علم المسيح

مقتل يوحنا المعمدان



مقتل يوحنا المعمدان

مقتل يوحنا
المعمدان

. قال
الرسول بولس، في قدامى الأنبياء: ” رجموا، نشروا، جربوا، ماتوا قتلاً بالسيف،
طافوا في جلود غنم، وجلود معزى، معتازين ن مكروبين، مذلين. وهم لم يكن العالم
مستحقاً لهم. (إلى العبرانيين 11: 37-38). ولقد خضع، هو أيضاً، لذلك القانون الأعظم
– قانون الشهادة بالدم – آَخرُالأنبياء، ذاك الذي، في مخاضة الأردن، بشر بدنوّ
مجيء المسيح. وبلغ نبأ مصرعه إلى ضفاف بحيرة الجليل، في آواخر آذار سنة 29، قبُيل
المعجزة التي تمّ بها تكثير الخبز للمرّة الأولى. ويرى البشير متى أن ذاك النبأ
كان من الدواعي التي حملت يسوع على النزوح فجأة عن وطنه؛ وكانت غايته من عبور
النهر والانضواء إلى حماية فيلبس الوالي، وحسنِ رعايته، أن يصبح في منجاة من سطوة
أنتيباس، قاتل يوحنا المعمدان

 

.
وكان المعمدان، منذ عشرة أشهر، سجينا في قلعة موحشة، وفي شبه عزلة عن عالم
الأحياء. لقد كانت نائية قلعة ماخيرونتس، وصفيقة جدرانُ معتقلاتها. ومع ذلك فقد
كانت الصلات قائمة بين يوحنا وتلاميذه؛ وعن طريقهم، كانت تتمّ إليه أخبار المآثر
التي بدأت تتجلىّ، من خلالها، قدرة ذاك الذي حلّ الروح عليه!.. واتفق، في غضون صيف
28، أن. وفد على يسوع اثنان من تلاميذ يوحنا، يقولان له، عن لسان يوحنا؛”
أأنت هوالآتي، أم ننتظر آخر؟.. ” الآتي!..”، هي اللفظة التي كان فد أوما
بها يوحنا إلى المصطفى الذي كان مزمعا أن يعُمّد بالروح، وينقَيّ البيدر! (متى 3:
11). كان المعمدان قد شهد، فوق هامة يسوع، الآية التي أعلن الله بها للعالم ابنه
الحبيب. أفلعلّها تزعزعت عقيدة ذاك النبيّ العنيد المتشدّد؟ أمْ لعلّ الشك تسلّط
على عقله في وحشة تلك السجون التي تتضخّم فيها الرِيَب؟.. أم لعلهّ بات يحِنّ
–شأنَ كل يهودي – إلى إعتلان مخلّص إسرائيل في غمرة من الأمجاد السياسية؟ أم لعلّه
توخىّ فقط – في تواضعه – أن يجعل إيمان تلاميذه في خدمة المسيح؟.. من ذلك لا نعلم
شيئا كثيراً. فان حوافز ذاك الإجراء، هى على جانب من الغموض. وأما يسوع فأجاب
الموفدَين، بقوله: ” اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتبصران، العمي يبصرون،
والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشرون،
وطوبى لمن لا يعثر فيّ! ” جواب، لعمري، قّاطع وبليغ معا. فلقد كان أشعياء
النبي، في النص الذي اشار إليه يسوع في جوابه إشارة بينّة، قد توسّم آية مجيء
المسيح، في تلك الخوارق التي كانت تجري على يد الناصريّ.. ثم أما كان ينبغي أن
يقوم دليلاً على ماسوية يسوع [أي أن يسوع هو المسيا المنتظر]، أعظَم من دليل
المعجزات، ذاك التعليمُ الجديدُ الذي بدأ يشيع في الجماهير الشعبية؟.. فلقد كان
ينبغي أن للمسيح، موفد العلي – على ما ورد في أشعياء أيضاً – (61: 1) أن ”
يبشر المساكين ”

 

. إذ
ذاك فاء الرض إلى قلب موفدَيَ المعمدان، فقفلا راجعن إلى معلمهما، يخبرانه بما
وقفا عليه. (لوقا 7: 18-23؛ متى 11: 2 – 6)

 

. في
تلك الأثناء، كان هيرودس أنتيباس لا يزال يواصل الرقابة على يوحنا، وقلبه غرض
يتعاوره من عواطف القلق، والاحترام، والريبة، والمهابة، ما كان قد دإهمه يوم أمر
بالقبض عليه. لقد كان أنتيباس ضعيف النفس متردّداً، متناَزعاً ما بين تسويلات
دهائه، ونزوات أهوائه وأوهامه الخرافية. ولربّما آثر ذاك الرجلُ – الذي وصفه
إفلافيوس يوسيفس بكونه ” شديد الحرص على راحته ” – أن يقف من المعمدان
موقف التحفظ والترقب. ولكنّ الذي عجلّ في مصرعه، إنما هو حقد هيروديّا: وكان
المعمدان قد شهرّها بالفجور، فوطّنت النفس على خنق ذاك الصوت الذي بات يبكتها
بخزيها

 

. من
إلمحتمل أن يكون هيرودس أنتيباس قد قام برحلته إلى بلاد ما بين النهرين، في شتاء
28-29؛ وعند عودته، في آذار، عرّج على قلعة ماخيرونتس، في جبال موآب؛ وكان بصحبته،
على ما جاء في الانجيل، حاشية عظيمة، ” من عظمائه وضباّطه وأعيان الجليل
“، كانت قد واكبته إلى ذاك القصر النائي.. وكانت هيرودياّ هناك، مزهوّة
بتنسّم العرش الملكي، وبقربها ابنتها سالومي، في ميعة صباها. وكان آلُ هيرودس من
هواة البذخ.. فقد كان لهيرودس الكبير، في صرحه، عشر قاعات للأكل مجهزّة بآنية من
ذهب. وكانت عادة الرومانين في تكليل الهامة بأوراق الشجر والزهور، قد شاعت في قصور
أولئك الأمراء الأخلاط. وكان الأكلون يتكئون، كالمألوف، على الأسرّة، وقد تطيبوا
بعطور الورد، وارتدَوا قمصانا بلا أكمام لكي تخفّ سواعدهم لشؤونها؛ وينصرفون للأكل
ساعاتٍ طوإلاً، يلتهمون، أثناءها، أْغذية مودّ كة ثقيلة

 

.
وكانوا يسرفون في الشرب. وقد كان المطربون، في مثل تلك الولائم، يضربون على
الكنّارة، ذات النغم الغليط، أو على القيثارة الرقيقة، أو ينفخون في ضروب من
المزاميَر والأقصاب المرهفة. وكانت الراقصات يرفّهن المدعوّين، أئناء الفترات
الطويلة التي كانت تتخلّل توزيع الأكل.. من بين تلك الرواقص، برزت، في وليمة
ماخيرونتس، سالومي، ابنة هيروديّا

 

.
تعمد الرَقصات البدوية[نذكر أن الأمراء الهيرودسيين كانوا من أصل أدومي، ومن خالفة
تلك القبائل البدوية التي باتت تترحل، جنوبي اليهودية، منذ ألف سنة] –كما تشُاهَد
حتى اليوم، في سوريا وشرقيّ الأردن – إلى أساليب العنف واللطف معاً، لاستثارة
المتفرّجن. وترتدي الراقصة البدوية برُوداً ثقيلة، شديدة الزرقة، تخالها، من
الصفاقة، نسيجاً من شَعَر. وتتقدّم ببطء – وقد حلت عقائص شعرها، وأسدلت ذراعيها
على جنبيها – شطر النار التي يذكي الرجال وقودها.. وأوّلُ ما تطالع به الحفل،
تميّسُُ رأسها على وقع المعازف والغناء. ” في الليالي، على مضجعي، التمست من
تحبه نفسي!.. التمسته فما وجدته! صادفني الحرّاس الطائفون في المدينة: ارأيتم من
تحبه نفسي!. ” (نشيد الأناشيد 3: 1 –3). ثم إذ تحتدّ سرعة الإيقاع، ترى
الراقصة، وقد انحنت بعنقها إلى الوراء، إلى أشد ما يمكنها الانحناء ثم تدور وتدوّم
في الدوران؛ ويتجوّف وجهُها، ويهوي رأسها وكأنه يجري وراء لمتّها الكثيفة؛ وينفك
ذراعاها عن كشحيها، ويرتفعان إلى السماء في ابتهالات ضارعة. وينتصب وجهها شامخا،
وكانه يتحدّ ى خصما مجهولاً. وتدور حول نفسها ثم تدور، وكأنها دوّامة بين جناحي
غراب، ولا تنفك تترنح، بين كرّ وفرّ، وضفائر شعرها الأسود تراوح الضرب بين صدرها
وحقويها؛ فإذا فترت حركتها مرّة، وبدا لك وجهها، وجدتَ له أنفا رقيقا، وفما دقيقا،
وحدقتين فارغتين قد اضناهما الطرب.. والمغنوّن، أثناء ذلك، يصفقّون بأكفهم، في
إيقاع تزداد سرعته لحظة بعد لحظة: ” إرجعي، إرجعي، أيتها الشولمية! إرجعي،
إرجعى، فننظر إليك.. ماذا تشاهدون في الشولمية.. انتظام صفوف في معسكر! ”
(نشيد الأناشيد 7). ثم لا تعود الراقصة، إزاء النار، سوى مشعل أسود أزرق يتلوّى في
آهات متقطعة.. فإذا خَفتً صوتُ الناي، وهمد عزف القيثارة، كثيراً ما ترى الراقصة
تهوي كالذبال المنطفئ، وكأنما فقدت، فجأة، دعامة خفيةّ!..

 

. إذ
ذاك – كل حدّ مما ورد في الانجيل الثالث – قال الملك للصبيةّ: ” سليني ما شئت
فأعطيك! “. وأقسم أن ” مهما سألتني، أعطيك، ولو نصف مملكتي! “.
فخرجت سالومي، وقالت لأمهّا: ” ماذا أطلب؟ “، فقالت هيرودياّ: ”
رأس يوحنا المعمدان!”. فرجعت الفتاة مسرعةً إلى الملك، وطلبت قائلة: ”
أريد أن تعطيني، على الفور، رأس يوحنا المعمدان في صحفة! “. فاستحوذ على
الملك غمّ شديد. ولكنهّ بسبب الأقسام، والمتكئين معه، لم يشأ أن يرجع عن كلامه،
ويصدّها ”

 

.
“وأنفذ الملك، في الحال، شرطيّا، وأمره بأن يأتي برأس يوحنا. فمضى وقطع رأسه
في السجن؛ وجاء برأسه في صحفة، ودفعه إلى الصبيةّ، ودفعته الصبيةّ إلى
أمّها!”. وفي رواية، عن القديس إيرونيمس، أن هيرودياّ، رغبةً في التمليّ من
نشوة انتصارها، أخذت نصلاً وطعنت به اللسان الذي شهرّها

 

. لا
ندري شيئا عن موقف إلمعمدان من تلك إلمَظلمة الأخيرة. ولا شك أنه كان يتوخ ذاك
القرار الشي كان ينبغي أن يتمّ به مصيره. لقد قال يوما: ” ينبغى لي أن
أنقص!..”. وهوى ذاك البشير المتواضع في صمتَ من أدرك “أن كلمته قد
انتهت. وقد علّق الآباء القدّيسون، مراراً، علىَ تلك الحادثة إلعظيمة، الرائعة
والمروّعة معاً، واهتموا لما انطوت عليه من رموزٍ جليّة: فالخطيئة تطغى على الخير؛
وذاك هو الصراع الأبدي الذي بات الوجود رهانَه. ” إنه ليس أمكرمن النساء
الفاجرات؛ لا يتورّعن عن مصرع أيّ إنسان يتصدّى لمآربهنّ! “: كلمة سوف يقولها
القديس يوحنا الذهبي الفم، وقد ذهب، هو أيضا، ضحيّة الملكة الباغية، إفذوكسيّا، في
مثل الظروف التي أدّ ت إلى مصرع المعمدان. وأمّا القديس أمبروسيُس، فقد صاح يوماً،
في إحدى خطبه: ” صدّيق تصرعه الزواني!.. نبيّ تساوم به راقصة!.. يا لك من ملك
مكّار! ليست ضربة السيف هي التي أطبقت جفنيه، بل فجورك!.. وهذا الفم الذي ما كنت
لتصبر على تقريعاته، ألا حدّق إليه!.. إنه صامت، ولكنه لا يزال يلقي الرعب في
نفسك! ”

 

..
والواقع أن الوالي، بعد إذ تخلّص من ذاك النبيّ المتوعّد، ما ازداد إلاّ ايجاسا
لتهديدات صوت المعمدان، وقد أمست، من بعد موته، صوتَ ضميره!

 

.
ولما سمع تلاميذ يوحنا بمصرع معلّمهم، جاؤوا يلتمسون جثته، فأمر لهم بها. ويروي
تقليد قديم أنهم وارَوها التراب فى إحدى بقاع السامرة. وتوجد اليوم في سبسطية –
وهي مدينة السامرة القديمة – كنيسةٌ محوّلةٌ إلى جامع. قد شيّدت على اسم
المعمدان..

 

.
” ثم إن تلاميذ يوحنا أتوا وأخبروا يسوع.. “؛ بيد أن الانجيل لم يذكر ما
كان رأي المسيح فيَ ذاك النبأ؛ فأمّا هيرودس أنتيباس، فلم يكن يسوع بحاجة إلى أن
يستزيد عنه علماً، فلقد بات يعرفه حق المعرفة! ويتبادر إلى الذهن، منذ الآن، أن
هذا الطاغية، الضعيف العنيف، سوف يكون المسيح يوما – زُهاء ربع ساعة- تحت رحمته،
إباّن المحاكمة!.. وأمّا المصير الذي يترقّب الأنبياء، فلم تكن الواقعة لتزيده،
فيه، خبرة جديدة: وقد كان أعلم من أي إنسان آخر، بالعاقبة التي كان صائراً إليها

 

. لا
ندري ما قاله يسوع، يوم ذاك، في مديح ذاك الذي مهّد له السبيل، وبذل دمه، ذوداً عن
قضية شبيهة بقضيّته. وإنما نعلم أن يسوع قد أشاد علناً بمدحه، بضعة أشهر قبلً
الفاجعة، يوم وافاه تلاميذ يوحنا يستفسرونه عن واقع ماسويته؛ فإذ انطلق الرسولان،
طفق يسوع يقول قي يوحنا، متوخّياً إزالة اللبس، وتبديدَ القلق: ” ماذا خرجتم
تنظرون في البرّية؟.. أقصبة تهزها الريح؟ بل ماذا خرجتم تنظرون. أإنسانا عليه
الثياب الناعمة؟.. إن الذين عليهم الثياب الناعمة، ويعيشون في الترف، هم في قصور
الملوك. فماذا خرجتم تنظرون. أنبياً؟.. أجل، بل أقول لكم: وأفضلَ من نبيّ! إنه هو
المكتوب عنه: ” هاءنذا أرسل ملاكي أمام وجهك، يهئ لك الطريقَ قدّامك! “.
أقول لكم: إنه ليس في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان!.. ” (لوقا 7: 4
2-28). أي ثناء أحق بأن يقال في يوحنا، يوم توارى من ساحة التاريخ؟..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى