علم المسيح

أمثال يسوع في المحبة



أمثال يسوع في المحبة

أمثال يسوع في
المحبة

.
هكذا، سحابة تلك الفترة التي قضاها يسوع في اليهودية، سوف يتتالى الحوار طويلاً
بين الحقد والحب، ” بين الشقاء والرأفة “، كما جاء عند الاباء الأقدمين.
ولسوف تبرز، فوق ذاك القاع الدائم من السعايات العدائية، والمآرب السفّاحة، صدوُر
تلك الأمثال الرائعة التي راح يعُلن فيها المسيح – أكثر من ذي قبل – رحابة حبهّ
للبشرية. إنه لم يكن ليجهل نوايا خصومه؛ لا بل كثيراً ما كان يسقط أقنعتهم، ويفضح
قلوبهم، وينذر اليهود بالمغبّات الهائلة التي سوف يؤولَ إليها تعاميهم المجرم
المتعمّد. ولكن ليس جهلنا للناس هو الذي يحبّبهم إلينا، بل أن نسبر أغوار سفالتهم،
ونكتشف، من وراء ذاك البؤس، التبرة الفريدة المطويةّ في خضمّ أوحالهم

 

.
” الحق الحق أقول لكم: إن من لا يدخل من الباب، إلى حظيرة الخراف، بل يتسور
من موضع آخر، فإنه سارق ولصّ. وأما الذي يدخل من الباب، فهو راعي الخراف. له يفتح
البوّاب، والخراف تسمع صوته، فيدعو خرافه الخاصّة بأسمائها ويخرجها. ومتى أخرج
جميع خرافه، يسير أمامها، والخراف تتبعه، لأنها تعرف صوته. أمّا الغريب فلا تتبعه،
بل تهرب منه، لأنها لا تعرف صوت الغرباء” (يوحنا 10: ا-5)

مقالات ذات صلة

 

: لقد
كان من اليسير اكتناه هذا الكلام. فالأنبياء كثيراً ما استعانوا بمثل هذا التشبيه.
وقد قال إرميا في الله: ” إنه يحفظ إسرائيل كما يحفظ الراعي قطيعه ”
(إرميا 31: 10). وتوعّد حزقيال بالويل أولئك الرعاة الأردياء الذبن يأكلوٍ ن لبن
النعاج، ويلبسون صوفها، ” ثم لا يعنون بأمرها، بل يذرونها مشتّة من غير راع،
ومأكلاً لوحوش الصحراء ” (حزقيال 34: ا –5). وعمد أشعياء وزكًرياّ إلى مثل
هذه التشابيه أيضاً؛ ومع ذلك فالظاهر أن كلام يسوع لم تتبينّ لهم مراميه كلّ
البيان، فأردف مفصحاً

 

.
” أنا باب الخراف. جميع الذين أتوا قبلي سرّاق ولصوص. ولكنّ الخراف لم تسمع
لهم. أنا الباب. إن دخل بي أحد يكون في مأمن، ويدخل ويخرج ويجد مرعى. السارق لا
يأتي إلاّ ليسرق ويذبح ويهلك. أمّا أنا فقد أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم
بوفرة. أنا الراعي الصالح. الراعي الصالح يبذل حياته عن الخراف. أمّا الأجير الذي
ليس براع، وليست الخراف له، فإذا رأى الذئب مقبلاً يترك الخراف ويهرب، فيخطفها
الذئب ويبدّدها. أنا الراعي الصالح. أعرف خراقي، وهي تعرفني، كما أن الآب يعرفني
وأنا أعرف الآب. وأبذل حياتي عن خرافي. ولي أيضاً خراف أخرى، ليست من هذه الحظيرة.
فهذه أيضاً ينبغي أن أجيء بها وستسمع صوتي، فيكون قطيع واحد، وراعٍ واحد”
(يوحنا 10: 7-16)

 

لقد
لوحظ مراراً ما يتميزّ به وصف هذا المثل من دقة جغرافية تبرز من خلالها، مع عناصر
البيئة الفلسطينية، عوائد الرعاة كما لا تزال جاريهة حتى اليوم. فمواشي القريةُ
يحجر عليها، ليلاً، في زراثب من حجر مرصوف بلا ملاط، ويقوم على حراستها أحد
الرعاة، أو ابن صاحب الرزق إذا كان اَلحلال لأحد الملاّ كين الأثرياء. وعند الصباح
يأتي الرعاة، ويلتمس كلّ قطيعهَ، وبضربة من لسانه يطلق صوتا خاصاً يعهده خراف
القطيع. والواقع أن الراعي يضطر، أحيانا، إلى المجازفة بحياته في سبيل الدفاع عن
أغنامه: أو لم يبَطش داود بدبّ وأسد ذوداً عن قطيعه؟ (1 صموئيل 17: 3- 37). وحتى
اليوم، يعثر على ذئاب وضباع وبنات أوى في مفازات اليهودية وشرقيّ الأردن. إن لهذا
المثل، من دقيق المرامي، ما يتخطىّ حيّز الرمر. فالعبارة الصغيرة التي وردت ثلاثاً
في النصّ، لن يتضح معناها إلاّ بعد فترة من الزمن: ” أبذل حياتي عن
خرافي!..”. ولئن كانت صورة ” الراعي الصالح ” مما يرتاح إليه اليوم
المسيحيوّن قاطبة، فلقد تميزّ بحبُها أولئك الذين كانوا ” خرافاً أخرى
“، من غير حظيرة إسرائيل، أعني بهم الأمَم الوثنيّة القديمة.. إننا نجد، في
الآيات الأخيرة من هذا المثل، ما يوحي بالشمول الذي تميزّت به دعوة المسيح. ولقد
عثُر مراراً، فوق جدران الدياميس، على صورة ” الراعي ” الإلهي؛ كما عثر
على نقش رمسي فيه ابتهال إلى الله من أجل راحل ” أعيد إلى الحظيرة على منكبي
الراعي الصالح “؛ ولا تزال الإنسانية، حتى اليوم، تنصت – في أعماق قلبها
الممزق – إلى وَعدِ منَْ وَعَدَ ها بأن يعيدها جميعهاَ قطيعاً واحداً ضمن حظيرة
واحدة!..

 

. ما
كان موقف اليهود من تلك الموهبة؟ ” لقد نشب أيضاً، بسبب هذه الأقوال، شقاق
بين اليهود. فكان كثيرون منهم يقولون: ” إن به شيطاناً، وإنه يهذي، فما بالكم
تستمعون له؟ ” وآخرون يقولون: ” هذه الأقوال ليست أقوال من به شيطان!
” (يوحنا 10: 19 -21). ولكنّ هؤلاء أيضاً الذين باتوا يبغضونه ويصُموّن
الآذان عن سماعه، لم يكن يسوع ليكرههم! ولم يكن له من جواب سوى الحب يواجه به سموم
الضغينة. وقد عاد بصيغة جديدة، إلى ما صرّح به في مستهلّ رسالته العلنية: ”
الحق أقول لكم: ” إن كل شيء يغفر لبني البشر، الخطايا والتجاديف، مهما تمادوا
في التجديف. وأمّا من جدّف على الروح القدس، فلن يغفر له إلى الأبد، لأنه مجرم
بخطيئة أبدية! ” (مرقس 3: 28؛ متى 12: 31؛ لوقا 12: 10). فليس إذن من معصية –
مهما خَبُثت – إلاّ ويستطيع الحب أن يفتديها بقدرته اللامتناهية، ما خلا تلك التي
تتنكّر للحب، ولا تقُرّ بإثمها، وتأبى الصفح..

 

. ليس
إذن من خطيئة إلاّ ولها عند الله رحمة! وأعقب يسوع على كلامه في الراعي الصالح،
بمثل آخر نجده في روايتي لوقا ومتى (لوقا15: 4 – 7؛ متى 18: 12): مثل النعجة
الضالة التي انفصلت عن القطيع، فذهب الراعي في إثرها. لقد جاء فيَ حزقيال أن
الراعي الصالح هكذا يسعى وراء الشاردة (حزقيال 34: 16). ولكننا نراه يكتفي ”
بتطلب المفقودة ” وإعادتها إلى الحظيرة، والعناية بالمكسورة والضعيفة. وأمّا
يسوع فيضيف إلى ذلك وصفة يتجلىّ فيه الحبّ الصُراح: ” فالراعي الصالح يحمل
الخروف على منكبيه فرحاً، ويعود إلى بيته، ويدعو الأصدقاء والجيران، ويقول لهم:
” إفرحوا معي، فقد وجدت خروفي الضال! ”

 

.
ويواصل يسوع كلامه، قائلاً: ” أية امرأة يكون لها عشرة دراهم، فأضاعت منها
درهماً، لا توقد سراجاً، وتكنس البيت، وتطلبه باهتمام، حتى تجده. وإذا ما وجدته
تدعو الصديقات والجارات، وتقول لهن: ” افرحن معي، فإني قد وجدت الدرهم الذي
أضعت “. فأقول لكم: ” إنه هكذا يكون الفرح، عند ملائكة الله، بخاطئ يتوب
” (لوقا15: 8- 10)

 

.
ربما لا نعثر في سائر الانجيل، على ما يضاهي المثل الذي يعقب فوراً مثل ”
الدرهم الضائع “، في التنويه برحمة الله الواسعة. وقد تفرّد البشير لوقا
بذكره، فكان في وصفه، أكثر منه في أي موضع آخر، “كاتب الرحمة “. وقد
صوّر رامبراندت، في لوحة رائعة، عودة الابن الشاطر، وقد بدا في أسماله محطوماً،
منسحقاً، وأبوه يفتح له ذراعيه في حفاوة عظيمة. أيّ مسيحي، في ساعاته الحالكة، لم
يتشبّث بكلمات هذا النص، ملتمساً فيها تعزية أبدية؟.. إننا نتحرّج من تدوين تلك
الأسطر التي باتت في ذهن كل إنسان. (لوقا15: 11 -32). فذاك الابن المتطاول الذي
هجر البيت الأبوي، بعد أن تقاضى نصيبه من الميراث، وشخص إلى بلاد نائية يبذّر فيها
على المراغات ثروته، من ذا لا يتوسّمه في ذاته؟.. ولكن لا بدّ أن تأتي ساعات
التخليّ والعسر. وفي البأساء ألا نتَقَوِّتُ بالخرّوب الذي تتخاطفه الخنازير؟ إننا
نعلم كلنا ما هو الحنين إلى البيت المفقود، بيت الهدوء والسلام. وطوبى لمن يجرُؤ
وينطلق إلى أبيه، ويجثو أمامه قائلاً: ” لقد خطئت! “. فيتقدم ربّ البيت
إلى غلمانه قائلاً: ” هلموّا سريعأ بأفخر حلُّة، وألبسوه، وضعوا في يده
خاتمأ، وفي رجليه حذاء. وأتوا بالعجل المسمن واذبحوه. ولنأكل ونفرح. لأن ابني هذا
كان ميتاً فعاش، وكان ضالاّ فوُجد.. ”

 

. لا
نسري هل استطاع قط لسان بشريّ أن يضُمن مثل هذا النزر من الكلام، تلك الدنيا من
الحبّ والحكمة. فكل شيء قمةٌ في أوصاف ذاك المشهد، ولاسيما تلك ” الرأفة
” التي تحزّ في القلب حزاَ. إننا نرَ قّ لمأساة ذاك المبُعْد، ولكننا نرِقّ
أيضاً، على حدّ سواء، لفرح ذاك الوَالد الشيخ ” الذي أبصر ابنه من بعُد،
فتحركت أحشاؤه، وبادر إليه، وألقى بنفسه على عنقه، وقبلّه طويلاً.. “. هل من
حاجة إلى أن نضيف من التفاصيل ما يفرغ على القصة بعض قرائنها التاريخية؟ فلقد كان
الشرع اليهودي يقضي بتوزيع الميراث، بعد وفاة الأب، على جميع بنيه، وإيثار البكر
بحصّة مزدوجة، على أن يعول أمهّ وأخواته العوانس. لم يكن للبنين إذن، قبل موت
والدهم، أيّ حق في الميراث. ولذلك فقد تخطىّ الابن الأصغر حقوقه، إذ طالب بحصتّه
قبل الأوان. وأما انهباط الشاطر إلى مستوى رعاة الخنازير، فقد كان من شأنه أن يترك
في المستمع اليهودي أثراً عميقاً، لما تقتضيه تلك الصنعة من اتصال بحيوان نجس. وقد
جاء في التلمود: ” ملعون كل من عني بتربية الخنزير! “؛ وجاء أيضاً:
” إذا ألجئ إسرائيل يومأ إلى التقوّت بالخرنوب، فما عونه إلاّ التوبة!
“. وفي ذلك إشارة إلى أن يسوع، في هذا المثل – شأنه غالباً – قد ركّز قَصَصَه
الرمزي على أسّ من الأدب الحكميّ المتوارث

 

. بيد
أن القصة لم تتوقّف عند هذا الحدّ من وعد الله برحمته العجيبة، بل أفضت إلى مشهد
آخر، وفقرة جديدة توجّه بها المسيح خصوصاً إلى فئة التقاة الدينين، الذين لم
يهجروا البيت الأبوي، ولم يبدّدوا ثروتهم؛ وهم، بسبب ذلك، راضون عن ذواتهم كل
الرضى. ” وكان ابنه الأكبر في الحقل؛ فلما رجع واقترب من البيت، سمع أصوات
الغناء والرقص.. “. ماذا كان انطباعه إذ علم أن العجل المسمن إنما نحر
احتفاءً بأخيه الماجن؟ نتمثل ذلك إذا تخيلّنا سيدة شريفة حيال عاهرة تاثبة هبّ
الناس يحتفون بها ويتمادون في تكريمها.. لقد كان، ولا شك، فتىً طيبّا، ذاك البكر!
وإذ كان يتوقع من ميراث أبيه حصة مضاعفة، كان لا بدّ أن يتصرّف بحيث لا تسُقطَ عنه
حقوقهُ، فيجدّ في عمله، ويأخذَ بجميع ألوان التجلةّ والخضوع. أماّ سخطهُ، فيلوح من
خلال السطور. فهو يغُفل لفظة ” أبي “. واماّ عن أخيه فيقول: ” ابنك
هذا الذي أكل مالك مع البغايا!”. لقد كان بر الوالد، إذن، أن يبنل جميع ألوان
التلطف في سببل إقناعه. هذا ولا يؤكد الإنجيل أن البكر قد استسلم بسهولة

 

.
الحقيقة أن رحمة المسيح لا تكتفي بحطم المقاييس الخلقية التليدة. بل هي تبهر
الوجدان الإنساني، بما تفرض عليه من جهد جاهد. إن من الناس من يتسخّطون هذا المثل،
ويتظاهرون بالتحفّظ مماّ فيه من استدراج إلى المنُكر، ويأسفون، على كل حال، أن
يلمسوا فيه انتقاضاً مستهجناً لذاك القانون الاجتماعي الراسخ، القاضي للفضيلة
ثواباً وعلى الرذيلة عقابا.. ولربما رضوا أن يصفح لوالد عن ابنه، لو أنه أخَذَ
الأثيم بشئ من التأنيب الشديد!!

 

.
كذلك الأمر في مثَلَ ” عمّال الحادية عشرة “. فلكم يبدو غريبا،
بل.مستهجنا في نظر الذي يدأبون في عملهم، سحابة النهار، ويعتقدون، أنهم إنما
استحقوا أجرتهم. فهل من المنطق أن يتقاض عماّل الأخيرة مثل. أجرة الذين باتوا منذ
الصباح يكدحون. هكذا فطُر قلب الإنسان! فهو لا يرضى فقط بالقسمة التى يظن أنه
استحقها، بل يكره أن يأخذ مثلَ نصيبه أولئك الذين يظنهم غير أهل له، فاك هو
القانون الذي أنجز عليه الميسيح: قانون “الدفع والقبض”. هذا وليس إلاّ
أن يتفحص المرء ضميره، فيجد من نفسه سبب لإلتماس الرحمة، هو أيضاً، ويعد ذاته
سعيداً بأن لا ينزل به العقاب (متى 20: 1 – 17)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى