علم

الفصل الخامِس



الفصل الخامِس

الفصل
الخامِس

العلاَّمة
أوريجانوس
*
(185 – 254م)

 

العلاَّمة
أوريجانوس

استخدِم
العلاَّمة أوريجانوس لفظِة ” ثيولوچيا “ بشكل واسِع
جداً وبمعانٍ عديدة، إلاَّ أنه أبقى على المعنى القديم (أي الثيولوچيا = ثيوچونيا)
في معرض حديثه عن اللاهوتيين بين الإغريق (1)، أو لاهوتي الإغريق القُدامى (2).

وقد ذُكِر من بينهم سقراط وأفلاطون وفيثاغورث وفريسيدس (3) مُعتبِراً
أنَّ أفلاطون أعظمهم (4).

وبالنسبة للثيولوچيا الإغريقية نجد أنَّ أوريجانوس يذكُر ثيولوچيا
الفُرس المُتمركِزة حول ميثراس (5)، وكذا ثيولوچيا المصريين التي تُشير إلى
الأُلوهية (6) مُستخدِمة الكثير من الأساطير والصور الحيوانية والتشبيهات.

ويُشدِّد على الصور الحيوانية عند قُدامى المصريين في دِفاعه ضد كلسس
في كِتابه ” الكلِمة الحقيقي “، لأنَّ كلسس كان ينظُر إلى الحيوانات على أنها أكثر
أُلوهية ومُقدسة عن الإنسان!! (7).

ومع أنَّ العلاَّمة أوريجانوس وافق مِثلما فَعَلْ إكليمنضُس على أنَّ
اللاهوتيات (8) الإغريقية والفارِسية والمصرية ضمَّت أموراً حَسَنَة مستوحاة أو
مُستقاة من الله
*، إلاَّ أنه
انتقدها، وقام بعمل أوِّل محاولة لايجاد منهج للاَّهوت المسيحي.

وكان
الأمر الذي ركِّز عليه أوريجانوس هو أنَّ تلك اللاهوتيات كلها لم تُثبِت أنها
مُساوية للحق المُستعلن عن الله (9) بل انخدعت كلها وبدِّلِت هذا الحق إلى أُكذوبة
(10)، وحتى أفلاطون الذي كان مُتحدِثاً مُقتدِراً في الفضيلة والخير بطريقة حقيقية
وصحيحة لم يقُد قُرَّائه لتوقير الله (11)، وفي رد أوريجانوس على كلسس أوضح
الفارِق بين كلِمات السيِّد المسيح والفلسفات اليونانية، فالأولى تحمِل سُلطاناً
إلهياً وتُغيِّر الحياة والقلوب، الأمر الذي ينقُص الثَّانية (12).

وبالاستشهاد
ببعض الآيات الوارِدة في رسائِل لِسان العِطر بولس الرسول يُوضِح العلاَّمة
أوريجانوس (13) أنَّ اللاهوت الصحيح يصِلنا عن طريق الله وحده، وأنَّ أعظم
وأسمى وسيلة لهذا هي الكِتاب المُقدس، فقد اختار الله هؤلاء الذينَ تُعوِزهُم
نِعمِة الحِكمة والمنشأ النبيل والقُوَّة ليُبطِل بهم من يعتقِدون في أنفُسهم أنهم
عُظماء في الحكمة واللاهوت (14)، البُسطاء وجُهلاء هذا العالم خصَّصهم ليُخزي بهم
الحُكماء والفُهماء.

ويُميِّز
العلاَّمة أوريجانوس أنواع ثلاثة للحكمة أو المعرفة:

·              
الأخلاقية.

·              
والفيزيائية (الطبيعية).

·              
والثيولوچية (اللاهوتية).

وثلاثتهم
معاً نوع من المعرِفة الروحانية السامية، والتي تضُم معاً الفِكْر المنطقي عن الله
والكائِنات اللا جِسدانية والدنيوية وتدبير الكون، وهي – بحسب قوله – معرِفة
الجسدانيات واللا جِسدانيات وتتضمن التدبير الإلهي المُتعلِق بها (15).

ويبدو
أنَّ العلاَّمة أوريجانوس قد استقى هذا التصنيف من سابِقه القديس إكليمنضُس الأسكندراني
الذي تحدَّث في كِتاب (المُتفرِقات
Stromateis) عن: 0

·              
الأخلاقيات.

·              
والفيزيائيات.

·              
واللاهوتيات.

ويرى
البعض أنَّ هذا التقسيم مأخوذ أساساً من أفلاطون، لكن الذي يعنينا في هذا الأمر هو
تمسُّك أوريجانوس بروحانية هذه المعرِفة، ففي مواضِع مُتنوعة يُضيف خصائِص أخرى،
فهي معرِفة: 0

إلهية

Θεία (16)

لاهوتية

Ένθεοσ (17)

ومُقدسة

Άγία (18)

ورُؤيوية

Θεωρητική (19)

وحقيقية

Άληθήσ (20)

وليست
كاذِبة أبداً

Άψενδήσ (21)

وكما
تكلَّم أوريجانوس عن المعرِفة التي تنتهي باللاهوت الصحيح، تكلَّم عن معرِفة
زائِفة (
ψευδήσ
γνώσισ
) (22)، أو معرِفة بحسب الجسد (جِسدانية) (Κατά
σάρκα γνώσισ
) (23).

لذلك
لابد أن نُحدِّد طبيعِة ومعنى الصِفات ” روحاني “ و”
حقيقي “، ” غير كاذِب “ إلخ… التي تُميِّز المعرِفة التي حدَّثنا عنها العلاَّمة
أوريجانوس، هل هي المعرِفة الموضوعية العِلمية العقلانية لفلاسِفة الإغريق
وتقليدهم المِثالي؟ أم هي شئ مُختلِف عن ذلك؟

ويُخبِرنا أوريجانوس أنَّ معرِفة الله هي حِضنه، الذي يضع فيه كل
المُنشغلين به كما لو كانوا جواهِره وذهبه الذي يحفظه في حِضنه (24)، وهذا نوع من
الإدراك والفهم الشخصي السِّرِّي الوجودي للمعرِفة التي تُؤلِه.

وهي
أيضاً معرِفة دياليكتيكية ديالوچية، بمعنى أنها تتجه من الله نحو الإنسان، ومن
الإنسان نحو الله.

وهي
في الحالة الأولى تُعرف بأنها حِضن الله أي قِنية الله، ولكن الصِفة التي يُوصف
بها البشر هي أنهم ” مُنشغِلون بالله “ (
Θεόфρονασ)، فهُم يسعون نحوه مُتجهين إليه، وهذا المعنى نجِده في مفهوم
التصوف عند الرسول بولس:

” وأمَّا الآن إذ عرفتُم الله بل بالحري عُرِفتُم من الله “ (غل 4: 9)

وتتطابق
مقولِة أوريجانوس مع مفهوم مُعلِّمنا بولس الرسول، فمعرِفِة الإنسان لله هي نتيجة
لمعرِفِة الله للإنسان، ومعرِفِة الله للإنسان أساسية وركيزة أولية لكنها لا تقِف
وحدها بعيداً عن الموضوعية
Subjectivity، لأنَّ معرِفِة الله الموضوعية عن الإنسان تجِد نظيرها في معرِفِة
الإنسان الموضوعية عن الله، لذلك معرِفِة أوريجانوس الحقيقية الروحانية هي معرِفة
إلهية إنسانية (ثيانثروبيك)، تتضمن السينرچي والاتحاد الموضوعي والتألُف بين الله
والإنسان، ذلك الارتباط المعرفي الحياتي الوجودي (الأنطولوچي).

ومن
الخطأ الاعتقاد بأنَّ هناك موضوعية إلهية فقط في هذه المعرِفة الروحانية، وكذلك
الظن بأنَّ العنصر البشري مُجرد شئ لعمل الله!!

فبالرغم
من أنَّ العلاَّمة أوريجانوس يقول أنه ليس من عملنا أو جِهادنا نحن أن نصير
مُستحقين للمعرِفة الروحانية الإلهية (25)، إلاَّ أنه في هذا لم يلغِ الموضوعية
البشرية، فالمقصود بالموضوعية البشرية اشتراك الإنسان بشخصه وكيانه وحواسه في
العلاقة مع الله.

وفي
حسم ووضوح رفض العلاَّمة أوريجانوس تلكَ الموضوعية البشرية الساقِطة التي تنظُر
إلى الله كما لو كان مادَّة للتعريف والتقييم، دونَ أي حوار قائِم أو دونَ أيَّة
إرادة!!

فالله
ليس شيئاً يُثير الفُضول والتساؤلات، بل هو كيان حر يُعطي للكائِن المخلوق أن
يعرِفه، ذلك الكائِن الذي يُحبه بنفس القدر لتكامُله الموضوعي الذاتي والمُتوقع
فيه أن ينشغِل ويتحِد مع الله بمِلء حريته وإرادته، ذلك العمل الإنساني الحُر
السينرچي الذي فيه تتقابل النعمة مع إرادِة الإنسان الشخصية في تجاوُب وانسجام، هو
في الحقيقة جوهر الإيمان الذي يُعتبر دُعامة أساسية في فِكْر أوريجانوس والتي
عبَّر عنها بقوله:

” إنَّ الذي يجمع الناس معاً من الشرق والغرب والشمال والجنوب إلى
معرِفِة الله هو الإيمان “ (26).

ويُقدِّم
أوريجانوس هذا الإيمان بصورة أعمق عندما يربطه بشخص السيِّد المسيح له المجد:

إنه
الإيمان في المسيح الذي يُعطي الحياة من السماء، النابِع من مصدر الحياة (27).

رأى
أوريجانوس أنَّ غايِة الإيمان الوحيدة هي الدخول إلى معرِفِة الآب خلال الاتحاد
بالابن الذي وحده يعرِف الآب.

ويرى
أنَّ كل حكمة هي من الله (28)، سواء كانت معرِفة خاصة بالفلسفة أو الرياضيات أو
الطِب أو الموسيقى (29)، بل وأشار إلى الأخطاء المُتعلِقة بالفلسفات في مقولته:

” لا محبة الحروف الدنيوية ولا سفسطِة الفلاسِفة ولا خُزعبلات
المُنجمين ولا كبرياء الشياطين الكاذِبين ولا أي عِلْم آخر خاص بالمستقبل يستخدِم
خِداعات شريرة وسراب يقدِر أن يفصِلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا “
(30).

ونجِده
يُحذِّرنا من الثِقة في الفلسفات التي تعجز عن اصلاح حياة من يتبعها، قائِلاً: ” لا تقتات بطعام الفلسفة الكاذِب، فإنه قد يبعِدك عن الحق “
(31).

ورَبَطْ
العلاَّمة أوريجانوس بين اللاهوت والحياة، فميَّز بين الحياة العامة التي يشترِك
فيها الإنسان مع الحيوانات، والحياة الحقيقية التي لنا في المسيح يسوع ربنا، تلكَ
الحياة المُرتبطة باللوغوس من خلال الشَرِكَة معه، إنها الحياة الحقيقية المُشتهاة
(32)، والذينَ هم خارِج الإيمان بالمسيح ليسوا أحياء، فهم أموات لا يعيشون لله، بل
حياتهم هي حياة الخطية، والذينَ لهم شَرِكَة مع المسيح يعيشون الحياة التي هي بحق
حياة حقيقية (33).

وكما
ركِّز القديس إكليمنضُس السكندري في تعليمه على محورية الإيمان واللاهوت حول شخص
المسيح، كذلك اتسم التعليم الأوريجاني بهذه السِمة، فنجدها واضِحة في النص التالي
من دِفاعيات أوريجانوس ” ضد كلسس “:

” لقد أخبرنا المسيح عن ذاك الذي أرسله بقوله: ” لا أحد
يعرِف الآب إلاَّ الابن “
و ” الله لم يرهُ أحد قط الابن الوحيد
الذي في حِضن الآب هو خبَّر “
، فأعطى الرب اللاهوت الحقيقي لتلاميذه، ذلك
اللاهوت الواضِحة آثاره في أعمالِهِم وكِتاباتِهِم، وهكذا تعلَّمنا نحن أيضاً كيف
نتأمَّل في الإلهيات “ (34).

ولا
يعني تمركُز اللاهوت عند أوريجانوس حول شخص المسيح أنه يُؤدي إلى وِحدانية المسيح
Christ – monism، لكنه يُؤكِد على أنَّ هذه المعرِفة عن الله هي عمل الثَّالوث
القدوس
كله المُستعلن في مِلء الزمان في شخص يسوع المسيح وفي التاريخ من خلال
الروح القدس العامِل في الكنيسة، والابن يستعلِن الآب والآب يستعلِن الابن (35).

ويُؤكِد
العلاَّمة أوريجانوس مُوضِحاً أنه لا يقدِر أحد أن يكون في الآب ومع الآب ما لم
يصعد أولاً خلال لاهوت الابن، الذي يقودنا بيده الطُوباوية إلى الآب نفسه (36)،
ومادام الآب غير مُنفصِل عن الابن فإنَّ الآب يأتي إلى الذينَ يتقبلون الابن (37).

أفاض
العلاَّمة أوريجانوس في الحديث عن اللاهوت وإنارِة البصيرة الداخلية لإدراك الحق،
فَوَرَدْ في تعليمه الآتي:

” لاهوت الكلِمة فيه قُوَّة لا لِتُعين المرضى وتشفيهم فحسب… وإنما
لتُظهِر أيضاً إعلان السِّر للأنقياء في الجسد والذهن (رو 16: 25)… وهذا الإعلان
يُضِئ لكل إنسان كامِل ويُنير ذِهنه لمعرفة الحق المُطلق!! “
.

” أتى الكلِمة الإلهي كطبيب للخُطاة، وكمُعلِّم للأسرار الإلهية
للذينَ هم أنقياء بلا خطية “ (38).

” يسوع المسيح هو الذي يُبدِّد الشُّرور التي في داخِلنا، ويُحطِم
مملكِة الخطية الكثيرة الشر “ (39).

وتحدَّث أوريجانوس عن ضرورة اقتران الأعمال الصَّالِحة والجِهاد
الروحي بالإيمان، ذاكِراً أنَّ نعمة الله لا تُوهب للذينَ تنقُصهم الغيرة في عمل
الصَّلاح، كما لا تقدِر الطبيعة البشرية أن تنعم بالفضيلة دون عون من فوق (40)،
وأنَّ نِعَم الله تُوهب للذينَ بالإيمان والفضيلة يتهيأون لقبولِها (41).

وحدَّد أوريجانوس طبيعِة علاقِتنا بالله عندما قال: ” يكون المسيح
حاضِراً في كل إنسان قدر ما يستحِق “، مُؤكِداً على عطية الله وحتمية الجِهاد إذ
يقول ” مع أنَّ الله واحِد في جوهره إلاَّ أنه يأخذ أشكالاً كثيرة في حياة الناس
الذينَ يعمل فيهم حسب احتياجِهِم “ (42).

ومرة
أخرى يتحدَّث عن التجلِّي فيقول: ” يظهر الكلِمة بأشكال
مُتنوعة حسب قُدرِة الإنسان فيظهر للبعض بلا شكل أو جمال ولآخرين باهِر الجمال “
(43).

وفي منظور العلاَّمة أوريجانوس معرفة الله الكامِلة (الثيولوچيا
الكامِلة) ليست معروفة لنا نحن البشر بل لله وحده فقط الإله الكامِل، فمعرِفتنا
بالله إنما هي معرِفة بسيطة، كحد قول أوريجانوس، لأننا ننظُر كما في مرآة، في حين
أنَّ الله لا يحتاج إلى وَسَطْ للادراك، فهو بالحقيقة الادراك وما يُدرك (44)،
وهذا يعني أنَّ الثيولوچيا التي يجب علينا أن نعرِفها إنما هي نتيجة لعمل الله فهي
شُعاع وبهاء مجد الله الذي يُشرِق علينا فيُعطينا استنارة وبصيرة بها نصِل إليه
ونعرِفه.

ويرتبِط عمل الله بمحبة وحكمة المسيح ابن الله ارتباطاً لا ينفصِم
عراه، فبهذا العِلم الإلهي نعرِف أنَّ الابن يخرج من الله نفسه.

فمعرِفة الابن ليست معرفة شئ خارجي بل نتيجة لعلاقة شَرِكَة كيانية
صميمية بين الله والإنسان التي في يسوع المسيح استُعلِنت استعلاناً كامِلاً، لذا
يقول العلاَّمة أوريجانوس:

” نوراً هو الرب للذينَ يعرِفونه…. فإن كان نور الرب هو ”
معرِفة الرب ” ونور الرب هو نفس البشر أي نسمة حياتهم
*،
إذن معرِفة الرب هي نسمة حياة البشر “ (45).

ويرى
أنَّ النَّفْس تدخل إلى الكمال بتنقيتها من كل ما هو مادِّي، إذ يدخلها التأمُّل
في الإلهيات إلى الكمال اللائِق، فتتأله بما تتأمل فيه.

ومن
الجلي أنَّ أوريجانوس يسعى هنا ليُؤكِد أنَّ الله لا يُعرف بالقياسات المنطقية بل
بالشَرِكَة والعلاقة الحيَّة الصميمية السينرچية بين الإنسان وأعمال الله فيه،
فليس اللاهوت مجرد نتيجة لجهد العقل بل هو مُرتبِط بحياة الإنسان بكليتها، وهذا
يعني أنَّ الإنسان ليس طرفاً سلبياً يتلقى اللاهوت
** بل هو شريك في
الموهِبة السماوية الموهوبة له مجاناً التي لا تُدرك ولا يُعبَّر عنها..

وفي
تفسيره لإنجيل القديس يوحنا (46)، أعلن أنَّ معنى المعرِفة هو الدخول في عِلاقة
شَرِكَة واتحاد، ويرتكِز هذا الفِكر على قول مُعلِّمنا بولس الرسول:

” الآن نحن نعرِف الله بل بالحري عُرِفنا من الله “

بل
ويتأسس على تلك المفاهيم الآبائية التي تُوضِح أنَّ الله يعرِف خاصته وأنَّ
المعرِفة شَرِكَة. لأنَّ كل من يريد أن يعرِف الله لابد أن يُشارِكه ويعيش معه
وفيه وله.

فاللاهوت
والإيمان ليسا مجرد فكرة نظرية في الأذهان ولا مجرد مُعتقدات وجِدَالات وعقلانيات،
إنما هما قبول عملي لعمل الله فينا وتجاوُبنا معه، فالإيمان الحي إيمان عامِل لذلك
نجِد العلاَّمة أوريجانوس يقول ” من الواضِح أنَّ من
يموت وهو في خطيته لا يُؤمِن بالمسيح حقيقة حتى وإن كان مُؤمِناً به!! ومن لا
يُؤمِن بالمسيح يموت في خطاياه مادام يسلُك بطريقة تُضاد ما يراه في المسيح “

(47).

ميَّز
العلاَّمة أوريجانوس بين المسيحيين الذينَ لهم الإيمان وحده، والذينَ مع الإيمان
دخلوا إلى المعرِفة ونجده يقول:

” إنَّ الكلِمة يُقدم ذاته كلبن للمسيحيين الذينَ هم أطفال وكخضروات
للضُعفاء وكغِذاء قوي للمُصارعين الذينَ انشغلوا في معركِة حُبُّه فمُنِحوا نوعاً
من الحياة الإلهية “ (48).

ويربُط
بين معرِفتنا لله وبين الحب الذي هو سِر اتحادنا مع الله في اللوغوس، مُؤكِداً على
أنَّ المعرِفة تُزيد الحب وتُلهِبه أكثر فأكثر (49)، ليُدرِك الحقائِق اللاهوتية
بالاشراق النوراني في النَّفْس وبالحواس المُتجلِية (50).

تحدَّث
العلاَّمة أوريجانوس باستفاضة عن عنايِة ورعايِة الآب بنا وأنه يهتم بنا يومياً،
عَلَناً وخِفية، حتى وإن كنا لا نُدرِك ذلك (51)، فليس شئ مِمَّا في السماء أو على
الأرض ليس تحت عنايته (52)، فالعناية الإلهية تحتضِن كل شئ حتى أنَّ شُعُور
رُؤوسنا مُحصاة لدى الله (53) (بحسب تعبير العلاَّمة أوريجانوس).

كثيراً
ما يتحدَّث العلاَّمة أوريجانوس عن الابن الوحيد قائِلاً
يسوعي “، ” ربي “، ” مُخلِّصي “.. فرسم لنا هذا التلامُس والعِشرة والعِشق منهجه
عندما تأكَّد أنَّ المُؤمِن يلتقي بالسيِّد المسيح خلال الصمت القلبي والوِحدة
والسكينة الداخلية لسماع صوت الله، عندما يسكُت اللِسان يتكلَّم القلب، وعندما
يسكُت القلب، يتكلَّم الله.

ونجده في حديثه عن سدوم وعمورة يصِف الله بأنه شافِ وأب وسيِّد طيِّب
غير قاسِ (54).

أمَّا
عن العِلاقة الشخصية الحيَّة التي ينبغي أن نعيشها مع الله فيقول: ” لنبحث عنه بتعب كثير، وبتنهُدات الروح، عندئذٍ نستطيع أن
نجد ذاك الذي نشتاق إليه، فإنه ليس باطِلاً كتب ” هُوذا أبوك وأنا كُنا
نطلُبك مُعذبين ” “ (55).

وكشفت
لنا كِتابات أوريجانوس عن اعتزازه باسم يسوع، مُوضِحاً أنَّ المُخلِّص أظهر ذاته
بألقاب كثيرة تُعلِن عن أعماله التي يُقدِّمها لنا، فيقول:

” بالرغم من أنَّ المسيح واحِد في جوهره لكن له ألقاب كثيرة تُشير
إلى سُلطانه وأعماله، يُفهم أنه النِعمة والبِّر والسَّلام والحياة والحق والكلِمة
“ (56)، ” ومن يطلُب يسوع يطلُب كلِمة الله وحِكمته وبِرُّه وحقه وقُوَّته، لأنَّ
المسيح هو كل هذه “ (57)، ” إننا نطلُب فهم الله في المسيح يسوع وحده… لأنه هو
المُعلن عن الله، إنه حِكمة الله وقُوَّته وبِرُّه وتقديسه وخلاصه “. ” مادام
المُخلِّص هو البِّر والحق والقداسة.. فهو أيضاً الاحتمال، لهذا يستحيل أن يصير
أحد باراً أو قديساً بدونه، ولا يقدِر أحد أن يحتمِل الأتعاب بغير المسيح “ (58).

أكَّد
العلاَّمة أوريجانوس على أنَّ المسيح هو النور الذي أضاء بنوره لخلاصنا وهو
بعينه الذي أنار الأنبياء قديماً بالحكمة الإلهية إذ جاء إليهم وهو كائِن مع الله
على الدوام لأنه هو الله (59)، حياة الناس ونورهم الذي لا يكُف عن أن يُضِئ
طبيعتنا التي في ذاتها ظُلمة (60).

برهن
على أنَّ لاهوت المسيح ظاهِر من العجائِب التي صنعها ومن النُّبوات التي أتمها ومن
قُوِّة الروح القدس التي وهبها لنا ولاتزال تعمل في الكنيسة المُقدسة.

وفي
حديثه عن مكانِة الإيمان (
Πίστισ)، يُؤكِد العلاَّمة أوريجانوس على أنَّ الإيمان ضروري للاَّهوت
لكنه ليس هو اللاهوت، فقد يُؤمِن الإنسان بالله لكن دون أن يعرِفه! لذلك تربُط
الفضيلة بين الإيمان والمعرِفة (61).

ويترتب
اللاهوت كالآتي:

الإرادة،
العمل، الكلِمة التي لا تنفصِل عن الحياة أبداً، لذا يتحدَّث العلاَّمة أوريجانوس
عن ضرورة الطهارة من الشهوات (
Κάθαρσισ) لكي يعرِف الإنسان أو بالحري يكون مُستحِقاً لنوال المعرِفة
الإلهية، ونِعمة معرِفة الله (الثيولوچيا) تُعطَى فقط
للإنسان الطاهِر، أمَّا ذاك غير الطاهِر فيبقى في جهالة من جهة الله (
άγνοια
θεού
).

ويقول
أوريجانوس في تفسيره للأمثال أنه لا يمكن لأي أحد أن يُدرِك ويستوعِب الكلام
الإلهي والمعرِفة اللاهوتية (62) (أي التي تُؤلِّه)
* إلاَّ
الإنسان الذي يسعى ويُنقي قلبه بالطهارة والنقاوة (كاثارسيس)، في تواتُر ومواظبة
على النُسك (أسقيسيس
άσκησισ)، كعمل له ديمومته واستمراريته الديناميكية الذي يُعرِّفه
أوريجانوس بأنه التوبة (ميطانيا)، إنه العمل الذي يسمو بالفِكر فوق الأرضي
والمادِّي إلى ما هو سماوي وسامي، إنه جِهاد قانوني مُتواصِل يُرى فيه الإنسان
كبطل رياضي يسعى بتدريب مُستمِر لكي يبلُغ غايته.

اعتُبِر
أوريجانوس مُؤسِس اللاهوت النُّسكي السِّرِّي في المسيحية، مُشابِهاً في ذلك فيلون
اليهودي والقديس إكليمنضُس الأسكندري، ويُذكر له أنه تحدَّث بتفصيل أكثر ومنهجية
عن التأمُّل في الكلِمة الإلهية، من خلال الإتجاه التأمُلي
Theoretikon ورؤيِة الله ومعرِفته، ومن خلال الإتجاه النُّسكي Praktikon بالسلُوك..

وبخصوص
التأمُّل في الإلهيات، يُذكِّرنا العلاَّمة أوريجانوس بأنَّ اللاهوت مُحاط بسِر
خفي لا يمكن إدراكه والتعرُّف عليه، لأنه مُحاط بسحابِة عدم المعرِفة، والنَّفْس
لكي تنعم بالرؤيا والتأمُّل في الإلهيات غير المُدركة يلزمها أن تتخلَّى عن
رَغَبَاتها الفاسِدة.

وفي
الحقيقة كان إكليمنضُس هو الذي أفاض في استخدام نموذج المُجاهِد الرياضي في ” بديعياته
Stromaties “ حيث عُمق مبدأ النُّسك المسيحي كاستعداد وضرورة مُسبقة لمعرِفة
الله (63)،
لكن
لا يقِف العلاَّمة أوريجانوس عند حد الكاثارسيس (الطهارة) فيعتبِرها جِهاد سلبي
ينبغي أن يتم تجاوزه بعمل الوصايا كجهاد ايجابي وضرورة تسبِق الثيولوچيا، لذلك يقول في تفسيره لسِفر الأمثال (64):

” أنَّ من يُحِب الله يُحِب ناموسه (شريعته) ويفعل ما يُقره الناموس،
والذي يحفظ الناموس يحظى باللاهوى (الأباثيا
Áπάθεια ومعرِفة الله (65).

والذي
يُطهِّر نفسه (يغسِلها) من الشهوات ويحفظ وصايا الله يمتلِئ في نفسه بالحكمة
ومعرِفة الله، أمَّا الذي يمتنع عن تنفيذ وصايا الله يكتنِفه العَوَز والفقر،
ويقول في مواضِع أخرى:

أنَّ
الفضائِل (
Aretai) هي المنابِع التي تنبُع من الماء الحي للكلام الإلهي الذي هو
معرِفة ربنا يسوع (66).

وهناك
نصوص كثيرة يُؤكِد فيها على حياة التدقيق والنُّسك المسيحي وحِفْظ الوصايا الذي
يُشبِه التسربُل ” بثِياب اللاهوت “ أي المسيح
الرَّاعي الرحيم والصَّالِح.

ويقول
أنَّ الفضيلة (آريتي) تمنح أجنِحة للذينَ يرغبون في أن يصيروا حُكماء، فالفضيلة هي
الماء الذي يُحيي النبات، ونِعمة الروح القدس نهر الحكمة الدائِمة المُتدفِقة التي
للثَّالوث المُثلث الاشعاعات في اللاهوت الواحِد (67).

وفي
إنجيل لوقا، يجِد أوريجانوس معنى سري لثياب المسيح التي صارت بيضاء كالثلج من بهاء
نوره وضِياء مجده، وهو ما يحدث للذينَ يتسربلون بفضائِل المسيح، حينما يصعدون معه
إلى جبل التجلِّي ليتجلُّوا بعد أن لبسوا الأبيض النَّاصِع اللمعان، واللوغوس يظهر
بعدِّة أشكال للتلاميذ لكن بالنسبة للذينَ صعدوا الجبل، جبل الطهارة، قد ظهر نور
أبيض باهِر وساطِع.

وهنا
نجِد الشكل النهائي للاَّهوت والذي نجده في المسيح فقط، إنه لاهوت النور،
لذلك يرى أوريجانوس أنَّ من يتكلَّم بالحق عن لاهوت المسيح… سوف يتحتم عليه أن
يتكلَّم عن ثِياب يسوع التي صارت لامعة بيضاء مثل النور المُشرِق، وعلى هذا الجبل،
وبالطهارة، نظروه إلهاً.

ركِّز
العلاَّمة أوريجانوس على أنَّ طلب الإنسان الاتحاد مع الله يتم من خلال حِفْظ
البتولية، وعِيش الزهد، واحتقار الأباطيل (68)، حتى أنه جذب كثيرين بأعماله التي
فعلها أكثر من كتاباته..

لذلك
الثيولوچيا التي في المسيح لا يمكن بلوغها أو تحقيقها
إلاَّ على جبل التجلِّي حيث نصعد من خلال الطهارة وحياة التدقيق، وعلى هذا الجبل
يظهر المسيح في هيئته الإلهية، وفقط لأولئك الذينَ يصعدون هذا الجبل يُستعلن هذا
السِّر الإلهي، سِر اللاهوت، لاهوت رؤيِة النور، اللاهوت السِّرِّي (69).

إنَّ
اللاهوت في المنظور الأُوريجاني هو تلك الحقيقة الواقِعة والحدث والتلامُس
والمُشاركة والايجابية الفاعِلة، التي نلمسها ونتذوقها باستنارة سِرية ونِعمة خاصة
تُميِّز سِر الله، إنه استعلان الله في المسيح، الذي هو مِلء استعلان اللاهوت، أي
استعلان الآب والابن والروح القدس ورؤيِة النور الإلهي الغير مادِّي واللامخلوق،
تلك الحالة التي يبلُغها الإنسان بطهارته وتدقيقه الذي لن يتحقق إلاَّ في الكنيسة حيث
نِعمِة الروح القدس وعمل الإنسان معه، ونجِده يقول:

” الكنيسة أُمِّنا التي ربطها الآب بالمسيح بالروح القدس تلِد على
الدوام أولاداً وبنات وتفرح بالذينَ يتقدمون في المعرِفة وحكمِة الله “.

لقد أكَّد العلاَّمة أوريجانوس على أنَّ المسيح يوجد فقط في الكنيسة
المملوءة من بهائه ويسكُن فيها بكماله، ومن ثمَّ فإنَّ معرِفة الله حقيقة تتحقق في
الكنيسة بحياة الطهارة والطاعة التي تُهيئِنا للنمو في الإدراك اللاهوتي ومن ثمَّ
تُعِدِّنا لرؤيِة نور الله اللامخلوق.

ولمفهوم أوريجانوس عن اللاهوت خاصيتان يمكن من خلالهُما بلورِة منهجه
اللاهوتي الأُوريجاني، الخاصية الأولى الذُّكصولوجيا (التسبيح)، والخاصية
الثَّانية الثَّالوثية.

فمعرِفِة
الله ينتُج عنها التسبيح والتمجيد، لذلك نجده يقول
أنَّ الكِتاب المُقدس يتكلَّم لاهوتياً عن الله ويُعلِن دائِماً عن طبيعته، أي أنه
لا حدود له وأنه مرهوب بين الآلهة!، لذلك يدعو الخليقة كلها من ملائِكة ونجوم ونور
مخلوق إلى أن تُسبِّح الله وترفعه “ (70).

ونجِد
العلاَّمة أوريجانوس حريص على الذُّكصولوجيا كعمل شَرِكَة تجتمِع فيه الملائِكة
معنا لنُصلي ونُسبِّح ونعمل معاً فنبلُغ ما نبغى، فبالنِعمة ينفتِح القلب للتسبيح
الحقيقي: ” إن لم يكُن الذِهن مملوء من نِعمِة الله، لا
يقدِر أن يُشير إلى تسبيحات مجده “ (71).

والثيولوچيا والتمجيد ينشأ عنهُما تمجيد داخلي وحالة من
السكينة (الهيزيكيا)، لذلك يقول أوريجانوس:

” عندما أصرُخ إلى الله في تسبيح، فأنا أتأمَّل لاهوتياً الوقت كله،
فلا شئ يشيخ فيَّ، بل يتجدَّد يوماً فيوماً على مدى الأيام، وعندما تُبارِح فِكري
الثيولوچيا وأفتُر عن التمجيد، فإني أصير فوراً في شيخوخة تتسلَّل إلى عظمي
وكياني، عندما تثقُل عليَّ يد الله، بسبب جهالاتي وشهواتي الماجِنة “
(72).

أكَّد
العلاَّمة أوريجانوس على أنَّ الثيولوچيا هي
الذُّكصولوجيا وهي مُرتبِطة بوجودنا، فكلما ازددنا في التسبيح كلما تجدَّد كياننا
وتحقَّق وجودنا، والعكس إذا أهملنا حيث ينتابنا الذُّبول والفُتُور والضياع.

لذلك يقول ” لابد أن نسأله على الدوام لأنه هو وحده القادِر أن
يمِدِّنا بكل احتياجاتنا “ (73).

لقد اعتبر أنَّ الصلوات والتسابيح معونة إلهية قادِرة أن تُبطِل
أعمال الشياطين وحروبه المُثيرة خلال التقوى والتمجيد.

ولتأكيد هذا المفهوم اللاهوتي التَّسبيحي عند العلاَّمة أوريجانوس،
اعتبر أنَّ كل مُؤمِن ينزِل إلى مياه المعمودية يخرج منها إنسان صحيح جديد مُستعِد
للتَّسبيح بالنشيد الجديد (إش 42: 10) (74)،
مُعتبِراً بذلك أنَّ كل
مُعمَّد مدعو لحياة التَّسبيح الدائِمة.

لذلك
نجِده في تفسيره لرسالِة أفسس:

” مُكلِّمين بعضكُم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مُترنمين
ومُرتلين في قُلُوبِكُم للرب “.

ويقول أيضاً: أنَّ التراتيل تُعلِن القُوَّة بشكل كامِل وتُعبِّر عن
لاهوت الله المُفرِح، ولذلك اللاهوتي الحقيقي هو الذي يقدِر أن يُردِّد هذه
التراتيل والتَّسابيح والصَّلوات.. فاللاهوتي هو المُرنِم بالتَّسابيح..

إنَّ هذه التَّسابيح والصَّلوات يمكن أن تظهر بشكل مُعاش خلال
الإنسان الذي يستخدِم جسده كقِيثارة وأعماله كمزامير فاه بها المُرنِم، هذا هو
الإنسان الذي يُعلِن اللاهوت في المزامير الروحية..

ويعتبِر أوريجانوس أنَّ إدراك لاهوت الطبيعة وابداعات الله وجُبلته
التي خلقها هي كلها أشكال من الذُّكصولوجيا، فبالنسبة لأوريجانوس: اللوغوس البشري
(العقل) والأعمال البشرية والأعمال الكونية هي كلها أنواع من الذُّكصولوجيا
(التَّمجيد) ومن الثيولوچيا (اللاهوت)، لذلك لابد أن تملأ الترانيم والتَّسابيح
والأغاني الروحية قلب اللاهوتي.

لأنَّ روح الله القدوس يُلهِب قلوبنا في العِبادة الجماعية
(الليتورچيا)

ويفتح ألسِنتنا للتَّسبيح الذُّكصولوچي، لذلك يقول العلاَّمة أوريجانوس: ” لا نستطيع أن نُقيم صلاة ما لم يُلقِ الآب عليها ضوءاً
ويُعلِّمها الابن ويعمل الروح القدس في داخِلنا “، وهنا نرى الربط بين
التريادولوچيا (الثَّالوث) وبين التَّسبيح والتَّمجيد الذُّكصولوچي.

لذلك يرتبِط مفهوم الثيولوچيا الذُّكصولوجيا بالكنيسة، ففي سِفر
النشيد يتحدَّث عن العروس… كنيسة المسيح… التي تُحتشد بكثير من اشبينات العروس
أي الخوارِس التي تُسبِّح الله بنفس الثيولوچيا، وهذه الجوقات تعود من المعركة
الروحية والسِباق وهي تنشِد أناشيد الفرح والنُّصرة مُسبِّحة الرب الذي كلَّلها
بفرح الطِيب الغامِر (الأڤدوكيا
Evdokia)..

وللعلاَّمة
أوريجانوس رؤية سماوية تسبيحية للكنيسة عروس المسيح التي فيها نتشارك من خلال
الليتورچيات وبشكل أشمل وأسمى في القُدَّاسات الإلهية.

لذلك
لم يُعلِّم أوريجانوس بأنَّ الثيولوچيا نظريات وتسلية
عقلية، بل هي تعبير عن الإنسان الذي يتجِه بكل فِكره وقلبه إلى اختبار مُعاش باطني
وعميق لمجد الله ونوره، إنها الذُّكصولوجيا والتَّسبيح التي تلِف الإنسان كله،
نفساً وجسداً وروحاً.

لقد
تحدَّث عن الشَرِكَة التي بين السمائيين والمُؤمنين في المسيح يسوع، حتى أنه قال ” إذ يجتمِع المُؤمِنون معاً.. تكون هناك كنيسة منظورة
مُجتمِعة معاً وكنيسة ملائِكة غير منظورة مُجتمِعة معاً أيضاً! إننا نُشارِكهم
تسابيحهُم العُلُوِية، وهم يُشارِكوننا فرحنا بالخلاص الإلهي!! “.

ووردت التَّسبِحة الساروفيمية (الثَّلاث تقديسات) في كِتابات
العلاَّمة أوريجانوس، وربما يرجع استخدامها بالأسكندرية إلى تاريخ سابِق (75).

و ثيولوچيا أوريجانوس ليست مُتعلِقة بإله غير شخصي ومُطلق لكن
بالثَّلاثة أقانيم أو البرسونا لله الواحِد، بالثَّالوث القدوس، فهي ” ثيولوچيا
الثَّالوث “
كما
يُسميها أوريجانوس في تفسير إنجيل لوقا (76).

هذه
الثيولوچيا التريادولوچية (الثَّالوثية) تُؤكِد على
وحدِة عمل الأقانيم الثَّلاثة، في تعليم صحيح مُستقيم عن وحدِة الله التي لا
ترتكِز على مفهوم أيديولوچي مذهبي لكيان الله الغير مُدرك.

ويتحدَّث أوريجانوس عن ثيولوچيا الآب و ثيولوچيا الابن المُخلِّص و ثيولوچيا الروح القدس، وبِدايته هي دائِماً في الإعلان الذي
يُحقِّقه الأقانيم الثَّلاثة، ومن ثمَّ فالثيولوچيا لكل واحِد منهم ولهم جميعاً في
آنٍ واحِد.

فيقول أوريجانوس أنَّ ” المسيح قد نقل الإيمان بالله إلى الإيمان
بالابن والآب أو بمعنى آخر قد نقل الثيولوچيا إلى ثيولوچيا الابن و ثيولوچيا الآب
“ (77).

كتب
في كِتابه
De oratione يتحدَّث عن أولئِك الذينَ يُسيئون فهم مقولات الإنجيل لأنهم
يرتكِزون على أُسُس أخرى للاَّهوت غير تعليم الإنجيل الخاص بالابن والآب.

وفي
مواضِع أخرى يقول أوريجانوس أنَّ الذي لا يُؤمِن بلاهوت الروح القدس يجحد معموديته
ولا يمكن أن يخلُص ما لم يتقدس بالثَّالوث كله.

وقد
أكَّد أوريجانوس على الثيولوچيا الثَّالوثية التي وجدها
في أسماء العهد القديم عن الله، مثل الصَّباؤوت، وأدوناي، وهو لاهوت أعمق وسِرِّي
يتضمن في عُمقه التعليم عن الثَّالوث، بل ويُقرِّر هذا التعليم عندما يقول:

” لا نستطيع أن نُقيم صلاة ما لم يُلقِ الآب عليها ضوء ويُعلِّمها
الابن، ويعمل الروح القدس في داخِلنا “ (78).

ونستطيع
أن نقول أنَّ مدرسِة الأسكندرية اللاهوتية في نهايِة القرن الثَّالِث الميلادي،
أنشأت عِلْم اللاهوت المسيحي، بعد أن انتصرت على الفلسفة الوثنية التي واجهتها
بدفاعياتِها الخصبة، ولمَّا تطاولت الفلسفة على بساطِة المسيحية، تحدَّث أوريجانوس
الذي كان قد درس فلسفِة الوثنيين – عِلْم اللاهوت المنهجي – وخصوصاً بعد أن فرضت
المشاكِل الفلسفية نفسها على منهجه، عن جوهر الثيولوچيا
مُتخِذاً من الطريقة المنهجية اُسلوباً في ردوده.

وبالرغم من اخفاقاته إلاَّ أننا نُقِر أنه ما كان مُمكِناً أن يتحقق
انتصار المبادِئ المسيحية اليونانية فيما بعد بدون سقطاته، وقد استنفذ البابا
أثناسيوس الرسولي والآباء الكبَّادوك كل حياتهم لتصحيح المنهج اللاهوتي
الأُوريجاني، لتستعيد الكنيسة اتزانها الروحي اللاهوتي في أواخِر القرن
الرَّابِع.. وتُغلِق مدارِس الأسكندرية وأثينا أبوابها كتتويج لحالة واقِعة، ألا
وهي سيادِة العِلْم اللاهوتي المسيحي بأصالتِهِ وروحه الإنجيلية الرَّسولية
الآبائية.

ونُجمِل هنا تعليم أوريجانوس اللاهوتي (اللاهوت المنهجي Systematic Theology):

أولاً:
اللاهوت
هو المعرِفة الشخصية الاتحادية العميقة ورؤيِة الله التي تنبُع في الأعماق
الدَّاخلية، معرِفة صميمية بالكيان والوجود والحياة.

ثانياً:
إنَّ
معرِفِة اللاهوت الصحيح، معرِفة إلهية روحانية لاهوتية مُقدسة رُؤيوية وحقيقية غير
كاذِبة، تنبني على الإرادة المُقدسة والتطهير من الشهوات والمواظبة على التوبة
والنُّسك، لنتأمَّل ونسلُك في الفضيلة ونحيا حياة الكنيسة الإكلسيولوچية، عندئذٍ
تنكشِف لنا أعماق الثيولوچيا.

ثالِثاً: تتحوَّل الثيولوچيا إلى ذُكصولوجية،
وهو عمل التَّسبيح والتَّمجيد والتَّرنُم الذي يحتضِن الإنسان كل الإنسان بل
والكون كله كعمل من أعمال خِلقِة الله ومجده الإلهي.. لذلك اللاهوتي هو الذي
يُصلِّي ويُسبِّح، (اللاهوتي كائِن ليتورچي).

رابِعاً: اللاهوت هو التريادولوچيا
(الثَّالوث) أي استعلان الثَّالوث القدوس الذي اُعطِيَ في المسيح لخلاص الإنسان.

 الثيولوچيا هي البِداية

 والذُّكصولوجيا هي الطريق

 والتريادولوچيا هي النِهاية والغاية

ويقول
العلاَّمة أوريجانوس ” من هو البِدء بِدء كل شئ إلاَّ
ربنا ومُخلِّص جميع الناس، يسوع المسيح بِكر كل الخليقة، فالبداية هي المُخلِّص
الذي به صُنِعَت كل السموات والأرض “ (79).

وهذه
المراحِل الأربع في المفهوم الأُوريجاني قد تطورت في المضمون الأكلسيولوچي
(الكنسي)، فلا ثيولوچيا خارِج الكنيسة حيث الخلاص
الإلهي ولا ذُكصولوجية خارِج جُموعِيِة الكنيسة وشَرِكَة القديسين ولا تريادولوچيا
بعيداً عن سرائِرِيِة الكنيسة بيت الحمامة.

ويُمثِّل العلاَّمة أوريجانوس نُقطة تحوُّل في الثيولوچيا الآبائية
فيما بعد، اليونانية واللاتينية، لذلك اعتبر البعض أنَّ أوريجانوس هو أبو
اللاهوت الأُرثوذُكسي المنهجي
Father of Orthodox Systematic Theology لكنه في نفس الوقت أبو الهرطقة Father of Heresy!!

وقد
يبدو هذا الأمر مُتناقِضاً حسب الظَّاهِر، لكن أوريجانوس كان أوِّل مسيحي يهتم
بجِدِية بالمُعضِلات التي واجهها اللاهوت القديم وأوِّل من فتح الطريق أمام الجديد،
وكان أوِّل من صب العقائِد المسيحية في قوالِب منهجية فلسفية مُنشِأً بهذا لأوِّل
مرَّة في تاريخ المسيحية ما سُمِّيَ فيما بعد بعِلْم اللاهوت المسيحي.

===

مراجِع
الفصل

1)           
Contra
Celsum, IV, 89
.

2)           
Ibid. 1, 25.

3)           
Ibid. IV, 97
and 89
.

4)           
Ibid. VII,
42
.

5)           
Ibid. VI, 22.

6)           
Ibid. I, 20.

7)           
Ibid. IV,
89, 97
.

8)           
Ibid. IV, 3,
also VII, 4
.

9)           
See Ibid.
IV, 3
.

(حيث يتحدَّث عن أنَّ
المشكلة لم تكن في الحاجة إلى المعرِفة عن الحق، بل كانت تكمُن في غِياب الحق نفسه
في الحياة).

10)       
Ibid. VI, 4.

11)       
Ibid. VI, 5.

12)       
Contra
Celsum,
7: 54.

13)       
Rom. 1: 21,23,25;
1 Cor: 1: 27 – 29
.

14)       
Ibid. IV, 5.

15)       
On the
Proverbs P.G. 17, 161 A, 220 D
.

16)       
P.G. 17, 165
D, 173 C, 188 A, 192 B
.

17)       
Ibid. 200 A.

18)       
Ibid. 200 A.

19)       
Ibid. 137 D.
193 B
.

20)       
Ibid. 180 CD.

21)       
Ibid. 180
CD, On Matthew, XII, 15
.

22)       
P.G. 17, 169
A. 180 CD
.

23)       
On Matthew,
XII, 37
.

24)       
On the Proverbs,
P.G. 17, 229 A
.

25)       
On the
Psalms 43, P.G. 12, 1434 B
.

26)       
On the
Proverbs, P.G. 17, 229 A
.

27)       
Ibid.

28)       
In Num. Hom
18: 3
.

29)       
In Gen. Hom
11: 3
.

30)       
In Judic Hom
3: 3
.

31)       
In Levit.
Hom 10: 2
.

32)       
In Joan, t
2, ch 19
.

33)       
A.N.F., vol
9, p. 313
.

34)       
CF. also In
Proverbs 4, 21 and in Psalm 9
.

35)       
In Matthew
XX, 15
.

36)       
In Joan, t
1, ch 19, 27
.

37)       
Comm. Matt
13: 19
.

38)       
Contra
Celsus 6: 67
.

39)       
In Josh. Hom
15: 14
.

40)       
Comm. Ined
des Paaimes 118: 32 B
.

41)       
Comm. Joan,
Frag. 41 (on
3: 27).

42)       
Princ. 4: 4:
2
.

43)       
In Num, Hom.
9: 9
.

44)       
In John,
XIII
.

45)       
In Proverbs,
P.G. 17, 231 B
.

46)       
In John XIX,
4
.

47)       
In Joan t 19.

48)       
Joseph C. MC
Lelland: God the Anonymous, 1976, P. 112
.

49)       
De Prin. 3:
6: 3. P.G. 11: 356
.

50)       
Ibid. 1: 1:
5, P.G. 11: 124
.

51)       
Selps. 144:
1
.

52)       
In Gen,. Hom
3: 2
.

53)       
Contra
Celsus 8: 70
.

54)       
In Ezek.
Hom. 13
.

55)       
In Luc Hom.
18
.

56)       
Comm. Rom. 5 – 6.

57)       
Comm. 32.

58)       
In Jerm. Hom
8: 2
.

59)       
In Joan 2,
in Princ
.

60)       
Ctena aurea,
St. John, ch 1.

61)       
In John,
XIX, 3
.

62)       
P.G. 17, 220
D
.

63)       
CF
Stromaties, VII, III, 2, 3
.

64)       
43, P.G. 17,
245 A
.

65)       
Ibid. 244 A.

66)       
Ibid. 172 D.

67)       
In Proverbs
P.G. 17, 204 A
.

68)       
In Num. Hom,
11: 3, in Joan 28: 23
.

69)       
V Lossby’s
book on The Vision of God,
London, 1963, is particularly relevant here.

70)       
In Jeremia,
Hom. XVIII, P.G. 13. 176 A
.

71)       
Nots on PS.
71: 8
.

72)       
P.G. 13, 29
A B
.

73)       
A.N.F., vol
4, 490
.

74)       
In Exod,
Hom. 5: 5
.

75)       
Gregor. Dix:
The Shape of the Liturgy, P. 237
.

76)       
Fragments
XIVIII, P.G. 17, 353 CD
.

77)       
In John, VII.

78)       
De Prin. 2:
6
.

79)       
In Gen. Hom.
1: 1
.



* تعقيب
لنِيافِة الأنبا بيشوي مُطران دمياط وسكرتير المجمع المُقدس :

العلاَّمة
أوريجانوس بالرغم من علمِهِ الغزير وتفاسيره الهائِلة للكُتب المُقدسة إلاَّ أنَّ
الكنيسة المُقدسة قد حرمته لتأثُّره بالفلسفة الأفلاطونية وتعليمه بالوجود السابِق
للأرواح وبخلاص الشيطان ، وعلى العموم هذا لا يمنع من الإستفادة بالصحيح مِمَّا
قدمه من تفاسير وتأمُّلات.

* تعقيب
لنِيافِة الأنبا بيشوي مُطران دمياط :

ينبغي هنا
الحذر من الانسياق وراء العِبادات الوثنية كأنها مصدر من مصادِر الوحي أو الالهام
فالكتاب يقول ” لأنَّ كل آلهة الأُمم شياطين “ ، ولكن أحياناً يختلِط الحق الإلهي بالعبادة الغريبة عن الله
، وذلك بسبب أنَّ أصل الديانات واحِد من البِداية ، أو لأنَّ النور الإلهي يُحاوِل
أن يجتذِب الإنسان بعيداً عن العبادة الشيطانية ، ولكن لم يتجاوب الإنسان في كل
الحالات تجاوباً حقاً ، وإنما تجاوب في بعضها كما حدث مع أهل السفينة وأهل نينوى
في قصة يونان النبي.

* تعقيب
لِنِيافِة الأنبا بيشوي :

بالمعنى
الروحي للكلِمة مثلما قال السيِّد المسيح ” أنا هو خُبز
الحياة “ ، فالنَّفْس البشرية بدون المسيح تفقِد حياتها الحقيقية.

** المقصود هنا عطايا اللاهوت للإنسان أي مواهِب
الروح القدس وعطاياه الفائِقة.

* تعقيب
لِنِيافِة الأنبا بيشوي :

المقصود
بهذا التعبير أن يأخذ الإنسان صورِة الله في أعماق كيانه وهذه هي القداسة الحقة في
مفهومنا المسيحي.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى