علم المسيح

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل
الرابع

الاستعداد
لبدء الخدمة العلنية

10
العودة إلى إسرائيل

جاء
الصوت الإلهي ليوسف في الحلم أيضاً: “فلما مات هيرودس، إذا ملاك الرب قد ظهر
في حلم ليوسف في مصر قائلاً: قُم وخذ الصبي وأُمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد
مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأُمه وجاء إلى أرض إسرائيل.
ولكن لمَّا سمع أن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضاً عن هيرودس أبيه، خاف أن يذهب
إلى هناك. وإذ أُوحي إليه في حلمٍ، انصرف إلى نواحي الجليل. وأتى وسكن في مدينة
يُقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء: إنه سيُدعى ناصريًّا” (مت 2: 1923)،
وهي المدينة التي كانت تعيش فيها مريم قبل رحلة الاكتتاب.

أمَّا
قول ق. متى: “إنه سيُدعى ناصريًّا”. فذلك لأن “ناصريًّا” أتت
من اسم الناصرة، والناصرة أصلها “نسر أو نتسر” وهو الغصن الذي يخرج من
الجذر وهو عديم النفع والإثمار. فالنبوَّات جاءت على اسم “الغصن”،
والآية: “ويخرج قضيب من جذع يسَّى (أي ملك) وينبت غصن من أصوله
(إش 1: 11). فكلمة غصن هي التي فُهمت ضمناً أنها ناصري: “عبدي الغصن”
(زك 8: 3). والقصد من ذلك هو تحقير لمدينة الناصرة، ومن هنا جاء المثل:
“أَمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟” (يو 46: 1)

على
أنه لا ينبغي أن يفوت علينا التطابق بين هروب موسى من وجه فرعون، ثم العودة بصوت
الرب أن: “ارجع إلى مصر، لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون
نفسك” (خر 19: 4)؛ وبين هروب المسيح من هيرودس والعودة بالصوت الإلهي:
“قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي” (مت 20: 2)، وهذا التطابق مقصود
إذ حُسب فيه أن المسيح هو موسى الجديد(
[1]). كذلك أنه هو “إسرائيل
الجديد” بمقتضى نزول شعب إسرائيل للتغرُّب في مصر من جراء الجوع الذي أصاب
أرض إسرائيل الذي حُسب كنبوَّة لنزول المسيح إلى أرض مصر للتغرُّب من جراء الضائقة.

لماذا
الجليل؟ ولماذا الناصرة؟

بكل
قياسات السماء لمساحات الأرض اختير الجليل ليكون وطناً للمسيح، ومن كل الجليل
اختيرت الناصرة. وكان هذا الاختيار الإلهي تحدِّياً صارخاً للفكر الأكاديمي
الربَّاني. فكون المسيَّا الآتي يُنسب إلى الجليل والناصرة فهذا أمر مرعب لكل
الربيِّين وعلماء اليهود، فالمسيَّا عندهم هو قمة الحكمة العالية، أمَّا الجليل
وربيبته الناصرة فقمة الجهل والجهالة. فالجليل منجَّس بوجود الأُمم الغلف، ومن
الناصرة لا يخرج شيء صالح “أجابوا وقالوا له: ألعلَّك أنت أيضاً من الجليل فتِّش وانظر إنه لم يقم
نبي من الجليل.” (يو
52: 7)

ولكن
هي إرادة التعيين الإلهي لكي يصنع من الجليل والناصرة عثرة كعثرة المذود والصليب
حتى مَنْ أراد أن يخلُص يتحتَّم عليه أن يتخطَّى هذه العثرات: “ها أنا أضع في
صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة، وكل مَنْ يؤمن به لا يخزى” (رو 33: 9). وهذا قول
ق. بولس الذي أخذه من إشعياء حيث تتضح الآية بقوة: “ويكون مَقْدِساً وحجر
صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل.. وفخاً وشركاً لسكان أُورشليم فيعثر بها كثيرون
ويسقطون فينكسرون” (إش 8: 14و15)، “هأنذا أُؤسِّس في صهيون حجراً، حجر
امتحان، حجر زاوية كريماً أساساً مؤسَّساً مَنْ آمن لا يهرب.” (إش 16:
28)

الآن
يتأكَّد القارئ أن إرسال الملاك جبرائيل إلى الجليل وإلى الناصرة بالذات في أدنى
البلاد هو جزء لا يتجزَّأ من لاهوت الخلاص الداخل في سيرة المسيح وحياته.

الجليل:

كلمة “الجليل”
تفيد “الدائرة”. وكان الجليل في ذلك الوقت مركز اتصالات بين الأُمم
المجاورة، وهو مليء برعايا من هذه الأُمم، لذلك سُمِّيَ جليل الأُمم، علماً بأن كل
ما هو أُممي منجَّس عند اليهودي. والجليل تخترقه طرق القوافل للتجارة، وهو نفسه
مركز تجاري، ولكن أرضه خصبة تغطِّي الزراعة كل مساحاته، وشعبه زراعي نشط.

وباتجاه
الشمال في الأفق البعيد يُرى جبل حرمون كعملاق يغطِّي الأفق تعلوه الثلوج تتلألأ
كتيجان من ذهب، وفي الأفق المقابل تجاه الغرب يُرى جبل الكرمل القرمزي الداكن، ومن
بعيد وبين ثناياه يُلمح البحر الأبيض يلمع كالفضة. وأمَّا من جهة الجنوب الشرقي
فتظهر قمم جبل تابور بغاباته الكثيفة الداكنة وحوله طرق معبَّدة تمر فيها القوافل
يصحبها أقوام المناطق المجاورة بأرديتهم التي تحكي عن أجناسهم.

الناصرة:

أمَّا
الناصرة فتقع على صدر تل، وفي شمالها الغربي عين ماء تتدفَّق بانتظام،
وحولها يتجمَّع الأهالي ويستريح المسافرون، وتصطف حولها البيوت بأسطحها المكشوفة
وحدائقها الصغيرة المليئة بأشجار التين والزيتون والنخيل والرمّان والبرتقال
والعنب بروائحها المنعشة، وزهورها وأطيارها تملأ الجو بهجة بأشكالها وألوانها
الزاهية، والحقول حولها مليئة بزراعاتها.

والناصرة وإن كانت فقيرة في شعبها ولكنها غنية بطبيعتها،
ويخترقها أحد الطرق الثلاثة المعبَّدة التي تسير فيها القوافل ليلاً نهاراً بلا
انقطاع من عَكَّا على الساحل إلى دمشق في الأعماق عبر البحيرة(
[2]).

[كانت
دائماً تعتبر مدينة وكان تعدادها قديماً بحسب يوسيفوس المؤرِّخ حوالي 20.000
مواطناً، ولكن الآن بحسب دائرة المعارف البريطانية حوالي 10.000. والمرجَّح أنها
كانت مدينة ذات حكومة داخلية وعلائق تجارية، وهي الآن لا تزيد عن قرية صغيرة.
وبقايا الأعمدة الرخامية وألواح الرخام المحطَّم توضِّح مقدار علو شأن المدينة في
السابق. وكانت ذات مجمع متميِّز وشعب يعتز بأصوله، زراعي متمرِّس غنيّ بملكياته
الزراعية وحقوله المثمرة.](
[3])

ويصف
العلاَّمة اليهودي المتنصِّر إدرزهايم الناصرة هكذا:

[مدينة
صغيرة تقع على منحدرات تلال الجليل الأسفل عند الحدود الشمالية لأرض زبولون. ترقد
عند مدخل سهل خصيب، بيوتها حجرية بيضاء، كحمامة مُخبَّأة بين الصخور، تشتهر
بشوارعها الضيقة. وإذا تسلَّقنا التل الذي تقع في منحدره ينكشف أمامنا منظر الجليل
بأرضه الخضراء الخصبة وزهوره ذات الألوان الزاهية ومناظره الطبيعية الخلاَّبة.
أمَّا أطفالهم كما يصفهم السائحون فوجوههم وردية وعيونهم زرقاء وجمالهم ملفت للنظر.
فلا عجب أن نرى صورة العذراء تبدو بنفس الجمال ويسوع على صدرها يحمل نفس السمات.](
[4])

ويصف
فارار في كتابه “حياة المسيح” الناصرة كشاهد عيان:

[الطريق
المؤدِّي إلى الناصرة أخدود ضيِّق وعميق منمَّق بالحشائش والأزهار ومناظره ليست
فخمة ولكن جمالها جذَّاب، ويتفرَّع الممر يميناً إلى سهل منبسط عرضه حوالي الربع
ميل، مقسَّم إلى حقول صغيرة وحدائق ممتدة ملآنة بالتين الشوكي التي إذا أصابها
الغيث في الربيع صارت ذات منظر أخضر لا يوصف جماله بهدوئه. وإلى جانب الممر الضيق
توجد عينا ماء متقاربتان، والسيدات اللواتي يستقين الماء منها أكثر جمالاً مما
يصادف الإنسان المسافر في أي مكان آخر. وكذلك الأولاد الذين يلعبون بجوار العين،
حمر الوجوه عيونهم صافية بملابسهم الشرقية البهجة الألوان، وهم أذكى وأجرأ وأسعد
من غيرهم.

ثم
ينفرج السهل المنبسط رويداً رويداً وينتهي إلى مدرَّج طبيعي من التلال يعلوه تل
يرتفع نحو 500 قدماً تقع على سفحه مدينة الناصرة كعش نسر على جبل، شوارعها ضيقة
بها كنيسة صغيرة ودير شامخ البناء، بيوتها بُنيت بالحجر الأبيض تتخلَّلها حدائق من
أشجار التين والزيتون وزهر البرتقال العطري ونوَّار الرمَّان الأحمر القاني، وبها
نافورة طبيعية غزيرة المياه، ويظهر المكان سِيَّما في الربيع مبهجاً. وهنا قضى
المسيح زهاء ثلاثين عاماً من حياته على الأرض.](
[5])

ويعطينا العالِم الألماني كلاوزنر في كتابه “حياة
المسيح” وصفاً
بديعاً للناصرة:

[المنظر
الذي ينكشف للرائي على تلال الناصرة الآن يعتبر كأجمل مناظر فلسطين عامة، فناحية
الغرب تلال منخفضة تترامى تباعاً حتى شاطئ البحر الأبيض الذي زرقة مياهه تتحوَّل
إلى فضة مصهورة تحت أشعة الشمس. وفي الجنوب سهل يزرعيل الخصب يحدِّده سلسلة جبال
عارية على سفوحها خضرة داكنة تُرى كأنها بحار من الزراعات والأشجار. ويرتفع فوق
السهل تلال موره حيث مواقع حروب جدعون قائد إسرائيل جبَّار البأس، وجبال جلبوع حيث
وقع شاول صريعاً كغزال مذبوح. ونحو الشرق جبل تابور المستدير تكسوه خضرة الغابات
الكثيفة. ونحو الجنوب الغربي جبل الكرمل المكتث أو المكتظ بالأشجار العالية
والمنحدرة حتى شاطئ البحر. ونحو الشرق البعيد عبر وادي الأُردن تظهر جبال جلعاد
ذات البلسان تتخلَّلها خطوط عميقة من صنع رياح الصحراء الجافة. وناحية الشمال جبال
نفتالي المتاخمة للجليل الأعلى، وعلى الأفق البعيد شماليها قمم جبال حرمون تكسوها
الثلوج تلمع وكأنها تيجان من ذهب. وبعدها تظهر قمم جبال لبنان الشاهقة. هذه هي
المناظر الجميلة التي اكتحلت بها عينا المسيح منذ كان يحبو حتى بلغ الثلاثين
يتأمَّل ويسترجع تاريخ البلاد والرجال ومعاملات الله مع الإنسان. ونحن نعلم كيف
كان يمضي المسيح الليالي في الجبال منفرداً يصلِّي.](
[6])

أمَّا
إشعياء النبي فيعطينا وصفه النبوي عن الجليل وكيف انقشعت ظلمته السادرة وكأنها
عتمة الليل أصابها فجر مضيء:

+
“ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق،

كما
أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي،

يكرم
الأخير طريق البحر عبر الأُردن جليل الأُمم!

الشعب
السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً،

الجالسون
في أرض ظلال الموت، أشرق عليهم نور.” (إش 9: 1و2)

ثم
بسرعة يكشف إشعياء الستار ويظهر ولد صغير كان هو النور الذي يضيء لكل إنسان:

+” لأنه يولد لنا ولد
ويُدعى اسمه عجيباً
لنمو رياسته وللسلام لا نهاية
من الآن إلى الأبد

ونعطى ابناً

مشيراً إلهاً قديراً

على كرسي داود وعلى مملكته

غيرة رب الجنود تصنع هذا!”

 

وتكون الرياسة على كتفه،
أباً أبديًّا رئيس السلام،
ليثبِّتها ويَعْضُدها بالحق والبر،
 (إش 9: 6و7)

ولا يستطيع الإنسان أن يتمالك نفسه من قوة هذه التعبيرات
لهذه الرؤية النافذة خلال أحقاب

الزمن السحيق لتكشف وتفرِّق بين الظلمة والنور يعطى الجليل كرامة
ترتفع إلى عنان السماء، والنور الذي انفجر فيها حوَّلها إلى لآلئ. وفي النهاية
يُرفع الستار ويُستعلن المولود ابناً للإنسان وهو إله بآنٍ!

كان
المسيح يقرأ هذه التعبيرات فيلتهب قلبه! لأنه كان يرى في ثناياها الصليب!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى