول أمام الله؟
نسأل الرب فيجيب:

 

“ليس كل من يقول لى يا رب يا رب.. بل الذي
يفعل إرادة أبى الذي في السموات (متى 7: 21). ويذكرنا هذا أيضاً بقصة العذارى
الجاهلات اللائى استعملن أيضاً عبارة يا رب يا رب ووقفن وراء الباب المغلق يقلن: يا
ربنا يا ربنا إفتح لنا. فسمعن منه تلك الإجابة الصريحة المرعبة “الحق أقول
لكن إنى ما أعرفكن” (متى 25: 12).

 

إن عبارة يا رب لا تفيد مطلقاً، إن كنت تنتظر
العريس بمصباح لا زيت فيه، أو إن جئت بعد أن أغلق الباب..

 

ما هو، الإيمان إذن؟ وما علاقته بالزيت الذي
يرمز إلى الروح القدس، وإلى المسحة المقدسة؟ وما علاقته بمشيئة الآب الذي في
السموات؟ إنه هذا الإيمان الحي، المقبول من الله، كما سنشرح بالتفصيل فيما بعد..

 

إذن الإيمان ليس مجرد عقيدة، إنما هو أيضاً حياة.

 

يمكن أن تختبره بثماره في حياتك.. فهكذا قال
الرب “من ثمارهم تعرفونهم.. كل شجرة جيدة تصنع أثماراً ردية. ولا شجرة ردية
أن تصنع أثماراً جيدة. فإذن من ثمارهم تعرفونهم” (متى 7: 16-20). بهذا تختبر
نفسك: هل إيمانك له ثمر؟ لأنه من ثمارهم تعرفونهم.

 

وهكذا يعلمنا القديس يوحنا الحبيب: “بهذا
نعرف أننا قد عرفنا..”، كيف؟ “إن حفظنا وصاياه”، “من قال قد
عرفنه، وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه..” (1يو 2: 3، 4).. إذن
الإيمان يختبر بحياة الطاعة لوصايا الله. والذي لا تكون له هذه الطاعة لا يعتبر
مؤمناً بالحقيقة. بل لا نقول عنه إنه قد عرف الله..

 

إن هناك وسائل كثيرة لاختبار الإيمان، سنحدثك
عنها في باب خاص.

 

والقديس بولس الرسول يقدم لنا قائمة رائعة لرجال
الإيمان في رسالته إلى العبرانيين (عب 11). وكلهم من ذلك النوع الذي ظهر الإيمان
في حياته الخاصة.. مثل أبينا أخنوخ الذي لم يقل الكتاب عنه إنه دافع عن عقيدة
معينة، كالقديس أثناسيوس الرسول الذي دافع عن العقيدة ضد الأريوسية، أو كالقديس
كيرلس الكبير الذي دافع عن العقيدة ضد النسطورية، ومثل باقي أبطال الإيمان في
العقيدة.. إنما كان أخنوخ من أبطال الإيمان، لأنه “أرضى الله “(عب 11: 5).
أو كما قال سفر التكوين “وسار أخنوخ مع الله” (تك 5: 22، 24). وأنت قد
لا تكون لاهوتياً عميقاً في المعرفة مثل القديس أثناسيوس أو القديس كيرلس. ولكنك
بلا شك في إمكانك أن تحيا في منهج أبينا أخنوخ الذي سار مع الله وأن تحيا مثل باقي
رجال الإيمان الذين ذكرهم القديس بولس الرسول الذين “أقروا بأنهم غرباء
ونزلاء على الأرض.. وكانوا يبتغون وطناً أفضل أى سماوياً” (عب 11: 13، 16).

 

لقد كان أبونا إبراهيم من رجال الإيمان، لأنه
“لما دعي أطاع” (عب 11: 8)، فخرج وراء الله وهولا يعلم إلى أين
يذهب”. وحسب من رجال الإيمان، لأنه صدق مواعيد الله حتى وهو يقدم إبنه وحيده،
واثقاً أن الله قادر على الإقامة من الأموات (عب 11: 17 – 19). ووضعت زوجته سارة في
قائمة أبطال الإيمان، لأنها صدقت قول الرب “إذ حسبت الذي وعد صادقاً”
(عب 11: 11).

 

إذن ليس أبطال الإيمان هم فقط أبطال الدفاع عن
العقيدة، إنما أيضاً أولئك الذين صدقوا الرب، وساروا معه، وصنعوا براً (عب 11: 33).

 

وأيضاً أولئك الذين “عذبوا ولم يقبلوا
النجاة، لكي ينالوا قيامة أفضل “، أولئك الذين “طافوا في جلود غنم وجلود
ماعز، معتازين مكروبين مذلين، “تائهين في براري وجبال ومغائر وشقوق الأرض،
“وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم” (عب 11: 35 – 38). هؤلاء كلهم كانوا
مشهوداً لهم بالإيمان (عب 11: 39). في كل هذا يعطينا الكتاب معنى واسعاً لكلمة
الإيمان. ومعلمنا القديس بولس الرسول يقول لنا في معنى الإيمان هذا: “الإيمان
هو الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا ترى” (عب 11: 1). وعبارة أمور لا ترى
هي عبارة واسعة جداً، سندخل في تفاصيلها بعد حين إن شاء الله. ولكننا نقول كمثال: أنت
ترجو أشياء كثيرة بعد الموت. ترجو حياة أخرى دائمة، وعشرة مع الملائكة والقديسين.
وترجو رؤية الرب في الفردوس. وترجو القيامة من الموت بجسد روحاني غير قابل للفساد
(1كو 15). وترجو النعيم الأبدى بعد القيامة العامة. وأنت تثق بوجود كل هذه الأمور.

ثقة يقينية كاملة لا شك فيها، دون أن ترى من كل
ذلك شيئاً.. إنه الإيمان.

 

4- الإيمان فوق مستوى الحواس

وهنا نرى أن الإيمان يرتفع فوق مستوى الحواس:

إنه لا يتعارض مع الحواس، إنما هو مستوى أعلى من
مستوى الحواس. وهو قدرة أعلى من قدرة الحواس التي لها نطاق معين لا تتعداه فالحواس
المادية تدرك الماديات. غير أن هناك أشياء غير مادية، تخرج عن نطاق قدرة الحواس
المادية. وحتى قدرة الحواس بالنسبة للأشياء المادية، هي محدود أيضاً. وكثيراً ما
تستعين الحواس بعديد من الأجهزة لمعرفة أشياء مادية أدق من أن تدركها حواسنا
الضعيفة. فكم بالحري إذن الأمور غير المادية، التي قال عنها الرسول إنها
“أمور لا ترى”؟! إن ما يرى بالعين المادية يدخل في نطاق (العيان) وليس
الإيمان (2 كو 5: 7). فالروح مثلاً لا ترى ولا تدرك بالحواس المادية. سواء كانت
روح بشر أو ملائكة. وعدم إدراك الحواس لها لا يعي عدم وجودها. إنما يعني أن قدرة
الحواس محدودة. لها نطاق معين تعمل فيه لا يصل إلى مستوي الروح. والله روح (يو 4: 24).
لذلك فإنه لا يدرك بالحواس المادية.

 

لذلك فإنني عجبت من رائد الفضاء يوري جاجارين Yuri
Gagarin
الذي قال إنه صعد إلى
السماء ولم ير الله!

 

وقد ظن في تهكمه أنه يمكن أن يرى الله بهذه
العين الجسدية القاصرة التي لا ترى كثيراً من الماديات! كما أن الله في كل مكان،
في الأرض وفي السماء وما بينما، ولا يحده مكان. فإن كان لم ير الله على الأرض، فلن
يراه أيضاً في السماء، ولا في أى موضع آخر، لأن الله لا يرى إلا بالإيمان.. تراه
بالروح (1 كو 2: 10). عدم رؤيتك لله بعينك، لا يعنى أن الله موجود. إنما تفسير ذلك
هو أن عينك قاصرة. ومهما قويت، فإن لها نطاقاً محدوداً تعمل فيه، هو نطاق الماديات.
ولذلك قلنا إن الإيمان أعلى من مستوى الحواس.

 

في العهد القديم، كان مستوى الناس ضعيفاً، فكان
تأثير الحواس في الدرجة الأولى والأهم، لذلك كان الله يظهر لهم في السحاب والضباب
والنار.

 

لقد كلمهم من على الجبل وسط البروق والرعود،
والجبل يدخن، وقد صعد دخانه كدخان الأتون. وارتجف كل الجبل جداً. وكان سحاب ثقيل
على الجبل، وصوت بوق شديد، فارتعد كل الشعب الذي في المحلة (خر 19: 16 – 18). وكان
كان المنظر هكذا مخيفاً حتى قال موسى أنا خائف ومرتعد (عب 12: 21). بهذا الأسلوب
كانوا يفهمون قوة الله وأهمية الوصية المعطاة لهم. أما في حياة الإيمان، فإن القلب
يفهم قوة الله في غير حاجة مطلقاً إلى هذا الإعتماد الكبير على الحواس. إن الإيمان
مستوى أعلى من الحواس، لا يعتمد عليها، ولا يحتاج إليها.

 

5- الإيمان مستوى أعلى من العقل

إن العقل قد يوصلك إلى بداية الطريق. أما
الإيمان فيكمل معك الطريق إلى أقصاه. الإيمان لا يتعارض مع العقل. ولكنه يتجاوزه
إلى مراحل أبعد بما لا يقاس، لا يستطيع العقل بمفرده أن يصل إليها. وما لا يدركه
العقل، نسميه “غير المدرَك”. ونحن نصف الله بأنه “غير مدرك”.
لأنه أيضاً غير محدود. بينما العقل البشرى محدود ولا يدرك سوى الأمور المحدودة،
التي تدخل في نطاقه. العقل يستطيع أن مجرد معرفة الله، وإلى بعض صفاته. ولكن
بالإيمان “الروح يفحص كل شئ، حتى أعماق الله” (1 كو 2: 10). وبالنسبة
إلى المؤمن، يكشف الله له ذاته. أو يكشف له ما يحتمل الطبيعة البشرية أن تدركه..

 

العقل قد لا يدرك أشياء كثيرة، ولكنه يقبلها:

 

العقل ليس من طبيعته أن يرفض كل ما لا يدركه. بل
حتى في المحيط المادي في العالم الذي نعيش فيه، توجد مثلاً مخترعات كثيرة لا
يدركها إلا المتخصصون. ومع ذلك فالعقل العادي يقبلها معها، دون أن يدرك كيف تعمل،
وكيف تحدث. والموت يقبله العقل، ويتحدث عنه، ومع ذلك فهو لا يدركه، ولا يعرف كيف
يحدث. فإن كان العقل يقبل أموراً كثيرة في عالمنا، وهولا يدركها. فطبيعي لا يوجد
ما يمنعه من قبول أموراً أخرى أعلى من مستوى هذا العالم.

 

العقل لا يدرك (المعجزة) كيف تتم. ولكنه يقبلها
ويطلبها، ويفرح بها.

 

لقد سميت المعجزة معجزة، لأن العقل يعجز عن
إدراكها وعن تفسيرها. ولكنه يقبلها بالإيمان.. الإيمان بوجود قوة غير محدودة، أعلى
من مستواه، يمكنها أن تعمل ما يعجز العقل عن إدراكه. وهذه القوة هي قوة الله
القادر على كل شئ.

 

إننا نحترم العقل. ولكننا في نفس الوقت ندرك
حدود النطاق الذي يعمل فيه. ولا نوافق العقل. المغرور الذي يريد أن يعي كل شئ،
رافضاً كل ما هو فوق مستوى إدراكه.

 

ينبغي للعقل أن يتضح، ويعرف مستواه “ولا
يرتئي فوق ما ينبغي” (رو 12: 3). وفي الأمور التي هي فوق إدراكه، يجب أن يسلم
قياده للإيمان. أما إن أراد العقل أن يحطم كل ما لا يدركه، فإنه سيحطم نفسه أخيراً،
ويفقد الإيمان ويحصر نفسه في دائرة ضيقة جداً،هي دائرة إدراكه المحدود. والذين
يسلكون هكذاً، إعتاد البعض أن يسميهم (العقلانيون)، لأنهم يعتمدون على العقل وحده،
ودون الروح! إن العاقل يمكنه أن يصل إلى الله. أما العقلاني فلا يصل.

 

والمؤمنون عاقلون، ويحترمون العقل، ويستخدمونه
أيضاً في الأمور الدينية واللاهوتية. ويوجد بين المؤمنين فلاسفة وحكماء وأشخاص على
مستوى عال من الفكر والذكاء. ولكنهم على الرغم من كل هذا، لا يمزجون العقل بالغرور
ولا يثقون بقدرة العقل على إدراك كل شئ. وإنما في بساطة واتضاع، يعترفون أن عقولهم
محدودة، وقصره عن إدراك كل ما يحيط بالله غير المدرك.. وبالإيمان تقبل قلوبهم
وعقولهم ما هو فوق مستوى العقل..

 

العقل البسيط المتواضع، هو الذي يقبل الإيمان،
والمعجزة.

 

نقصد بعبارة (التواضع) إنه لا يعتز بإدراكه
الخاص. ولا يحطم كل ما هو فوق إدراكه. ونقصد بعبارة (البسيط)، العقل الذي لا يعقد
الأمور، ولا يصر على إدخال كل شئ في حدود معامله ومقاييسه الخاصة. ولعنا سنعود إلى
هذه النقطة، حينما نتحدث عن (بساطة الإيمان).

 

الإيمان ليس هو مجرد تلاوة قانون الإيمان، إنما
هو حياة نحياها.

 

إن كنت تحيا في الإيمان، والإيمان له ثماره في
حياتك العملية، فإنك تستطيع أن تختبر إيمانك بالفضائل التي تبدو واضحة في حياة
المؤمن، وهي عديدة.. وبها تنفيذ قول الرسول “إمنحوا أنفسكم: هل أنتم في
الإيمان؟ إختبروا أنفسكم” (2 كو 13: 5).

 

6- الإيقان بأمور لا تُرى

قال الرسول في معني الإيمان إنه “الثقة بما
يرجى، والإيقان بأمور لا ترى” (عب11: 1). ونود أن نعرف تفسير هذه العبارة.

الإيقان:

أى التأكيد الشديد، والثقة، والعقيدة التى لا
تعرف شكاً. ليس الأمر مجرد فكر أو رأى، أو معلومات نتيجة قراءة أو سماع. إنما يقين
أكيد بوجود هذه الأمور التى لا ترى.

 

وهنا يبدو الفرق بين رجال الإيمان، ورجال البحوث
العلمية.

 

أصحاب البحوث العلمية، لا تدخل في نطاق عملهم كل
تلك الأمور التى لا ترى. وهم لا يكونون في حالة يقين من شئ إلا إذا فحصوه تماماً
بكل أجهزتهم ومقاييسهم العلمية. وعلى نفس هذا المنهج كل أصحاب المذاهب المادية.
أما المؤمنون فهم ليسوا كذلك. إنهم يتعبون قول الرب “طوبى لمن آمن دون أن
يرى” (يو 20: 29). المؤمن يقبل مثلاً فكرة الخلق من العدم. أما الباحث العلمي،
فترفض أبحاثه هذا الأمر، كما ترفض أيضاً أن يشبع من خمس خبزات خمسة آلاف رجل (غير
النساء والأطفال)، وتفيض عنهم إثنتا عشرة قفة مملوءة. أما المؤمن فيقبل كل هذا …

 

المؤمن يقبل أولاً فكرة الله القادر على شئ. ثم
في دائرة يقينه من جهة هذه القدرة غير المحدودة، يقبل كل شئ …

 

وهكذا يريح نفسه من شكوك غير المؤمن ومن بحوثه
وفحوصه الكثيرة. وهو ليس فقط يقبل ما لا، ويكون موقناً بوجود غير المرئيات، بل إنه
أكثر من هذا يعايش ما لا يرى، ويركز فيه كل تفكيره وكل عواطفه، حسبما قال الرسول
“غير ناظرين إلى الأمور التى ترى، لأن التى ترى وقتية. أما التى لا ترى
فأبدية” (2 كو 4: 18). ولعلك تسأل: كيف ننظر ما لا يرى؟ فأقول بالإيمان.

 

ما هي إذن هذه الإمور التى لا ترى؟ لعل في
مقدمتها الله نفسه، وصفاته، وعمله، وكل ما يتعلق به.

1- الله، وصفاته، وعمله

2- الإيمان بمواعيد الله التي لا ترى

3- سكنى الروح وعمله فينا

4- عمل النعمة فينا

5- البركة

6- الإيمان بوجود الملائكة وعملهم

7- الإيمان بالروح والعالم الآخر

8- لقد آمن الناس بمجيء المسيّا دون أن يروه

9- الفداء

10- إحسانات الله الخفيَّة

11- وجود الله في حياتنا، وقوته العاملة فينا

12- ما يحدث في المعمودية

13- سر الافخارستية

14- بهذا الإيمان نتقبَّل ما في المسيحية من
أسرار

 

7- الله وصفاته وعمله

إن الله لا يرى، وقد قال القديس يوحنا الإنجيلي:
“الله لم يره أحد قط..” (يو 1: 18). حقاً من يستطيع أن يرى اللاهوت؟! لا
أحد. ومع ذلك فأنت تؤمن به من كل قلبك، وبكل ثقة. ولا يعتمد هذا الإيمان مطلقاً
على الحواس. أو قل إنك تراه بتلك الحواس الروحية الدربة (عب 5: 14). تلك الحواس
غير المادية التي تدربت أن ترى ما لا يرى. ولنا أمثلة على ذلك من الكتاب:

 

يقول داود النبي “تقدمت فرأيت الرب أمامي
في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع” (مز 15). فكيف رأى الرب أمامه وعن
يمينه كل حين؟ لا شك أنه رآه بعين الإيمان. وفي بعض الترجمات يقول “جعلت الرب
أمامي كل حين”. أى أنه ناظر إليه باستمرار، ناظر إلى ما لا يرى، مركزاً فيه
فكره وشعوره. وبنفس المعني يقول إيليا النبي “حي هو رب الجنود الذي أنا واقف
أمامه” (1 مل 18: 15). فكيف شعر أنه واقف أمام الرب؟ وكيف كان يرى الرب أمامه
في كل حين؟.. ليس بالحواس الجسدية طبعاً، لأن الحواس الجسدية ليست هي التي تحرك
قلب المؤمن. بل إن الرب أمامه بالإيمان. وهو بالإيمان. وهو بالإيمان يرى ما لا يرى.

 

إن كنت في الإيمان، فلا بد ستثق إن الله أمامك
في كل حين، وتتصرف وفق هذا الإيمان: إنه يراك ويسمعك..

 

وإن عشت في الإيمان، فستثق أن الله في وسط شعبه،
حسب وعده الصادق”.. هناك أكون في وسطهم” (متى 18: 20)، “ها أنا
معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20). إنك لست تراه بعينك الجسدية،
ولكنك تؤمن تماماً أنه في وسطنا. لست محتاجاً أن ترى بعينيك لكي تصدق. فأنت تؤمن
دون أن ترى. أو ترى ما لا يرى.

 

ما هي حياتنا الروحية يا إخوتى؟ إنها ليست سوى
انتقال من نطاق المحسوسات والمرئيات إلى نطاق ما لا يرى.

 

ونحن نعيش في ما لا يرى، بملئ الثقة أنه موجود
أمامنا. وهذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن. غير المؤمن يريد أن يرى كل شئ
بعينيه، والإ فإنه لا يصدق.

 

أما المؤمن فإنه لا يجعل من عينيه حكماً على كل
ما يؤمن به.. ولا كل حواسه، ولا المعلومات الظاهرة. بل إن قلبه يوقن بوجود أمور لا
يراها بعينيه.. إن اعتماد الإنسان على عينيه لكي يصدق، أمر وبخ الرب عليه تلميذه
توما قائلاً له “لا تكن غير مؤمن بل مؤمناً” “ألأنك رأيتني يا توما
آمنت؟! طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يو 21: 27، 29). قلنا إنه من ضمن الإيقان
بأمور لا ترى، الإيمان بالله.. ولكننا لا نعني بهذا.

 

مجرد الإيمان بوجود الله، وإنما الإيمان بصفاته
وبعمله.

 

فتؤمن مثلاً بصلاح الله وخيريته. وبأنه لا يصنع
إلا خيراً. وتؤمن أنه ضابط الكل، يرقب كل شئ وكل أحد. وتؤمن أن الله قادر على كل
شئ، وأن “غير المستطاع عند الناس، مستطاع عند الله” (لو 18: 27). وتؤمن
بمحبة الله لك ولغيرك.. كل هذه الصفات، لا تراها. ولكن تؤمن بوجودها، وتؤمن برعاية
الله للكون، وحفظه له جملة، ولكل فرد فيه على حدة.. وتؤمن أن الله يعمل، سواء رأيت
عمله أو نتائج عمله، أو لم تر شيئاً..

 

8- الإيمان بمواعيد الله التي لا تُرى

وقد حسب من رجال الإيمان أولئك الذين “لم
ينالوا المواعيد، بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها، وأقروا بأنهم نزلاء وغرباء
على الأرض” (عب 11: 3). وهؤلاء نظروا بالإيمان، صدقوا ما قيل لهم من قبل الرب..
ومن هذه المواعيد “ما أعده الله للذين يحبونه “وكلها من الأمور التي لا
ترى، إذ قال عنها الرسول “ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب
بشر “(1 كو 2: 9). ومن الأمور التي لا ترى، إنذارات الله.

 

لقد آمن نوح بكلام الرب أنه سيحدث طوفان، مع أن
كلمة (طوفان) هذه، كانت جديدة على سمعه وعلى معرفته. ولم يحدث طوفان من قبل في
أيامه، ولا في أيام سابقيه. ولكنه آمن بحدوث هذا الشئ الذي لم يره أحد من قبل. وظل
سنوات يعمل في بناء الفلك، محتملاً استهزاء الناس به وبفلكه وتهكمهم.. وكانت سنوات
من الإيمان. ولذلك أعتبر أبونا نوح من رجال الإيمان لأنه صدق إنذار الله بالطوفان.
وبالإيمان رأى هذا الطوفان قائماً قبل أن يكون. ولذلك دخل الفلك هو وبنوه ونساؤهم.
وكما قال معلمنا القديس بولس الرسول “بالإيمان نوح، لما أوحي إليه عن أمور لم
تر بعد، خاف فبني فلكاً لخلاص بيته..” (عب 11: 7). بينما معاصروه لم يصدقوا
إنذار الله، ولم يؤمنوا بصدق كلام الله فهلكوا.. ونفس الوضع نقوله عن أبينا لوط
وأهل سدوم. هو صدق إنذار الله قبل أن يحدث. مع أنها كانت المرة الأولى التي تنزل
فيها نار من السماء كما كانت المرة الأولى التي يحدث فيها طوفان في أيام نوح. وهوذا
إنذارات الله الخاصة بالأبدية وبالدينونة قائمة أمامنا، ومع ذلك فالناس مازالوا في
شرورهم وأخطائهم، كأن الله لم يقل شيئاً.. لا مخافة الله في قلوبهم، ولا خشية
الأبدية، ولا حرصاً، ولا توبة.. تحدثنا عن الله وعن صفاته وعمله، وعن مواعيده
وإنذارته، ضمن الأمور التى لا ترى. ونضيف على ذلك:

 

9- سُكنى الروح وعمله فينا، من الأمور التي لا
تُرى

صموئيل النبي صب من قنينة الدهن على الصبي داود،
فحل عليه روح الرب (1 صم 16: 13). ولم ير أحد روح الرب وهو يحل عليه. ولكن هكذا
كان. إنه من الأمور التي لا ترى وكان الرسل يضعون أيديهم على الناس، فيحل عليهم
الروح القدس (أع8: 17). وما كان أحد يرى الروح القدس وهو يحل على الناس. ثم أصبح
الروح القدس ينال بالمسحة المقدسة (1 يو2: 20، 27). وعرفت هذه المسحة باسم
(الميرون). ولم يكن أحد يرى الروح، إنما ثماره تظهر في الحياة. أنت تعرف تماما أن
هناك قوة خفية تعمل فيك وتعمل معك، دون أن تراها، هي التي قال عنها الرب
“ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم” (أع 1: 8). هذه القوة،
قوة الروح هي التي تعمل فيك كل خير، وتساعدك في كل خدمة، وتحميك من كل خطية..

 

هنا ونقول إن حياتنا كلها تصبح شركة مع الروح
القدس (2 كو13: 14).

 

ما هذه الشركة؟ وكيف تحدث؟ وكيف نصبح شركاء
للطبيعة الإلهية في العمل؟ إن هذا من الأمور التي لا ترى. لا نراها ولكن نؤمن بها.
نؤمن بروح الله العامل في الكنيسة، الساكن فيها. هوذا الرسول يقول “أما
تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم” (1 كو3: 16)، “أم لستم
تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله” (1 كو6: 19).
وسكني الروح فينا أمر لا نراه. قد نرى ثماره فقط. أما نفس السكني فلا نراها.
والروح لا نراه. ومن عمل الروح فينا قول الرب لنا عن الوقوف أمام الولاة والملوك
“لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح
أبيكم يتكلم فيكم” (متى 10: 19، 20). كيف يتكلم روح الله فينا؟ إن هذا من
الأمور التي لا ترى.

 

10- عمل النعمة فينا، من الأمور التي تُرى

تأتينا زيارات من النعمة، تشعلنا بمحبة الله. لا
نراها ولكن نحسها.

ولا شك أن عمل النعمة فينا هو من الأمور التي لا
ترى. يقول القديس يوحنا للإنجيلي “أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا”
(يو1: 17).

 

فما هي هذه النعمة العاملة فينا؟

ما هي هذا النعمة التي عاش بها القديس بولس
الرسول فقال “… ولكن بنعمة الله، أنا ما أنا. ونعمته المعطاة لي لم تكن
باطلة” (1كو 15: 10).

 

ويقول عنا جميعاً “فإن الخطية لن تسود كم،
لأنكم لستم تحت الناموس، بل تحت النعمة” (رو6: 14). ويقول لتلميذه تيموثاوس
الأسقف “فتقو أنت يا إبنى بالنعمة التي في المسيح يسوع” (2 تى 2: 1).

 

نحن لا نرى هذا النعمة بعيوننا الجسدية، فهي من
الأمور التي لا ترى. ولكننا نلمسها في حياتنا. وعمل نعمة الله فينا هو فوق الحواس.
ونحن نتقبل هذه النعمة من الله.

 

ونأخذها بركة من الكنيسة التي تردد لنا قول
القديس بولس الرسول “نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس تكون
مع جميعكم، آمين” (2 كو 13: 14).

إن هذا يجعلنا ننتقل إلى نقطة أخرى هي البركة:

 

11- البركة، من الأمور التي لا تُرى

سواء البركة التي من الله نفسه مباشرة، أو بركة
الله التي تأتي عن طريق الوالدين، أو من الكنيسة من الأب الكاهن. كلها أمور لا ترى.

 

لقد قال الله لأبينا ابرآم أبى الآباء
“أباركك، وأعظم إسمك. وتكون بركة. وأبارك مباركيك.. وتتبارك فيك جميع قبائل
الأرض” (تك 12: 2، 3). لقد رأى ابرآم ثمار هذه البركة في حياته.

 

ولكن البركة نفسها: ما هي؟ إنها من الأمور التي
لا ترى.

 

وإسحق بارك يعقوب إبنه، فصار مباركاً. وبكي عيسو
لأنه لم يحصل على هذه البركة (تك 27).

 

ويعقوب بارك افرايم ومنسي قائلاً “الملاك
الذي خلصني من كل شر يبارك الغلامين” (تك 48: 16). وصار الغلامان مباركين.
ولكن افرايم صار أكثر بركة من أخيه، لأن أبانا يعقوب وضع عليه يده اليمين (تك 48: 17
– 20).

 

ما هي هذه البركة؟ وكيف سرت من يد إسحق ومن يد
يعقوب؟ وكيف سرت من أيدى الآباء الرسل؟ وكيف تسرى من أيدى خلفائهم ومن رجال الله
جميعاً، كما يروى لنا الكتاب..؟

 

إنها كلها أمور لا ترى.

ونحن نؤمن بالبركة مع أنها لا ترى، ونسعى إلى
طلبها ونواها. ونأخذها من أيدى الآباء والأمهات ومن الآباء الكهنة ومن كل رجال
الله المباركين. ونعرف تماماً أن ابرآم كان بركة للعالم حسب قول الرب.

 

وأن يوسف الصديق كان بركة في بيت فوطيفار وبركة
في كل أرض مصر، وأن إيليا النبي كان بركة في بيت أرملة صرفة صيدا.. نقول هذا كله،
ونحن لا نستطيع وضع معنى محدد للبركة، فهي أوسع بكثير من الألفاظ المحدودة.

 

وهي أمر لا يرى. نرى ثماره فقط. ولكن البركة
نفسها. من يستطيع أن يراها وبشخصها؟! كيف سرت البركة من يد السيد المسيح إلى الخمس
خبزات والسمكتين، فصار هذا الطعام البسيط كافياً لعدة آلاف من الناس، وفاض عنهم
إثنتا عشرة قفة مملوءة؟

كيف حدث هذا الأمر؟ وما نوعيته ومفعوله وبالضبط..
كلها أمور لا ترى.

 

12- الإيمان بوجود الملائكة وعملهم

نحن نؤمن بوجود الملائكة، الملائكة أرواح لا ترى.
وربما لا نكون قد رأينا ملاكاً في حياتنا كلها. ومع ذلك نؤمن أنهم حولنا وأن
“ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز 34: 7). ونوقن بأن الملائكة
تملأ الكنيسة. ونثق أنهم معنا في كل مواضيعنا “أليسوا جميعهم أرواحاً خادمة،
مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14).

 

كثيرون يفرحون حينما يرون العذراء في رؤيا، أو
يرون قديسين.

 

ولكن أعظم من هذا أن تؤمن بأن كل هؤلاء حولك،
دون أن تراهم. ليس من الضروري أن يرسل لك الله حمامة بيضاء أثناء حضورك اجتماعات
المساء في الكنيسة.. إنما أنت تؤمن – دون أن ترى – أن الكنيسة مملوءة بأرواح
الملائكة. وترفرف عليها أرواح القديسين الذين يرسلهم الله لخدمة البشر..

 

إن جيحزى تلميذ أليشع، خاف لما رأى الأعداء
محيطين بالمكان..

 

ولكن أليشع، الرجل المفتوح العينين، فكان يرى
الملائكة يدافعون عن المدينة ضد هؤلاء الأعداء. لذلك طمأن غلامه قائلاً له
“لا تخف، لأن الذين معنا أكثر من الذين علينا” (2 مل 6: 16).

وصلى من أجله لكي يفتح الرب عينيه فيرى، إذ كان
جيحزى ليس له الآيقان بأمور لا ترى.

 

13- الإيمان بالروح والعالم الآخر

نحن لا نرى الروح. ولكننا نوقن بوجودها. وحينما
يموت إنسان، تقول إن روحه فارقت جسده. ونحن لم نر هذه الروح تفارق الجسد. كذلك
الإيمان أيضاً يشمل مصير هذه الروح تفارق الجسد. كذلك الإيمان أيضاً يشمل مصير هذه
الروح، في الفردوس أو الجحيم. ويشمل أيضاً عودة هذه الروح إلى الجسد بالقيامة.
ومصير هذا الإنسان القائم من الأموات في الأبدية بعد الدينونة العامة.. وكل هذه
الأمور: الروح – القيامة – الأبدية – الدينونة (الحساب) – الفردوس – النعيم –
الجحيم.. كلها أمور لا ترى. لذلك فالإيقان بوجودها جميعها يدخل في نطاق الإيمان.
حقاً إن العالم الآخر بكل ما فيه، يتحدث عنه أحد إلا بالإيمان. والذي يؤمن بالحياة
بعد الموت، إنما يوقن بأمور لا ترى.

 

14- آمن الناس بمجيء المسيّا دون أن يروه

حتى المرأة السامرية، قالت للرب “أنا أعلم
أن المسيا – الذي يقال له المسيح – يأتي. فمتي جاء ذاك يخبرنا بكل شئ” (يو 4:
25). وهكذا كان الجميع موقنين بمجيء المسيا، حسب وعد الرب. وكانوا ينتظرونه بكل
شوق. ويعرفون ما قاله أشعياء النبي ” ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو إسمه
عمانوئيل” (اش 7: 14). وما كانوا قد رأوا من قبل عذراء تلد، ومع ذلك آمنوا
بهذا الأمر فيما بعد.. ويشبه الإيمان الذي كان به أهل العهد القديم ينتظرون مجيء
المسيا، هكذا نحن في العهد الجديد ننتظر مجيء الرب ثانية، على السحاب، حسب وعد
الرب (متى 24، 25)، وحسب بشرى الملاكين للتلاميذ (أع 1: 11). لم نرى الرب من قبل
على سحاب السماء مع ربوات قديسيه، في مجد أبيه، ومعه ملائكته القديسين. ولكننا
نؤمن بمجيئه في هذا المنظر الذي لم نره من قبل. لأن الإيمان هو الإيقان بأمور لا
ترى.

 

15- الفداء، من الأمور التي لا تُرى

في الفداء، من محبة المسيح لنا حمل جميع خطايانا
ومات عنها “كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه. والرب وضع عليه إثم
جميعنا” (اش 53: 6). وهكذا قال عنه القديس يوحنا المعمدان “هذا هو حمل
الله الذي يرفع خطية العالم” (يو1: 29). وقال القديس يوحنا الرسول “وهو
كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو 2: 2).
وقال القديس بولس الرسول “مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي
علينا” (كو2: 13، 14). وقال أيضاً “عاملاً الصلح بدم صليبه” (كو1: 20).
ونحن نرى الصليب فقط، وقد يراه البعض عاراً!! أما ما في الصليب من حب، ومن فداء
وكفارة، ومن مغفرة ومحو للصك المكتوب، وحمل خطايا العالم، وأيضاً ما في الصليب من
عمل المصالحة.. فكل هذه أمور لا ترى. نراها نحن بالإيمان.. بطرس الرسول – قبل
الإيمان بكل هذا – ما كان يرى في الصليب سوى الضياع والعار..! لذلك قال “حاشاك
يا رب” (متى 16: 22). فانتهره الرب، إذ لم يكن يرى الإمور التي لا ترى.. إن
الصليب كان يمثل عمق إحسانات الرب إلينا. ولكن الكتبة والفريسيين لم يروا هذا، لأن
عيونهم ما كانت تبصر. لأنهم “لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1كو 2: 8).

 

16- إحسانات الله الخفية، من الأمور التي لا
تُرى

إننا نشكر الله فقط على إحساناته التي نراها أو
التي نعرفها.

ولكن هناك إحسانات أخرى لا ترى ينبغي أن نشكره
عليها أيضاً.

ولذلك عندما ندخل بالإيمان في حياة التسليم،
ندخل تلقائياً في حياة الشكر الدائم.

كما قال الرسول “شاكرين في كل حين، على كل
شئ” (أف 5: 20).

وفي هذا الشكر الدائم، نشكر على التجارب أيضاً..

لأننا نشعر أنه توجد فيها إحسانات خفية من الله،
نحن لا نبصرها.

وإن أبصرناها، لا بد أن نغني مع القديس يعقوب
الرسول قائلين “إحسبوه كل فرح يا إخوتى، حينما تقعون في تجارب متنوعة
“(يع 1: 2).

 

وبهذا نرى الإيمان يعطى معني روحياً للألم الذي
يسمح الله به من أجل بركات معينة كامنة فيه، هي من الأمور التي لا ترى، ولكننا
نتقبلها بالإيمان، واثقين من محبة الله الصانع الخيرات، وواثقين من قول الكتاب
“كل الأشياء تعمل معاً للخير، للذين يحبون الله” (رو8: 28).

 

17- وجود الله في حياتنا، وقوته العاملة فينا

ما أجمل قول الرب لأبينا يعقوب “وها أنا
معك. وأحفظك حيثما تذهب. وأردك إلى هذه الأرض” (تك 28: 15).. كان الرب معه
يحفظه حيثما يذهب.. ولم يكن يرى الرب وهو معه. ولكن من الريح للنفس أن يشعر
الإنسان بهذا، ويوقن به، فيحيا في اطمئنان دائم وفي فرح.. ولم يكن هذا الأمر ميزة
لأبينا يعقوب فقط، بل أن الرب يقول “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر
“(متى 28: 20).

 

إن شعورنا بوجود الله معنا، يشعرنا بقوة إلهية
ترافقنا وتحفظنا:

 

هذه القوة هي العاملة فيك ومعك منذ أن تدخل في
شركة الروح القدس، فيشترك الروح القدس معك في العمل. وهكذا في الكنيسة الأولى كنا
نرى أن ملكوت الله قد أتى بقوة (مر9: 1)، “وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون
الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم” (أع 4: 23). قيل عن
القديس اسطفانوس أول الشمامسة إنه كان “مملوءاً إيماناً وقوة” (أع 6: 8)،
وإنه وقف ضد عدة مجامع “ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم
به “(أع 6: 10). هذه هي القوة في الإيمان. أما الذي يؤمن، ولكنه يخاف من
إعلان إيمانه، فهو إنسان ضعيف الإيمان، لا يؤمن بقوة الله العامل معه. المرأة
نازفة الدم، كانت تشعر أنها لو لمست ولو هدب ثوب المسيح، ستخرج قوة من المسيح
تشفيها. وقد كان (متى 20: 21، لو 8: 46).

 

وأنت إن آمنت بقوة الرب، والتصقت به، ستنالها.

 

ليكن لك هذا الإيمان وهذا الشعور، في كل تفاصيل
حياتك: في خدمتك وفي صلاتك، وفي عملك. كما قال القديس أنطونيوس عن أبا مقار الكبير
“إن قوة عظيمة تخرج من هاتين اليدين.

 

حتى في حالة سقوطك: آمن أن هناك قوة ستخلصك.

 

إن كنت أنت أضعف من الشياطين، آمن أن الله الذي
يحبك هو أقوى منهم، وهو قادر أن يخلصك من الخطية، وفي قوة إيمان تضرع إلى الله أن
يمنحك القوة التي تنتصر بها في حياتك الروحية، واطلب إليه أنه هو “يقودك في
موكب نصرته” (2كو 2: 14). حتى إن طالت بك المدة، آمن أن قوة الرب ستصلك ولو
في الهزيع الأخير، لكي تنقذك. قوة الرب هذه غير مرئية، ولكنها موجودة، ومستعدة أن
تعمل مع كل الذين يطلبونها مؤمنين. عليك أن تبصر هذه القوة تصحبك، ليس في حياة
التوبة فقط، إنما في كل نواحي حياتك الروحية.. حتى إن تكلمت، يشعر الناس بقوة
الكلمة ومفعولها.. إن المؤمن هو إنسان قوى، يؤمن بقوة الله العاملة فيه.

 

هوذا القديس بولس الرسول يقول “أتعب أيضاً
مجاهداً، بحسب عمله الذي يعمل في بقوة” (كو1: 29). ويقول أيضاً عن الله
“القادر أن يفعل فوق كل شئ، أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي
تعمل فينا” (أف 3: 20). وبفضل هذا الإيمان بقوة الله العاملة، التي قد لا
نراها ولكن نؤمن بها، عاش القديس بولس في ملء الثقة، وأمكنه أن يقول:

 

“أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني”
(في 4: 13)

 

 عبارة
كلها قوة، وكلها إيمان، وكلها ثقة بعمل الله. ونحن نسآل: هل هذه العبارة هي من شأن
قديس عظيم فقط مثل بولس الرسول؟ فيجيبنا الرب نفسه “كل شئ مستطاع
للمؤمن”(مر9: 23). لعل هذه القوة هي اختبار لحياتنا الروحية: هل نحن في الإيمان؟
إنها قوة نسعد بها في حياتنا، ونحيا مطمئنين. في حياتنا أيضاً داخل الكنيسة، نسعد
بأمور كثيرة لا ترى..

 

18- من الأمور التي لا تُرى، ما يحدث في
المعمودية

يقول القديس بولس الرسول “لأن جميعكم الذين
اعتمدتم للمسيح، قد لبستم المسيح” (غل 3: 27). حقاً ما أعجب هذا السر! من
رآه؟! إنه من الأمور التي لا ترى. وقال حنانيا الدمشقي لشاول الطرسوس “أيها
الأخ شاول.. لماذا تتوانى؟ قم اعتمد واغسل خطاياك” (أع 22: 16). من رأى هذه
الخطايا وهي تغسل؟ إنها أمور لا ترى، نقبلها بالإيمان، كما قال الرسول
“بمقتضى رحمه خلصنا، بغسل الميلاد الثاني” (تي 3: 5).

 

هذا الخلاص الذي نلناه في غسل الميلاد الثاني،
أمر لم نره ولكننا نؤمن به حسب قول الرب “من آمن واعتمد، خلص” (مر 16: 16).

 

ثم ما معنى هذا الميلاد الثاني؟ وما معنى
الولادة من فوق، والولادة من الله. والولادة من الماء والروح؟

 

كل هذه التي تحدث عنها الرب بنفسه (يو 3: 3-6).
كلها أمور لا ترى فعملية الولادة من الله سر لا يرى. نحن نرى الإنسان يغطس في جرن
المعمودية. ولكننا لا نرى كيف يولد من الروح. وطوبى لمن آمن دون أن يرى. لذلك حسن
أن الكنيسة أطلقت على هذا الأمر إسم (سر). أتريد أن تدخل العقل هنا؟ العقل قاصر عن
أن يدخل. يقول الرسول “مدفونين معه بالمعمودية، التي فيها أقمتم أيضاً معه..
مسامحاً لكم بجميع خطاياكم” (كو2: 12). ويقول نفس المعنى في الرسالة إلى
رومية، ويضيف بأن إنساننا بالعتيق قد صلب معه، وأننا نسلك في جدة الحياة (رو6: 3-6).
فمن رأى هذا الموت وهذا الدفن، والقيامة، والمسامحة بالخطايا، والحياة الجديدة،
وصلب الإنسان العتيق.. إنها كلها أمور لا ترى. ولكن نؤمن بها..

 

19- سر الإفخارستيا أيضاً، من الأمور التي لا
تُرى

فيه ترى بالإيمان أن الخبز والخمر اللذين أمامك
قد صارا جسد الرب ودمه (بعد صلاة التقديس).

هنا لا تجعل حواسك تحكم، لأن الحواس الجسدية لا
تبصر سوى الأمور التي ترى. أما الحواس الروحية فتستمع إلى قول المسيح “هذا هو
جسدي.. هذا هو دمى” (متى 26: 26، 28)، “من يأكل جسدي ويشرب دمى، فله
حياة أبدية.. لأن جسدي مأكل حق، ودمى مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمى، يثبت في
وأنا فيه” (يو6: 53 – 56).

 

أنا أجادل الرب فيما يقوله، إنما أتقبله في
إيمان.

 

فهذا هو الإيمان “الإيقان بأمور لا
ترى”. أما التي ترى فهي الخبز والخمر. وهكذا يقول القديس بولس الرسول
“كأس البركة التي نباركها، أليست هي شركة دم المسيح. الخبز الذي نكسره، أليس
هو شركة جسد المسيح” (1كو 10: 16). ويقول أيضاً “إذن أي من أكل هذا
الخبز، أو شرب كأس الرب، بدون استحقاق، يكون مجرماً في جسد الرب ودمه.. يأكل ويشرب
دينونة لنفسه، غير مميز جسد الرب” (1 كو 11: 27، 29). وكيف نميز أن هذا جسد
الرب، حتى لا ننال دينونة؟

 

هنا نرتفع فوق مستوى الحواس، وفوق مستوى العقل،
بالإيمان.

 

عقولنا هي التي تتعبنا حينما نتقبل أسرار
الكنيسة. وحواسنا تتعبنا أيضاً. ونحتاج إلى بساطة الإيمان. ما قاله المسيح. ونصدق
ما قاله رسوله القديس بولس الرسول ولا نجادل.

 

20- بالإيمان بما لا يُرى، نتقبَّل ما في
المسيحية من أسرار

نتقبل (وضع اليد) الذي ناله بر نابا وشاول من
الرسل، لكي يفرزا للخدمة (أع 13: 2، 3). ووضع اليد الذي ناله تيموثاوس من بولس
الرسول (2 تى 1: 6). ونوقن أن في ذلك سراً. ونتقبل السلطان الذي أعطاه الرب بقوله
“إقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتم خطاياه
أمسكت” (يو 20: 13)، “كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء
وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء” (متى 18: 18). هذا السلطان
غير مرئي، ولكنه سر نراه بالإيمان. إنه ليس لكل أحد، ولا يأخذه أحد من نفسه بل
المدعو من الله كما هرون (عب 5: 4). وهكذا في الأسرار التي لا نراها، ولكن نؤمن
بها..

 

إن رؤية ما لا يرى، هي الرؤية الروحية الحقيقية:

 

لعلها هي التي عناها رب المجد بقوله لتلاميذه
القديسين “أما أنتم فطوبي لعيونكم لأنها تبصر” (متى 13: 16). تبصر ماذا؟
تبصر المسيح وعجائبه. وأيضاً تبصر ما لا يرى، مثلما أبصر القديس يوحنا رؤياه
العجيبة. ومثلما أبصر القديس بولس السماء الثالثة وكثرة من الاستعلامات (2 كو12: 2،7)،
أمور “لا ينطق بها، ولا يسوع لإنسان أن يتكلم عنها” (2 كو 2: 12). أما
أولئك الذين لم تكن لهم هذه الحاسية الروحية، فقد وبخهم الرب بقوله “أغمضوا
عيونهم لئلا يبصروا” (متى 13: 15). وكرر رسوله عنهم نفس التعبير (أع 28: 27).
وعبارة أغمضوها قد تعني أنهم لم يدربوا نفوسهم على رؤية الروحيات. أو أنهم رفضوا
أن يروا الروحيات من فرط انشغالهم بالماديات. كان جحزي لا يبصر ما يبصره معلمه
أليشع (2مل 6: 17). وأيضاً مثلما كان مرافقو شاول الطرسوسى في وقت الرؤيا الإلهية،
وقد قال عنهم الكتاب “وقفوا صامتين، يسمعون الصوت، ولا ينظرون أحداً”
(أع 9: 7).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى