اللاهوت الروحي

الباب الثالث



الباب الثالث

الباب
الثالث

التدريبات
الروحية

أولاً: ضرورة التدريبات

ثانياً: مفهوم التدريبات

مقالات ذات صلة

ثالثاً: ممارسة التدريبات

رابعاً:
مجال التدريبات

 

 لا أحد يستطيع أن ينكر
أهمية التدريبات للحياة الروحية، ولكن غاية ما هناك أن كثيرين لا يفهمون معنى
التدريبات ولا يعرفون كيفية ممارستها، لهذا أضع أمامك يا أخي الأمر واضحا مؤيدا
بالحق الإلهي:

 

أولاً: ضرورة التدريبات

 تتضح
لنا ضرورة التدريبات لحياتنا الروحية مما يأتي:

 

(1‎)
من الكتاب المقدس:

*
دربني في حقك وعلمني لأنك أنت إله خلاصي.(مز5: 25).

*
يدرب الودعاء في الحق.(مز9: 25).

*
دربني في سبيل وصاياك.(مز35: 119).

*
أنا أيضا أدرب نفسي ليكون لي دائما ضمير بلا عثرة من نحو الله والناس.(أع16:
24).

*
الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر.(عب14:
5).

*
يعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام.(عب11: 12).

 

 فالمرنم
يطلب من الرب أن يدربه في الحق وفي سبيل وصاياه، وبولس الرسول يقرر هنا أنه كان
يدرب نفسه حتى لا يتعثر بسببه أحد. ويوضح أهمية هذه التدريبات بأنها تعطى للإنسان
تمييزا بين الخير والشر، ويوضح ثمارها أي السلام.

 

(2)
من أقول الآباء القديسين:

 يوجد
الكثير من أقوال الآباء التي توضح ضرورة وأهمية التدريبات للحياة الروحية ولكنني
اقتصر هنا على ما يأتي:

 

 قال القديس الطوباوى يوحنا
ذهبي الفم
: {إن كانت حواسنا مدربة نستطيع أن نميز بين الخير والشر. ولكن كيف
ندرب حواسنا؟ يمكن أن ندربها بالاستماع المستمر لكلمة الله والتمرن على تطبيقها في
حياتنا. رأيت إذن ضرورة تدريب ذواتنا بالروحيات.}

N. & P. Frs. 1st
Ser. Vol. 14 P 407.

 

 بهذا
يوضح القديس يوحنا ضرورة تدريب الذات وكيفية ممارسة التدريب أيضا. والقديس
مقاريوس الكبير
يظهر هذا الجانب أيضا بقوله: {الإنسان الذي يرغب أن يأتي إلى
الرب ويوجد مستحقا للحياة الأبدية عليه أن يداوم باستمرار في الصلاة. ويغصب ذاته
على الاتضاع، واضعا نفسه أنه أقل وأحقر الناس جميعا، وكل ما يغصب نفسه لأجله
ويعمله وهو متألم بقلب نافر غير راضى، سوف يأتي عليه يوم يعمله برضي وقبول.

 

 وبذلك يدرب نفسه
على حياة الصلاح والاهتمام بالرب.
وحينما يرى الرب نية الإنسان واجتهاده..
يتحنن عليه ويخلصه من أعدائه ومن سلطان الخطية ويملأه بالروح القدس. وحينئذ
يتمم وصايا الرب دون تغصب أو اجتهاد، لأن الرب الساكن فيه هو يكون العامل فيه
وبذلك يثمر ثمار الروح بطهارة.} (حياة الصلاة الأرثوذكسية ص 372،373).

 

 فلعلك ترى من قول القديس
مقاريوس الكبير هذا إبرازه لأهمية التدريب على حياة الصلاح وذلك بالاهتمام بالرب
الذي يرى اجتهادك ونيتك يتحنن عليك ويخلصك.

 

(3)
شهادة مشاهير البروتستانت:

 ولعلك
لا تندهش يا أخي إذا رأيت رجالات البروتستانت يشهدون لضرورة تدريب النفس في الطريق
الروحاني وسأكتفي هنا بأقوال بعض هذه الشخصيات:

*
توماس كوك:

 

 قال في كتابه (القداسة في
العهد الجديد):

{الوحي
يفرق دائما بين نقاوة القلب وبين نضوج وكمال الفضائل المسيحية. فالأول هو عمل
الروح القدس. والثاني عملية طبيعية تحتاج إلى التمرين والتدريب. لأن النقاوة تخص
النوع. والكمال يخص المقدار أو الكمية.}

(القداسة
في العهد الجديد ص 39 “نشر مكتبة النيل المسيحية”).

 

*
متى هنرى:

 

 قال: {كما أن للإنسان
حواس طبيعية هكذا توجد أيضا حواس روحية، فهناك حاسة بصر روحية وحاسة تذوق روحية،
فللروح حواس كما للجسد. لكنها تفسد وتفقد بالخطية وتعاد لها حساسيتها بالنعمة. هذه
الحواس تنمى بالممارسة والتدريب.}

Mathew Henry
Commentary
Vol. 6 P. 911

 

*
القس غبريال رزق الله الإنجيلي:

 قال
في صدر تفسيره (عب14: 5) “الذين بسبب التمرد قد صارت لهم الحواس مدربة..”
قال ما يلي: {التمرن: الكلمة الأصلية تدل على حالة جسدية أو عقلية ناشئة عن
الممارسة والتعود. فهي عادة.. تعطى في العمل سهولة.. وهى مواظبة على
الكلمة والصلاة والطاعة وممارسة لكل وسائط النعمة بكل أمانة واجتهاد..
وكلمة مدربة” في الأصل “جيمنازو” من التمرين الجمنازى وهو
الرياضة البدنية. وهكذا قالت (الترجمة) اليسوعية “الذين حواسهم قد تروضت.
وهذه هي نصيحة بولس لابنه تيموثاوس” روض نفسك للتقوى لأن الرياضة الجسدية
نافعة لقليل ولكن التقوى نافعة لكل شئ.} (تفسير الرسالة إلى العبرانيين.الجزء
الثاني ص23،24).

 

 فمن هذه الشهادات مجتمعة
قد اتضح لك يا أخي أهمية التداريب الروحية في حياة المؤمن. ولهذا يعوزنا أن نتفهم
معنى التدريبات حتى لا تمارس بطريقة خاطئة فتصبح بلا فائدة.

 

ثانياً: مفهوم التدريبات

 

 لكي
نفهم المقصود من التدريبات سنعرض أولا للمفاهيم الخاطئة ثم نتكلم عن المفاهيم السليمة
حتى يتضح لك القصد الإلهي منها:

 

(1)
المفاهيم الخاطئة:

+
ليست التدريبات محاولات بشرية لنزع الرذائل:

 فهيهات
هيهات للإنسان أن ينتزع من نفسه رذيلة واحدة! فلو كان من الممكن للإنسان أن يخلص
نفسه من رذائل بهذه الطريقة ما كان هناك حاجة لتجسد ابن الله الذي دعي
“يسوع” ومعناه “مخلص” لأنه يخلص شعبه من خطاياهم”(مت21: 1).

 

 ألم يقل هو نفسه
“بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا.”(يو15: 5). فكيف تتوهم يا أخي أن
التدريبات في حد ذاتها تستطيع أن تخلصك بدون قوة يسوع؟!

+
وليست هي محاولات بشرية لغرس الفضائل:

 

 فمهما حاول الإنسان أن
يكتسب فضيلة واحدة بمجهوده الشخصي دون الاعتماد على شخص الرب يسوع باءت كل
محاولاته بالفشل.

 

 فما الفضائل
التي يتحلى بها المؤمن سوى أنها ثمر الروح فالمحبة وطول الأناة والوداعة والتعفف..
الخ. ما هذه كلها إلا ثمار الروح كما وضح بولس الرسول: ” أما ثمر الروح محبة
فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف”(غل22: 5).

 

 فكيف يتطرق إلى ذهنك يا
أخي أنك تستطيع أن تتحلى بالفضائل عن غير طريق الروح القدس؟!

 

 من هذا يا أخي يتضح لك
خطأ هذه المفاهيم الناقصة. ثم نوضح لك بإرشاد الروح:

 

(2)
المفاهيم السليمة للتدريبات هي:

+
السلوك العملي للحياة بالروح:

 فالتدريب
هو عملية ترجمة تعاليم المسيح إلى حياة تظهر في سلوكنا، فإذ قد سلم المؤمن قلبه
للمسيح يلزمه شئ آخر وهو اقتفاء خطواته.

لهذا
يقول الرب “يا ابني اعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي” (أم26: 23).

فتسليم
القلب للمسيح هو عملية إيمانية لابد لها من سلوك عملي هو تثبيت النظر في شخص
المسيح حتى كما سلك ذاك نسلك نحن أيضا في جدة الحياة. (رو6: 4)

وإذ
تثبت الأنظار في شخص المسيح تسير الأقدام في نفس الدرب الذي عبره، وتقتفي آثاره.
لهذا قال بطرس الرسول “تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته” (1بط1: 21)
ويقول داود النبي “تمسكت خطواتي بآثارك فما زلت قدماي”

(مز17: 5) وأيوب المجرب
يقول “بخطواته استمسكت رجلي حفظت طريقه ولم أحد” (أي23: 11).

 

 فإن خرج التدريب عن كونه
اقتفاء آثار المسيح والاستمساك بخطواته صار عبئا وثقلاً على كاهل المؤمن وأصبح بلا
قيمة أو ثمر. والتدريبات الروحية هي أيضا:

+
إخضاع مشيئة الجسد لقيادة الروح:

 

 فالتدريبات تشبه اللجم
التي توضع في أفواه الخيل كما قال يعقوب الرسول “هوذا الخيل نضع اللجم في
أفواهها لكي تطاوعنا فندير جسمها كله” (يع3: 3) فجسد الخطية الساكن فينا
كالفرس الجامح الذي إن لم توضع اللجم في فمه ما استطعنا أن نتحكم فيه. وإذ يوضع
اللجام في فمه يسلم طرف اللجام ليد الروح القدس حتى يقودنا في موكب النصرة (2كو2: 14)
وبهذا نستطيع أن نستأثر كل فكر لطاعة المسيح (2كو5: 10)

والتدريبات
الروحية هي كذلك:

 

+
تنمية ثمار الروح:

 فإذ
يحل الروح القدس في المؤمن يغرس فيه بذار الفضائل المعبر عنها بثمار الروح والتي
قال عنها معلمنا بولس الرسول “أما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف
صلاح إيمان وداعة تعفف” (غل5: 22)

فبذار
هذه الفضائل قابلة للنمو فهي توجد في المؤمن بقدر معين، ثم تنمو فيه بالتمرين
وممارسة التدريبات إلى قياس قامة ملء المسيح (أف4: 13)

 

 فليست التدريبات هي لغرس
هذه الفضائل وإنما هي مجرد تنمية لها بإضرام الروح القدس الساكن فينا، فقد أوصى
بولس الرسول تلميذه تيموثاوس قائلا “لهذا السبب أذكرك أن تضرم أيضا موهبة
الله التي فيك..” (2تي1: 6).

والآن
إلى شرح كيفية ممارسة التدريبات.

 

ثالثاً: ممارسة التدريبات

بعد
أن عرفت يا أخي مفهوم التدريبات، بقي أن تعرف كيفية ممارستها حتى تكون لها ثمار
مباركة:

 

(1)
التغصب:

 فأنت
تعلم يا أخي أن الجسد يشتهى ضد الروح.(غل17: 5) ولهذا يجب أن نغصب الجسد ليخضع
لرغبة الروح. فمثلا قد تقف للصلاة فيجذبك الجسد إلى حب الراحة، فلا تستسلم لرغباته
بل أغصبه على المثول أمام الرب حتى تنتعش الروح.. وثق أن هذه المحاولات
التي تقوم بها لغصب الجسد إنما هي حرب مقدسة يذكرها لك الرب ويكافئك عنها، ففي هذا
قال القديس مقاريوس الكبير:

 {حينما
يرى الرب نية الإنسان واجتهاده، وكيف يغصب ذاته لذكره وعبادته، وكيف يرغم قلبه
سواء رضى أو لم يرض.. وكيف هو يبذل كل ما في وسعه، يتحنن الرب عليه ويظهر له رحمته
ويخلصه من أعدائه ومن سلطان الخطية ويملأه من الروح القدس.}

 وإن
كانت الحياة الروحية تحتاج في بدايتها إلى شئ من التغصب فإن الرب يتحنن على المؤمن
ويعطيه الحياة الروحانية التي بلا تغصب، هذا هو ما وضحه أيضا القديس مقاريوس
الكبير
بقوله:

 {كل
ما يغصب (المؤمن) نفسه لأجله ويعمل وهو متألم بقلب نافر غير راض، سوف يأتي عليه
يوم يعمله برضى وقبول.}

 

وقال
أيضا:

 “يجب
على الإنسان أن يغصب ذاته إلى كل ما هو صالح، ولو كان رغما عن ميول قلبه. مترقبا
الرحمة من الله بإيمان غير مرتاب.. فعندما يرى الله جهاده وتغصبه، يعطيه
الصلاة الروحانية الحقيقية التي بلا تغصب”.

 

 وقد كتب القديس يوحنا
(من كرونستادت) في هذا الصدد قائلا: “تعلم كيف تصلى واغصب ذاتك على الصلاة،
في البداءة سيكون الأمر شاقاً. في بدايته يحتاج إلى أن يغصب الإنسان نفسه
عليه”.

 

 وفي الواقع يا أخي إن
الحياة مع الله تحتاج إلى تمرن وممارسة عادات الإنسان الجديد الذي لبسه
“ولبستم الإنسان الجديد” (كو3: 10). حتى تصبح هذه العادات الجديدة طبيعة
فيك تؤدى تلقائيا بلا تغصب. فلا تيأس يا أخي ولا تفشل إن كنت مبتدئا في الطريق بل
كن راسخا في الإيمان مطالبا الرب بحياة العمق الانسيابية.

وفي
ممارسة التدريبات ينبغي أن تكون لنا أيضاً:

 

(2)
المثابرة:

 أي
الاحتمال والاستمرار. فإن كنت لم تشعر بعد بحلاوة الطريق، فلا ترتد سريعا، بل تقدم
إلى الأمام في مثابرة وصبر باحثا عمن تحبه نفسك، فلا بد أن تجده وتتمتع به.

 وتأمل
العروس في نشيد الإنشاد كيف صبرت واحتملت حتى وجدت عريسها من أحبته، فأصغ إلى
اختباراتها في هذا الطريق كما تسجله بلسانها: ” في الليل على فراشي طلبت من
تحبه نفسي. طلبته فما وجدته.”(نش1: 3). فهل هذا أسقطها في اليأس؟! اسمعها
تقول:

 “أقوم
وأطوف في المدينة في الأسواق وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي طلبته فما وجدته.”(نش2:
3).

 لقد
بحثت عنه في المدينة فلم تجده فهل أرجعها ذلك إلى حيث كانت تجر أذيال الخيبة
والفشل؟! يحسن أن نسمعها تجيب على ذلك وهى مستطردة في الحديث فتقول:

 “وجدني
الحرس الطائف في المدينة. فقلت أرأيتم من تحبه نفسي؟”(نش3: 3). فهذا تصرف
حكيم منها أن تسال الحرس الذي يقوم بحراسة المدينة فهم أدرى الناس بأولئك الذين
يسيرون في الطرقات. ولكنها لم تجد جوأبا لسؤالها! بل واعجب من هذا فإنها في جولة
مماثلة للبحث عن حبيبها تمر بهم وبحرس الأسوار، “حفظة الأسوار” واسمع ما
تقوله العروس عما فعلوا بها: “وجدني الحرس الطائف في المدينة، ضربوني وجرحوني.
حفظة الأسوار رفعوا إزاري عنى (أي جردوها من الثياب).”(نش7: 5).

 عجباً!
لقد كان من المفروض أن يقوم الحرس بحمايتها ولكنهم أهانوها واستهزءوا بها!! العل
هذا كان كافيا لرجوعها بعين ذليلة ونفس كسيرة؟ كلا فهي لم تبالي بكل هذا وإنما
تسير في إصرار وتتقدم في صبر جادة في البحث عمن سلب القلب بحبه.

 وإذ
يرى الرب مثابرتها وجهودها يظهر لها. واسمعها تحكى لنا هذا اللقاء بعد ما فعله
معها حرس المدينة وحفظة الأسوار قائلة: ” فما جاوزتهم إلا قليلا حتى وجدت من
تحبه نفسي. فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي.”(نش4: 3).

 

 فهل لك يا مبارك مثل
هذه الروح المثابرة الصابرة على مشقات الطريق؟ فلماذا يخامرك الوهن سريعا؟ ولماذا
تتضارب في رأسك الشكوك؟ ولماذا تخور قواك هكذا سريعا؟ ولماذا تستسلم لظنون الخيبة
والفشل؟

 دع
عنك يا أخي كل هذه المعطلات وتقدم في ثقة وفي مثابرة فالرب قريب..

 

وفي
ممارسة التدريب يجب أن نراعى أيضاً:

 

(3)
التدقيق:

 فبولس
الرسول يوصى أهل أفسس قائلا “انظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء.”(أف
15: 5).

 

 وبطرس الرسول يوصي النساء
قائلا “ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف.”(1بط2: 3).

ولهذا
نرى بولس الرسول يؤكد على تلميذه تيموثاوس قائلا “لاحظ نفسك”(1تى16: 4).

 

 فممارسة التدريبات تحتاج
إلى التدقيق في سلوكنا وسيرتنا. ويحتاج الأمر إلى فرض رقابة شديدة على تصرفات
النفس طول اليوم، وما أحوجنا أن نحرس مداخل ومخارج مدينتنا حتى لا يتسرب إليها
العدو فيهلكنا.

لهذا
فيجب أن نحاسب أنفسنا على كل تصرف. هل هذا يليق بأولاد الله؟ وبالدعوة التي إليها
دعينا؟

 كما يجب
مراعاة عنصر الالتصاق بالرب لممارسة التدريب:

 

(4)
الالتصاق بالرب:

 لا
يمكن أن ننجح في تدريب أنفسنا على ممارسة هذه الفضائل إن لم نداوم علي الالتصاق
بالرب الذي يميت في داخلنا حركات جسد الخطية.. لهذا نقول في صلوات الأجبية
(كتاب صلوات المزامير):

 “أمت
حواسنا الجسمانية أيها المسيح إلهنا وخلصنا”

 وإذ
نداوم على الالتصاق بالرب نشبع به، وإذ نشبع بالرب تدوس نفوسنا الخطية مهما كانت
لذيذة، فسليمان الحكيم يقول: النفس الشبعانة تدوس العسل.”(أم27: 7).

 كما
وأنه طالما نحن ملتصقين بالرب تفيض في دواخلنا ينابيع ماء حي تروى بذار الروح
فتثمر لحساب مجد المسيح.

 هذا
فضلا عن أنه إذ نكون في اتصال بالرب نتحد بروح القوة الذي كتب عنه بولس الرسول
قائلا: “كذلك الروح أيضا يعين ضعفاتنا.”(رو26: 8).

 

رابعاً: مجال التدريبات

قد
يرتبك الأخ المبتدئ من جهة الإلمام بالتدريبات التي ينبغي أن يمارسها، وكأنه يسبح
في محيط لا يعرف قراره أو مداه. هذا الارتباك عينه يدعوه إلى الملل والسأم ويقوده
إلى الضجر واليأس.

 ولكن
كما سبق ووضحنا أن التدريبات هي عملية ممارسة وإنماء لثمار الروح، لذلك يمكن أن
نحصر مجال التدريبات في هذه الدائرة أي في ثمار الروح التسع التي ذكرها بولس
الرسول في رسالته إلى أهل غلاطيه: أما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف
صلاح إيمان وداعة تعفف.”(غل22: 523). فتكون هذه الثمرات هي “الفضائل
الأمهات” أو “الفضائل الجامعة” أو الأصول التي تتفرع منها
التدريبات الفرعية.

 وفيما
يلي إيضاح أدق لهذه الفكرة:

 

(1)
المحبة:

 فهي
أولى ثمار الروح قد اكتسبناها بسكيب النعمة كما وضح بولس الرسول قائلا “إن محبة
الله قد انسكبت
في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا.”(رو5: 5). ويمكن
تنميتها وإضرامها عن طريق الممارسة العملية، فالرسول نفسه يوضح إمكانية ازدياد
المحبة بالتدريب على ذلك بقوله “ومحبة كل واحد منكم جميعا بعضكم لبعض تزداد“(2تس3:
1).

 

ومن
أمثلة تدريبات المحبة:

 

 * تدريب الصلاة الدائمة: فالصلاة
تلهب روح المحبة إذ هي وسيلة الاتصال بحبيب الروح. والمؤمن يلهب روح المحبة لله
بدوام الانشغال به في الطريق والعمل والسفر وهذه الصلاة قد لا تكون كلاما بل ربما
كانت اتجاها من القلب في حركة خفية لتعبر عن حب مكنون وتكشف عن أشواق قلب ملتهب.

*
تدريب خدمة الناس: فإذ يمتلئ قلب المؤمن بمحبة الله يتثقل بأمر اخوته (اخبر باسمك
أخوتي) ويندفع بعوامل الحب ليجتذبهم إلى الحبيب ليتشاركوا معه في المجد. وهذا الحب
ينموا ويزداد بدوام الخدمة وربح النفوس.

*
تدريب عدم الإدانة، عدم الانتقاد، عدم تحليل الشخصيات، عدم مسك السيرة، عدم
الاشمئزاز من الغير، عدم احتقار الغير.. الخ.

 كل
هذه تدريبات من شأنها تنمية وإشعال روح المحبة المنسكب في القلب.

 

(2)
الفرح:

 الفرح
هو ثمر من ثمار الروح (غل22: 5) تزرع بذرتها بالنعمة في قلب المؤمن وبالممارسة
والتدريب تزداد وتنمو فالرسول يوضح أن الفرح عمل بشرى أيضا فيضعه في صيغة الأمر قائلا:
“افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضا افرحوا (أي انموا فيه).”(فى4: 4).

 

ومن
أمثلة تدريبات الفرح:

 

 * تدريب الاتكال على
المسيح في كل شئ وعدم الاهتمام بشيء مما يدعو إلى القلق وفقدان روح الفرح “لا
تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر.(في4: 6).

 

 * تدريب عدم التفكير في
المستقبل ومشاكله ” لا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفى اليوم شره.”(مت
34: 6).

 

 * تدريب عدم الاهتمام
بالمأكل والمشرب والملبس “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وما تشربون ولا
لأجسادكم بما تلبسون.”(مت25: 6).

 

 * تدريب التأمل في عظم
صنيع الرب لك “رنموا (والترنيم علامة الفرح) للرب لأنه قد صنع مفتخرا.”(أش
5: 12).

 

 “والمرنم يقول باركي
يا نفس الرب ولا تنسى كل حسناته. الذي يغفر جميع ذنوبك الذي يشفى كل أمراضك. الذي
يفدى من الحفرة حياتك. الذي يكللك بالرحمة والرأفة. الذي يشبع بالخير عمرك فيتجدد
مثل النسر شبابك.”(مز1: 1035).

 

 * تدريب
التطلع إلى شخص يسوع الموجود في وسط حياتك “اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله
معنا.”(مت23: 1). ”

اهتفي
يا ساكنة صهيون لأن قدوس إسرائيل عظيم في وسطك.”(أش6: 12).

 

 * جذب النفوس للمسيح
لتتوب وتقبل إلى الحياة. هذا العمل نفسه يفرح السماء “يكون فرح في السماء
بخاطئ واحد يتوب.”(لو7: 15).

ويفرح
أيضا ملائكة الله “يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب”(لو10: 1).

 

 وهذا العمل أيضا يفرح
جماعة المؤمنين فنقرأ في سفر أعمال الرسل أن بولس وبرنابا وآخرين “اجتازوا في
فينيقية والسامرة يخبرونهم برجوع الأمم وكانوا يسببون سروراً عظيما لجميع الاخوة.”(أع3:
15).

 فإذ
تجذب النفوس للتوبة تجد الفرح يغمر قلبك.

 

(3) السلام:

 تزرع
بذاره أيضا بعمل الروح القدس، وينمو ويزداد في المؤمن بالممارسة في الحياة العملية.

ومن
أمثلة تدريبات السلام:

 

 * تداريب للتمتع بالسلام
مع الله: تنفيذ إرادة الله وعمل مشيئته. فالعداوة بين الإنسان والله ناشئة عن فعل
الإنسان للخطية ومخالفتة لمشيئته. وهذا التدريب يحتاج إلى مداومة وإخضاع النفس
لمشيئة الله في كل شئ وتحطيم إرادة الذات.

 *
تداريب للتمتع بالسلام مع الناس: تجنب المجادلات والمباحثات الغبية “لأنها
تولد خصومات
وليس
سلاما”(2تى23: 2).

حتمية
تصفية الأمور مع من تغتاظ منهم “لا تغرب الشمس على غيظكم.”

(أف4:
26).

 *
تداريب للتمتع بالسلام مع النفس: التلذذ بكلمة الرب “سلامة جزيلة (أي سلام
عظيم) لمحبي شريعتك.”(مز165: 119).

 *
عدم الاهتمام برغبات الجسد وتنفيذ رغبات الروح “اهتمام الجسد هو موت ولكن
اهتمام الروح هو حياة وسلام.”(رو6: 8).

 

(4)
طول الأناة:

 وهو
وإن كان من فعل الروح القدس فينا إلا إنه يظهر أمام الناس خلال تصرفاتنا التي يجب
أن نراعيها في معاملتنا للغير، فبولس الرسول يقول: “تأنوا على
الجميع”(1تس14: 5).

ومن
تداريب طول الأناة:

*
عدم الغضب بسرعة. “لا تسرع بروحك إلى الغضب” (جا9: 7). “مبطئا في
الغضب” (يع19: 1).

*
عدم التسرع في التكلم “مبطئا في التكلم” (يع19: 1).

الإصغاء
إلى المتحدث وعدم مقاطعته “ليكن كل إنسان مسرعا في الاستماع”.(يع19: 1).

وهناك
أيضاً تدريبات أخرى مثل:

*
عدم التذمر وحدة الطبع – احتمال أخطاء الآخرين – الصبر على احتمال المشقات.

 

(5) اللطف:

هو
الترفق والإشفاق وهو ككل ثمار الروح يظهر ويزداد بالممارسة.

ومن
أمثلة تدريب اللطف:

 *الترفق
بالخطاة ومعاملتهم بلطف لتربحهم فإن كان الله بلطفه “ينعم على غير الشاكرين
والأشرار”(لو35: 6). وأيضا “يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على
الأبرار والظالمين”(مت45: 5). وذلك لكي يقتادهم للتوبة فبولس الرسول يقول: هل
تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتاد إلى
التوبة؟”(رو4: 2). ويقول أيضا “حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه..
خلصنا”(تى4: 3). فحري بالخادم أن يترفق بنفوس المخدومين ليربحهم للمسيح.

 

 *الترفق بالمبتدئين في
الحياة مع الله: فلا نحملهم أثقالا منذ أول الطريق ولا نفترض فيهم الكمال الروحي
ونعاملهم بالشدة على ما يبدر منهم من أخطاء. وما أجمل يوحنا الحبيب كمثل للطف في
معاملته للمؤمنين الأحداث “يا أولادي اكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وإن أخطأ
أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار.. “(1يو1: 2).

 

 *الترفق في معاملة أهل
منزلك: يعيب الكثيرين أنهم يهتمون بمظهرهم أمام الناس خارج المنزل أما في بيوتهم
فيستبيحون لأنفسهم كسر الوصايا. فلا يعاملون ذويهم باللطف ولا يسلكون بالكمال ولكن
ما أروع قول داود النبي “أسلك في كمال قلبي في وسط بيتي”(مز2: 101).

 

 * الترفق بالناس عامة –
عدم التجريح – عدم الانتهار أو الشخط – عدم المقاومة
البشاشة – والطيبة.. الخ.

(6)
الصلاح:

 هو
الكرم والبذل فقد وضح ذلك بولس الرسول بقوله لتيموثاوس “اوصي الأغنياء..
أن يصنعوا صلاحا.. أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع” (1تى17: 618).

ومن
تداريب الصلاح:

*افتقاد
اليتامى والأرامل في ضيقاتهم. (يع27: 1).

*القيام
بخدمة المحتاجين مثل طابيثا التي قال عنها الكتاب “هذه كانت ممتلئة أعمالا
صالحة وإحسانات كانت تعملها.” (أع36: 9).

 

(7)
الإيمان:

 هذا
الإيمان هو من ثمار الروح نراه قابلا للنمو كما يذكر بولس الرسول “لان
إيمانكم ينمو كثيرا” (2تس3: 1).

 

 على أن بعض ترجمات الكتاب
المقدس أوضحت أن المقصود من الكلمة الأصلية المترجمة “إيمان” هو
“الأمانة”
Faithfulness وليس Faith.
فتكون الأمانة كثمرة من ثمار الروح فضيلة يتحلى بها المؤمن تظهر في حياته وتنمو
بالممارسة العملية لها.

 

ومن
أمثلة تدريب الأمانة:

*الأمانة
في المواعيد، والكلام، والعمل، والعشور.

*والخدمة
“مثل الوزنات: نعما أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينا في القليل فأقيمك
على الكثير ادخل إلى فرح سيدك.” (مت21: 25).

*والحياة
الروحية: الصلوات – قراءة الكتاب.

 

(8) الوداعة:

 وهي
في الأصل اليوناني “الحقارة” ويقصد بها هدوء النفس في معاملة الناس بناء
على كونه “حقير في عيني نفسه” وقد جمع السيد المسيح بين نقطتي
“التواضع” “والوداعة” بقوله “لأني وديع ومتواضع
القلب” (مت29: 11) فالتواضع هو شعور الإنسان بحقارته أمام الله والوداعة
شعوره بالحقارة أمام الناس. ويوضح بطرس الرسول ارتباط الوداعة بالهدوء في قوله: “الروح
الوديع الهادئ.” (1بط4: 3).

 على
كل حال فالوداعة كثمرة من ثمار الروح قابلة للنمو بالممارسة والتدريب.

 

ومن
أمثلة تدريب الوداعة:

*الهدوء
أثناء المناقشات “مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسألكم.. بوداعة”
(1بط15: 3). *الهدوء في معالجة الأمور “أصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح
الوداعة” (غل1: 6).

 

* عدم مقابلة الإساءة
بالإساءة “الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضا” (1بط23: 2).

*
“لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن حول له الآخر أيضا” (مت39: 5).

 

* عدم الإصرار على حقوقنا “من
أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا” (مت40: 5).

 

* عدم إغضاب أحد أو
مضايقته أو احتقاره.

 

* الصوت المنخفض الهادئ –
الطاعة والخضوع.. إلخ.

 

 (9) التعفف:

 ويقصد
به “ضبط النفس” وهى وإن كانت ثمرة من ثمار الروح فهي تظهر وتنمو في حياة
المؤمن بالممارسة أيضا فبولس الرسول يقول: أقمع جسدي واستعبده” (1كو27: 9).

 

ومن
أمثلة تدريب التعفف:

*
ضبط الحواس: فإذا ضبطت أبواب المدينة سلمت من الأعداء، فالمؤمن في مسيس الحاجة
لضبط حواسه.

 

*
النظر: “عهدا قطعت لعيني ألا أتطلع في عذراء.. ” (أى1: 31).

*
الأكل: ضبط شهوة الطعام. وهكذا مع بقية الحواس.

*
ضبط الفكر: فإذا ضبطت أبواب الفكر (أي الحواس) سهل ضبط الفكر نفسه وذلك بتدريب
تركيزه في المسيح وشغله بالترانيم والألحان والتأملات..

 

الخاتمة وموجز للكتاب

نستطيع
أن نلخص موضوع هذا الكتاب [إتمام الخلاص]

 

في
ثلاث آيات:

(1)
الارتداد الروحي:
“من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط”

(1كو10:
12).

(2)
حتمية الجهاد الروحي:
“جاهد جهاد الإيمان الحسن وامسك بالحياة
الأبدية”

(1تي6:
12).

(3)
التدريبات الروحية:
“روضْ نفسك للتقوى” (1تي4: 7).

والرب
الذي بدأ فينا عملاً صالحاً هو الذي يكمل آمين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى