علم المسيح

أسرة المسيح الحقيقية



أسرة المسيح الحقيقية

أسرة المسيح
الحقيقية

.
إننا نتتبع آثارهم، خلال مراحل الإنجيل، أولئك الأوفياء المُولعَين الذين باتوا
يفرّجون عن قلب المسيح ما كان يؤلمه من خصومة الفريسيين وازورار مواطنيه. إنهم
طلائع المؤمنين، وفي صفوفهم نشأت باكورة المسيحين. وقد جاء الانجيل، مراراً، على ذكر
تلك ” الجموع “.. أجل، إنه من المتعذر أن نحدد عددها؟ بيد أن هناك
إشارات – كالتي وردت في حادثة تكثير الخبز – تومىء إلى أرقام في حدود البضعة آلاف:
وتك، لعمري، أرقام ذات بال، إذا قيست برقعة البلاد. وكانوا يفدون من جميع النواحي؟
من مدن الجليل، أوّلاً: كفرناحوم، مجدلا، بيت صيدا، خورزيم؛ وحتى من الحواضر التي
غلبت فيها العناصر الأجنبية، من يونان ورومان (تاريشة، طبريةّ). وكانوا يأتون
أيضاً من مناطق بعيدة. فالإنجيل، في سياق أخباره، يذكر يهودأ من اليهودية،
وقيصرية، وتراخونيتيدس؛ وأدوميين قد خفوّا إلى يسوع من مفازاتهم؛ وفينيقين من صور
وصيدا؛ وأقواماً من شرقيّ الأردن وسورية: ” فذاع الخبر عنه أكثر، فاجتمع جموع
كثيرة لكي يسمعوا ويشفوا به من أمراضهم” (لوقا 5: 15)؛ ” وذاع خبره في
سورية كلّها.. ” (متى 4: 24)

 

. ممن
كانت تتألّف تلك الجموع.. من عناصر، ولا شك، وضيعة جداً؛ يثبت ذلك ما أورده البشير
يوحنا، صراحة، على لسان الفريسيين، في المباحثة التي سبقت عَقدْ المؤامرة على
يسوع: ” ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفرّيسيين آمن به؟..ولكن هذا الشعب
الذي لا يفهم الناموس هو ملعون! ” (يوحنا 7: 48-9 4).. من الثابت إذن، أن ”
الوجهاء ” كانوا قلةّ بين أتباع المسيح، وقد باتوا أقلّ الناس مبالاةً
بالمجازفة بكل شيء في سبيل اتبّاعه. فكان معظم التلاميذ من عامةّ الشعب، من تلك
” الحثالة ” (العم هآريتس)، التي كان يدُميها زهوّ الأعيان وتجبرّهم.
ولسوف يقول المسيح، يوماً، ” لأدعياء البرّ “: ” إن العشاّرين
والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله! ” (متى 11: 21)؛ ولسوف يبدو منطقياً أن
يُصلب مع ذاك المسيح – الذي راح يخالط مثل تلك البطانة الزرّية – اثنان من رُذالة
الأشقياء!.. إن الطيور على أشكالها تقع!!.

 

.
هناك فقرات، من الإنجبل، تمهدّ لنا سبيل الولوج، أحياناً، في نفسية أولئك
المؤمنين. من ذلك، حادثة قائد المئة، وحادثة المرأة الخاطئة. أما الأولى فقد جرت
في كفرناحوم، بعُيد خطبة الجبل. فقد كان يسوع منحدراً إلى المدينة، إذ أقبل إليه
وفد من اليهود، مبعوثين من قبل ” قائد المئة “، آمر المنطقة العسكرية؛
وسواء أكان ضابطأ في إحدى الفرق الرومانية الاحتياطية، أم مرتزقاً في خدمة
أنتيباس، فقد كان، على كل حال، مقتنعاً كل الاقتناع من المبادىء المقدّسة المرعيةّ
في نظم الجيش الروماني. جنديّ، ولا شك، من قدامى الجيش، خرج من صفهّ، ووُليّ قيادة
فرقة صغيرة؛ ولكنهّ بات، في تلك القرية الإقليميةّ، ممنّ يشُار إليهم بالبنان.
وكانت له، مع أهل المنطقة، علاقات وديةّ، يشهد لها قول الشيوخ ليسوع، إذ جاؤوا
يكلّمونه في شأنه: ” إنه مستحق أن تصنع له هذا، لأنه يحبّ أمتنا، وقد بنى لنا
المجمع “. وربما كان واحداً من ” متقي الله “، الذين كانوا يدينون
بالمعتقدات التوحيدية، ويتبّعون الشريعة، من غير أن ينتسبوا انتسابا كليّاً إلى
الجماعة اليهودية، ومن غير أن يختتنوا

 

. كان
لقائد المئة هذا غلام مريض: أو ليس بإمكان يسوع أن يأتي ويشفيه؟.. فأجابهم إلى
ملتمسهم. وإنه في طريقه إلى منزل الجندي، إذ التقاه وفد آخر: لقد ساور الضابط قلق
جسيم!.. فهل بالإمكان أن يرضى لنفسه ن وهو الكائن العدم، والوثني الخاطئ، أن يكلف
النبي مؤونة الذهاب إلى منزله؟.. وقال له بلسان الوفد: ” يا سيدي، لا تتعب
نفسك، لأني لا أستحق أن تدخل تحت سقفي؛ من أجل ذلك لم أجرؤ أن أجئ إليك! ولكن قل
كلمة فيبرأ الغلام!.. “؛ إنه لم يقل ليسوع: ” توسل من أجل غلامي! ”
بل: ” مر أن يبرأ الغلام! “. أجل! لقد كان إيمانه عظيماً!.. وكان يعلم
حق العلم قدرة الأوامر.. وتلك الثقة التي باتت تحمله على الإعتقاد بقوة النظام
العسكري ن قد أهابت به أيضاً إلى الاعتقاد بسلطان المسيح؛ قال: ” إني أنا
إنسان مرتب تحت سلطان؛ ولي جند تحت يدي؛ فأقول لهذا: أمض، فيمضي؛ ولآخر: أئت،
فيأتي؛ ولغلامي: أفعل هذا، فيفعل! “. وكان معنى كلامه: ” وأنت، يا سيدي،
اصنع كذلك! “. فأجاب يسوع، وقد أعجب بتلك الثقة التامة: ” غني لم أجد،
حتى في إسرائيل، مثل هذا الإيمان ” (لوقا 7: 1 – 10؛ متى 8: 5 – 13)

 

.
وثني إذن، واحد من أولئك ” الكفار ” الذين باتوا، في نظر الفريسيين
” أقبح من البهائم، وغير أهل للشفقة! “. وقد رحب به به المسيح. والواقع
أنه ليس من طريق أبلغ إلى الله، من طريق الإيمان والتواضع.. وهذه مخلوقة أخرى، قد
حفلت نفسها بهاتين الفضيلتين – وهما ابداً في طليعة الفضائل المسيحية.. إنسانة
زرية، لم يكن علماء الناموس لينظروا إليها إلا بعين الاحتقار!.. لقد طلب إلى يسوع
فريسي، اسمه سمعان، أن يأكل عنده؛ وربما دعاه عن فضول، أو رغبة في مراقبته عن كثب.
وأولمت الوليمة بمقتضى الأصول، ولكن في جو بارد. ولم يكلف المضيف نفسه كبير عناء..
فهو لم يغسل رجليه – جرياً على العوائد المرعية – ولم يدهن رأسه بطيب، بل لم يتكرم
عليه بقبلة السلام. وبينما كان يسوع يتناول الطعام، وهو متكئ على مرفقه الأيسر،
فوق فراش وطئ، ورجلاه العاريتان شطر الحائط، وغذا بامرأة قد دخلت الغرفة.. لم تكن
العوائد في الشرق لتحرم على النساء دخول المنازل. بيد أن حكماء إسرائيل كانوا –
كما رأينا – قد حظروا اختلاط النساء بالرجال. وكان مثول أشباه تلك المرأة خصوصاً،
نكراً مستهجناً.. فقد كانت إمرأة بغياً، مشهورة الأطوار.. ودنت من يسوع، وفي يدها
قارورة طيب، وجثت عند قدميه. ما بغيتها، يا ترى؟.. وأي أسى اجتاح نفسها؟.. ونفر
الدمع من مقلتيها، وانهمل من وجهها، وامتزج بالطيب الذي أفاضته على المخلص؛ ثم
إنها، في غمرة إلتياعها، حلت ضفائر شعرها، وطفقت تمسح بها قدمي المسيح وتقبلهما
بلهف. وكان المدعوون، أثناء ذلك، ينظرون بعضهم إلى بعض ن وملء احداقهم الهزء
والاحتقار ز إذ ذاك تكلم ذاك العارف ما في القلوب، وخاطب مضيفه قائلاً: ” يا
سمعان، عندي شئ أقوله لك! ” فقال: ” قل يا معلم! “؛ قال: ”
كان لمداين غريمان: على أحدهما خمس مئة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما
ما يوفيان به، سامحما كليهما!..فأيهما يكون أوفر حباّ له؟ “؛ فأجاب سمعان:
” هو، في ما أرى، الذي سامحه بالأكثر! ” فقال له: ” بالصواب
حكمت!.. أترى هذه المرأة؟ “؛ واسترسل يسوع في إلقاء درسه العميق. فسمعان رجل
صالح، صدّيق، ولم يكن بحاجة، من ثمّ، إلى أن يصفح عنه المسيح صفحاً كثيرأ!.. ولكن
هل في ذلك ما يبرّر قلّة حبّه؟.. وأمّا هي – تلك المسكينة- فبمجامع قلبها المغموس
في المعاصي، العامر بالتوبة والحنان، قد أقبلت تتوسّل إليه!.. فالذي يجد إلى قلب
الله سبيلاً، أكثر من ذاك اليقين المتصلّب الذيُ يخلد إليه أهل البرّ والاستقامة،
إنما هو الشعور بذاك الضعف الصميم الذي لا يصادف، إلاّ في الحب، تعزية وسلواناً..
ثم قال المسيح للمرأة: ” إيمانك خلّصك، إذهبي في سلام! ”

 

. تلك
هي الحادثة التي باتت من الصفاء والروعة، بحيث نودّ أن نستعيد، في التعليق عليها،
قول القديس غوريغوريس الكبير: ” كلما تأملتها، شعرت بحاجة إلى الصمت والبكاء!
“. إن تلك المرأة المسكينة التي وجدت، في معرفة ذلّها، طريقاً الى الخلاص،
إنما هي صورة كل نفس لا يضلّلها صَلَفُ ” الأنقياء “.. ليس في الإنجيل
كلّه صفحة أدعى الى التأثر! وقد تفرّد لوقا بروايتها، (7: 36- 50)، فما كان يوما
أحق باللقب الشي وصفه به دانتي، حيث قال: ” لوقا مؤرّخ حِلم المسيح! ”

 

. لقد
كانت كثيرةً أشباه تلك النفوس اللاّهبة، التي أجرى كلامُ المسيح فيها إنقلاباً
كاملاً!.. وكانت في جملة تلك الجماهير التي راحت تتأثر خطى المسيح في الدروب وفوق
الهضاب وعند شواطىء البحيرة. أجل، لم يكونوا كلهم من التابعن الأوفياء؛ وتلك سنُةّ
الناس في تألبّاتهم الضخمة أن يقوم، الى جانب أصحاب اليقين، رهط الفضوليين
والنفعيين والبطّالين، ممنّ لا يعادل هزُالَ فطنتهم ورويتّهم، إلاّ قلةُ اكتراثهم.
ولم يكن يسوع ليخفى عليه أمرهم ووزنهم. فهو ما كان يوماً – ولا بوجه من الوجوه –
من صنف أولئك الزعماء الشعبيين الذي يجدّون في التماس الجمهور والاتصال به، لأنهم
بحاجة إلى تلك النشوة الفريدة التي يصيبون فيها تحقيق شخصيتّهم. كلاّ! بل نراه
مَراراً ينسلّ من بين الجموع المحدقة به. وقد تكرّر! الإنجيل مثل هذه العبارة
السريعة: ” أما هو فكان ينتحي عزُلة ليصلي! ”

 

. لم
يكن يسوع، إذن، ممنّ يأنسون إلى الأوهام. فالمعجزات التي بات يصنعها، كم هم الذين
يفقهون غرضها الصحيخ، ويؤانسون فيها مصداق رسالته؟.. بل ما أكثر أولئك الذين لا
يلتمسون فيها سوى لون من ألوان الدعاوة، وإرضاء الفضول! فالناس يَهووْن دائما
” آيات من السماء “؛ فإذا أصابوها، قلّ اكتراثهم، وإذا حرموها فشلوا
وسخطوا! ولذا فقد أبي المسيح كل معجزة كانت تلُتمس لأغرَاض ملتوية (مرقس 7: 12)؛
وليس ذلك دأبَ المشعوِذين!.

 

. من
الثابت إذن أن أولئك التابعين الأولين باتوا، للكنيسة العتيدة، صورة وبذارأ. ومن
ثم فلا بدّ من الإقرار بأنهم كانوا يملكون من الملامح الخلقية، ما اتّصف به
المسيحيون، عبر الأجيال. فإلى جانب الذين كانوا يعيشون من وحي إيمانهم، ويجعلون كل
لحظة من حياتهم شهادةً ليقينهم، كنت ترى أفواج الذين استسلموا للسُبات والامبالاة
والخيانة المبطنة. وإننا لنُفكّر في هؤلاء المسيحيين الذين نراهم، اليوم، يشهدون
الصلاة، وهم عنها ذاهلون، ومن غير أن ترجع إلى ذهنهم، لحظة واحدة، فكرة ”
الذبيحة الرهيبة ” التي جاؤوا، مبدئياً، يستعيدون ذكراها. ونفكّر أيضاً في
أولئك الذ’ن اتخذوا من الإنجيل مطيّةً لتبرير ما لزموه من عادات الترف والأنانية،
وتسويغ ” النظم المقرّرة “، والتحامي من البحث فيها على ضوء العدالة
والإنصاف.. أوَ لم يشبّه يسوع بعضاً من مسعتمعيه، بأولئك الذين جاء عنهم، في إحدى
أغاني الصبيان: ” زمّرنا لكم، فلم ترقصوا؛ نحنا لكم فلم تبكوا!..” (لوقا
7: 31؛ متى 11: 16)؟.. ليس إذن من ريب في أن عدداً كبيرأ من تلك الجماهير ”
كان لهم آذان لكي لا يسمعوا، وعيون لكي لا يبصروا “. ولا غرو ففي ملكوت الله
” كثيرون هم المدعوّون، وأمّا المختارون فقليلون! ”

 

.
وإننا نوجس لونا من الأسى، في الخطاب الذي وجّهه يسوع، قبُيَلْ أن يغادر الجليل،
إلى المدن التي طالما بذل من نفسه في سبيلها: ” ويل لك، يا كورزين (خورزيم)!
ويل لك، يا بيت صيدا! لأنه لو صنع فيَ صور وصيداء ماصنع فيكما من العجَائب،
لتابتا، من قديم، في المسوح والرماد!.. ولذلك فإني أقول لكم: إن صور وصيداء
ستكونان أهون مصيراً منكما في يوم الدينونة.. وأنت يا كفرناحوم!.. أو ترتفعين حتى
السماء؟ إنه سيهُبطَ بك إلى الجحيم! لأنه لو صنع في سدوم ما صُنع فيك من العجائب،
لثبتت إلي اليوم! ” (متى 1 1: 21- 24). ولقد أثبتت الأيام تلك النبوءة الاقتصاصية:
فمن كفرناحوم وبيت صيدا، لم يبق سوى رسوم؛ ومن خورزيم إلاّ شبه آثار.. وقد توسّمت
فيها الأسطورة موطن ” المسيح الدجّال “.. أجل إنها لصعبة سياسة الناس،
وخياّبة!.. ولقد خبر الله تلك الخيبة، عبر الأزمان؛ وعاناها المسيح معاناة طافحة،
يوم وُجد وحيداً في عذابه، مرذولاً فوق صليبه..

 

. ولا
بدّ من الاشارة إلى أن بعضاً من خيرة أتباعه، ومن أرسخهم ولاء، قد انقادوا أحياناً
لمحاولات مشبوهة، اضطرّ المسيح إلى صدها. فأيّ بأس في أن يذهبوا بمعلّمهم وزًعيمهم
شطر العرش؟ ولم لا يحققون، معه، ذاكً الحلم اليهوديَ القديم، حُلم مسيحٍ مظفرّ
يحرّر الأرض، ثم يدُْخَلُ به أورشليم، دخول الفاتحين، وُيمسح فيها ملكا؟.. وإننا
لنوجس، حالاً بعد ” معجزة تكثير الخبز ” الأولى، شبة محاولة قومية، كان
لا بدّ أن تفضي إلى شبه مؤامرة يشترك فيها الرسُلُ من قريب أو من بعيد، ويكون
الغرض منها بعث حركة سياسية تنتهي بتتويج يسوع.. أمّا كيف قضى المسيح على تلك
المحاولة، واضطرّ تلاميذه إلى ركوب السفينة، وكيف لبث بالمكان وحده ريثما يصرف
الجمع، كل ذلك قد رواه البشير مرقس بلا مواربة. (6: 45). ولن تكون تلك هي المرة
الوحيدة يبرز فيها ذاك الخطر الكامن!.

 

. بل
سوف يبقى ذلك، مدى الأجيال، مضَلّة من مضلاّت الكنائس أن تلُبّس ملكوتَ الأرض
بملكوت السماء، والعظمة الحقّة المبنيةّ على التواضعَ والصمت، بالسيطرة وبهارجها
الزائفة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى