علم الانسان

الترائي قدَّام الله



الترائي قدَّام الله

الترائي
قدَّام الله

+”
كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة.”
(أف 4: 1)

rtltr

«لنكون
قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة”:

مقالات ذات صلة

أنْ
نكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة، ليست شرطاً، بل هي إحدى مكوِّنات الإنسان
الأساسية الداخلة في صميم خلقته حسب قصد الله قبل تأسيس العالم. بمعنى أن هذه هي
إرادة الله أن يكون الإنسان “قديساً وبلا لوم في المحبة”من واقع خلقة الله
للإنسان، لكي يؤهَّل للوقوف قدَّام الله، لا عن سعي واجتهاد ولكن كهبة مغروسة في
طبيعتنا الجديدة!

وقد
عاد القديس بولس وأوضح هذه الحقيقة علناً بالنسبة للأمم الذين آمنوا بالمسيح، أنه
قد صارت لهم هذه الطبيعة الجديدة بعمل المسيح هكذا: “وأنتم الذين كنتم قبلاً
أجنبيين وأعداء في الفكر، في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن في جسم بشريته
بالموت، ليُحضركم قدِّيسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه، إنْ ثبتُّم على الإيمان،
متأسِّسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل..” (كو 21: 123).
إذن، فقد أخذناها كهبة من المسيح.

والآن،
وإذ قد نلنا بالفعل هذه الخليقة عينها التي كانت في مقاصد الله الأزلية قبل تأسيس
العالم وأخذناها بالميلاد الثاني من فوق من الماء والروح
علينا أن نتحسَّس هذا الحال عندما نقف أمام الله بشيء كثير من تجاوز
الواقع الضعيف الذي نحن فيه بسبب ثقل الجسد العتيق الجاثم فوق صدر الإنسان الجديد
الروحي الذي نحسُّه في القلب ولكن في فترات الحرارة الروحية يمكن أن
نتذوَّق هذا الحال عندما نحس بنعمة الاقتراب من الله كمجرد تذوُّق ولكن إلى لحظات،
لأننا في الواقع نعيش الآن بالروح في الجسد الجديد كالعربون وليس بالتمليك. فهنا
دائماً سَبْق تذوُّق لِمَا سننتهي إليه كقيام دائم هناك حينما تُرفع العوائق: الجسد
العتيق والزمن.

ولكن
على كلِّ حالٍ، فذلك ليس منَّا، ولكن هي المواهب الممنوحة للإنسان الجديد الروحي
حينما تأخذ فرصتها أثناء الصلاة، باعتبار أن مواهب الإنسان الجديد هي عينها حصيلة
نعمة المسيح التي يعمل بها الإنسان الجديد. على أن قربنا من الله أو تقرُّبنا إليه
سببه أصلاً أن “الرب قريب”من الإنسان! وأن الإنسان الذي آمن واعتمد وقَبِلَ
خلقته الجديدة بالميلاد الثاني في المعمودية قد لَبِسَ المسيح حسب قول بولس الرسول
في (غل 27: 3). وبالتالي أخذ ما للمسيح، فتمَّت فيه الآية التي تقول: “فيه
(المسيح) يحلُّ كلُّ ملء اللاهوت جسديًّا. وأنتم مملوؤون فيه” (كو 9: 2و10)

ومع
أن الترائي أمام الله هو حال الإنسان الجديد الدائم، وهو نعمة المسيح عينها
العاملة فينا أن نوجد قريبين من الله وواقفين أمامه بحال القداسة وبلا لوم في
المحبة، إلاَّ أنها في البداية لا تملأ أبداً مساحةً معقولةً من الزمن، بل هي
لمجرد لحظة خاطفة لا تتكرر عن خبرة أو جدارة أو استحقاق، ولا تُحسَب كأنها
تبدأ منَّا وكأننا نحن الذين نقترب إليه حتى ولو وقفنا أمامه ساعات. لأن حركة
الاقتراب هي مبادرة تأتي من الله أولاً، لأنه مصدر التأهيل الذي يوقفنا أمامه بحال
القداسة وبلا لوم في المحبة، إذ يُستعلن الله نفسه كآب، وفي الحال نستمد منه روح
البنوَّة ونقف بحال القداسة وبلا لوم في المحبة بقوة آتية منه كموجات
تتغلغلنا وتحيط بنا كالسحابة النيِّرة التي غطَّت التلاميذ لحظة التجلِّي.

ولكن
بعدها ينتهي كل شيء ونرتد إلى حال الضعف، حيث يصبح حال القداسة وبلا لوم في المحبة
مجرد شهوة وتمنِّي وحال بعيد المنال، لأن مبادرة الله في القُرْبى
“الرب قريب” واستعلان أبوَّته هي إلى لحظة، نحس فيها أننا
اقتربنا وصرنا وقوفاً أمامه ونلنا حال التبنِّي وصرنا في قداسة وبلا لوم في
المحبة.

ولولا
أننا مستورون في المسيح ما استطعنا إطلاقاً أن نوجد بقربٍ من الله، أو نوجد أمامه.
فالمسيح في اقترابنا من الله يكون هو اليد التي يستر بها الله نفسه لكي لا نرى
وجهه. هكذا، ومن خلال المسيح، نرى وراءه الذي هو مجده (خر 18: 3323): “ناظرين
مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى
مجد، كما من الرب الروح” (2كو 18: 3). وهذا يكفينا لأن: “الذي رآني فقد
رأى الآب” (يو 9: 14)

ونحن
نستمد من الوقوف أمام الله، ونحن مستورون في المسيح، ما يكفينا ليشدِّد كياننا
الجديد الذي نحبو به وتنشحن ملكاته وتتجدَّد طاقاته، ليُمارِس وجوده وسط معاكسات
العالم وثقل الجسد العتيق ومشاغباته، لأنها أيام غربة لا استيطان، يكفينا فيها من
الصلاة مؤونة للعبور.

بالإضافة
إلى أنه تجيئنا من المسيح دعوة سمائية تُنعش رجاءنا لتُزيد من الطمع والجرأة لمزيد
من الوقوف أمام الله والتمادي في الاقتراب منه، وذلك من فم المسيح الذي يقول: “الله
روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.. لأن الآبَ طالبٌ مثل
هؤلاء الساجدين له (بالروح)” (يو 24: 4و23). هذه ذخيرة نضمها إلى مقدَّرات
الإنسان الجديد وإمكانياته التي غرسها الله فيه ليكون له الوقوف قدَّام الله بحال
القداسة وبلا لوم في المحبة!

لأنه عندما يقول المسيح إن الله طالب هؤلاء الساجدين
له بالروح، نُدرك في الحال أن دعوة الاقتراب من الله والمقابلة قد حدَّدها الله
رسمياً من طرفه هو، كدعوة شخصية يطلبها الله بنفسه، وهي بحد ذاتها تجعل تقرُّبنا
من الله بالصلاة والسجود بالنسبة لنا الآن يرتفع عن مستوى الشهوة والتمنِّي أن
يكون لنا وقوف أمام الله، والاقتراب منه في الصلاة، إلى حال المطالبة الرسمية
الآتية من فم الله، ليس للوقوف أمامه وحسب؛ بل والدخول إليه والسجود له بالروح
والحق.

وكَوْن
المسيح يؤكِّد أن الله يطلب الساجدين له: “بالروح والحق”، فإنه يهدف بكل
يقين أن يدعو الإنسان الجديد الذي له الروح والحق في المسيح ليخرج إلى الوجود
الواعي ليُمارِس علاقته الأساسية بالله منذ الآن كأمرٍ، الذي هو أكثر من وصية، فهو
مطالَبة من الله.

فأصبحنا
الآن حينما نتقدَّم إلى الله ونتراءى أمامه بالصلاة، فنحن في الواقع نلبِّي دعوة
عُليا وليس هو اجتراء منَّا. هو تلبية لمطالبة الله بالاقتراب إليه والسجود أمامه
بالروح والحق، أي بدالة الخليقة الجديدة التي خلقها لنا في المسيح، فنصبح ولنا ثقة
بالدخول إليه باطمئنان النفس من جهة القبول والاستحقاق الموهوب لنا بحال من
القداسة وبلا لوم في المحبة، لأن ترائينا أمامه هو من واقع شركة في المسيح ابنه عن
اختبار وتبنٍّ لتكميل مشيئة الله، إنه طلب أبوي ننفِّذه كأبناء بدالة المسيح.

ولكن
الذي يسترعي انتباهنا جداً هو: لماذا يطلب الله الساجدين له بالروح والحق؟ إن هذه
أول مرَّة في حياتنا نسمع أن الله يطلب منَّا شيئاً لنفسه؟ الرد على هذا السؤال
يأتي من الوحي المقدس على فم بولس الرسول بالقول: “إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي
بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرَّة مشيئته” (أف 5: 1). إلى هذا الحدِّ بلغ
إلحاح الله أن نتراءى أمامه كأولاد أو كبنين “لمسرة مشيئته”أو مسرة نفسه. هذه
المسرة التي تبلغ أَوَجها عندما نسمع أن الله طالِبٌ هؤلاء البنين بحال السجود
أمامه بالروح والحق، هذا أمر يُذهل العقل. فالله المتعاظم في مجده الذي تخرُّ
أمامه ألوف ألوف وربوات ربوات الملائكة بالسجود والتسبيح لمجده، يتجاوز هذه الضجة
العُليا ليرنو إلى الإنسان الذي استراحت أحشاؤه فيه، ويدعوه دعوةً ويطلب منه
مطالبةً، أن يتراءى أمامه ليسجد أمامه بالروح والحق من أجل مسرَّة نفسه! إنَّ في
هذا لعجب شديد!

ولكن
من هذا نفهم كيف ولماذا يُسربلنا الله بالقداسة كما بيديه، ويرفع عنَّا كل لوم في
المحبة لكي نقترب إليه ونتراءى أمامه، وذلك لنكمِّل مسرة مشيئته فينا!! وبهذا
الأمر تستريح نفوسنا جداً، لأنه كيف ومن أين نكتسب قداسة وبلا لوم في المحبة لنقف
أمام الله؟ ولكن الله الذي يعرف ما يطلبه، كما يعرف ما هو واقع حالنا الترابي، سبق
فغرس في أصل صورة خلقته الأولى للإنسان هذه “القداسة وبلا لوم في المحبة”، حسب
قوله: ” المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق”(أف 24: 4)
كطبيعة نفخر بها أمام ملائكة الله.

هذا
كله يُحتِّم علينا ويُلزمنا إلزاماً أن نعيد تفكيرنا وعقيدتنا عن الصلاة،
والاقتراب إلى الله والترائي أمامه، والسجود له بالروح والحق بإنساننا الجديد، بعد
أن اكتشفنا أنها هي مسرَّة الله، والله نفسه هو الداعي إليها، والمطالِب بها لنفسه
هو! “حسب مسرَّة مشيئته”

هذا
يجعل من الاقتراب إلى الله والترائي أمامه والسجود له بالروح والحق عملاً مُلحًّا
لحساب الله ولمسرة نفسه، لا يكون إلى لحظات؛ بل ينبغي أن تُكرَّس له الحياة
والسنون والعمر كله، لأن هذا يسرّ قلب الله! إذ تصبح الساعات والصلوات هي في
الحقيقة أعمالاً نكمِّل بها رضا الله بعودة الأولاد كل حين إلى صدر أبيهم يسعدون
به ويسعد بهم! “دَعُوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم.. إن ملائكتهم
في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات” (مت 14: 19؛ 10: 18)

كما
أن هذا يجعل تقصيرنا في الاقتراب إلى الله، خشيةً منه، أو خجلاً منَّا، أو بداعٍ
كاذب من الخطية وعدم الاستحقاق؛ تصبح كلها أعذاراً مخترعة ليست من الله، ولا هي من
مشيئة الله، ولا تمتُّ إلى واقع عمله وتقديسه لنا بصلة؛ بل هي مماحكات
الإنسان العتيق الهارب من وجه الله غشًّا وزوراً وخداعاً، لأن الإنسان الجديد فيه
يصرخ طالباً وجه الله! حيث يُحسب غياب الإنسان عن الله كغياب ابن طال به الضلال،
وكأنه بعينه غياب المحبة البنوية عن قلب الأب وقسوة الابن الجاهل ضد مشاعر الأُبوَّة
في التمادي بزيادة الضلال والبعاد عن قلب الأب الراجي عودة الابن الصغير إليه كل
حين.

هذا
يكشف أمامنا قوة كفاءة الخلقة الجديدة للإنسان من جهة تجهيزها بمؤهِّلات الوقوف
أمام الله حسب قول الآية: “المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف
24: 4)، للترائي أمامه والسجود له بالروح والحق، والذي هو بحد ذاته أساس العلاقة
الخاصة جداً التي تربط الإنسان الجديد بالله، علاقة تقوم على تمكين الخليقة
الجديدة من إمكانيات القداسة وعدم اللوم في المحبة لتجعلها بحال الاستعداد الدائم
للوقوف أمام الله للتسبيح ومدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب لتكميل
مسرَّة مشيئته!

ومن
هذا نفهم لماذا ترتاح النفس التي بدأتْ تعرف طريقها إلى الصلاة؛ لماذا هذه الفرحة
والسعادة التي تغمر القلب في وقفته أمام الله والسجود أمامه، وكأن موجة من
المسرَّة السريَّة تجتاح النفس وتزداد بزيادة التعمُّق في الصلاة والاستمرار في
الوجود والترائي أمامه؟ إذ يكون في ذلك مسرَّة لمشيئة الله، يرتد صداها على النفس،
فتغمرها مسرَّة الله الآب وهي لا تدري مصدرها، مع أن الإنسان لا يقدِّم شيئاً ولا
يرى في نفسه أي استحقاق للوجود أمام الله. فمن أين هذه السعادة والغبطة الطاغية
على النفس؟ ولكنها هي مسرَّة المشيئة العلوية، ارتدَّت على النفس فاحتوتها في حنو
الأُبوَّة الفائق!

ثم
أليس هذا معناه أن الإنسان الجديد، أو أن الخليقة الجديدة للإنسان في المسيح يسوع،
خُلِقت بكفاءتها الروحية العالية لتبقى مع الله دائماً، الأمر الذي نُمارِس عربونه
الآن في هيئة علاقة سجود وعبادة وترائي أمام الله بالقداسة بلا لوم في المحبة إلى
لحظات، كعربون لشركة حقيقية مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، نُمارِسها اليوم
بالصلاة والسجود؟

بهذا
ينكشف لنا سر إلحاح المسيح على ضرورة الصلاة التي أكمل نموذجها البديع بالذهاب إلى
الجبال للصلاة طول الليل! ف “اللحظة”عندنا في الصلاة، عبَّر عنها المسيح ب
“طول الليل في الصلاة”، ليوضِّح لنا مدى الإمكانية الموهوبة لنا فيه! فحينما طلب
أن “نُصلِّي كل حين”، فمعناه أن نجعل اللحظة لحظات في اختبار وقوفنا أمام الله؛
وحينما قال: “صلُّوا ولا تملّوا”(انظر لو 1: 18)، فالقصد هو أن يربط اللحظات
معاً لنتذوَّق فيها معنى الشركة وبركاتها؛ وحينما أعطى مثلاً لكيفية الصلاة بلجاجة،
فهو يفتح أمامنا الدخول بجراءة لننال الاستجابة؛ وحينما تحدَّث عن الصلاة بصراخ،
كشف عن حرارة الروح حينما تخرج عن الحدود.

وبهذه
الأمثلة، رسم المسيح صوراً للنفس البشرية في حال تلاقيها مع الله، وهي تحاول أن
تغلب ذاتها لتدوم في وجودها أمام الله رغم كل عائق، لتكمِّل مسرَّتها أو بالحري
مسرَّة الله، لأن لنا في هذا تكميلاً للشركة مع الآب وابنه يسوع المسيح ليكمل
فرحنا ومسرَّة الآب بنا.

“لنكون
قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة”:

“في
المحبة”:

هكذا
وضع الله في صميم خلقتنا أعزَّ عنصر عنده، لأن بهذا العنصر الإلهي يشدّ الله خليقة
الإنسان إليه ويربطها بنفسه، دون أن يدري الإنسان، فيصبح وقوف الإنسان أمام الله
هو “في المحبة”. أما القداسة وبلا لوم، فتحتويها المحبة الإلهية المغروسة في طبيعة
الإنسان الجديد كغريزة روحية. وكم نشكر الله ونحمده على هذه النعمة العجيبة
والفريدة، أن يجعل في طبيعة الإنسان المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق، غريزة
المحبة الإلهية عاملة فيه بدفعٍ سريٍّ من الله، وليس كاجتهاد من قِبَل الإنسان.
هكذا يصبح الإنسان الروحي في تقدُّمه إلى الله منعطفاً بشدة نحو الله بالحب العامل
في كيانه دون أن يدري، ولكن بعلامات واضحة صارخة حينما يلتهب قلب الإنسان في
الصلاة والترائي أمام الله التهاباً يُخرجه عن وعيه، بصراخ ودموع لا يفهمها ولا
يعرف مصدرها أو سببها. ولكن هي يقظة المحبة الإلهية المغروسة في القلب لم تستطع أن
تعبِّر عن نفسها بالكلام فلجأت إلى الصراخ والدموع كانفعالات للتعبير عن الفرح
الطاغي الذي غمر النفس كردِّ فعلٍ لاستعلان أُبوَّة الله حينما يتقابل حب الابن مع
حب الآب بلا مانع. تلك هي لحظة التقابل والترائي الحي أمام الله: “بهذا أُظْهِرَتْ
محبة الله فينا،
أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به.
في هذا هي المحبة، ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا،
وأرسل ابنه كفَّارة لخطايانا” (1يو 9: 4و10)، “المحبة هي من الله”
(1يو 7: 4)

بهذا
نتأكَّد أن اقترابنا من الله، ووقوفنا أمامه، وسجودنا وحبَّنا؛ هذا كله لم يتركه
الله ليكون مبادرة خالصة من جهتنا، لأن هذا صعب وممتنع علينا بكل تأكيد، لأننا
اختبرنا كيف أنه في حالة التراخي وغياب الروح، كم يكلِّفنا الاقتراب من الله
بالصلاة والسجود من مشقة، وكأننا نقف ضد أنفسنا لنكمِّل صلاتنا وسجودنا، وتظل
النفس تُقاوِم في محاولتها للهرب من الصلاة وعزوفها عن الوقوف أمام الله. ولكن
عندما تبدأ الخليقة الجديدة فينا تمارس وجودها، ويستيقظ الإنسان الجديد الروحي
ويبدأ نشاطه وعمله، نجد أن رهبة التقدُّم إلى الله قد زالت في الحال، والتهرُّب من
الصلاة توقَّف فجأة، وحلَّ محل هذا وذاك ميل شديد نحو الصلاة، وكأن قوة هائلة
تدفعنا للاستمرار في الصلاة والسجود. هذه هي محبة الله فينا.

وإذا ما غاب الإنسان عن الصلاة لطارئ أقعده لفترة بعيداً عن
الصلاة، يحس أن صوتاً يُناديه هذه هي محبة الله فينا
كما يحس بانعطاف داخلي يجذبه بشدة للعودة إلى الله هذا كله هو جذب
محبة الله فينا وإذا عاد الإنسان ليقف أمام الله يحس وكأن الله كان
واقفاً بانتظاره، وهكذا يستأنف صلاته بلهفة ويُمارِس سجوده وتقديم حبه إلى الله
كابن غاب عن أبيه ويلقاه أخيراً، فيرتمي في أحضانه.

من هذا يتبيَّن أن عنصر الحب الإلهي المنغرس في نفس الإنسان
الجديد هو العامل الأساسي في العلاقة التي تربط الإنسان بالله. فإذا غاب هذا
العنصر بطغيان الجسد العتيق، أصبح الوقوف أمام الله للصلاة أو السجود أو حتى
الحديث، مشقَّة تحتاج إلى صراع مرير يخرج منه الإنسان مغلوباً، إذ يختصر الصلاة
معتذراً بأعذار وهمية كلها كاذبة لا وجود لها ليتهرَّب من الوقوف أمام الله!

وبهذا
تنكشف المحبة أنها العنصر الإلهي الذي غرسه الله في طبيعة الإنسان الجديد أصلاً،
لكي حينما يأخذ هذا العنصر المبارك في النهاية أقصى عمله وقوته وتُستعلن مواهبه،
فحينئذ سيأخذ الإنسان وجوده الدائم مع الله في علاقة أبدية لتسبيح يدوم في رابطة
حب أبدي.

ويعطينا
المسيح صورة عالية جداً وعجيبة عن هذا الحب الأبوي الذي يربط الإنسان بالله هكذا: “أيها
الآب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتُك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني.
وعرَّفتُهم اسمَك وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا
فيهم
” (يو 25: 17و26). هذا ما لا يستطيع الإنسان أن يتصوَّره،
أن الله الآب يعطينا من محبته للابن التي هي أقدس ما في علاقة الآب بالابن.

“..
قدِّيسين وبلا لوم”:

واضح
أننا قدَّمنا عنصر “المحبة”على القول: “قدِّيسين وبلا لوم”، لأن المعنى يقتضي
ذلك، وأيضاً الواقع العملي. فأنْ نكون “قديسين وبلا لوم”بدون المحبة، فهذا لا
يؤهِّل إلى الاقتراب والتواجد أمام الله، لأن عنصر المحبة هو القطب الجاذب للنفس
البشرية ويُحرِّكها بل ويجذبها بدالة إلى مَنْ تحبُّه. لذلك، ومن واقع التركيب
اللفظي، ف “القداسة وبلا لوم”هي هنا صفات تتبع المحبة: “.. قدِّيسين
وبلا لوم.. في المحبة”

أما
معنى قداسة المحبة، فهي انحصارها في الله وحده. وقد أعطى المسيح مفهوماً أن
تكون المحبة لله وحده أي مقدَّسة له بأن تكون من كل
القلب وكل النفس وكل الفكر، فلا يتبقَّى للقلب أو النفس أو الفكر حب آخر لأي أحد
أو أي شيء آخر إلاَّ لله وحده. هنا تختفي من قلب الإنسان محبة الشهوات التي للجسد
والعالم، وتخمد من النفس حركات الانعطاف بالحب النفساني نحو النفوس الأخرى مهما
كانت. وأخيراً، تبطل الأفكار والتصوُّرات التي يغواها الإنسان وينشغل بها الليل
والنهار بعيداً عن الله. وبهذا تتقدَّس المحبة من كل القلب والنفس والفكر لله وحده،
حيث ينال الإنسان دالة الوقوف أمام الله كابن خاص لأبيه!

أما
قوله: “بلا لوم”، فاللوم هنا هو لوم الضمير المستمد من لوم
الناموس والضمير هنا هو الذي يمثِّل صوت الله داخل الإنسان كشاهد
لناموس الله من داخل الإنسان، وكرقيب على كل أعمال الإنسان وأحواله وتصرُّفاته،
وهو الذي يوحي للإنسان إن كان يمكنه أن يقف أمام الله ويسجد ويصلِّي، أو لا يمكن،
لأسباب يعرفها الضمير ويقف حائلاً ضد الإنسان إنْ هو اقترب من الله. هذا الضمير
أعطاه الله شاهداً يحكم على الإنسان من داخل الإنسان ذاته، إن كان مؤهَّلاً أو غير
مؤهَّلٍ للوقوف أمام الله للصلاة والسجود.
متى ارتفع
من الضمير سبب الملامة، وبالحري الملامة كلِّها، وحلَّ ما يشجِّع الضمير على
الوقوف أمام الله، أصبح الإنسان لا يعيقه شيء من داخله عن الوقوف للصلاة أمام الله.

غير
أنه من واقع خبرة الإنسان في كل حياته على الأرض، فإنَّ كل إنسان مهما ذاع صيته
وذاعت قداسته، لم يؤتَ ضميراً بلا لوم على الإطلاق. فكل قديس مهما علت قداسته
وُجِد بالنهاية قارعاً صدره معترفاً بعدم استحقاقه للوقوف أمام الله بلا لوم. إلى
أن جاء المسيح وحَمَلَ خطايا وعجز وقصور الإنسان من كل نوع، وكفَّر عنها بذبيحة
نفسه، فطهَّر الإنسان نفساً وجسداً وروحاً، وطهَّر ضمير الإنسان من كل لوم ومن كل
الأعمال الميِّتة: “فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدَّم نفسه
لله بلا عيب، يُطهِّر ضمائركم من أعمال ميِّتة لتخدموا الله الحي” (عب
14: 9). كذلك حينما يقول الوحي إننا مخلوقون على صورة الله في البر وقداسة الحق،
يكون “البر”هنا معناه: رفع كل الملامة عن الإنسان، لأن البار هو حتماً بلا
لوم أمام الله. وهكذا بخلقتنا الجديدة انزاح عنَّا لوم الضمير ولوم الناموس إلى
الأبد، لنقف أمام الله بلا قلق نُمارِس الحب والصلاة والقُرْبى. فعِوَض اللوم، غرس
الله فينا الدالة وحبَّه الأبوي.

“..
قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه”:

“قدَّامه”:

أي
أمامه. إنَّ أحرج الأعمال التي أُعطِيَ للإنسان أن يعملها في حياته على الأرض، أن
يتراءى أمام الله. فهيبة رؤية ا لله تزلزل كيان الإنسان، بل وكيان أي خليقة
روحانية مهما بلغ سموها. فإشعياء النبي يذكر خبرةً جازها في رؤيا توضِّح معنى
الوجود أمام الله أو هيبة حضرته:

+ “في سنة وفاة عُزِّيَّا الملك، رأيتُ السيد جالساً
على كرسيٍّ عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السَّرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة
أجنحة: باثنين يُغطِّي وجهه، وباثنين يُغطِّي رجليه، وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك
وقال: قدوس قدوس قدوس ربُّ الجنود، مجده ملء كل الأرض. فاهتزَّت أساسات العَتَبِ
من صوت الصارخ وامتلأ البيت دُخاناً. فقلتُ: ويلٌ لي إني هلكت، لأني إنسان نجس
الشفتين، وأنا ساكنٌ بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب
الجنود” (إش 1: 65)

وبعد
تجربة إشعياء، فمَنْ ذا الذي يستهتر بالاقتراب من الله والترائي أمامه ورؤياه؟
ولكن بالرغم من كل ذلك، خلق الله الإنسان وفي صميم طبيعته القداسة وأن يكون بلا
لوم في المحبة، كتأهيلٍ له ليقف أمام الله! وقد سمعنا من فم المسيح أن الله بناءً
على مؤهِّلات الطبيعة الجديدة التي وهبها للإنسان، يطلب الساجدين أمامه بالروح
والحق. إذن، فالله أهَّلنا بالقداسة وأن نكون بلا لوم في المحبة للوقوف والترائي
أمامه، وطالبنا بالسجود له، إذ رفع عن الإنسان رُعبة الوقوف أمامه، وأعفاه من رهبة
هيبته، لكي يستطيع الإنسان أن يقترب إليه ويُمارِس حبه وعواطفه كابن من نحو الله
كآب. وبآنٍ واحدٍ، تكمل لمشيئة الله المسرَّة ببنوَّة الإنسان في المسيح.

ولنا من خبرتنا في ممارستنا لدالة المحبة البنوية أمام الله
حينما ندخل إليه بالصلاة مفعمين بمشاعر المحبة، ما يبدِّد كل رهبة أو خوف من
الترائي أمام الله للدرجة التي إن غبنا كثيراً عن وقفة الصلاة أمامه يلتهب قلبنا
بالحنين إلى العودة للوقوف أمامه، وتشدُّنا محبته للمثول أمامه بإحساس العوز إلى
المحبة التي نشتاق أن تستكمل ذاتها بالوجود أمامه والإحساس به. فطالما نحن بدون
صلاة بعيداً عن الوقوف أمامه، نشعر وكأن المحبة فينا عاطلة ونُعاني نقصاً في
كياننا لا يكتمل إلاَّ بالوجود في حضرة الله. وفي الأيام التي ينشط فيها الإنسان
الجديد، تخطفنا مرات عديدة حرارة مفاجئة تدفعنا دفعاً لنقف أمام الله في الصلاة،
وربما تعاودنا عدَّة مرَّات في الساعة الواحدة ولا نبلغ أبداً حدَّ الشبع.

واضح هنا معاناة الإنسان الجديد في تغرُّبه عن الله من
جرَّاء سبي الزمن في العالم الحاضر والجسد العتيق الذي يعرقل حركات الروح ويبدِّد
حرارة المحبة. ولكن لنا في تواتر المرات التي يُنعم بها الله علينا بالوقوف أمامه
في صلاة وسجود بالروح والحق، واغترافنا من محبته بلا شبع؛ تعويضاً يُنْسينا ألم
الغربة.

كلمة في الختام:

سألني صديق: أنا أريد
منك بحق الصداقة، قل لي في كلمة واحدة: ما هو الإنسان الجديد؟

قلت له: “القيامة”.

فنحن متنا مع المسيح بخطايانا وأخذنا معه اللعنة على الصليب،
فكملت علينا العقوبة التي باشتراكه معنا فيها كملت على كل مَنْ يؤمن بالمسيح، ثم
قمنا معه بقيامته وقد سقطت عنا عقوبة الموت واللعنة، ونلنا معه وفي جسده القائم من
الموت جسد الإنسان الجديد الذي نحيا به مع المسيح أمام الله إلى الأبد. فجسد
الإنسان الجديد هو جسد القيامة من بين الأموات: “إن كنتم قد قُمْتُم مع
المسيح فاطلبوا ما فوق..” (كو 1: 3)، “وأقامنا معه، وأجلسنا معه في
السماويَّات” (أف 6: 2)، “ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح”
(أف 5: 2)

(فبراير
1997)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى