علم المسيح

الباب الثاني



الباب الثاني

الباب
الثاني

من
الدخول المنتصر إلى أُورشليم حتى الصعود

الفصل الأول

من الدخول المنتصر إلى أُورشليم حتى العشاء الأخير

112- دخول
المسيح أُورشليم دخول الملك الظافر

كانت أُورشليم قد اكتظَّت بالحجاج الآتين من الشتات من كل
أجناس العالم. ويمكن أن تتعرَّف

على أجناس الشعوب التي انطلقوا منها كما جاءت في سفر الأعمال: “.. فرتيون
وماديون وعيلاميون، والساكنون ما بين النهرين، واليهودية وكبدوكية وبُنتس وأسيا
وفريجية وبمفيلية ومصر، ونواحي ليبيَّة التي
نحو القيروان، والرومانيون المستوطنون يهود ودخلاء، كريتيون وعرب..” (أع

2: 811). وكان متوسط عددهم بحسب
يوسيفوس(
[1]) بالإحصاء
أيام نيرون 2.700.000

حاج.

وكانت
أخبار إقامة لعازر من الموت قد ملأت أُورشليم في كل أرجائها، وأحدثت حماساً
وتوثباً شديداً من نحو المسيح. وبمجرَّد أن انقضى السبت اندفعت الجموع إلى بيت
عنيا لينظروا يسوع وأيضاً لعازر الذي أقامه من بين الأموات، ليروه رؤية العين
ويسألوه إن أمكن: “فعلم جمع كثير من اليهود أنه هناك (في بيت عنيا)، فجاءوا-
ليس لأجل يسوع فقط- بل لينظروا أيضاً لعازر الذي أقامه من الأموات” (يو 9:
12)، وغالباً كان ذلك يوم الأحد.

ومن
ملابسات الحوادث التي تدخَّل فيها المسيح بنفسه لإعداد موكب الدخول إلى أُورشليم،
يتيقَّن عندنا أن المسيح قد خطَّط لهذا الدخول، وإلاَّ فإنه كان يمكن أن يتحاشى
الدخول وسط هذه الجموع كعادته. ولكن لأول مرَّة نرى أن المسيح يدبِّر موكبه الظافر
في أثناء دخوله أُورشليم، مما يوجِّه فكرنا أنه عزم أن يتحدَّى السلطات اليهودية
ويرفع هيجان حفيظتهم لدرجة محاولة القبض عليه، لأنه حدَّد أن يكون الفصح هو يومه
الذي يموت فيه على مستوى التدبير الإلهي.

وهنا
كان مظهره وهو داخل أُورشليم، ليس على هيئة المعلِّم السابق، بل بهيئة الملك
الظافر، ولكن ليس بخطة منفصلة عن حياته العادية وسط تلاميذه. فارتأى لأول وهلة أن
يستسلم لغيرة الشعب ولا يتدخَّل لإسكات الجموع الحاشدة وهي تتبعه وتتقدَّمه هاتفة
بأصوات رجَّت أُورشليم: “أوصنَّا في الأعالي أوصنَّا لابن داود”، لأنه
كان يرى في تلقائية الشعب الصورة الصحيحة لمجيء الملكوت والاحتفاء به والإعلان
عنه، باعتباره المسيَّا الآتي ليخلِّص إسرائيل وكل مَنْ يؤمن به من الشعوب. فكان
دخوله كالملك الظافر وسط حشود الشعب اليهودي الآتي من كافة أرجاء العالم الصورة
الصحيحة لمناداته بالملكوت وتعليمه هذه السنين الثلاث ونصف، حين تلاقت ساعة السماء
مع ساعة الأرض في بؤرة الصليب. فكان دخول المسيح كالملك الظافر القادم لفداء شعبه
والعالم الإجابة الملحَّة لكل أعماله السابقة، بل لكل التوراة والأنبياء. فارتفع
الحدث ليكون حدث العالم الفريد منذ الدهور.

وكون
الإنجيل بحسب القديس يوحنا يؤكِّد أن المسيح طلب بنفسه الجحش الذي يركبه، لا يُخرج
المنظر عن تلقائية عادية؛ فكون المسيح يمشي على قدميه وسط هذه الجموع الحاشدة أمرٌ
مرفوضٌ، بمعنى أن ركوبه على الجحش كان أمراً أساسياً تفرضه الساعة وظروفها. ولكن
كونه يتمشَّى مع نبوَّة زكريا، فهذا يأتي وفاقاً وليس عمداً ككل أعمال المسيح.

أمَّا
جمهرة الشعب من حوله، فقد فرضتها معجزة إقامة لعازر من الموت التي جعلت المسيح
يسير في موكب فريد من نوعه، ألوف مؤلَّفة سارت وراءه، الذين أتوا ليروا لعازر،
وألوف مؤلَّفة خرجت من أُورشليم إذ سمعوا ضجيج الهتاف آتياً من بعيد. فالمسيح لم
يصنع هذا الموكب الظافر الفريد للملك الآتي باسم الرب، ولكنه رضي به ورآه الصورة
الصحيحة لتلقائية الشعب الذي آمن بحسِّه ووجدانه بأنه هو المسيَّا الآتي الذي أتى،
لولا أن رؤساء اليهود قد حجزوا صوته هذه السنين التي علَّم فيها كلها. ولكن كان
مظهر الملك الآتي باسم الرب ليس كأي ملك آخر. فقد أتى وديعاً ومتواضعاً كملك
للسلام. يشهد على ذلك سعف النخل بدل السيوف، والجحش الصغير الذي بالكاد قادر أن
يحمل المسيح رمز البساطة والمسكنة بدل الخيول المطهَّمة. والشعب السائر ليس في
نظام العساكر المدرَّبة بل تغشاه النسوة ويغلب عليه الأطفال الذين يصيحون
ب”أوصنَّا” بكل صياح، والذين ضجَّ رؤساء الكهنة من صياحهم الذي كان يسد
الآذان. كان موكباً سلامياً بكل كلام وكل معنى! وإن كان قد حاول التلاميذ أن
يجعلوا هتاف الشعب الذي يتقدَّم والذي يرد عليه الشعب الذي يتبع على صورة
الأنتيفونا التي اشتهر بها التسبيح لله، فقد أتى جزافاً وبلا نظام مُحكم. وكانت
الآية التي سيطرت على قلوب الشعب وهتافه هي آية المزمور
(118: 25و26): “هوشعنا! يا رب خلِّص! مبارك الآتي باسم الرب”

أمَّا
موقف الفرِّيسيين فكان سلبياً للغاية، فقد أنكروا في أنفسهم إعلان أنه مسيَّا دون
رأيهم وتحرَّكوا محاولين أن يُسكتوا الجمع ولم يستطيعوا، فلمَّا يئسوا قالوا
لبعضهم: “انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم قد ذهب وراءه.” (يو
19: 12)

فلمَّا
دخل المسيح المدينة تقدَّم الفرِّيسيون باحتجاج يطلبون إليه أن يُسكت الجمع
والتلاميذ: “يا معلِّم انتهر تلاميذك. فأجاب (المسيح) وقال لهم: أقول لكم إنه
إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ” (لو 19:
39و40). أمَّا الفرِّيسيون الذين
تحمَّسوا لهذا فهم الآتون مع القوافل من الجليل. أمَّا الكهنة فانفلت زمام غيظهم
لمَّا
وجدوا الأولاد يصيحون داخل الهيكل: “أوصنَّا”:
“فلمَّا رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع، والأولاد يصرخون في
الهيكل ويقولون: أوصنَّا لابن داود، غضبوا
وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلاء؟ فقال لهم يسوع: نعم! أما قرأتم
قط: من أفواه الأطفال والرُّضَّع هيأت
تسبيحاً؟” (مت 21: 15و16 وانظر مز
2: 8)

حدث كبير
وأمر بلغ معناه إلى أعلى وأقصى ما يمكن أن يعبِّر الشعب البسيط والأطفال عنه، إنه
وإن لم يزلزل الأرض فقد زلزل التاريخ، فابن الله قادم ليسلِّم جسده ليُصلب في
وداعة الحمل وليس فقط في بساطة الملوك. والذين يهلِّلون والذين يصرخون كانوا كمن
يردِّد صدى الحدث الذي رنَّ في السماء، وكان المشهد كفيلاً أن يحرِّك مشاعر أقسى
القلوب وأضيق العقول. ولكن ضاق صدر الفرِّيسيين ورؤساء الكهنة بالآتي حاملاً مجداً
لإسرائيل ونوراً للأُمم. وحينما ردَّ المسيح على ضيقهم بأنه لو سكت هؤلاء فالحجارة
تصرخ، كشف مدى رسمية الموكب في عُرف المسيح وتدبير السماء، بل مدى ما يحمل دخول
المسيح أُورشليم ليُصلب من تحقيق مئات النبوَّات وآلاف السنين من إعداد وانتظار.
فإن كان إسرائيل قد تاه عن فاديه وسُدَّ قلبه ولسانه، فالخليقة تصرخ حجارتها لأنها
بانتظار فاديها.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى