علم التاريخ

تصفية الأحزاب اليهودية:



تصفية الأحزاب اليهودية:

تصفية الأحزاب اليهودية:

بتصفية مملكة إسرائيل وضياعها كدولة تأثرت بالضرورة الأحزاب
التي كانت تتهافت على الحكم والرئاسة والاتصالات الخارجية بروما مثل الصدوقيين
المنتمين لحزب رؤساء الكهنة. فبانتهاء الحكم وخراب الهيكل وتوقف العبادة الرئيسية
توقفاً مؤبَّداً ذاب حزب الصدوقيين، إذ أصبح لا مجال لوجوده أو نشاطه، ولم يعد
يُسمع عنهم حسٌّ ولا خبرٌ.

أمَّا حزب الغيورين وبقية الأحزاب الوطنية المتطرفة التي
كانت تعيش على المناداة بمقاومة روما وتترجَّى طرد الأُمم وسحقهم وقيام مملكة عظمى
لإسرائيل وتحرر اليهود السياسي، فإزاء هذه الهزيمة القاضية وتخريب الهيكل وقتل
الزعماء ونهب كل خيرات البلاد وثرواتها وهدم أُورشليم وحرق الهيكل وسبي كافة
الأقوياء من اليهود، ذهبت كل آمالهم أدراج الرياح،
وتحطَّمت كل قواهم، وتلاشت نظرياتهم التي كانت تقوم على
تفسير النبوات والرؤى والمواعيد بصورة مادية حرفية خاطئة.

وهنا تتم نبوَّة زكريا (13: 25) التي يصف فيها
كيف أصبح الشعب اليهودي باغضاً لهؤلاء الأنبياء والرائين، الذين أغروا الشعب
وأضلوه وانتهوا به إلى خراب شامل ساحق ماحق، حتى أصبح اسم النبي أو الرجل الغيور
مخوفاً ومرعباً، بل وأصبح كل مَنْ يمت بصلة لهؤلاء الأنبياء والغيورين يحاول أن
ينفي احترافه بحرفتهم ويتخلَّص من اسمهم وشكلهم ومبادئهم.

ولم يتبقَّ من كافة الأحزاب اليهودية سوى الفريسيين
المعتدلين الذين كانوا دائماً أعداءً للصدوقيين بسبب تطرفهم السياسي واحترافهم
للشئون المالية والدنيوية بصورة متهافتة، كما كانوا يقاومونهم باستمرار بسبب عدم
أمانتهم للناموس والشريعة وميلهم للثقافات اليونانية حتى صاروا في نظرهم كأنهم غير
يهود. كذلك فإن الفريسيين كانوا مبغضين للغيورين أشد البغضة بسبب ادعائهم تمسكهم
بالشريعة والناموس، وهم جهلة متعصبون ضيقو التفكير من جهة، ومن جهة أخرى بسبب
رؤاهم الكاذبة المضلِّلة بخصوص مجيء المسيَّا وبسبب حبهم للقتال وسفك الدماء وحمل
السلاح بدون تعقُّل.

وقد أثبت الفريسيون أنهم الحزب الوحيد ليس فقط الذي يستحق
الحياة، بل والوحيد الذي يستطيع الحياة، وذلك بسبب مبادئهم المتوسطة، وحبهم
للسلام، وإمكانية تقبُّلهم الطاعة والخضوع للرومان كحكام، والتفاهم معهم على أساس
احترام القوانين الرومانية وفهمها بدون حقد أو رياء أو سياسة ملتوية. كما أنهم
الحزب الوحيد الذي كان يحمل أفضل ما في الديانة اليهودية وأحقها بالفهم والعمل كما
شهد لهم المسيح: “على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن
تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا” (مت 23: 2و3)

ولذلك اعتبرتهم الحكومة الرومانية حزباً مسالماً يمكن
التعاون معه.

والفريسيون لم ينظروا قط للمستقبل بعين طامحة للسيطرة على
الأُمم، أو استرداد الملك لإسرائيل كما كان يفعل الغيورون. ولا كانوا ينظرون إلى
الحاضر كأنه فرصة ينبغي انتهازها للربح والتوسُّع والاستعمار والمتاجرة، بل كانت
نظرتهم دائماً مربوطة بالماضي كمصدر للإلهام، معتبرين أن شريعة جبل سيناء هي
الأساس الوحيد الذي ينبغي التمسُّك به والحياة بمقتضاه بالتأمُّل المستمر في
أحكامه والتنفيذ الدقيق حسب شرائعه.

لذلك بدأ حزب الفريسيين يتقوَّى ويسود بعد خراب أُورشليم
والهيكل وانهزام كل قوة الغيورين، وأصبح تأثيرهم الديني شاملاً لكل الشعب الذي بدأ
يعيش في الواقع بعد أن تحطَّمت كل آماله الكاذبة التي كانت تعتمد على القوة
والمناضلة والمقاومة والثورة والحرب. وبدأ الرجاء بالمسيَّا وخلاص إسرائيل ونصرة
الله والقيامة من الأموات تأخذ حسب الصبغة الفريسية صورتها الروحية الأكثر
تعقُّلاً. على أساس أن الله هو الذي يؤتيها لشعبه إسرائيل وليست بذراع الأقوياء أو
بقوس الفرسان، وذلك عندما يشاء الله وليس كما يحدِّد الإنسان. وليس على الشعب
إلاَّ انتظار هذه المواعيد برجاء إذا كانوا أُمناءَ في تنفيذ وصايا وشرائع ونواميس
الله.

ومن أئمة الفريسيين المعتدلين بعد خراب أُورشليم الذين
قاموا وعلَّموا الشعب وبثُّوا الرجاء والإيمان والشجاعة الروحية “يوحنا بن زكاي”،
الذي يقول عنه كتاب المدراش إنه بسبب يأسه من الأحزاب المتصارعة أثناء حصار
أُورشليم لفَّ نفسه في كفن وجعل أتباعه يحملونه إلى خارج الأسوار، وذهب للرومان
ليتفاوض معهم بنفسه
([1]).

وقد جمع يوحنا بن زكاي جماعة من تلاميذه واستقر في مدينة
يامنه أو يمنيا وكوَّن مركزاً هاماً لدراسة الأسفار والشريعة. وقد صارت هذه
المدرسة قوة روحية معترفاً بها في البلاد كلِّها على مستوى السنهدريم قبل خراب
أُورشليم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى