علم التاريخ

الرهبان في القرنين الثالث والرابع



الرهبان في القرنين الثالث والرابع

الرهبان
في القرنين الثالث والرابع

الأصل:
السيد المسيح هو أول من عاش عيشة فقر وتيه ومسكنة. وعلّم باقتراب ملكوت الله.
وأرسل تلاميذه وأوصاهم ألا يحملوا شيئاً للطريق. ويعقوب أخا الرب لم يأكل لحماً
ولم يشرب خمراً ولم يقتنِ سوى رداءٍ واحد.

 

وجاء
الاضطهاد في القرون الثلاثة الأول ففرَّ المؤمنون إلى البراري والقفار وعاشوا عيشة
البؤس والطهارة والتقوى. واشتدت وطأة الحكم وكثرت الضرائب وتثاقلت، فتاه المؤمنون
وتركوا القرى والمزارع محتجين على نظام المجتمع حتى إذا أطل القرن الرابع وجاء
قسطنطين وخلفاؤه ولكم يكد يغير ذلك شيئاً من طريقة المؤمنين. إذ أصبحوا يقولون
بوجوب الاكتفاء والابتعاد عن العالم للتأمل والتفكير بالقيم الروحية والبشرية.

 

الرهبانية
في أبرشيات أنطاكية: اعتكف أنطونيوس الكبير (250-356) على نفسه. وذاع صيته في مصر
والتف حوله الزهاد متنسكين أفراداً لا جماعات. وتقبل القديس باخوميوس (290-345)
المسيحية وتنسك فآثر أتباعه الرهبانية مجتمعين غير منفردين. وأقبل على القديسيّن
مؤمنون أنطاكيون فأخذوا عنهما وعادوا إلى فلسطين وسورية والرها والجزيرة وآسية
الصغرى.

 

وأقدم
الرهبان الأنطاكيين فيما يظهر هو هيلاريون غزة. فإنه بعد أن أخذ التقشف عن القديس
القديس أنطونيوس الكبير، عاد إلى فلسطين في السنة 307. واعتكف في برية غزة. وبعد
أن قضى عشرين سنة متأملاً، فاح عبير فضائله فالتف حوله وثنيون من مصر وسورية
وتقبلوا النعمة على يده وثابروا على الزهد والتقشف. ونسج آخرون على منواله فانتشرت
الرهبنة في فلسطين وتعددت الأديار. وأقام هيلاريون نفسه في أحد هذه الأديرة. فاكتظ
الرهبان حوله، فتاقت نفسه إلى العزلة فتركهم وشأنهم وعاد إلى البرية.

 

ونشأ
في أنطاكية مدرستين رهبانيتين -شكلين من الرهبنة- فبينما نرى أن أبناء فلسطين
والأقطار المجاورة يزهدون فينسكون جماعات في ساحل فلسطين وبرية اليهودية نلحظ
عدداً من الحجاج الغربيين أيضاً يؤسسون الأديرة في أورشليم وبيت لحم وغيرهما من
الأماكن المقدسة ويقيمون فيها معتكفين على الصلاة والصوم والزهد.

 

واللفظ
اليوناني
Mandra كان يعني حظيرة الغنم. ثم أطلق الرهبان هذا اللفظ على المكان الذي
كانوا يجتمعون فيه. ومن هنا اللفظ “أرشمندريت” الذي أُطلق على رئيس
الرهبان. وبعض الرهبان أطلقوا على مكان اجتماعهم اللفظ اليوناني
Choinobion ومعناه المنتدى والمجتمع.

 

القديس
باسيلوس الكبير: (329-379). وزع أمواله على الفقراء وسار إلى البرية للتعبد
والصلاة. ثم أشار عليه رئيسه الروحي أن يرحل إلى مصر وسورية وما بين النهرين
ليتفقد شؤون الرهبان والنساك فيها. فعاد إلى بلاده في السنة 359 فأنشأ ديراً
للرهبان على ضفة نهر الايريس. وعاش مع رهبانه حياة تفشف. وأنشأ هذا القديس الدير
بعد الدير حتى صار أباً لمئات الرهبان. ووضع قوانينه الكبرى والصغرى فعمت الشرق
بأسره، وانتقلت حينها إلى الغرب أيضاً. وتميزت الرهبنة الباسيلية عن الباخومية
وغيرها بانتظامها وخضوع أفرادها لرئيسهم ومدبر شؤونهم، وبإصغاء الرئيس إلى نصح
الرهبان. وخشي الكسل في نفوس الرهبان فحضهم على العمل اليدوي المشترك لمصلحة
المجموع وعلى مطالعة الكتاب المقدس والتأمل في محتوياته.

 

افرام
البار: (303-379) وعاصر باسيليوس الكبير، افرام البار. ولد افرام في نصيبين من
أبوين مسيحيين. ولحق بأسقفها القديس يعقوب الشهير “فسقاه من التقى والعلم
لباناً نقياً. وقرأ كتاب الله فأحكمه”، وترك الدنيا واعتكف. فأخذ عن يوليانوس
الناسك طريقته، فأكب على الصوم والصلاة والإماتة. حتى أصبح جسده على حد تعبير
النيصصي هيكلاً عظمياً كأنه تمثال من الفخار.

 

ولما
سقطت نصيبين في يد الفرس سنة 363 جلا عنها وسار إلى الرها. وأشرف على مدرستها ولقن
الطلبة حقائق الإيمان القويم. وزار النساك في ضواحي الرها، ففاقهم قداسة وكمال.
وذاع صيته حتى جاءه الكثيرون لاقتفاء أثره. فوعظ وهدى وأصبح أباً للمئات من النساك
والرهبان.

 

مار
مارون: ويذكر ثيودويطس اسقف قورش مارون الناسك في عداد نساك أبرشيته ويقول أنه
اعتكف على احدى القمم بالقرب من هيكل وثني وأنه قضى حياته بالصلاة والتوبة. وأن
الله منّ عليه بالقدرة على الشفاء فتقاطر عليه الناس. يتبركون ويلتمسون الدعاء.
وبعضهم قد تتلمذ على يده واقتفى أثره. وكتب الذهبي الفم إليه في أثناء محنته في
أرمينية سنة 405 يستخبر عن أمره ويلتمس دعاءه. ولم يذكر ثيودوريطس سنة وفاته ولا
ذكرها غيره. ولكن أن الذهبي الفم راسله سنة 405 وأن ثيودوريطس بدأ يدون أخباره سنة
323. ومن هنا تعيين الوفاة في السنة 410 وحواليها. ولا تزال الكنيسة الجامعة
بفرعيها اليوناني واللاتيني تعيد لهذا القديس الأرثوذكسي حتى يومنا هذا.

 

القديس
ايرونيموس: (347-420) أَمَّ أنطاكية في سنة 373 ايرونيموس الشاب السلوفيني
الإيطالي، الذي أصبح فيما بعد أكبر رجال التفسير في الكنيسة الغربية. وولد هذا
القديس في سلوفينية من أبوين شرقيين مسيحيين تقيين. وفي الثانية عشر أرسل إلى رومة
فدرس فيها الفصاحة والبيان. وقبل فيها سر المعمودية على يد ليباريوس أسقف رومة سنة
365. وعزم على التفرغ للعبادة وسعى لاجتذاب أخته الصغيرة إلى حياة التبتل والتنسك،
فغضبت عليه عمته وثارت في وجهه فسافر إلى الشرق.

 

ولد
وصوله أنطاكية حلَّ ضيفاً على أفاغريوس الكاهن يمين بفلينوس زعيم الأفستاثيين
-افستاثيوس- الأرثوذكسيين. ودرس اليونانية والعبرية وأصغى لكبار المفسرين
واللاهوتيين. فانفرد في برية خلقيس (قنسرين). وفي سنة 377 عاد إلى أنطاكية فأقنعه
بفلينوس بقبول الكهنوت. ثم رحل إلى القسطنطينية ليأخذ العلم واللاهوت عن غريغوريوس
الثيولوغس، ولبث فيها سنتين. وفي سنة 382 رافق بفلينوس إلى رومة فاتخذه أسقفها
دماسوس كاتباً له ووكل إليه وضع ترجمة موحدة للكتاب المقدس.

 

وتوفي
دماسوس في سنة 382 فأراد البعض أن يخلفه ايرونيموس. فثارت ألسن الحسد ورشقت القديس
الراهب بسهام “القلوب الدنيئة”. فحمل صليبه مكتبته ورحل إلى أنطاكية
وعكا ويافة فأورشليم وبيت لحم. وجاء برفقته أخوه بولبيانس والكاهن منصور والتقيتان
بولا وافستوكيوم. وشيدت بولا ديرين في بيت لحم في جوار “المذود المقدس”،
واحداً للرجال والآخر للنساء. وتسلمت هي رئاسة دير النساء، والقديس أشرف على إدارة
دير الرجال. ومكث في بيت لحم خمسة وثلاثين عاماً. وتوفي فيها في سنة 420 ودفن
بالقرب من المذود المقدس ثم نقل جسده إلى رومة. وكان قد أنهى في سنة 405 ترجمة
الكتاب المقدس والتي تعرف باسم
Vulgata.

 

الرهبان
والمجتمع: كان الوثنيون المثقفون يرون في الرهبان أعداء ألداء لجميع مسرات
الطبيعة. وسخفاء الذمة خونة لم يثبتوا على عهد الولاء للمجتمع المدني. إذ كان
الرهبان يكرهون أن يروا الناس يتعبدون للأوثان تاركين الإله الواحد الأحد. أما مع
الدولة فكان والنس غير راضٍ عن تدخل رهبان النطرون في قضية خلف اثناثيوس في
الإسكندرية فأصدر في سنة 375 قانوناً قضى بإكراه الرهبان على الخدمة العسكرية.
وهبَّ عماله في مصر والشرق يسوقون الرهبان والنساك فيعرونهم ويهزؤون بهم. وقضى
عدداً منهم تحت ضرب السياط وسفع الحديد. وسن ثيودوسيوس أمراً في سنة 390 يمنع
الرهبان من الإقامة في المدن وأجبرهم على البقاء في البراري وفي الثاني من نيسان
سنة 392 حرّم الأمبراطور على الرهبان التدخل في الأحكام والتشفع أمام السلطات.

 

وفي
الأوساط المسيحية لم يجمع المسيحيون على تقرير التبتل والزهد ولم يشاركوا كلهم
الذهبي الفم في قوله أن رهبان الفيافي في مصر ملائكة في شكل بشري. فإنه قام من
أبناء أنطاكية نفسها من المسيحيين من قرّف بالرهبان وعدَّ تقشهم ضرباً من الجنون
واستفرغ كل ما في وسعه لمنع الناس عن اقتفاء آثارهم. وإذا جاز لنا -كما يقول
الدكتور أسد رستم- أن نأخذ بشهادة سالفيانوس قلنا معه: “إذا خرج رجال الله من
أديرتهم في مصر و من أماكن أورشليم المقدسة ومن البراري أمّوا المدن بوجههم الصفر
وشعورهم المجزورة حتى الجلد قوبلوا بالضحك والصفير والاستهزاء”.

 

أما
بالنسبة للرهبان والأساقفة. يمكننا القول أن الرهبانية، رغم بعض التطرف في التبتل
والتعبد، كانت بمثابة تنفس للقوى الروحية الفائضة في الأفراد الذين اضطروا إلى
الاعتزال لمتابعة الجهاد الروحي، وتكشف لنا المثل العليا دون الاعتداء على نظم
الكنيسة وأوضاعها القائمة. والواقع أن تشريع والنس وثيودوسيوس وحده يثبت لنا تدخل
الرهبان والنساك في أمور الكنيسة وإن أخبار ثيوفيلوس الإسكندري تؤكد أيضاً تعاوناً
وثيقاً بين الأسقف والرهبان. ويجب ألا ننسى أن مجمع أسنة
Latopolis
بحث إدعاء باخوميوس أنه “يرى ويقرأ الأرواح”. ولا يخفى أيضاً أن علاقات
باخوميوس مع أساقفة مصر كانت حسنة جداً وأن عدداً كبيرا من رهبانه تقبلوا درجة
الكهنوت وأن اثناسيوس يبين بوضوح تام احترام أنطونيوس الكبير للسلطة الدينية.

 

ويلاحظ
أيضاً أن النساك المتبتلين من أبناء كنيسة أنطاكية ساهموا منذ القرن الرابع في
أعمال الكنيسة الخيرية والتبشيرية. وقد أجاد الأب أولاف هندريك في إظهار هذه
الناحية في الحياة الرهبانية الأنطاكية ولكنه تطرف في الاستنتاج عندما رأى أن
اشتراك هؤلاء في هذه الأعمال هدف بعد مجمع خلقيدونية إلى الاستقلال عن بيزنطة.
ولعله يقصد الرهبان الذين قالوا بالطبيعة الواحدة لا رهبان كنيسة أنطاكية. فهؤلاء
ظلوا أبناء الكنيسة الأم الجامعة!.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى