علم

الصلاة الربانية



الصلاة الربانية

الصلاة
الربانية

كيرلس
الاسكندرى

من
تفسير انجيل لوقا

الصلاة
الربانية

(لو11:
1-4): ” وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ لَمَّا فَرَغَ قَالَ وَاحِدٌ
مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا رَبُّ عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا
أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ. فَقَالَ لَهُمْ: مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا
الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ لِتَكُنْ
مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا
أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ. واغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا
نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ
لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ”.

 

1
– أبانا الذي في السموات… للقديس كيرلس عمود الدين

أيها
الحارُّون والملتهبون بالروح، ها قد أتيتم الآن أيضًا، ونحن نرى ساحة الله المقدسة
وقد غصَّت بالمستمعين الشغوفين، وهدف اجتماعكم بلا شك هو هدف تَقَوي، فقد اجتمعتم
معًا لكي تتلقوا التعليم، وموزِّع العطايا الإلهية سيشبعكم هو أيضًا بالأمور التي
ترغبون أن تُحسبوا أهلاً لنوالها، وسيهيئ لكم مائدة روحية، ويصرخ قائلاً: ”
تعالوا كلوا خبزي واشربوا من الخمر التي مزجتها لكم” (أم9: 5) وكما يقول
المرنم: “خبز يُقوِّي قلب الإنسان، وخمر عقلي يفرحه” (مز104: 15). لذلك
فلنقترب الآن من المائدة المهيَّأة أمامنا، أي لنقترب من معنى دروس الإنجيل: ولنلاحظ
بانتباه شديد ما هي الفائدة التي تعطيها لنا، وما تُولِّده فينا من الصفات اللازمة
للكرامة اللائقة بالقديسين.

 

يقول
الكتاب، إن المسيح ” كان يصلى على انفراد” ومع ذلك فهو الله، وهو ابن
الله الذي هو فوق الكل، وهو الذي يُوزِّع على الخليقة كل الأشياء التي بها تزدهر
وتُحفظ في الوجود، وهو ليس في إحتياج على الإطلاق إلى أي شيء، لأنه هو ممتلئ كما
قال عن نفسه.

 

وقد
يتساءل أحدهم قائلاً: ” إذن فما الذي يحتاجه ذلك الذي له، بحق طبيعته، كل ما
للآب”؟ لأنه قال بوضوح: ” كل ما للآب فهو لي” (يو16: 15). ولكن
خاصية الآب هي أن يكون ممتلئًا من كل صلاح ومن تلك الامتيازات التي تليق بالألوهية،
وهذا أيضًا هو ما للابن. والقديسون إذ يعرفون هذا يقولون ” ومن ملئه نحن
جميعًا أخذنا” (يو1: 16). ولكن إن كان يُعطي من ملئه الإلهي الخاص، فلأي شيء
يمكن أن يحتاج؟ وما الذي يحتاج أن يأخذه من الآب، كما لو لم يكن له من قبل؟ وما
الذي يصلِّي لأجله إن كان هو ممتلئًا ولا يحتاج إلى شيء مما للآب!

 

نجيب
على هذا فنقول: إنه بحسب طريقة التدبير في الجسد، فهو يسمح لنفسه أن يمارس الأعمال
البشرية حينما يريد، وكما تستلزم المناسبة دون أن يُلام لأنه فعل هذا. فإن كان قد
أكل وشرب ونام، فلماذا يكون من غير المعقول – وهو قد وضع نفسه إلى مستوانا، وأكمل
البِرَّ البشري – أن يُقدِّم الصلاة أيضًا؟

 

ومع
ذلك فهو بالتأكيد غير محتاج إلى شيء، لأنه ” ممتلئ” كما سبق أن قلنا.
فلأي سبب إذن، ولأي واجب ضروري ونافع، قد صلَّى هو؟ لقد فعل هذا لكي يُعلِّمنا
ألاَّ نتراخى في هذا الأمر بل بالحري أن نكون مداومين على الصلاة وبإلحاح شديد،
ولا نقف في وسط الشوارع. فهذا ما اعتاد أن يعمله بعض اليهود، أي الكتبة والفريسيون.
ولا نجعل هذا فرصة للتباهي، بل بالحري نُصلِّى على انفراد وبهدوء، أي نتحدَّث
بيننا وبين الله وحده، بذهن نقي غير مشتَّت.

 

وهذا
قد علَّمنا إيَّاه بوضوح في مكان آخر عندما تكلَّم عن الذين يتظاهرون بصلواتهم،
قائلاً: ” إنهم يحبُّون أن يُصلُّوا قائمين في زوايا الشوارع، وفى المجامع…
أمَّا أنت فمتى صَلَّيتَ فادخل مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء,
وأبوك الذي يرى في الخفاء سوف يجازيك” (مت6: 5-6). لأنه يوجد قوم يربحون
لأنفسهم شهرة التقوى، وهم يلتفتون باهتمام إلى المظاهر الخارجية، وهم من الداخل
ممتلئون من محبة المجد الباطل. هؤلاء عند دخولهم الكنيسة, قبل كل شيء يجولون
بأنظارهم في كل اتجاه لينظروا عدد الواقفين هناك وليروا إن كان هناك نُظَّارة
كثيرون، وبمجرَّد أن يُسرُّوا بعدد الحاضرين، يرفعون يدهم إلى جبهتهم، ليس مرة فقط
بل مرات عديدة يصنعون علامة الصليب الثمين، وهكذا إذ ينسجون صلاة طويلة حسب خيالهم
الخاص، فإنهم يثرثرون بصوت عال كما لو كانوا يُصلُّون للناس وليس لله. لمثل هؤلاء
نقول كلمات المخلِّص ” قد استوفيتم أجركم” (مت6: 5).

 

لأنكم
تُصلُّون لتتصيَّدوا مديح الناس، وليس لتطلبوا أي شيء من الله. لقد تحقَّقَت
رغبتكم، فقد مُدحتم كأنكم أتقياء، ونلتم المجد الباطل، إلاَّ أنكم اشتغلتم في عمل
لا ثمر له، لقد زرعتم فراغًا وستحصدون عدمًا. هل تريدون أن تروا نهاية ما تصنعونه؟
اصغوا إلى قول المرنم داود: ” الله قد بدَّد عظام الذين يرضون الناس”
(انظر مز53: 5), والمقصود بالعظام طبعًا ليس عظام الجسم، لأنه لا يوجد أمثلة لأي
أناس حدث لهم هذا، ولكن المقصود هو مَلَكَات الفكر والقلب التي بها يصنع الإنسان
الصلاح. فقوَّات النفس إذن هي الغيرة التي تؤدِّي إلى المثابرة، والشجاعة الروحية،
والصبر والاحتمال، هذه الصفات يبددِّها الله من هؤلاء الذين يهتمون بإرضاء الناس.

 

لذلك،
فلكي نبتعد عن هذه الطرق الخاطئة، ونهرب من الفخاخ التي يتعرَّض لها الذين يسعون
إلى إرضاء الناس، ولأجل أن نُقدِّم لله صلاة مقدسة، بلا لوم، وغير مدنَّسة، فقد
قَدَّم المسيح لنا نفسه مثالاً، إذ اعتزل عن أولئك الذين كانوا معه، وصلَّى
منفردًا.

 

لأنه
من الصواب أن يكون رأسنا ومعلِّمنا في كل عمل صالح ونافع، ليس آخر سوى المسيح الذي
هو بكر بين الجميع، وهو الذي يَقبَل صلوات الجميع، والذي يمنح، مع الله الآب،
أولئك الذين يسألونه، كل ما يحتاجون إليه، لذلك فإن رأيته يُصلِّى كإنسان، فذلك
إنما لكي تتعلَّم أنت كيف تصلِّي، وإياك أن تبتعد عن الإيمان والاعتقاد أنه إذ هو
بالطبيعة الله الذي يملأ الكل، فإنه صار مثلنا ومعنا على الأرض كإنسان، وتمَّم كل
الواجبات البشرية حسبما اقتضى التدبير، ولكنه مع ذلك فهو الجالس في السماء مع الآب،
يُوزِّع من ملئه الخاص، كل الأشياء للجميع, ويقبل الصلوات من سكان الأرض، ومن
الأرواح التي فوق، والجميع يكلِّلونه بالتسابيح، فهو بصيرورته مثلنا لم يتوقف عن
أن يكون إلهًا، ولكنه استمر رغم ذلك، كما كان قبلاً, لأنه يليق أن يكون دائمًا هو
هو كما كان قبلاً، وكما تشهد الكتب المقدسة، ليس معرَّضًا حتى إلى ” ظل
دوران” (يع1: 17).

 

ولكن
لأنَّ ما تبقَّى يحتاج إلى حديث طويل، لذلك نتوقف الآن عن الحديث، حتى لا يصير
كلامنا مملاًّ للسامعين، ثم نعود فنشرحه لكم بمعونة الله عندما يجمعنا المسيح
مخلِّصنا جميعنا هنا في المرَّة القادمة، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان
مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

 

أبانا
الذي في السموات

كل
توَّاق للمعرفة يحتسبه ربنا يسوع المسيح جدير بكل ثناء، لذلك يقول: ” طوبى
للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يُشبعون” (مت5: 6).

 

لأنه
من اللائق أن نجوع ونعطش باستمرار لهذه الأمور، التي بها يصبح الإنسان محبًّا
للأمجاد المقدسة، وغيورًا في كل عمل صالح. لمثل هؤلاء، يكشف المسيح الطريق الذي
يمكنهم به أن يُحقِّقوا رغبتهم، ولكن معرفة كيف نُصلِّي هي نافعة للأتقياء أكثر من
كل شيء آخر للخلاص، حتى لا نُقدِّم طلبات غير مرضية لله القدير. كما كتب لنا
الحكيم بولس ” لأننا لسنا نعرف ما نصلِّي لأجله كما ينبغي” (رو8: 26).

 

دعنا
إذن نقترب من المسيح معطي الحكمة، ونقول ” علِّمنا أن نصلِّي” (لو11: 1)،
فلنكن مثل الرسل القديسين الذين فوق كل شيء سألوه هذا الدرس الهام والخلاصي.

 

في
اجتماعنا السابق، سمعنا الإنجيل الذي قُرِئ يقول عن المسيح مخلِّصنا جميعًا إنه
” وإذ كان يصلِّي في موضع”.

 

وخاطبناكم
شارحين بحسب ما استطعنا، سر التدبير الذي بسببه صلَّى المسيح، وحينما وصلنا في
مناقشتنا إلى هذه النقطة، أرجأنا ما تبقَّى إلى فرصة أخرى مناسبة. وها قد حانت
الفرصة الآن، فدعونا نتقدم إلى ما يتبع، فالمخلِّص يقول: ” فمتى صلَّيتم
فقولوا أبانا”[1]، وأحد الإنجيليِّين القديسين الآخرين يضيف ” الذي في
السموات” (مت6: 1).

 

يا
للجود الفائق!… ويا للُّطف الذي لا يُبارَى، وهذا يليق بالله وحده! إنه يمنحنا
مجده الخاص، فهو يرفع العبيد إلى كرامة الحريَّة، فيكلِّل حالة الإنسان بمثل هذه
الكرامة التي تفوق قوة الطبيعة، ويُحقق ما سبق وأخبر به بواسطة صوت المرنم قديمًا:
” أنا قلتُ إنَّكم آلهة وبنو العليِّ كلكم” (مز81: 6 س). فهو هنا
يحرِّرنا من مستوى العبودية واهبًا لنا بنعمته ما لم نكن نملكه بالطبيعة، ويسمح
لنا أن ندعو الله أبًا لنا، بعد أن أدخلنا في مرتبة البنين، وهذا – مع كل
الامتيازات الأخرى – قد نلناه من الرب، حسبما يشهد بذلك الحكيم يوحنا الإنجيلي إذ
يكتب: ” إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا
أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه، الذين وُلِدوا ليس من دم ولا من مشيئة
جسد، ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يو1: 11-13) لأننا قد خُلِقنا في
البنوَّة، بواسطة تلك الولادة التي حدثت فينا روحيًّا ” لا من زرع يفنى بل
بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد” كما يقول الكتاب (1بط1: 23). وأيضًا هذا
ما يعلنه أحد الرسل القديسين قائلاً: ” شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون
باكورة من خلائقه” (يع1: 18).

 

والمسيح
نفسه يشرح بوضوح في موضع آخر طريقة هذا الميلاد قائلاً: ” الحق أقول لك، ما
لم يولد الإنسان من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5) إذ
بالحري – لأنه يحق أن نُكلِّمكم عن تلك الأمور التي هي سِريَّة – فالمسيح نفسه قد
صار في نفس الوقت كلا من الطريق والباب، وسببًا لنعمة وُهِبَت لنا، وهى نعمة مجيدة
هكذا وجديرة بأن نحصل عليها، وذلك باتخاذه صورتنا. فبالرغم من حقيقة كونه هو الله،
وهو حُر تمامًا إلاَّ أنه أخذ صورة عبد (فى2: 7)، ليهبنا ما له، ويُثرِى العبد
بامتيازاته الفائقة، فهو وحده بالطبيعة حُر تمامًا، لأنه هو وحده ابن الآب، أي مِن
ذاك الذي هو العالي وفوق الكل والذي يسود على الكل والذي بالطبيعة وبالحقيقة حُر
تمامًا. لأن كل الأشياء التي خُلِقَت تخضع بعنق العبودية لمن خلقها، وها مرنم
المزامير يُرتل له قائلاً: ” لأن كل الأشياء متعبِّدة لك” (مز118: 19 س).
ولكن كما أنه في التدبير نقل إلى نفسه ما هو لنا، هكذا فقد أعطانا أيضًا ما هو له.
ويشهد لنا بذلك بولس الحكيم جدًّا، خادم أسراره، عندما يكتب هكذا قائلاً: ”
فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم
بفقره ” (2كو8: 9). لأنَّ أخذه ما لنا – أي حالة الطبيعة البشرية – هو افتقار
بالنسبة لله الكلمة، أمَّا أخذنا ما له فهو غِنَى للطبيعة البشرية، وواحدة منها هي
كرامة الحُريَّة، وهي هبة تليق خاصة بمن قد دُعوا إلى البنوة، وهذه أيضًا هي هبة
منه كما ذكرتُ لأنه قال لنا ” لا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد
الذي في السموات. وأنتم جميعًا إخوة” وهو أيضًا نفسه كذلك، من أجل محبته
اللانهائية للبشر، لا يستنكف أن يدعونا إخوة قائلاً هكذا ” أخبر باسمك
إخوتي” (مز22: 22). فلأنه صار شبيهًا بنا لهذا بعينه قد ربحنا الأُخوَّة معه.

 

لذا
فهو يوصينا أن تكون لنا دالة ونصلِّي قائلين: “أبانا” نحن أبناء الأرض
والعبيد والخاضعون له بحسب ناموس الطبيعة، هو الذي خلقنا ندعوه هو الذي في السماء
“أبا”. إنه لمن المناسب جدًّا أن يجعل الذين يُصلُّون يفهمون هذا أيضًا،
أنه إذا كنا ندعو الله “أبا” وقد حُسبنا أهلاً لهذه الكرامة السامية
جدًّا، ألا ينبغي علينا أن نسلك في سيرة مقدَّسة وبلا لوم تمامًا، وأن نحيا هكذا
كما يرضي أبانا, وألاَّ نفتكر في شيء أو أن نقول شيئًا لا يليق أو لا يتناسب مع
هذه الحرية التي مُنحت لنا.

 

وهكذا
يقول أحد الرسل القديسين: ” وإن كنتم تَدعُون أبًا الذي يَحكُم بغير محاباة
حسب عمل كل واحد, فسيروا زمان غربتكم بخوف” (1بط1: 17). إنَّه لأمر خطير
للغاية أن نُحزِن ونُغضِب أبًا لنا بالإنحراف وراء الأمور غير المستقيمة، فكيف
يتصرَّف الآباء الأرضيون أو ما هو شعورهم نحو أبنائهم عندما يرونهم موافقين
لرغباتهم، سالكين ذلك الطريق الذي يرضيهم؟ إنهم يحبونهم ويكرمونهم، ويفتحون لهم
بيوتهم، ويغدقون عليهم هدايا كثيرة من كل ما يرغبون, ويعترفون بهم كورثة لهم.

 

أمَّا
إذا كانوا متمرِّدين غير طائعين، لا يحترمون نواميس الطبيعة غير مبالين حتى ولا
بالحب الفِطري المغروس فينا، فإنهم يطردونهم من بيوتهم ويعتبرونهم غير جديرين
بأيَّة كرامة أو تسامح أو محبة، بل إنهم يأبون أن يعترفوا بهم كأبناء، ولا
يُقرُّون بأي ميراث لهم.

 

والآن
أدعوكم لنرتفع بتفكيرنا من هذه الأمور الحاصلة معنا إلى تلك السمائية التي تفوقها.
فأنت تدعو الله أبًا، فأكرمه بطاعة متأهِّبة، وقدِّم له الخضوع الذي يحق له، وعش
الحياة التي ترضيه، ولا تسمح لنفسك أن تكون عنيفًا أو متكبرًا، بل على النقيض
مذعنًا خاضعًا، مستعدًّا بلا أيِّ إبطاء أن تتبع أوامره حتى يكرمك هو بدوره ويجعلك
شريكًا في الميراث مع من هو ابنه بالطبيعة, لأنه إذا كان قد ” بذله لأجلنا،
كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء” (رو8: 32) حسب تعبير المبارَك بولس. ولكن إن
كنتَ لا تُراعي نفسك, ولا تُبالي بسخاء النِّعمة التي أُعطِيت, فقد برهنتَ على أنك
بلا حياء – وإن جاز القول – بلا ملح – محبًّا للذة أكثر من حبك للآب السماوي، فخف
إذن لئلا يقول عنك الله أيضًا ما قيل عن الإسرائيليين بفم إشعياء ” اسمعي
أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم، ربَّيتُ بنين ونشَّأتهم, أمَّا
هم فعصوا عليَّ” (إش1: 2).

 

فظيع
– من كل ناحية – يا أحبائي هو جُرم الذين يتمرَّدون، وإثم عظيم للغاية هو رفض
الإنسان (لله). فإذن، لَحِكمة بالغة – كما قلت – يمنحنا مخلِّص الكل أن ندعو الله
” أبًا “, حتى إذ نعرف جيدًا أننا أبناء الله, نسلك بطريقة تليق بمن
أكرمنا هكذا، فإنه هكذا سيقبل ابتهالاتنا التي نُقدِّمها في المسيح، الذي به ومعه
لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

——————

[1]يلاحظ
القديس كيرلس أنَّ عبارة ” الذي في السموات” لم تكن موجودة في الإنجيل
بحسب لوقا، فإضافتها هنا ترجع إلى أنَّ الصيغة الكاملة الموجودة في الإنجيل حسب
متى هى المعروفة أكثر، كما وُجدت في ليتورجيات الكنيسة.

 

2
– ليتقدّس اسمك (لو11: 2):

لكل
الذين يشتهون كلمات الله المقدسة، ها هو صوت إشعياء النبي ينادي: ” أيها
العطاش جميعًا هلموا إلى المياه” (إش55: 1)، لأن كل من يريد، يمكنه أن يستقى
من الينبوع المعطي الحياة. ومن هو يا تُرى هذا الينبوع؟ واضح أنه المسيح وتعاليمه,
فهو نفسه قال في موضع ما: ” إن عطش أحد فليُقبل إليَّ ويشرب” (يو7: 37).
فلنأتِ نحن مرَّة أخرى كما إلى ينبوع، هلم لنملأ أنفسنا ونشبع ذواتنا من روضة
النعمة، فداود المبارك يتحدث عنه في المزامير مخاطبًا الله الآب: ” يروون من
دسم بيتك، ومن نهر نعمك تسقيهم، لأن عندك ينبوع الحياة” (مز36: 8). لأن نهر
النِعم يتدفَّق بوفرة لأجلنا، وكذلك ينبوع الحياة، أي تلك الحياة التي في المسيح،
الذي تكلم عنه واحد من أنبيائه بخصوصنا هكذا ” هاأنذا أنحني إليهم كنهر سلام
وأفيض عليهم كسيل جارف بمجد الأمم ” (إش66: 12 س).

 

انظروا
كيف يروينا المسيح بينابيع غنية من البركات الروحية، فماذا يريد أن يلقِّنَنَا من
تعاليم بعد ذلك؟ إنه يقول لنا: ” متى صلَّيتم فقولوا: أبانا، ليتقدس
اسمك”، لنتبيَّن بأية طريقة ينبغي أن نفهم هذه أيضًا.

 

هل
نحن إذن نصلى حتى أن مزيدًا من القداسة يمكن أن يضاف لله كُلِّي القداسة؟ وكيف لا
يكون هذا أمرًا سخيفًا وغير معقول على الإطلاق؟ لأنه لو أن الله الذي هو فوق الكل
كان ينقصه أي شيء، لكان محتاجًا لمزيد من القداسة، لكي يصير كاملاً وغير محتاج إلى
أي شيء. ولكن إن كان ممتلئًا، كما يقول هو، وهو كامل من كل جهة في ذاته وبذاته،
وهو مانح القداسة للخليقة من “ملئه” (إش1: 11 سبعينية)؛ فما هي الإضافة
التي يمكن أن ينالها؟ لأن كل الأشياء هي له، وهو بالغ أعلى الكمال في كل صلاح، لأن
هذه أيضًا إحدى خواصه بالطبيعة.

 

وبالإضافة
إلى ذلك، فمن الجهل والسخف بمكان أن يتصور الذين يُصلُّون أنهم يقدمون توسلاتهم لا
نيابة عن أنفسهم بل نيابة عن الله. فماذا يكون إذن معنى “ليتقدس اسمك”؟

 

نقول
إذن إن البشر لا يبتهلون من أجل مزيد من القداسة لله العلِيِّ على الكل، لأن من هو
أعظم منه حتى يستطيع أن يعطيه ازدياد؟ ” لأنه بدون أدنى شك الأصغر يُبارَك من
الأكبر” (عب7: 7).

 

وإنما
هم بالحري يطلبون أن تُمنح هذه القداسة لهم وللبشرية كلها، لأنه حينما يكون يقيننا
وإيماننا الراسخ أن الذي هو بالطبيعة الله العلي على الكل، هو قدس الأقداس؛ فإننا
نعترف بمجده، وجلاله الأعلى، وعندئذ نحصل على مخافة في قلبنا، ونحيا حياة مستقيمة
وبلا لوم، لكي عندما نصير نحن أنفسنا هكذا قديسين، نستطيع أن نكون بالقرب من الإله
القدوس – لأنه مكتوب: ” كونوا قديسين لأني أنا قدوس” (لا11: 44)، وقد
قال أيضًا مرَّة لموسى معلِّم الأقداس
Hierophant:
” سأتقدس في أولئك الذين يقتربون مني” (لا10: 3).

 

فالصلاة،
إذن، هي: ليت اسمك يُحفظ مقدَّسًا فينا، في أذهاننا وإرادتنا، فهذا هو معنى الكلمة
” ليتقدس”.

 

وكما
أن من يعاني من مرض في بصره الجسدي ولا يستطيع أن يرى إلاَّ قليلاً وبصعوبة، فمتى
صلَّى قائلاً، ” يا رب الكل، امنحني أن ينيرني نور شعاع الشمس أيضًا”،
فهو لا يُقدِّم ابتهالاته لأجل الشمس، بل بالعكس، من أجل نفسه، هكذا أيضًا إذا قال
إنسان: ” أبانا، ليتقدس اسمك”، فهو بهذا لا يطلب أن تحدث أية إضافة إلى
قداسة الله، لكنه بالحري يطلب أنه هو نفسه يقتني مثل ذلك الذهن والإيمان، لكي يشعر
أن اسم الله مُكرَّم وقدوس.

 

فهذا
الفعل (التقديس) هو مصدر الحياة وسبب كل بركة، فإذا كان الإنسان ينعطف هكذا نحو
الله، فكيف لا يكون هذا مدعاة لأسمى اعتبار، ونافع لخلاص النفس؟ ولكن لا تتخيَّل
أنه حينما يكون الذين يعتمدون على محبته، جادِّين في توسُّلاتهم إلى الله، أنهم
يطلبون منه مثل هذه الأمور لأجل أنفسهم فقط، بل اعلم أن غرضهم هو أن يشفعوا لأجل
كل السكان على الأرض، ولأجل كل الذين قد آمنوا مِن قَبْل، ومن أجل كل الذين لم
يقبلوا الإيمان بعد، ولا اعترفوا بالحق. لأنهم من جهة أولئك الذين آمنوا مِن قبل،
يطلبون لهم أن يكون إيمانهم راسخًا، وأن يستطيعوا ممارسة أمجاد الحياة الأفضل والممتازة
جدًّا.

 

بينما
من جهة الذين لم يصيروا مؤمنين بعد، فهم يطلبون لأجلهم أن ينالوا الدعوة وأن تنفتح
أعينهم، وهم في هذا إنما يتبعون أثر خطوات المسيح، الذي بحسب كلمات يوحنا هو: ”
الشفيع عند الآب، لأجل خطايانا، وليس لخطايانا فقط بل لكل العالم أيضًا”
(1يو2: 1). إذن فالذي هو الشفيع عن القديسين وعن كل العالم، يريد من تلاميذه أن
يكونوا مثله.

 

فإذن
عندما نصلِّي للآب قائلين: ” ليتقدس اسمك”، فنحن نضع في أذهاننا أنه وسط
أولئك الذين لم يحصلوا بعد على نور الحق، ولم يقبلوا الإيمان، ويُزدرى باسم الله
بينهم، لأنه لم يظهر لهم بعد أنه قدوس ومُكرَّم وجدير بالعبادة. ولكن حالما يشرق
عليهم نور الحق ويستفيقون بجهد شاق كما من ليل وظلمة، فحينئذ يعرفون “من
هو”، وكم هو عظيم. ويتعرفون عليه معترفين أنه هو (قدوس الأقداس)، ومِن ثمَّ
يكون لهم عواطف مطابقة وإيمان لائق.

 

تلك
العبارة، أن الله يتقدس بواسطتنا، هو اعترافٌ منَّا بأنه ” قدوس
الأقداس”. وهذا لا يمنحه أية قداسة إضافية، هذا هو ما ينبغي أن تفهموه. فقد
قال أحد الأنبياء القديسين: ” قدِّسوا الرب فيكون مخافتكم، وإن آمنتم به يصير
قداسة لكم” (أى8: 13 سبعينية).

 

فهل
نحن إذن الذين نجعل الله قدوسًا؟ هل هو عمل الطبيعة البشرية أن تمنح أي شيء لله؟
هل الشيء المصنوع ينفع الصانع؟ هل يتصور أي إنسان أن ذلك الذي من ملئه يُوزِّع
مواهبه بغنى على المخلوقات، هو نفسه ينال أي شيء منا؟ أنصت إلى ما يقوله المغبوط
بولس: ” أي شيء لك لم تأخذه؟” (1كو4: 7) لذلك فحينما قال النبي: ”
قدِّسوا الرب فيكون مخافتكم ويصير قداستكم”، فإننا نؤكد أن ما يُعلِّمه لنا
هو: ” آمنوا أنه القدوس، لأنكم ستهابونه عندئذ، وهكذا سيصير هو نفسه واسطة
تقديسكم”.

 

وقد
كُتِب أيضًا عن المسيح مخلِّصنا جميعًا: ” قدِّسوا ذلك الذي قد استهان
بنفسه” (إش49: 7 سبعينية)، لأنه قد استهان بنفسه بأنه لم يعمل حسابًا لحياته،
واضعًا إياها من أجلنا. ولكن عندما يقول ” قدسوه ” أي اعترِفوا بأنه
قدوس، لأنه هو هكذا بالطبيعة، كونه هو الله نفسه، وابن الله، لأن القداسة الجوهرية
لا تناسب أيًّا من تلك الأشياء التي أتى بها من العدم إلى الوجود، بل تناسب فقط
تلك الطبيعة الفائقة السمو التي تفوق الكل، ولذلك، فإيماننا أنه بالطبيعة قدوس،
لأنه هذا هو معنى تقديسنا له – ونعترف بالتالي أنه هو الله ذاته.

 

لذلك،
فلنصلِّ لأجل أنفسنا وليس لأجل الله قائلين: ” ليتقدس اسمك”، لأننا إذا
اتَّخذنا هذا الموقف، وقدَّمنا صلوات مثل هذه، بذهن حُر، فإن الله الآب سيقبلنا،
ومعه المسيح سيبارِكنا، الذي بواسطته ومعه يليق بالله الآب التسبيح والسلطان مع
الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمين

 

ليأت
ملكوتك (لو11: 2)

أولئك
الذين يحبون المال الكثير، ويشغلون ذهنهم بالثروة والربح لا يألون جهدًا في اتخاذ
كل ما أمكنهم من وسيلة لتحقيق ما يرغبونه ويشتهونه. ولكن مسعاهم ينتهي إلى عاقبة
غير سعيدة. لأنه – كما يقول المخلِّص – ” ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم
كله وخسر نفسه؟” (مت16: 26).

 

أمَّا
من يحبون كلمة الخلاص، وينقبون الأسفار الإلهية كمن يبحث عن كنز، ويفتِّشون
باهتمام عن الأمور المخفيَّة فيها، فإنهم حتمًا سيجدون المعرفة المحييَّة التي
تقودهم إلى كل المساعي الفاضلة، وتجعلهم كاملين في معرفة تعاليم الحق. لذلك فلنبحث
نحن عن معنى الفقرة التي أمامنا، وغايتنا هي أن نفهم بذكاء ما أوصى به المخلِّص.
فقد قال إنه ينبغي علينا عندما نصلِّي أن نفهم هذه الطلبة ” ليأت
ملكوتك”.

 

فهو
يملك على الكل مع الله الآب، ولا يمكن أن يضاف شيء إلى مجده الملوكي، كأن يزاد له
من الخارج أو كأنه يُعطَى له بواسطة آخر، ولا أن ينمو معه مع مرور الزمن، لأن مجده
الملوكي أشرق معه بلا بداية، فهو كائن منذ الأزل وما يزال كما كان، لذلك فلأنه هو
إله بالطبيعة وبالحق؛ فبالتالي ينبغي أن يكون كلِّي القدرة، وتكون هذه الخاصية هي
له بلا بداية وبلا نهاية، إذ يقول أيضًا واحد من الأنبياء القديسين: ” الرب
سيملك إلى الدهر والأبد” (خر15: 18)، والمرنم الإلهي يتغنَّى قائلاً: ”
ملكوتك ملكوت أبدي” (مز144: 13س). وأيضًا: ” الله ملكنا قبل
الدهور” (مز72: 12س). فإذا كان الله دائم الملوكية وكلِّي القدرة، فبأي معنى
يُقدِّم أولئك الذين يدعون الله أبًا ويقولون في توسلاتهم: ” ليأت
ملكوتك”. يبدو أنهم يريدون أن يروا المسيح مخلِّص الجميع ناهضًا مرَّة أخرى
فوق العالم. لأنه سيأتي، نعم سيأتي وينزل كديَّان، ولكن ليس بعد في هيئة متواضعة
مثلنا، ولا في وضاعة الطبيعة البشرية؛ ولكن في مجد كما يليق بالله، الذي يسكن في
نور لا يُدنَى منه (1تى6: 12)، ويأتي مع الملائكة. فهكذا قال هو نفسه في موضع ما: ”
ابن الإنسان سيأتي في مجد أبيه مع ملائكته القديسين” (مت16: 27). لذلك، أظن
أنني ينبغي أن أضيف هذا أيضًا: ” إنه في نهاية هذا العالم، سينزل من السماء،
ولكن لا لكي يُعلِّم فيما بعد الذين على الأرض، كما قيل في القديم، ولا لكي يُريهم
طريق الخلاص، إذ أن أوان هذا قد مضى وفات؛ ولكنه سينزل ليدين العالم. والحكيم بولس
أيضًا يشهد لِما أقول معلنًا هذا: ” لأنه لابد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي
المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًا” (2كو5: 10).

 

لذلك.
فمنبر الدينونة مرعب، والقاضي لا يأخذ بالوجوه. إنه وقت المساءلة؟ لا بل هو وقت
المحاكمة والمجازاة. والنار مُعدَّة للأشرار وعقاب دائم وعذاب أبدي – كيف يمكن إذن
للناس أن يطلبوا أن يعاينوا ذلك الوقت؟ أتوسل إليكم ثانية، لاحظوا، أرجوكم، مهارة
المخلِّص وحكمته العجيبة في كل التفاصيل، لأنه يأمرهم أن يطلبوا في الصلاة أن يأتي
هذا الوقت المرعب، لكي يجعلهم يعرفون أنه يجب عليهم أن يحيوا ليس بإهمال، ولا
بانحلال، ولا أن يُخدعوا بالتسيُّب وحب اللذة، بل على العكس أن يعيشوا كما يليق
بالقديسين وبحسب مشيئة الله، لكي تكون تلك الساعة بالنسبة لهم، هي واهبة الأكاليل،
وليس النار والدينونة. أما بالنسبة للأشرار والنجسين، الذين يسلكون حياة شهوانية
ومنحلَّة ومرتكبين لكل رذيلة، فلا يناسبهم بالمرَّة أن يقولوا في صلواتهم: ”
ليأت ملكوتك”، بل دعهم بالحري يعرفون أنهم بقولهم هذا إنما يدفعون الله
لقصاصهم، بينما زمن عقابهم لم يحِن بعد أو يظهر، وعن هؤلاء يقول واحد من الأنبياء
القديسين: “ويلٌ للذين يشتهون يوم الرب، ماذا يكون لكم يوم الرب؟ يوم ظلام لا
نور، وقتامًا ولا نور له” (عا5: 18).

 

فالقديسون
إذن يطلبون سرعة مجيء المُلك الكامل للمخلِّص لأنهم جاهدوا كما ينبغي، وصاروا
أنقياء السَّرِيرَة، وهم يتوقَّعون المجازاة عما سبق أن فعلوه. لأنه كما أن الذين
ينتظرون عيدًا و” فرحًا ” على وشك المجيء وسيظهر بعد قليل، يتلهَّفون
لوصوله، هكذا يفعل هؤلاء أيضًا، لأنهم سيقفون ممجَّدين في حضرة الديان، وسيسمعونه
يقول: ” تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المُعَد لكم منذ تأسيس
العالم” (مت25: 34).

 

لقد
كانوا وكلاء حكماء غيورين أقامهم الرب على أهل بيته ليقدِّموا لهم الطعام في حينه،
وقد وزَّعوا حسنًا وبحكمة على العبيد رفقائهم ممَّا قد نالوه هم أنفسهم واغتنوا به
من قبل، لأنهم وضعوا في قلوبهم قول الرب: ” مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا”
(مت10: 8). وعندما أخذوا منه الوزنة لم يطمروها في الأرض، فلم يكونوا مثل العبد
الكسلان المتراخي المهمِل الذي اقترب من السيد وقال: ” يا سيد عرفتُ أنك
إنسان قاسٍ، تحصد حيث لم تزرع وتجمع من حيث لم تبذر، فخفتُ ومضيتُ وأخفيتُ وزنتك
في الأرض، هوذا الذي لك” (مت25: 42)، بل على العكس تاجَروا بها وربحوا كثيرًا،
وقدَّموها مع ربحها قائلين: “يا سيِّد وزنتك قد ربحت عشرة وزنات” (لو19:
16)، فوُهب لهم الدخول إلى كرامات أعظم. لقد كانوا ذوي غيرة قلبية حارة، ونِيَّة
مستقيمة شُجاعة فلبسوا سلاح الله الكامل درع البر، وخوذة الخلاص، وأخذوا سيف الروح.

 

لأنه
لم يغب عنه أنهم لا يحارِبون ضد لحم ودم، بل ضد رؤساء وقوات، ضد ولاة العالم على
هذه الظلمة، ضد أجناد الشر الروحية في السماويات (أف6: 12)، فكثيرون هم الذين
يجدلون لأنفسهم أكاليل الشهادة، وباحتمالهم الصراعات حتى بذل الحياة وسفك الدم، قد
صاروا ” منظرًا للعالم للملائكة والناس” (1كو4: 9)، وحُسبوا مستحقين لكل
إعجاب ومديح. وآخرون صبروا على الأتعاب والاضطهادات مجاهِدين بغيرة حارة لأجل مجد
المسيح.

 

وكما
يعلن بولس الإلهي: ” فقد دخلت ذئاب خاطفة بين قطعان المسيح، وهى لا تشفق على
الرعية” (أع20: 29). فعلة ماكرون، رُسُل كذبة (2كو11: 13)، يتقيَّأون خبث
الشيطان وحقده ” ويتكلمون بأمور ملتوية” (أع20: 30)، ليقودوا نفوس
الجهلاء إلى الهلاك، ” ويجرحون ضميرهم الضعيف” (1كو8: 12). هؤلاء
بتملُّقِهِم سلطات هذا العالم، أثاروا اضطهادات وضيقات على أبطال الحق، ولكن
الأبطال لم يَحسِبوا كثيرًا ما عانوه من آلام لأنهم كانوا ينظرون إلى الرجاء الذي
لهم في المسيح، فلم يكونوا يجهلون أنهم إن كانوا ” يتألمون من أجله فإنهم
سيملكون معه” (2تى2: 12). فهم تيقَّنوا أنه في زمن القيامة ” سيُغيِّر
شكل تواضعهم ليكون على صورة جسده الممجَّد” (فى3: 21). إنهم آمنوا تمامًا بما
قاله الرب عن نهاية العالم، إنه عندما يظهر لهم ثانية من السماء: ” سيضيئون
كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت12: 43).

 

إذن
فيسوغ لهم بحق أن يقولوا في صلواتهم: ” ليأت ملكوتك”، لأنهم يشعرون بالثقة
أنهم سينالون مجازاة شجاعة إيمانهم، وسيبلغون غاية الرجاء الموضوع أمامهم.

 

ليته
يكون لنا نحن أيضًا نصيب معهم، أن نُحسب أهلاً لهذا الميراث العظيم في المسيح،
الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

 

لتكن
مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض (لو11: 2)

توسَّل
داود النبي إلى المسيح مخلِّص الجميع قائلاً: ” اهدني إلى حقك وعلِّمنى إنك
أنت الله مخلِّصي” (مز25: 5)، لأن الذين هم في المسيح بالإيمان هم الذين
يتعلَّمون من الله، ونحن، من بين هؤلاء، لذلك لنلتمس منه أن يشرح لنا كلماته، لأن
كل من يريدون أن يفهموا جيدًا دونما خطأ ما يريد الرب أن يعلِّمهم، هم في حاجة إلى
النور الإلهي، إذ هو المانح لكل حكمة، ويشرق بنوره على ذهن وقلب أولئك الذين
يسألونه، وها مرنم المزامير يقول أيضًا: ” افتح عيني فأرى عجائب من
شريعتك” (مز119: 18). لذلك، فلنفحص أيضًا هذا الجزء من الصلاة، لأن ما سنربحه
لخلاص النفس ليس قليلاً.

 

لماذا
إذن، أوصى الرب القديسين أن يخاطبوا الله الآب الذي في السماء قائلين: ” لتكن
مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض؟”.

 

إن
هذه الطلبة تليق بالقديسين، وهى مملوءة مديحًا أيضًا. إنه يليق بالقديسين أن
يتوسَّلوا من أجل أن تسود مشيئة الله الصالحة على الأرض، وما الذي يهدف إليه هذا
التوسُّل سوى أن يعيش كل البشر حياة مختارة تستحق المديح، وأن يمارسوا ويعرفوا كل
فضيلة؟ فنحن نؤكد أن الملائكة القديسين إذ يصنعون مشيئة الله فإنهم يقيمون في مجد
في السماء لأنه مكتوب: ” باركوا الرب يا جميع قواته، يا خدامه العاملين
مشيئته” (مز102: 21س). لأنهم بالتزامهم بمشيئة سيدهم وبتتميمهم البر الذي
يفوق الأمور البشرية، يحفظون رتبتهم العالية، وأما أولئك الذين فعلوا بخلاف ذلك،فقد
سقطوا من رتبتهم.

 

ولكن
لكي نسير قُدُمًا ونحصر معنى الكلام باختصار، فلنتضرع أن يمنح الله القوة للساكنين
على الأرض، لكي يصنعوا مشيئته ويتمثَّلوا بالسلوك الذي يمارسه الملائكة القديسون
فوق في السماء، لذلك، فلنتأمل بقدر ما نستطيع بأية طريقة تمارِس القوات العلوية
ورتب الملائكة القديسين واجبهم بنجاح، كيف يكرِّمون الله؟ هل بتقديم ذبائح دموية؟
هل بأطياب وبخور كما كان يفعل إسرائيل حسب الجسد؟ ولكنني أظن أن هذا غير معقول
فكرًا وقولاً. لأنه مِن الصواب بالحري أن نؤكد أنهم يُتمِّمون خدمة روحية وليست
مادية، مقدِّمين دائمًا التماجيد والتسابيح لخالق الكل، ومكمِّلين البِرَّ اللائق
بالأرواح القديسة. إذن فأولئك الذين يتوسلون في صلواتهم أن تتم مشيئة الله على
الأرض، ينبغي بالضرورة أن يحيوا هم أنفسهم بلا لوم، وأن لا يبالوا بهذه الأمور
الأرضية، بل أن يتحرَّروا من كل دنس، ويقفزوا خارجًا من حفرة الإثم، ”
مكمِّلين القداسة في خوف الله” (2كو7: 1)، وكما يقول بولس الرسول أيضًا، أنه
حتى وإن كانوا يسيرون على الأرض، تكون ” سيرتهم هي في السموات” (فى3: 20).
وفوق كل شيء، فليعرف أولئك المُنتَمون إلى الجماعة اليهودية، ولكنهم قد اغتنوا
بالبِر الذي في المسيح بالإيمان، أنه من اللائق جدًّا أن يُتمِّموا كلمة الله، وأن
يتخلوا عن الخدمة التي تتكون من المظاهر والرموز، ويختاروا بالأحرى الخدمة الروحية،
النقية وغير المادية، كما يقول المخلِّص في موضع ما: ” الله روح، والذين
يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين
له” (يو4: 24).

 

أما
كون الطريقة الناموسية للخدمة ليست هي ما يطلبه الله، فإنه أمر ليس من الصعب أن
نراه من الكتابات النبوية والرسولية. لأنه يقول بفم إرميا النبى: ” لماذا
تأتون لي باللبان من شبا وقصب الذريرة من أرض بعيدة؟ محرقاتكم غير مقبولة وذبائحكم
لا تلذ لي” (إر6: 20 س) ويقول بصوت داود:

 


لا آخذ من بيتك ثورًا ولا من حظائرك جداء… هل آكل لحم الثيران أو أشرب دم
التيوس” (مز49: 9س). كما أن المغبوط بولس يوضِّح أيضًا أن خدمة الناموس هي
بلا قوَّة للتبرير فيقول: ” ولكن أن ليس أحد يتبرَّر بالناموس عند الله
فظاهر” (غلا3: 11). إذن، فمشيئة الله التي نصلِّي لأجل أن تكون على الأرض،
ليست هي أن نتطابق مع الناموس وأن نحيا بحسب خشونة الحرف، بل أن نجتهد أن نحيا
بالإنجيل. وهذا يتم بإيمان صحيح بلا عيب، وبحياة مقدسة لها الرائحة الحلوة لكل
فضيلة ولها برهان بشهادة السلوك الصالح النبيل في كل ما هو ممتاز.

ولكي
أشرح لكم بطريقة أخرى معنى ما هو موضوع أمامنا، فنحن نقول إن أولئك الذين يتوسلون
قائلين: ” لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”، إنما يُصلُّون أن
يروا توقُّف الخطية. لأن ناموس موسى أُعطيَ للإسرائيليين ليكون مؤدِّبًا لهم، ولكن
الذين استلموه قدموا اهتمامًا ضئيلاً بوصاياه، وكانوا ” محبين للذَّات دون
محبة الله” (2تى3: 2-4) وتحوَّلوا ليتبعوا مشيئتهم الخاصة، فضلُّوا وراء
تعاليم ووصايا الناس، وقال الله عنهم في موضع ما: ” هذا الشعب يقترب إليَّ،
ويكرمني بشفتيه، وأما قلبهم فأبعدوه عنِّي وصارت مخافتهم منِّي باطلة، بينما
يُعلِّمون تعاليم ووصايا الناس” (إش39: 13).

 

وقال
عنهم أيضًا بفم إرميا: اسمعي أيتها الأرض، هاأنذا جالب شرًّا على هذا الشعب ثمر
أفكارهم لأنهم لم يصغوا لكلامي، وشريعتي رفضوها (إر6: 19). هكذا كانت حالة اليهود،
ولكن الشعوب الأخرى التي انتشرت في كل الأرض كانت في ضلال بطرق مختلفة، ”
لأنهم عبدوا المخلوق دون الخالق” (رو1: 5)، وإذ أذلُّوا عقولهم بالخضوع
للأرواح النجسة، لذلك انقادوا بواسطتهم بسرعة وبدون فهم إلى كل ما هو دنيء، وكل
نوع من الشر كان مكرَّمًا بينهم ” الذين مجدهم في خزيهم “، كما يقول
الكتاب (في 3: 19).

 

فالقديسون
يبتهلون من أجل جميع الناس أيًّا كانوا، من إسرائيل كما من الأمم ليُحسَبوا
مستحقين للسلام الذي من الأعالي، وأن يجدوا راحة القلب بعد البؤس الذى كانوا
يقاسونه حينما كانوا واقعين في حبال الإثم الذي لم يكن لهم إمكانية الفرار منه: وإذ
ينالون البر الذي في المسيح بالإيمان، يمكنهم أن يصيروا أطهارًا، وناجحين في كل
عمل صالح. من أجل هذا يُصلُّون قائلين:

 


لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض “، لأن مشيئة إله الكل – كما سبق
وقلت – هي أن يحيا سكان الأرض بقداسة وتقوى وبلا لوم، إذ يُغسَلون من كل دنس، وهم
مثابرون على التمثُّل بالجمال الروحي للأرواح العلوية في السماء، حتى أن الكنيسة
على الأرض، كَونها هي المثال المنظور والصورة “لكنيسة الأبكار” التي في
الأعالي، تصير مرضيَّة للمسيح، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح
القدس، إلى دهر الدهور آمين.

 

أعطنا
كل يوم خبزنا الضروري (لو11: 3)

أولئك
الذين يقتنون الثروات الأرضية يَدعون أصحابهم الذين يودُّون أن يكرموهم إلى بيوتهم،
ويضعون أمامهم المآدب الفاخرة، قاصدين بذلك أن يعطوهم الفرصة ليمتِّعوا ذواتهم، مع
أنهم لم يعدُّوا لهم شيئًا أكثر مما يشبع شهيتهم للطعام المادي. أمَّا مخلِّصنا رب
الكل، فلا يقدم لنا مأدبة نستمتع بها جسديًّا، فهذا ليس بنافع لنا، بل قد يكون
ضارًّا حتى للجسد نفسه، وإنما هو يقدم ولائم روحية لقلوب أولئك الذين يريدون أن
يحيوا بالتقوى، مانحًا إياهم تعليم الإنجيل الخلاصي الذي به يصير الإنسان ممتلئًا
من كل صلاح ووارثًا للحياة الأبدية، وما قد قلته، تُعلِّمه لنا بوضوح هذه الفقرة
التي أمامنا الآن، والرب يقول: “متى صلَّيتم ينبغي أن تقولوا: ” أعطنا
كل يوم خبزنا الضروري”.

 

ولكن
ربما يعترض البعض قائلاً: إنه ليس من المناسب ولا من اللائق بالقديسين أن يطلبوا
من الله هذه الأمور الجسدانية، ولذا قد يأخذون ما قيل بالمعنى الروحي، ويؤكدون
أنهم لا يسألون الخبز الأرضي أو ما هو للجسد، بل ذلك الذي نزل من فوق، من السماء
فأعطى الحياة للعالم. وأنا أيضًا بلا أدنى شك أقول: إنه من الأليَق جدًا بالقديسين
أن يسعوا بكل جهد ليُحسَبوا مستحقين للعطايا الروحية، ولكن من جهة أخرى ينبغي لنا
أن نفهم أنه حتى إذا ما كانوا يطلبون مجرد الخبز العادي إلاَّ أنه لا لوم عليهم
البتَّة في ذلك إذا كانوا يسألونه من الله حسبما يدعوهم المخلِّص أن يفعلوا هكذا،
لأن هذا يليق بتقوى حياتهم. فيجب علينا أن نمعن النظر في المعنى المتوارى لهذه
الكلمات وما يحتويه من تعليم.

 

فالرب
إذ أوصاهم أن يسألوا من أجل الخبز، أي من أجل خبز يوم واحد، فهذا برهان واضح على
أنه لا يسمح لهم بامتلاك أي شيء، بل يطلب منهم أن يمارسوا الفقر اللائق بالقديسين.
فالطلب ليس من حق من يمتلكون بل لمن هم بالحري في حاجة لم يحتاجه الجسد بصورة
ضرورية، ولا يستطيع أن يعمل بدونه. فإذا افترضنا أن واحدًا ليس محتاجًا إلى شيء،
وطلب من الله العالِم بكل شيء قائلاً: ” أعطنا خبز اليوم”، فإنه يبدو
بطبيعة الحال كمن يأخذ باستهزاء، أو ربما كمن يجعل الوصية مدعاة للسخرية، ويتصور
كما يفعل البعض أن ” الرب لا يبصِر وإله يعقوب لا يلاحِظ” (مز94: 7).

 

ولكن
بهذه الوصية نفسها – طالما هم يسألون ما ليس عندهم نفهم أن الرب لا يروم لتلاميذه
أن يبتغوا الغنى الأرضي، وهو ينهاهم في مناسبة أخرى قائلاً لهم بوضوح: ” لا
تقلقوا من أجل حياتكم ماذا تأكلون أو ماذا تشربون، ولا أجسادكم ماذا تلبسون لأن
هذه الأمور كلها تطلبها الأمم، ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد
لكم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” (مت6: 25-33).

 

وكلمة
” إيبى أوسيوس ”
επιοσιον التي تُطلَق على الخبز، يشرحها البعض بمعنى ما هو آتٍ، أي المزمع
أن نُعطاه في العالم الآتي بالمفهوم الروحي أيضًا، في حين أن آخرين يُعطون للكلمة
معنىً مغايرًا. ولكن إذا كان حقًّا أن الخبز الذي يُشار إليه في هذه الطلبة سيعطى
في العالم الآتي، فلماذا يضيفون: ” أعطنا كل يوم”؟ لأن من هذا نرى أنهم
يلتمسون مؤونتهم اليومية، وهم يسألون لا كأناس محبين للثروة بل كأحرار من كل هَّم
أرضي. فمعنى
επιοσιονإذن ما هو
ضروري وكافي. والرسول المغبوط بولس قد استخدم هذا التعبير مع تحوير طفيف عندما تكلم
عن المسيح مخلِّص العالم قائلاً عنه: ” أنه أعد لنفسه شعبًا خاصًا
περιοσιον مستعملاً “بيرى أوسيوس” بدلاً من ” إيبى
أوسيوس” قاصدًا بذلك ” شعب كُفء لا يعوزه الكمال” فهم عندما يطلبون
قوت يومي فحسب (كفافهم) يعرفون أنهم يقدمون طلبتهم كأناس أحرار من شهوة الغنى بل
ويحسبونه فخرًا لهم أن يكونوا معدمين تمامًا من كل الأشياء الأرضية.

 

لأنه
يليق بمن تعيَّنوا للخدمة الكهنوتية أن يكونوا خالين من كل هّم وإنشغال دنيوي، غير
منقادين وراء تلك الأمور التي تغرق الناس في الهموم وتلقى بهم كما في حمأة، في
قاذورات الشهوات العالمية: ” لأن محبة المال أصل لكل الشرور”. ومِن
الصواب أن أقول لمن يبتغون أن يقلعوا عن مثل هذه العيوب أنهم ينبغي أن يتركوا
للعالم ما يخصه وأن يجحدوا كل الأمور الجسدية، وأن يطلبوا من الله فقط ما هو ضروري
لقوام الحياة، مُتَحَدِّين عجز الجسد الذي لا يكف عن طلب الطعام، ومستعدِّين – لو
كان ذلك جائزًا – أن يهربوا منه تمامًا، وبذا يمكن أن تطول الحياة، بل وأن
يتقبَّلوا هذا بفرح عظيم، بقبول هذا التجرُّد.

 

لأنه
كما أن أولئك الذين يعرفون كيف يجاهدون المصارعات الجسدانية، ويبرعون في ألعاب
المسابقات، يتجرَّدون حتى من ثيابهم، ويقفون بشهامة صامدين أمام شِدَّة بأس
مقاوميهم، كذلك القديسون إذ يتخلصون من كل الهموم الدنيوية والشهوات الجسدانية، بل
ولا يبالون حتى أن يقتنوا وفرة من القوت، متجرِّدين – كما قلت – لمقاومة إبليس وكل
أعوانه أعداء الحق، فإنهم يُكرِّسون أنفسهم تمامًا للجهاد الموضوع أمامهم في
الخدمة الكهنوتية، فينالون النصرة كمجاهدين.

 

وهذا
ما يقوله أيضًا الرسول الإلهي بولس في إحدى رسائله (2تى2: 4) عن أولئك الذين
يحاربون في الجسد: ” ليس أحد وهو يتجنَّد يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من
جنَّده”، لأنه ليس من محارِب يذهب إلى معركة وهو محمَّل بأشياء زائدة عن
الحاجة، بل فقط تلك المُعدَّات الضرورية المناسبة للمحاربين.

إذن
يليق بالقديسين، كأناس أُعطي لهم أن يجاهدوا ليس فقط ضد: ” دم ولحم بل مع
الرؤساء مع السلاطين مع ولاة عالم ظلمة هذا الدهر مع أرواح الشر في
السماويات” (أف6: 12)، يليق بهم أن يمنطقوا حسنًا أحقاء ذهنهم حتى لا يكونوا
معرَّضين لضربة أولئك الخصوم الذين يقاومونهم ويحاربون ضد الرسالة التي يكرزون بها.
ومن اللائق بهم أيضًا أن يكونوا ذوي غرض واحد في حياتهم، بمعنى أن يفكروا ويسعوا
فقط فيما يرضى الرب، وأن لا يسمحوا بأن يتسرب إليهم شيء من هذا العالم، بل إذ
يكونون كلهم مقدَّسين بالتمام وبلا لوم، فإنهم يجعلون حياتهم ذبيحة مقدَّمة لله،
لأنه مكتوب أن ” كل تقدمة كاهن تحرق بكمالها” (لا6: 23). لأن حياة
محبِّي العالم تكون منقسمة (بسبب هَمّ العالم) بحسب تعبير القديس بولس[1]، أمَّا
حياة القديسين فليست كذلك، إذ أنهم كرَّسوا حياتهم بالكامل وتقدَّسوا تمامًا،
فتنبعث منهم رائحة طيِّبة أمام الله.

وهذا
هو ما نقول عنه إنه ” محرقة كاملة ” أو ” تُحرق بكاملها ”
ولكن إذا وُجد شيء ما غير مقدَّس في أيَّة تقدمة فإنه يلوِّث الذبيحة ويُغيِّرها
ويقسمها أو بالحري يختلط النجس بالطيِّب. وتتلاشى رائحته الطيِّبة، فمحبة المال
إذا تسربت إلى حياة القديسين فهي تكون كشيء كريه الرائحة، وكذلك القلق من أجل أمور
الجسد، لأن الله في كل مكان قد وَعَدَ القديسين أنهم لن يكونوا في عوز إلى شيء.

 

فإذا
كنا لا نثق أنه سيمنحنا هذا، فقد صرنا شركاء اليهود في عدم إيمانهم، لأنه عندما
أخرج الله الكُلِّي القدرة لهم ماء من الصخرة، بطريقة إعجازية لا يُعبَّر عنها –
تذمَّروا عليه قائلين: ” هل يقدر الله أن يرتِّب مائدة في البرية؟”
(مز78: 19).

 

ولماذا
لا يقدر، ولماذا لا يعطي ما قد وعد به؟ لأنه إذا كان الناس ذو السجايا الحسنة
يكونون دائمًا أوفياء لما تنطق به أفواهم، فكيف يكون الله الذي هو أسمى من الجميع
غير صادق فيما وعد به، بل إن البشر بعد أن يَعِدُوا بشيء صالح، كثيرًا ما يعجزون
أن يوفوا بما وعدوا، أما هو الذي لا يشوبه ضعف، بل هو رب القوات، الذي يفعل كل ما
يريد بلا مشقة بل بكل سهولة، كيف لا يُتمِّم كل ما يَعِد به البشر.

 

إذن
فلنسأله ونحن ” ملقين كل همنا عليه” (1بط5: 7)، ما يكفي لحياتنا، أي
الطعام والكساء وكل ما يقوم بضروريات الحياة متجنِّبين كل رغبة في الغِنى، لأن ذلك
يهدِّد حياتنا بالدمار، وإن كانت هذه هي إرادتنا فإن المسيح يقبلنا ويباركنا، الذي
به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

=================

[1]
يشير القديس كيرلس هنا إلى حديث الرسول بولس عن هم العالم في (1كو32: 7-34)
(المعرِّب).

 

واغفر
لنا خطايانا، لأننا نحن أيضًا نغفر لكل من أساء إلينا (لو11: 4)

إن
إشعياء النبي المبارَك عندما كان يتنبأ عن طريق الخلاص بالكرازة بالإنجيل، نطق
هكذا قائلاً في موضع ما: ” وستكون هناك طريق مستوية يُقال لها الطريق
المقدَّسة” (إش35: 9س)، لأنها تقود أولئك الذين يسلكون فيها إلى القداسة
بعبادة روحية وبِر أعلا من الناموس.

 

ويحضرنا
كذلك ما يقوله المسيح لمن يحبونه: ” الحق أقول لكم، إن لم يزد بركم على
الكتبة والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوت الله” (مت5: 10). وأقول إنه من واجب من
دُعوا بالإيمان إلى معرفة مجد المسيح مخلِّصنا جميعًا، وقد اتخذوه رأسًا لهم أن
يفرحوا في تمثُّلهم بأعماله، وأن يكونوا جادِّين في أن يجعلوا نورهم يضيء
بالسِّيرة المقدسة التي لم تكن لهم قبل أن يأتوا إلى الإيمان: ” لأن كل
الأشياء قد صارت جديدة في المسيح” (2كو5: 17).

 

فالرب
يطلب من تلاميذه أن يكونوا ودعاء بطييء الغضب، حتى يستطيعوا أن يقولوا بلا لوم في
صلواتهم: ” واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضًا نغفر لكل من أساء إلينا”.

 

يا
لعظمة حكمة الله العجيبة وعُمق غنى معرفته الفائقة! إنه يطلب منهم أولاً أن يسألوه
الغفران عن خطاياهم التي ارتكبوها، وبعد ذلك أن يعترفوا أنهم يغفرون أيضًا كُليَّة
للآخرين، وكأنهم يسألون الله أن يطيل أناته عليهم كما يفعلون هم أيضًا مع الآخرين،
وأن يعاملهم بمثل اللطف الذي يمارسونه هم مع العبيد. إنهم يتوسلون أن ينالوا نفس
الكيل من الله الذي يُعطي بعدل، ويعرف كيف يُظهِر الرحمة لكل إنسان.

 

فتعالوا
بنا نسعى لندرك بوضوح أكثر معنى هذه الصلاة، بالتعمُّق في هذا المقطع الذي أمامنا
والتدقيق فيه. فكما قلت: إن الرب أوصانا عندما نتقدَّم إليه أن نقول: ” اغفر
لنا خطايانا”. فلنفحص معًا من فضلكم ما هي المنفعة التي ننالها من هذه الصلاة.
فالذين يتوسلون إلى الرب هكذا، ليسوا متشامخين، وهم لا يرتأون في أنفسهم أمورًا
عظيمة، ولا يتعالون على الضعفاء، بل كما يقول الكتاب ” هم قضاة لأنفسهم”
(أم13: 10س). فهم ليسوا مثل ذلك الفريسي، الجاهل والمتكبر، الذي تجاسر حتى على أن
يجعل الرب نفسه شاهدًا له، حسبما يقول ذلك المثل ” إنسانان صعدا إلى الهيكل
ليُصلِّيا، واحد فريسي والآخر عشار، أما الفريسي فوقف يُصلِّي في نفسه هكذا: اللهم
أنا أشكرك أنِّي لستُ مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار،
أصوم مرتين في الأسبوع وأُعشِّر كل ما أقتنيه، وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء
أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ، أقول
لكم إن هذا نزل إلى بيته مبرَّرًا دون ذاك” (لو18: 10-14).

 

فانظروا
كم هو مهلك للنفس أن يتعالى الإنسان بنفسه على الضعفاء، متوهمًا أن سلوكه غير
معرَّض للوم من أي ناحية مطلقًا. بل بالحري ينبغي علينا أن نضع في اعتبارنا على
الدوام ونُفكِّر: ” إننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا” (يع3: 2). بل
ويمكننا أن نقول إننا دائمًا نخطئ، وأحيانًا حتى بغير إرادتنا، لأنه مكتوب: ”
مَن يستطيع أن يدرِك خطاياه؟” (مز18: 12س)، وها هو مُنشِد المزامير المغبوط
يتوسل إلى الله بحرارة وبصراحة تامة قائلاً: ” مِن الخطايا المستترة طهِّرني،
ومِن المتكبرين احفظ عبدك فلا يتسلطوا عليَّ، حينئذ أكون بلا لوم، وأتنقَّى مِن
خطية عظيمة” (مز18: 23 س).

 

وكذلك
أيضًا أيوب الذي كان مثالاً عظيمًا في الصبر، نراه يُقدِّم ذبائح عن خطايا أبنائه،
غير المعروفة، أو بالأحرى غير المكتشفة، قائلاً: ” ربما أخطأ بنيَّ وجدَّفوا
على الله في قلوبهم” (أى1: 5)، ونذكُر أيضًا بولس ذا الحكمة العالية الذي
عندما كتب قائلاً: ” فإنِّي لستُ أشعر بشيء (من الخطأ) في ذاتي”،
استدرَكَ قائلاً ” لكنني لست بذلك مبرَّرًا، ولكن الذي يَحكُم فيَّ هو الرب”
(1كو4: 4).

 

إذن
من النافع لنا جدًّا وعلى الدوام أن نخرَّ ساجدين أمام الله الذي يُحب كل ما هو
صالح ونقول: ” اغفر لنا خطايانا”، فهو قد قال بفم أحد أنبيائه القديسين:
” اعترف أولاً بتعدياتك لكي تتبرَّر” (إش43: 26س). وإذ لم يكن هذا
المبدأ مجهولاً لدى المغبوط داود، فقد أنشد هكذا في مزاميره: ” قلتُ أعترف
للرب بذنبي، وأنت غفرتَ إثم قلبي” (مز31: 5).

 

لأن
الله سريعًا ما يرضى على الإنسان ويتراءف على من لا يتناسون ذنوبهم، بل يسقطون على
وجوهم أمامه ويسألونه الغفران، إلاَّ أنه شديد بحق وعدل على قساة القلوب
والمتكبِّرين، وعلى كل من يسعى بمنتهى الجهل أن يُبرئ نفسه من اللوم. فالرب قد قال
لمن هو على مثل هذا الحال: ” هاأنذا أحاكمك لأنك قلتَ، إنِّي لم أخطئ”
(إر2: 35)، لأنه مَنْ يمكنه أن يفتخر بأن له قلبًا نقيًّا؟ أو من يقدر أن يتجاسر
ويقول إنه برئ من الخطايا؟ إذن فالطريق المؤدِّي إلى الخلاص والذي ينقذ الجادِّين
في السير من غضب الله، هو الإقرار بالذنوب، وأن نقول في صلواتنا لمن يبرِّر الأثيم:
” اغفر لنا خطايانا”.

 

هناك
أيضًا طريقة أخرى ننتفع بواسطتها: فأولئك الذين يعترفون بحق أنهم أخطأوا، ويريدون
أن ينالوا الصفح من الله، فهؤلاء بالضرورة يهابونه باعتباره أنه هو الذي سيكون
الديان، فهم لا يمكنهم أن ينسوا أنهم سيقفون أمام كرسي دينونة الله الرهيب، وكما
يكتب بولس الحكيم جدًّا: ” لأنه لابد أنَّنا جميعًا نُظهَر أمام كرسي المسيح
لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًّا” (2كو5: 10).

 

إن
أولئك الذين يضعون في اعتبارهم أنهم لابد أنهم سيقفون أمام كرسي الديان ويعطون
حسابًا عما فعلوا، وأنهم إذا أُخذوا بجريرة ما، فسوف يقاسون عقابًا مريرًا، أو
سيُمدحون إذا ما كانوا قد سلكوا سلوكًا حسنًا وعاشوا حياة فاضلة في الجسد على
الأرض. مثل هؤلاء، من جهةٍ، سيتُوقون إلى الصفح عما ارتكبوا من خطايا حتى ينجو من
العذاب الذي لا نهاية له والعقوبة الأبدية، ومن جهةٍ أخرى، فإنهم يهتمون بأن يحيوا
باستقامة ويسيروا سيرة لا عيب فيها، حتى يمكنهم أن ينالوا الإكليل اللائق بحياتهم
الفاضلة، لأنهم بهذا سيتلطَّف بهم الديان، ولن يذكر لهم شيئًا مما عملوه من سيئات،
فالرب يقول: ” شَر الشِّرير لا يؤذيه يوم يتوب عن شرّه” (حز33: 12س).

 

ولكن
لا يتوهَّم أحد، أنه يحق لكل الناس بلا تفرقة أن يقولوا: ” اغفر لنا
آثامنا”، فإنه لا يليق بمن يستمرِئون البقاء في شرورهم أن يقولوا: ”
اغفر لنا خطايانا”، بل لمن تخلُّوا عن رذائلهم السابقة راغبين بكل جدية أن
يحيوا كما يليق بقديسين، وإلاَّ فلا شيء يمنع فعلة الشر، ضاربي الآباء وقاتلي
الأمهات، والزناة والسحرة، وكل من ارتكب مثل هذه الجرائم الأشد شناعة، أن يستمر في
فعلها ويعزِّز وجود دوافعها الشريرة كما هي بدون تغيير، ويُنجِّس نفسه بكل الأفعال
الدنيئة، ثم يتقدم إلى الله بجسارة ويقول: ” اغفر لنا خطايانا”. لهذا
السبب فإن مخلِّص العالم ورب الكل لم يختم هذه العبارة عند هذا الحد، بل أمرنا أن
نضيف قائلين: ” لأننا نحن أيضًا قد غفرنا لكل من أساء إلينا”.

 

فإن
هذا لا يتناسب إلا مع الذين قد اختاروا لأنفسهم الحياة الفاضلة، وساروا بلا تراخٍ
في طريق مشيئة الله، تلك التي هي كما يقول الكتاب: ” صالحة ومرضيَّة وكاملة
” (رو12: 2). هؤلاء يتحلُّون بطول الأناة، ولا يلومون الذين أساءوا إليهم.
وحتى إذا ما أساء إليهم أحد، فإنهم لا يفكرون في هذا الأمر. فبطء الغضب هو فضيلة
ممتازة، وهو ثمرة تلك المحبة التي قال عنها الرسول الحكيم إنها: ” تكميل
الناموس” (رو13: 10).

 

ثم
تأملوا معي في جمال هذه الفضيلة الفائقة ولو بالمقارنة مع قبح الرذيلة المضادة لها،
لأن الغضب في الواقع هو مرض خطير، ومن استسلم له بفكره صار إنسانًا حادَّ الطبع،
نكدًا، عنيفًا، وعنيدًا، ومَرتعًا خصبًا للغضب والصياح، وإذا ما استمر المرء على
هذا الحال وقتًا طويلاً لكان من الصعب شفاؤه، بل، وأكثر من ذلك نجده دائمًا ينظر
بعين شريرة لكل من أساء إليه فهو يترقبه بحقد شديد، متطلعًا إلى متى وأين يمكنه أن
يلحق الضرر به، وهذا في أغلب الأحيان لا يكون كيلاً بكيل، بل مرات كثيرة يكون
الانتقام أشد من الإساءة بكثير.

 

إن
مثل هذا الإنسان لا يكف عن تدبير المكيدة في الخفاء. ألا يكون مثل هذا قد عرَّض
نفسه لكل العيوب، بل ويكون مبغضًا لله ومرفوضًا منه، وبالتالي يكون في غاية البؤس؟
كما هو مكتوب: ” أمَّا سبل الغضوب فهي إلى الموت” (أم12: 28 س).

 

ولكن
الإنسان البسيط القلب غير الغضوب يتَّسِم أوَّل ما يتَّسِم بالاحتمال، إلا أن
الاحتمال الذي يمارسه البشر ليس بنفس القدر كالذي يأتي من فوق ومن الله، فإنسان
الله الذي لا يستسلم قلبه لانفعال الغضب، بل يسود عليه ويتحكَّم في نفسه أمام كل
إثارة مكدِّرة تنشأ فيه. إنه صفوح وعطوف على كل رفقائه، لطيف وودود ومترفِّق بضعف
قريبه – وهذه كانت سجايا تلاميذ المخلِّص – وها هو المغبوط بولس يكتب قائلاً: ”
نُشتم فنبارِك، نُضطهد فنحتمِل، يُفترى علينا فنعظ” (1كو4: 12،13). لأنهم
تمثلوا بربهم: ” الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد بل
كان يسلِّم لمن يقضي بعدل” (1بط23: 2). فنحن إذن ينبغي علينا أن نطلب من الله
مغفرة خطايانا التي ارتكبناها عندما نكون نحن أنفسنا قد سبقنا وغفرنا لمن أساء
إلينا في أي شيء، بشرط أن تكون خطيتهم ضدنا وليس ضد مجد الله الكائن على الكل،
لأنه ليس لنا سلطان على هذه الأخيرة، بل على تلك التي تكون قد ارتُكِبَت ضدنا نحن،
وهكذا، بالصفح لإخوتنا عما عملوه في حقنا فإننا يقينًا سنجد المسيح مخلِّص الكل مترفِّقًا
بنا مستعدًّا أن يُظهِر رأفته، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح
القدس إلى دهر الدهور آمين.

 

ولا
تدخلنا في تجربة (لو 11: 4)

هلموا
يا جميع مَنْ تحبون أن تكمِّلوا المشيئة الإلهية، ويا مَنْ تشتاقون بغيرة حارة أن
تسلكوا حياة لا عيب فيها، هلّموا لنقترب من الله الكائن على الكل، ونتوسل إليه
قائلين: ” عرِّفني يا رب طرقك وعلِّمني سبلك” (مز24: 4س)، لأن كل حكمة
وفهم هما منه، معرفة كل صلاح تأتينا من فوق من العرش الفائق العلو، كما من ينبوع،
ولا يستطيع إنسان أن يكمل أي شيء يستحق المدح ما لم يأخذ القدرة على ذلك منه.

 

وهذا
ما يعلِّمنا إياه الرب نفسه قائلاً: ” بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا”
(يو15: 5). فالرب الذي يعطي لكل الناس كل الأشياء التي يمكنهم أن يفتخروا بها عن
حق، هو نفسه يقودنا الآن إلى أمر آخر من تلك الأمور الضرورية لخلاصنا. فهو يوصينا
عندما نقف للصلاة أن نقول ” لا تدخلنا في تجربة”.

بهذه
الكلمات يختم القديس لوقا الصلاة، أما القديس متى فنجده يضيف: ” لكن نجنا من
الشرير” (مت6: 13)، ويوجد تقارب كبير بين كلا النصين: فمِن الواضح أن مَن لا
يدخلون في تجربة، فهم أيضًا ينجون من الشرير… وإذا قال أحدهم: إن عدم الدخول في
التجربة يساوي النجاة منها، فمثل هذا لا يكون قد حاد عن الصواب. ولكننا لنتأمل في
هذا: هل يريد مخلِّص ورب الكل لأحبائه أن يكونوا جبناء؟ أو أن يكونوا متكاسلين
وأذلاء مفضِّلين تجنُّب النضال عن الفوز بإكليل المجد؟

 

والروح
القدس يقول في سفر المزامير: ” تشدَّدوا ولتتشجع قلوبكم يا جميع المتكلين على
الرب” (مز30: 24س). والمخلِّص نفسه يقول في موضع ما: ” طوبى للمضطَهَدين
من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات” (مت5: 10)، فإن كان الرب يُتوِّج ذاك
الذي يُضطَهَد بمثل هذه الكرامات العظيمة، وإن كان الاضطهاد هو بلا شك تجربة، فبأي
معنى يوصيهم الرب أن يتفادوا التجربة؟ إن الذين يدخلون المباريات الرياضية
ويوجَدون مستحقين للتكريم وتصفيق الأيدي، لا يحصلون على ذلك من فراغ أو بدون بذل
مجهود أو هم نائمون على بساط الراحة، بل بعد كدٍّ وعناء شديدَين في تدريبات عنيفة.

 

كذلك
فالرجل المتضلِّع جيدًا في فن التكتيك الحربي، والشجاع المحنَّك في المعارك، لا
يُعرَف في السِّلم، بل عندما يُرى هذا الإنسان مُنازَلاً شديد البأس مقابل عدوه.
فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نرى الرب وكأنه يُعوِّق محبيه عن الدخول في الجهاد
بجعلهم يقولون: ” لا تدخلنا في تجربة”؟

 

نجيب
على هذا بقدر ما يمكننا من فهم، فنقول: إن الرب لم يرد لتابعيه أن يكونوا
مُستضعَفين أو كسالى في أي طريق آخر، بل إنه يستحثهم أن يكونوا شجعانًا في كل
الأمور الجديرة بالمديح قائلاً لهم: ” ادخلوا من الباب الضيق لأنه ما أضيق
الباب وأكرب الطريق الذي يؤدِّي إلى الحياة الأبدية وقليلون هم الذين يجدونه”
(مت7: 13).

 

فينبغي
إذن أن يكون لنا غيرة روحية دائمة وطول أناة، وأن يكون لنا فكر ثابت لا يتزعزع في
الملمَّات مهما كانت، مثلما كان للمغبوط بولس عندما قال: ” من سيفصلني عن
محبة المسيح، أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف”؟ (رو8: 35).
ولكن حتى إذا ما تسلّحنا بهذه النيَّة وبلغنا إلى هذه الدرجات من الشجاعة، إلا أنه
ينبغي علينا أن نُفكِّر باتضاع عن أنفسنا، ونكون ” مساكين بالروح” حسب
قول المخلِّص (مت5: 3)، ولا نتصوَّر دائمًا أننا دائمًا سنتغلَّب على كل التجارب
بالضرورة. لأنه يحدث أحيانًا أن يداهِم عقل الإنسان فزع لا يُحتمل، ينزل به إلى
خوف ساحق، كما يفعل الشيطان المبغِض لكل خير، وإن عنف التجربة قد يَهِّز أحيانًا
عقل أشد الناس شجاعة. مثلما تفعل لطمات الأمواج العنيفة التي لا تطاق، فتُحطِّم
أمتن السفن بناءً وأكبرها حجمًا. وهكذا فإن العدد الكثيف من القذائف التي ترشقها
أيدي العدو من شأنها أن تجعل أشد الجنود بسالة يولي الإدبار، إذ لا ينبغي لأحد أن
يثق في نفسه بزيادة غير مبالٍ بمصادمة التجارب مهما كان شجاعًا ورابط الجأش، بل
بالحري يجب أن نعرف ضعف ذهننا، وليكن لنا مخافة متَّزنة لئلا نكون مثار سخرية أمام
الذين يجرِّبوننا بكوننا غير قادرين على تحمُّل شدَّة القتال.

 

لذلك،
فلنصلِّ أن لا نُجرَّب، لأنه أمر صعب أن نفرَّ من التجربة، كما أنه أمر صعب
بالنسبة لمعظم الناس أن يصمدوا إلى النهاية، ولكن إذا ما دعت الضرورة وأُلقينا
فيها رغمًا عنا، فلابد أن ندخل المعركة باذلين أقصى جهدنا ونصارع من أجل نفوسنا،
غير هيَّابين البتة، بل بالعكس فإننا نتذكَّر ما قاله لنا المسيح مخلِّص الكل: ”
لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا
بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (مت10: 28). وكما
كتب أيضًا ذلك الرسول القديس الذي قال: ” طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة،
لأنه إذا تزكَّى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه” (يع1: 12).

 

هناك،
على أي حال، أنواع عديدة من التجارب: منها اثنتان عامَّتان وشائعتان ومنتشرتان
جدًّا في كل مكان، ومن اللائق بنا أن نخبركم بهما: إذ توجد في العالم هرطقات كثيرة،
ويوجد رُسُل كذبة، ومعلِّمون كذبة، الذين إذ يجمعون البدع التافهة ويثقلون أنفسهم
بها، وإذ يفتخرون بفنون حكمة هذا الدهر، فإنهم يزيِّفون لغة الكرازة المقدسة،
ويُكثرون من أقوال التجديف مغالِطِين أنفسهم، وكما يقول المزمور: ” يرفعون
إلى العلا قرنهم متكلِّمين بالإثم ضد الله” (مز74: 5س). أجل وضدَّ الله
الكلمة خالق الكل، الذي بحسب زعمهم، يحسبونه من بين تلك الأشياء التي خلقها.
ويقولون أنه عبد وليس ابنًا، وانه مخلوق وليس ربًا… وهؤلاء إذ يقاومون المناضلين
من أجل الحق، يضطهدون أولئك الذين اختاروا التمسُّك بالتعليم الصحيح، والذين
يدافعون عن المجد الإلهي، والذين يسعون أن يكلِّلوا كلمة الله الوحيد الجنس
ويقدِّموا له التسبيح بأسمى عبارات التقديس. لذلك عندما تقابلك تجربة من هذا النوع
فلا تطرح عنك درعك، ولا تكن كجندي يفر من المعركة أو كمصارع عديم المهارة والشجاعة،
ولا تشتهي سلامًا في غير أوانه، يكون سببًا في دمار في المستقبل، بل تذكَّر أن
المسيح مخلِّص الكل، قد قال: ” لا تظنوا أنى جئت لألقي سلامًا على الأرض، وما
جئت لألقي سلامًا بل سيفًا” (مت10: 34). وحتى إذا ما كان للمضطهدين سلطان
دنيوي، فلا تخف من الأذى الذي يمكنهم أن يلحقوه بك، ولا حتى من خطر سفك الدم وضياع
الحياة، لكن تذكَّر أيضًا نصيحة الرسول القديس الذي يقول: ” فإذن الذين
يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم لخالق أمين” (1بط4: 19)، وأيضًا: ”
فلا يتألم أحدكم كسارق أو فاعل شر أو متداخل في أمور غيره، ولكن إن كان كمسيحي فلا
يَخجَل، بل يُمجِّد الله من هذا القبيل” (1بط4: 15).لأنه أمر طبيعي أننا إن
كنا نتألم ظلمًا من أجل اسمه، فنُحسب مستحقِّين لكرامات أبدية. فالجهاد لا يكون
بدون مكافأة، والتعب ليس باطلاً، فكما قال القديس بولس: ” لأن الله ليس بظالم
حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه” (عب6: 10). فهذه إذن هي
الصراعات الموضوعة لكل الذين يتقون الله، لإعطاء الدليل على مَن يعرف كيف يحتمل
الضيقات بصبر. فالشهداء المغبوطون قد فازوا بأكاليل البر بعد أن “جاهدوا
الجهاد الحسن وأكملوا سعيهم وحفظوا الإيمان” (2تى4: 7).

 

ثم
أن هناك أنواعًا أخرى من التجارب، بجانب هذه، يمكننا أن نقول إنها عامة على الكل
ولكنها تختلف من واحد لآخر، فكما يقول واحد من الرسل القديسين: ” لا يقل أحد
إذا جُرِّب إنِّي أُجرَّب من قِبَل الله، لأن الله غير مجرَّب بالشرور، وهو لا
يجرِّب أحدًا، ولكن كل واحد يجرَّب إذا انخدع وانجذب من شهوته، ثم الشهوة إذا حبلت
تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتًا” (يع1: 13-15). يوجد إذن، جهاد، وخطر
جسيم، قد وُضع على كل واحد حتى لا يسقط في الخطية، وينحرف عن جادَّة الصواب، ويتوه
في ارتكاب الأعمال الخاطئة. إنَّ قوة الشهوات عنيفة جدًّا، ومثيرة لحروب جمَّة
وأهواء شرسة ولذَّات دنيئة وعديدة ضد ذهن الإنسان؛ فالبعض قد ينغلبون من الشهوة
الجسدية، وينحرفون إلى أحط أنواع الخلاعة، وآخرون قد ينساقون في حب الربح المادي،
إلى أن يصيروا فريسة لحب الاكتناز الخسيس الذي يقودهم أخيرًا إلى أشنع الجرائم.

 

لذلك،
يليق بنا حسنًا، نحن المعرَّضين لمثل هذه الشرور الخطيرة حتى – وإن لم نكن قد
سقطنا فيها بعد – أن نُصلِّي قائلين: ” لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من
الشرير”. لأنه جيِّد للإنسان أن يكون بمنأى من كل شر، أما إن هاجمتك التجربة،
فكن شجاعًا ولا تقبل الهزيمة، وأقمع الجسد، وألجم العقل واطلب المعونة من الله،
فتحوز الأمان بالقوة الممنوحة لك من الأعالي. تشدَّد وتقوَّ ولا تكن ضعيفًا أو سهل
الوقوع في فخاخ العدو، بل كن حذرًا، كن محبًا لله أكثر من حبك لأي لذة أخرى، فهو
حينئذ سوف يعينك ويهبك النصرة، فهو مخلَّص الكل ورب الكل، الذي به ومعه لله الآب
التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور، آمين.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى