علم المسيح

الفصل العاشر



الفصل العاشر

الفصل العاشر

الصليب والمصلوب

 

1- لمحة تاريخية: ‏

‏ كلمة الصليب في اليونانيّة ستاوروس ‏(stauros)‏ وهو آلة إعدام وتعذيب قاسية ‏جدًا وتطبّق علي مقترفي الآثام
الخطيرة، وقد إستخدمها الفينيقيّون، كما يذكر ‏المؤرّخ اليونانيّ هيرودوت
(1)،
ويري كثيرون أنَّ الفُرس هم أوَّل من إخترعها ‏وطبّقها في القرنَين السادس والخامس
قبل الميلاد
(2)، واستُخدمت
في مصر في ‏القرن الخامس قبل الميلاد
(3)،
واستخدمها بعد ذلك الإسكندر الأكبر وأهل قرطاجنة ‏بشمال أفريقيا وأخذها عنهم
الرومان واستخدموها بكثرة. ولأنَّ هذه العقوبة كانت ‏قاسية جدًا ورهيبة فلم تُطبَّق
قطّ علي الأحرار سواء الإغريق أو الرومان وإنما ‏طُبِّقَت علي العبيد والثوّار غير
الرومانيّين، ونظرًا لأنَّها أقسي العقوبات وأكثرها ‏ردعًا وإرهابًا فقد طُبِّقَتْ
بكثرة علي الثوّار المطالبين باستقلال بلادهم عن الدولة ‏الرومانيّة، ويذكر المؤرّخ
اليهودي يوسيفوس المعاصر لتلاميذ المسيح (36-‏‏100م) أنَّها طُبِّقَتْ مرّات كثيرة
جدًا علي ثوّار اليهوديّة
(4).‏

‏ وكان هناك ثلاثة أنواع من الصلبان، نوع علي شكل حرف ‏T‏ ‏(Crux Commissa)‏ وآخر
علي شكل حرف ‏
X‏ والمسمّي بصليب القديس إندراوس ‏(Crux decussata)‏ والثالث يتكوّن من عارضتَين متقاطعتَين + ‏(Thecrux immissa)‏ وهذا النوع هو الذي صُلِبَ عليه السيّد المسيح
وهذا ما يؤكّده لنا موقع ‏العنوان الذي سُمِّر علي الصليب أعلي رأس السيّد المسيح
(
يو19/19)، وهذا ما‏ يؤكّده التقليد أيضًا بصورةٍ قاطعةٍ(5).‏

 

‏2 – الجلد وطريق الصليب: ‏

‏ بعد الحكم بإدانة متهم والحكم عليه بالإعدام صلبًاً كان لابد أنء يُجْلَد
حسب عادة ‏الرومان حتي يسيل الدم من معظم أجزاء جسده، وعملية الجلد هذه كانت تُسْرِع
‏بالموت وتُقلّل من سكراته. وكان عليه بعد ذلك أنْ يحمل خشبة الصليب الأفقيّة
‏التي ستُسَمَّر عليها يداه إلي مكان الصلب وهو عادة خارج المدينة كما كان عليه أنْ
‏يمرّ بأكبر عدد ممكن من شوارع المدينة وحواريها وطرقها الأكثر ازدحامًا ليراه
‏أكبر عدد ممكن من الناس، كما كان يُصْلَب عادةً في مكان مرتفع وعام ليراه ‏العامة
من مسافات كافية، حتي يكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه مخالفة القانون ‏الروماني أو
الثورة علي الإمبراطوريّة المستعمرة، وكان يتقدّم أمامه أحد الضبّاط ‏أو الجنود
يحمل لوحة مكتوب عليها التهمة الموجّهَة ضدَّه والتي تُلصَق بعد الصلب ‏علي الصليب
ليراها الجميع، وعندما كان يصل إلي ساحة الإعدام يُجَرَّد المصلوب ‏من ملابسه وتُقَسَّم
علي الجنود القائمين بعملية الصلب وتُسْتَر عَوْرَتُه فقط بقطعة من ‏القماش ثم
يوضع علي الأرض وتُسَمِّر يديه بقسوة وفظاعة بالمسامير الكبيرة ‏والسميكة أو تُربَط
بالحبال في العارضة الأفقيّة، التي كان يحملها، ثم تُرْفَع ‏العارضة والمصلوب لتُثَبِّت
بالخشبة القائمة والتي كانت مثبتة في الأرض وفي ‏منتصفها كتلة خشبية بارزة صغيرة تُسَمَّي
السرج ليستقر عليها ردفَي المصلوب ‏ولتحفظ وزن الجسم حتى لا تُمزِّق المسامير
يديه، وتُثَبِّتْ قدمَيه بمسمارٍ ضخم من ‏خلال مشطي القدم معًا أو تُسَمِّر كل قدمٍ
منفصلة
(6).‏

وبعد أنْ يُعَلَّق المصلوب علي الصليب كان يُعاني آلامًا رهيبةً قاسيةً
من آثار ‏المسامير والجروح التي تأخذ في التورم والتلف إلي جانب التعرّض للحشرات
‏المختلفة والطيور الجارحة والحيوانات المتوحّشة وغيرها، وكذلك من التعرّض ‏للطقس
الذي يكون أحيانًا شديد الحرارة وأحيانًا أخري شديد البرودة، ويُترَك وحيدًا ‏غير
قادر علي أي شئ بالمرة بما في ذلك خدمة الوظائف الجسديّة، ومما يُزيد من ‏آلامه
التعرّض للإهانة والسخرية من الذين كانوا يشاهدون عملية الصلب. وكانت ‏الآلام
الجسديّة والنفسيّة والعقليّة التي يتضمنّها هذا الموت الرهيب البطيء لا يمكن ‏تخيّلها
ولا تُوصف والتي قد يُصاب المصلوب من جرّائها بالجنون أو الصرع أو ‏التشنّج.
ويستمر المصلوب في هذا العذاب القاسي الرهيب والذي كان يعانيه ‏ويستمر فيه علي
الصليب مدّة من 36 ساعة إلي أربعة أيّام وقد إستمر بعض ‏المصلوبين أسبوعًا. وماتوا
مثل المجانين. وكانت عملية الجلد التي تتم قبل ‏الصلب ودرجة كثافتها إلي جانب قوّة
بنية الجسم والطريقة التي يُصْلَب بها ‏المصلوب سواء كانت بتسمير يديه ورجليه أو
بربطهم بالحبال هي التي تحدّد طول ‏المدة التي يقضيها المصلوب علي الصليب. وبعد
موته كان يُتْرَك جسده ليتعفَّن ‏علي الصليب إنْ لم يُطالب أحد بدفنه.‏

 

‏3 – الصلب والناموس اليهودي: ‏

‏ لم تُوجَد عقوبة الصلب في الناموس وإنما طبّقها عليهم الرومان
بكثرة، حتي ‏أصبحت معتادة عندهم. وكان الناموس ينصّ علي قتل المجدّفين رجمًا بالحجارة
ثم ‏يُعَلَّقون بعد ذلك علي شجرة كعقوبة إضافيّة دلالة علي أنَّهم كانوا مجدِّفين
علي الله ‏ومتّهمين من قِبَلَه. وكان لابد أنْ تُدْفَن الجثة في نفس اليوم حتي لا
تُدَنِّس الأرض ‏لأنَّ المُعَلَّق كان يُعْتَبَر ملعونًا، ”
وَإِذَا
كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى
خَشَبَةٍ فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ
اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي
يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً»
.” (تث21/22-23).‏

‏4 – في الطريق إلى الجلجثة (الجمجمة): ‏

‏ بعد الحكم علي الرب يسوع المسيح بالصلب وجلده خرج من دار الولاية
حاملاً ‏صليبه الذي سيُصْلَب عليه وسار به في شوارع أورشليم وطرقها الأكثر ازدحامًا
‏وسط حرّاسه من أربعة جنود وقائد مائة ومحاطًا بجماهير غفيرة لا حصر لها، ‏ونظرًا
لأنَّه كان قد قضى أسبوعًا مثيرًا في أورشليم إنتهي بمعاناته في البستان ‏وهروب
تلاميذه عند القبض عليه وظلَّ يُحاكم طوال الليل من الساعة الواحدة ليلاً ‏وحتى
التاسعة صباحًا (بتوقيتنا الحالي) أمام رؤساء الكهنة والسنهدرين وأمام ‏بيلاطس
البنطي وهيرودس وقد عاني أثناء هذه المحاكمات كل صنوف الإهانة ‏والسخرية من سبٍّ
ولطمٍ وركلٍ وضربٍ وبصقٍ علي وجهه وجلدٍ، وكان ظهره ‏متورِّمًا ومتهرئًا وممزقًا
من شدّة وقسوة سياط الجلادين المركب بها قطع من ‏الرصاص أو العظم انغرست في لحمه
بقسوة وعنف إلي جانب آلام إكليل الشوك ‏الذي انغرست أشواكه في رأسه فسببت له
آلاماً شديدة وصارت تنزف بغزارة، ‏وكما كان جسده ينزف كان قلبه يُدْمِى بسبب ما
لاقاه من نكران وجحود، فنال منه ‏التعب والإجهاد الشديد ولم يقوَ علي حمل الصليب
فسقط به علي الأرض عدَّة ‏مرات، كما يؤكِّد التقليد، فسَخَّر الجند الرومان أحد
المارة، وهو سمعان القيراوني‏، ليحمل معه الصليب ”
وَفِيمَا
هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً اسْمُهُ سِمْعَانُ
فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ.
” (مت27/32
أَمْسَكُوا سِمْعَانَ رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ
الْحَقْلِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ.

‏‏(
لو23/26).‏

‏ كان سمعان هذا من مدينة القيروان بشمال أفريقيا والتي كان بها
مستعمرة تضمّ ‏عددًا كبيرًا من اليهود وقد جاء ليحضر الفصح في أورشليم ولزيارة
الهيكل ولما ‏سخَّره الجنود الرومان ليحمل الصليب خلف السيّد لم يكن يجرؤ أنْ يرفض
طلبهم ‏هذا فحمل الصليب مُسَخَّرًا ولكن شئ عجيب قد حدث، لا ندركه، جعل سمعان ‏يري
ما لم يره الجند ويجد في شخص السيد المسيح المتجِّه إلي ساحة الإعدام ما ‏جعله يُؤمن
به ويُصبح هو وأولاده وزوجته من أتباعه بل ومن المتقدّمين في ‏الكنيسة، والمعروفين
في كنيسة رومية بالذات، فيقول عنه القدّيس مرقس في ‏إنجيله الذي دوّنَه في رومية
سِمْعَانُ الْقَيْرَوَانِيُّ أَبُو أَلَكْسَنْدَرُسَ وَرُوفُسَ
” ‏‏(
مر15/21)، ويكتب القدّيس بولس في رسالته إلى رومية مسلمًا
علي روفس هذا ابن ‏سمعان وعلي أمّه زوجة سمعان التي يعتبرها أمّه، “
سَلِّمُوا
عَلَى رُوفُسَ الْمُخْتَارِ فِي الرَّبِّ وَعَلَى أُمِّهِ أُمِّي.

(
رو16/13). فقد استطاع السيّد. المحكوم عليه بالإعدام صلبًا،
‏وهو حامل صليب العار والهوان أنْ يحوِّل سمعان هذا إلي أحد اتباعه المؤمنين به‏‏.
فهل يمكن أنْ يكون آخر غير المسيح؟؟!! كلا. لأنَّه لا يستطيع أنْ يفعل ذلك ‏سوي
المسيح وحده.‏

‏ وفي الطريق إلي الجلجثة، “ وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ وَالنِّسَاءِ
اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ.
” (لو23/27)، وكان ضمن هؤلاء كثيرون من الذين اِتّبعوه ‏عندما دخل
أورشليم ظافرًا منتصرًا وكثيرون من أتباعه غير المعروفين لرؤساء ‏الكهنة وبعض
اتباعه الذين كانوا يتابعونه من بعيد، كما فعل بطرس وقت المحاكمة ‏‏(
لو22/54)، وكثيرات من النسوة
اللواتي كن ينحن عليه، وبرغم ما كان يقاسيه من ‏آلام جعلته يسقط تحت حمل الصليب
إلا أنَّه أشفق عليهن وعلي المصير القادم علي ‏أورشليم واتجه إليهن، محذرًا من
الدينونة الآتية عليها بسبب رفضها للمسيح ‏وتسليمها له ليموت ميته العار والهوان،
وقال ”
يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ
تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ
لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ
وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. حِينَئِذٍ
يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا.
لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ
بِالْيَابِسِ؟».
” (لو23/28-31).‏

‏ وهو هنا يشفق ويتنبّأ ويحذِّر برغم الآلام الرهيبة التي كان يُعانيها
والموت ‏الرهيب الذي كان ذاهبًا إليه، فقد أشفق عليهُنَّ من المصير الأتي علي
المدينة ومن ‏فيها وتنبَّأ بالحصار والدمار والمصير المظلم الذي ستواجهه والويلات
التي سيعانيها ‏سكانها لدرجة أنَّ النساء اللواتي لم يحبلن ولم ينجبن يكنَّ
محظوظات في تلك الأيام ‏التي ستكون فيها قسوة الحصار والويلات التي يُعانيها الشعب
بسببه وقسوة الرومان ‏العظيمة حتي أنَّ الناس سيبحثون عن الموت من الجوع والعطش
واليأس الذي ‏يوصل بعضهم إلي درجة يأكلون فيها لحوم البشر بعد أن يكونوا قد أكلوا
جميع ‏الحيوانات الطاهرة والنجسة. ويُوضِّح ذلك بما لاقاه هو نفسه علي أيدي
صالبيه، ‏فإنْ كانوا قد عاملوه بهذه القسوة وهم يعلمون أنَّه برئ فكيف سيتعاملون
مع العصاة ‏والمتمردين والثوار في زمن ذلك الحصار والدمار الذي تنبَّأ به، كما
يتضمَّن قوله ‏أيضًا أنَّه إذا كان بنو إسرائيل قد فعلوا ذلك بملكهم الإلهي الذي
استقبلوه بالمزامير ‏وسعف النخل فكم وكم ستكون دينونة الله عليهم وهم الأشرار
العصاة.‏

‏ وقد تمَّ ما تنبَّأ به السيّد المسيح حرفيًا سنه 70م فقد حاصر
الرومان المدينة ‏ودمّروها وأحرقوا الهيكل وهلك في أورشليم أكثر من مليون يهودي في
أيام قليلة. ‏والسؤال الآن:
هل يمكن أنْ يكون هذا الشخص، الذي حوَّل
سمعان المُسَخَّر لحمل ‏صليبه إلي أحد المؤمنين به والذي أشفق علي الباكيات عليه
وعلي مصير أورشليم ‏والذي تنبَّأ عن ما سيحدث لهذا الشعب وهذه المدينة في المستقبل
القريب، وهو في ‏هذا الموقف الرهيب، إنسانًا آخر غير المسيح؟؟!!

والإجابة: كلا، لا يمكن أنْ ‏يكون هذا سوي المسيح ” رب المجد
” الذي يقدر علي كل شئ في أي وقت وتحت ‏أي ظرف، خاصة وأنَّه وضع نفسه تحت هذه
الظروف بإرادته.‏

5 – على الصليب بين لصين: ‏

‏ ثم وصلوا بالسيّد إلى ” مَوْضِعِ
«جُلْجُثَةَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ مَوْضِعُ «جُمْجُمَةٍ».
” (مر15/22)
‏وجردوه من ملابسه وقسمها الجنود الأربعة على أنفسهم ثم القوا قرعة على ‏القميص
أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ لِكُلِّ
عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا الْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ الْقَمِيصُ بِغَيْرِ
خِيَاطَةٍ مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ
نَشُقُّهُ بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ».
” (يو19/23-24
ولم يبقَ له سوي مئزر – ساتر ‏عورة – كما يقول التقليد.‏

‏ ثم قدموا له ” أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً
بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ.
. ” وذلك لتخفيف آلامه(7)
‏ولكنه ”
وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ ” (مت27/34
لأنَّه لم يردْ تخفيف آلامه بل فضَّل ‏أنْ يشرب الكأس حتي الثمالة ثم ألقوه علي
خشبة الصليب بقسوة وفظاظة وعنف ‏ودقُّوا المسامير الطويلة والغليظة في يديه ورجليه
مُعَلَّقين إيَّاه علي الصليب أو كما ‏يقول القدّيس بولس الرسول “
مُسَمِّراً
ايَّاهُ بِالصَّلِيبِ
” (كو2/14).
وَصَلَبُوا مَعَهُ لِصَّيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَآخَرَ عَنْ
يَسَارِهِ.
” (مر15/27)، ” وَيَسُوعُ
فِي الْوَسْطِ.
” ‏‏(يو19/18) وذلك
للتشهير به وزيادة في تحقيره وكان صليبه مرتفعًا عنهما زيادة في ‏السخرية.‏

‏ وكان الجميع يعيِّرونه وكذلك أيضًا اللصان المصلوبان معه (مر15/29-32؛
‏مت27/39-44
). ولكنه هو كان يفكر بصورةٍ أخري وبأسلوبٍ آخر يتّفق مع جلاله
‏وعظمته وشخصيّته الإلهيّة: ‏

1 – فبينما كان الجنود يدقُّون المسامير في يدَيه ورجلَيه بقسوةٍ وعنفٍ
صلي لهم ‏وقال ”
يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ
لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ
” (لو23/34
ولو كان ‏المصلوب شخصًا آخر غير المسيح لصرخ بجنون وسبَّ ولَعَنَ وجدَّف ولكنَّه
كان ‏يعلم أنَّهم يفعلون به ذلك وهم يجهلون حقيقته ”
لأَنْ
لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ.
‏‏” (1كو2/8
كما أنَّه وهو في هذه الظروف الرهيبة طبَّق كما سبق أنْ نادى به ” ‏
وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ.
بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ
الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ
” (مت5/44).

 

2 – وأثناء تجديف أحد اللصين عليه أشرق نوراً في قلب الآخر، اللص اليمين
كما ‏يذكر التقليد، وأدرك حقيقة المسيح والذي يبدو أنَّه شاهد وسمع أقواله أو علي
الأقل ‏سمع عن أعماله وأقواله قبل القبض عليه كما أنَّه شاهده علي الصليب في سموّ
‏وجلال وعظمة غير معهودين في المصلوبين العاديين فأدرك أنَّه أكثر من مجرَّد
‏إنسان بل وأدرك أنَّه المسيح الآتي إلي العالم والذي له السلطان والملكوت، كما
‏تنبأ دانيال النبي (دا 7/13-14)، فوبخ زميله قائلاً “
أوَلاَ
أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا
نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا
فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ:
«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ».
” (لو23/40-42
‏عرف السيّد صدق كلمات اللص وقبل توبته ووعده بأنَّه سيكون معه في الفردوس ”

فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:
إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ».
” (لو23/43) أي ‏في مقرِّ أرواح الأبرار والقديسين، وهنا بدأ يتحقق قول
المسيح ”
وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ
الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ
” (يو12/32).‏

3 – وكان يقف بالقرب من الصليب المعلَّق عليه كثيرات من النساء اللواتي
صعدن ‏معه من الجليل منهن أُمه مريم العذراء وأخت أمه مريم زوجة كلوبا وسالومي
‏ومريم المجدلية (
مر15/40-41)، وكان يقف
هناك أيضًا يوحنا الحبيب ابن زبدي، ‏التلميذ الذي كان معروفًا عند رئيس الكهنة (
يو18/15).
وكانت العذراء في تلك ‏اللحظة تعاني مما سبق وتنبَّأ به سمعان الشيخ عندما ذهبت به
إلى الهيكل لتقدم له ‏ذبيحة كما حسب الناموس، قائلاً ”
وَأَنْتِ
أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ
” (لو2/22-35)‏،
فأشفق السيّد علي أمّه (برغم ما كان يعانيه من آلام) من الحزن والوحدة ومما قد
‏يحدث لها من اليهود فسلّمها لتلميذه الحبيب يوحنا ”
فَلَمَّا
رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً قَالَ
لِأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ هُوَذَا ابْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا
أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ.

(
يو19/26-27).‏

4 – ثم عمَّت الظُلمة الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة
‏‏(
مت27/45)، أي من الساعة الثانية عشرة إلي الثالثة ظهرًا
بتوقيتنا الحالي.‏
اختفت الشمس في عزّ الظهر ورفضت أنْ
تُشرق علي الأرض التي يتألّم عليها ‏سيّد الكون وعبَّرت الطبيعة عن حزنها لآلام
الفادي كما سبق أنْ عبَّرت عن فرحها ‏بميلاده فأشرق نجمًا من المشرق وأضاء السماء
(
مت2/2و10) ابتهاجًا بذلك الميلاد. ‏وفي أثناء ساعات
الظلمة الثلاث هذه إجتاز الآلام النفسيّة والروحيّة وإحتجب وجه ‏الآب عنه كنائب
وبديل عن الخطاة. فقد كان في هذه الساعات كما قال يوحنا ‏المعمدان ”
حَمَلُ
اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.
” (يو1/29
وكما تنبَّأ إشعياء النبي ”
مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا
مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا.
” (إش53/5
برغم أنَّه البار الذي لم ‏يعرف خطية، إجتاز المرحلة التي كان يجب أنْ يدخلها
الخطاة، مرحلة الآلام ‏الروحيّة واحتجاب وجه الآب ومن ثمَّ صرخ مصليًا إلي الآب
كنائب عن البشرية ” ‏
إِيلِي إِيلِي لَمَا
شَبَقْتَنِي» أَيْ: إِلَهِي إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟
” (مت27/46)، فقد بذل نفسه كما ‏قال ” فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ
” (
مت20/28).‏

5 – وبعد أن قضى على الصليب ست ساعات ذاق فيها الآلام الرهيبة وعانى
‏طوالها من سكرات الموت وفقد فيها معظم الدم والسوائل التي في جسده وتعرض ‏خلالها
إلى حرارة الظهيرة، خاصة في الساعات الثلاث الأولى التي لم تغرب فيها ‏الشمس، فشعر
بعطش شديد، خاصة من الحمى الشديدة التي انتابته، وقال ”
أَنَا
عَطْشَانُ
“، يقول الكتاب ” بَعْدَ
هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ
قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ». وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ
فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا
إِلَى فَمِهِ.
” (يو19/28-29).‏

6- وبعد أنْ أخذ الخلَّ رأي أنَّ كلّ شيء قد كَمُل إذ قد تمَّم كلّ ما
جاء لأجله كما ‏سبق وخاطب الآب قائلاً ”
الْعَمَلَ
الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ.
” (يو17/4
وعلي ‏الصليب كان عمل الفداء قد تمَّ ومن ثمَّ فقد نطق كلماته الأخيرة بصوتٍ عالٍ
‏وبصرخةِ النصر ”
قَدْ أُكْمِلَ
(
يو19/30).‏

7 – ثم أحني رأسه وصلي صلاته الأخيرة علي الصليب مستودعًا روحه بإرادته
بين يدي الآب “
وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَا
أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ
الرُّوحَ
.” (لو23/46). أسلم
روحه الإنسانيّة بإرادته ورِضاه واِختياره كما ‏سبق أنْ قال ”
لِهَذَا
يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ
يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ
أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا
مِنْ أَبِي».
” ‏‏(يو10/17-18).‏

 

‏6 – العجائب والمعجزات التي رافقت عملية الصلب: ‏

‏ حدثت عدَّة ظواهر عجيبة أثناء الصلب وبعد وفاة المسيح مباشرة، فقد اِختفت
‏الشمس وعَمَّتْ الظُلمة علي الأرض مدَّة الثلاث ساعات الثانيّة لصلبه ولحظة موته
” ‏
أَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ مِنْ
وَسَطِهِ.
” (لو23/45)، ” وَإِذَا
حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ.
وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ
وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ
الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ وَظَهَرُوا
لِكَثِيرِينَ.
” (مت27/51-53).‏

أ – احتجاب الشمس: هذه
الظاهرة التي حدثت أثناء صلبه وعند موته مباشرة تُعْلِن ‏لنا عن غضب الطبيعة بل والكون
علي شرِّ الإنسان الذي صَلَبَ البار، وكان ذلك ‏معجزة بكل المقاييس تُبرهن علي أنَّ
المصلوب لم يكن سوى “رب المجد “.‏

ب – انشقاق حجاب الهيكل: وحجاب
الهيكل هذا هو ستارة سميكة جدًا بسمك ‏راحة اليد وبطول 60 قدم وبعرض 30 قدم وهو
كما يقول التلمود والمؤرّخ الكنسي ‏الذي من أصل يهودي أدرشيم
(8)،
مُكَوَّن من 72 مربعًا منسوجًا معًا وكان ثقيلاً ‏لدرجة أنَّه يحتاج إلي 300 كاهن
ليُعمل كل منها، وهو ضخم وغالي الثمن جدًا، ‏ويقول المؤرّخ اليهودي والكاهن
المعاصر لتلاميذ المسيح يوسيفوس
(9)أنَّه
ستارة ‏بابليّة من نسيج مُطَرَّز بالكتان النقي وباللون الأزرق والقرمزيّ
والأرجوانيّ ‏ومُزَيَّن برسومٍ مُطَرَّزة بصورةٍ رائعةٍ. وكان يفصل بين القُدْس
الذي تقام فيه ‏العبادة اليوميّة وقدس الأقداس، الذي يُوجد به تابوت العهد وكرسي
الرحمة، ‏والذي يُمثِّل الحضور الإلهي ولا يُفتح إلا مرَّةً واحدةً في السنة في
يوم عيد الكفارة ‏ولا يدخله إلا رئيس الكهنة هذه المرة الواحدة فقط ليُقَدِّم دم
ذبيحة عيد الكفارة ‏العظيم (
خر26/33؛لا16/14)
التي تعني أنْ تقدم الخطاة إلي الله لا يكون إلا بدمّ الذبائح ”
وَكُلُّ
شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ
دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!
” (عب ‏‏9/22).
وقد استمرَّت هذه الذبيحة الدمويّة تُقدَّم من موسي إلي المسيح، ولكن عند ‏موت
المسيح إنشقَّ حجاب الهيكل من أعلي إلي أسفل بقوَّة إلهيّة دون تدخّل أي قوّة
‏ماديّة أو بشريّة فقد إنشقَّ حجاب الهيكل قبل الزلزال مباشرة ولم يكن في إمكان أي
‏قوَّة بشريَّة أو ماديَّة أنْ تشق هذه الستارة التي في سمك راحة اليد والمصنوعة
من ‏الكتان الثمين بأي وسيلة ماديّة، وإنما شقتهُ قوَّة إلهيَّة علويَّة علامة علي
أنَّ عهد ‏الذبائح قد إنتهي فقد أُزِيلَ الحاجز الذي كان يفصل بين الله والناس بدمِّ
المسيح الذي ‏قَدَّم ذاته نيابة عن الخطاة فوُجِدَ فداءً أبديًا.‏

ج – الزلزال وتفتت الصخور: وتلي
انشقاق حجاب الهيكل تزلزل الأرض وتشقق ‏الصخور، وهذا الزلزال الذي يفوق الطبيعة
أعطى برهاناً واضحاً أنه تم بعمل الله، ‏وتشققت الصخور إعلاناً بأن الأرض ارتعبت
في تلك اللحظة الرهيبة التي حدثت ‏فيها هذه الجريمة المخزية للعالم.‏

دقيام أجساد بعض القديسين الراقدين: وقام
بعض القدّيسين الراقدين من الموت ‏لحظة موته وظهروا للكثيرين بعد قيامته، خاصَّة
لتلاميذه، وكانت قيامتهم علامة ‏إلهيَّة ومعجزة سمائيَّة رافقت موته علي الصليب
وبرهنت علي أنَّه القادر علي إحياء ‏الموتي حتي عندما فارقت روحه جسده، كما برهنت
علي القيامة العامة وعلي أنَّهم ‏كانوا أوَّل ثمار انتصاره علي الموت
(10).

 

‏7 – حقيقية وتاريخية هذه المعجزات والعجائب: ‏

‏ ولأنَّ هذه المعجزات والعجائب، أو الظواهر الإعجازيّة التي حدثت وقت
صلبه ‏وموته، غير عاديّة، وقد برهنت بصورة قاطعة علي أنَّ المصلوب لم يكن سوي ‏رب
المجد، المسيح، فقد زعم البعض عدم صحّتها، بحُجَّة أنَّها، كما يزعمون، ‏غير مُدَوَّنّة
في التاريخ العام، فقال أحدهم ” هذه حادثة عظيمة لو صحَّت لدوَّنها ‏التاريخ
العامّ الذي لم يُشِرْ إلي المسيح بكلمة (حسب إدّعائه). ولو صحَّت أيضًا ‏لآمن
الرومان واليهود 000 ولكن (حسب زعمه) لم تردْ أخبار بإيمان أحد من ‏اليهود علي أثر
تلك البيِّنات الباهرات!! “. وهذا الإدعاء المبني علي الهوي وغير ‏المدروس لا
أساس له من الصحة ويتجاهل حقائق التاريخ المؤكدة.‏

أولاً: لأنَّه عندما صُلب المسيح وحدثت هذه الظواهر
الإعجازيَّة لم تكنْ بشارته ‏ورسالته المسيحيّة قد خرجت خارج نطاق فلسطين وسوريا
وكان في نظر أهل هذه ‏البلاد مُجَرَّد ” نبي اليهود “
(11)
أو ” النبي الذي من ناصرة الجليل “
(12)،
وبالتالي فلم ‏يكن أحد قد سمع به كثيرًا خارج فلسطين أو سوريا. كما أنَّ عمليّة
القبض عليه ‏ومحاكمته وصلبه وموته لم تستغرق أكثر من 20 ساعة، من بعد عشاء الخميس
‏إلي ما قبل غروب شمس يوم الجمعة، فقد تمَّ كلّ شئ بصورة مفاجئة وسريعة، ‏وهذا لم
يجعل أحدًا خارج أورشليم يعرف شيئًا عمَّا حدث إلا بعد ذلك بأيَّام فما بالنا
‏بالعالم الوثنيّ خارج فلسطين.‏

 

ثانياً: وبالرغم من أنَّ كثيرين من كتَّاب التاريخ وعلماء
الفلك المعاصرين سجَّلوا ‏حدوث هذه الظواهر وقت حدوثها وفي نفس تاريخها المذكور في
الإنجيل إلاَّ إننا لا ‏نتوقَّع منهم أنْ ينسبوا سبب حدوثها لصلب المسيح وموته لأنَّهم
لم يكونوا قد سمعوا ‏عنه، وقتها، وإنما نتوقَّع، كما حدث بالفعل، أنْ ينسبوا سبب
حدوثها لآلهتهم ‏الوثنيّضة أو يعتبرونها ظواهر طبيعيَّة غير عاديَّة دون أنْ
ينسبوا سبب حدوثها لأحد ‏أو لشيء. وهذا ما حدث بالفعل، وعلى سبيل المثال فقد نقل
لنا يوليوس الأفريقي ‏
Juluis
Africanus
‏ (200-245م)
شهادة اثنين من معاصري هذه الأحداث: ‏

‏1 – فليجون Phlegon‏ والذي سجَّل أنَّه ” في زمن طيباريوس قيصر، والقمر في
‏تمامه، حدث كسوف تام للشمس من الساعة السادسة إلي الساعة التاسعة “
(13).‏

‏2 – تالوسThallus‏ الذي سجَّل في الكتاب الثالث من تاريخه الظلمة التي حدثت ‏في ذلك
اليوم. وإعتقد أنَّ ما حدث كان ” كسوفًا للشمس “، وذلك دون أنْ يذكر
‏سبب هذا الكسوف. ويُعلق يوليوس علي ذلك بقوله ” أنَّ العبريّين يحتفلون بعيد
‏الفصح يوم 14 للقمر وقد حدثت آلام المسيح في اليوم السابق للفصح، وكسوف ‏الشمس
يحدث فقط عندما يأتي القمر تحت الشمس، وهذا لا يمكن أنْ يحدث إلا في ‏الفترة ما
بين اليوم الأخير من الشهر القمري السابق واليوم الأول من الشهر ‏القمري الجديد،
وليس في أي وقت آخر “
(14).‏

‏ وهذه الحادثة كانت مُسجَّلة في سجَّلات الرومان الرسميَّة؛ إذ يقول
القسّ ترتليان ‏‏(140-220م) من قرطاج بشمال أفريقيا؛ أنَّه في نفس الساعة التي
أسلم فيها ‏المسيح روحه علي الصليب ” اختفي ضوء النهار والشمس في أوج إشراقها
000 ‏وأنتم أنفسكم (أيها الرومان) لديكم وصف لأعجوبة العالم (هذه) مُدوَّن في سجَّلاتكم
‏‏”
(15).‏

كما أنَّ الذين دوََّنوا هذه الظواهر في حينها ونسبوها للآلهة أو
اعتبروها ظواهر ‏طبيعيَّة غير عاديّة وآمنوا بالمسيحيّة بعد ذلك وعرفوا أنَّ سبب
حدوثها هو صلب ‏المسيح وموته ظلَّت شهادتهم، هذه، محفوظة لنا ولكن في سجّلات
المسيحيّة ومن ‏هؤلاء القديس ديوناسيوس الأثيني الذي كان وثنيًا وكان عالمًا في
الفلك وقد ذهب ‏إلي مصر ليتبحّر في ذلك العلم وعندما كان في مدينة هيرابوليس يرصد
النجوم في ‏وقت صلب المسيح كسفت الشمس علي غير عادتها فإندهش لهذا الكسوف الغير
‏عادي والغير متوقّع والذي دام لمدّة ثلاث ساعات فصرخ قائلاً ” إمَّا أنَّ
إله الطبيعة ‏يتألَّم أو أنَّ العالم أوشك أنْ ينهدم ” وعندما عاد إلي أثينا
وسمع القديس بولس ‏الرسول (
أع17/34) يتحدَّث
عن صلب المسيح وموته وما رافق ذلك من معجزات ‏وعجائب أدرك مغزي ما سبق أنْ شاهده
وسجّضله وآمن بالمسيحيَّة وسجَّل لنا هذه ‏الشهادة في رسالته السابعة وصار أوَّل
أسقف لأثينا. ‏

ثالثاً: وسُجّلت هذه الظواهر الإعجازية، أيضًا، في الكتب
المسيحيّة غير القانونيّة ‏وفي كتب التاريخ اليهودية وفي التلمود اليهودي؛ فقد جاء
في الكتاب الأبوكريفي ‏‏(المزيف – المنحول – غير القانوني) والمسمى ب ”
الإنجيل بحسب العبرانيين ” ‏والذي إقتبس منه القديس جيروم
(16)
سكرتير بابا روما في نهاية القرن الرابع ‏الميلادي، وكذلك في الكتاب الأبوكريفي
المسمى ب “إنجيل الناصريين ” والذي إقتبس منه هيمو الأكسيري سنة 850 م
أنَّ العتبة العليا ذات الحجم الضخم ورائعة ‏النقوش والمثبت بها حجاب الهيكل قد
انشطرت في اللحظة التي مات فيها المسيح ‏وتحوّلت إلي قطع متناثرة ” أنَّه في
الوقت الذي مات فيه المسيح إنشطرت عتبة ‏الهيكل العليا ذات الحجم الضخم “
(17).
وهذا نفس ما ذكره المؤرخ اليهودي ‏يوسيفوس
(18)،
ويُضيف، أيضًا أنَّ أصوات علويَّة مرعبة سُمعت تقول ” لنرحل من ‏ هذا المسكن
(19)، أي الهيكل.

‏ وجاء في التلمود اليهودي ما نصَّه ” قبل
خراب الهيكل بأربعين سنة انفتحت ‏أبواب الهيكل من تلقاء ذاتها، حتى وبَّخ الحبر
يوحنان بن زكاي قائلاً: أيها الهيكل ‏‏00 أيها الهيكل 00 لماذا تضطرب منزعجًا؟ أنا
أعلم نهايتك وشيكة الحدوث. لقد ‏تنبأ عنك زكريا بن عدو (
زك11/1)
حين قال: ”
اِفْتَحْ أَبْوَابَكَ يَا لُبْنَانُ فَتَأْكُلَ
النَّارُ أَرْزَكَ.
‏‏”(20).‏

‏ وذكر المؤرّخ والكاهن اليهوديّ يوسيفوس معاصر تلاميذ المسيح
(36-100م) ‏والذي عاصر وعاش بنفسه أحداث خراب أورشليم ودمار الهيكل أنَّه حدثت
‏علامات كثيرة في عيد الفصح تُنْذر وتُنْبِئ بخراب الهيكل القادم، فيذكر أنَّ نجمًا
‏ظهر كسيف ووقف فوق أورشليم واستمر النجم المذنب عام كامل، ثم يتحدَّث عن ‏نور
أشرق في الساعة التاسعة من الليل حول المذبح والهيكل وإستمر ساطعًا كضوء ‏النهار
لمدة نصف ساعة وإعتبره البسطاء فأل حسن، ولكن الخبراء رأوا فيه نذيرًا ‏بما هو
قادم ويذكر أنَّه أثناء نفس العيد وُلدت بقرة، قُدمت للذبيحة، حملاً في وسط
‏الهيكل وأنَّ البوابة الشرقية للرواق الداخلي والتي كانت مصنوعة من نحاس سميك
‏وضخمة جدًا لدرجة أنَّها كانت تحتاج إلي عشرين رجلاً لتحريكها كل ليلة وكانت ‏تُغلق
بالمتاريس والقضبان الحديديّة وكان لها أذرع حديدية تغوص بعمق العتبة ‏الصخرية
الصلدة، هذه البوابة الضخمة شاهدها الحراس وهي تنفتح ذاتها فأسرعوا ‏وأبلغوا
القائد وتمكَّنوا من إغلاقها بجهدٍ شاقٍ وظنَّ غير الخبراء أنَّ هذا فأل حسن ‏وأنَّ
الله فتح لهم أبواب السعادة ولكن الحكماء أدركوا أنَّ أمن الهيكل قد إنكسر من
‏ذاته وأنَّ ذلك مقدِّمة لخراب الهيكل القادم
(21).‏

‏ وما جاء في التلمود وما ذكره يوسيفوس إلى جانب ما ذكر في الأناجيل
‏الأبوكريفية يتطابق تماماً مع ما جاء في الإنجيل ولا يتعارض معه ويؤكِّد حقيقية
‏وتاريخية حدوث هذه العجائب والمعجزات.‏

‏ تقرير بيلاطس البنطي إلي الإمبراطور طيباريوس قيصر: أرسل بيلاطس
البنطي ‏الوالي تقريرًا إلي الإمبراطور الروماني المعاصر طيباريوس قيصر شرح فيه
‏بإيجاز شديد ما فعله المسيح من أعمال ومعجزات وما حدث في أثناء محاكمته ‏وصلبه
وموته وقيامته وقد ذكر هذا التقرير ترتليان (145-220م)
(22)،
كما ذكره ‏أيضًا المؤرخ الكنسي يوسابيوس (264-340م) والذي قال عنه ” ولما ذاع
في ‏الخارج خبر قيامة مخلصنا العجيبة وصعوده، فإنَّه جريًا علي العادة القديمة
التي ‏سرت بين حكام المقاطعات نحو إرسال تقرير للإمبراطور عن كل الحوادث الجديدة
‏التي تحدث فيها لكي لا يخفي عليه شئ ‏
‏ جريًا علي هذه العادة بعث بيلاطس ‏البنطي إلي طيباريوس بالأنباء
التي ذاعت في الخارج في كل أرجاء فلسطين ‏المتعلقة بقيامة مخلصنا يسوع المسيح من
الأموات. وقد أعطي وصفًا أيضًا عن ‏عجائب أخري عرفها منه، وكيف اعتقد الكثيرون
نتيجة قيامته من الأموات أنَّه إله ‏‏”
(23).
وهذا نصَّ ما جاء في رسالة بيلاطس كما جاء في مجموعة آباء ما قبل ‏نيقية
(24)عما
حدث وقت صلبه.‏

‏ ” وعندما صُلب كانت هناك ظلمة علي الأرض تمامًا واختفت الشمس
تمامًا وبدت ‏السماء مظلمة علي الرغم من أنَّ ذلك كان بالنهار، وظهرت النجوم وكان
ضوؤها ‏معتمًا في آنٍ واحدٍ، وكما أعتقد فإنَّ عظمتكم لا تجهلون ذلك، لأنَّه أضيئت
‏مصابيح في العالم كله من الساعة السادسة (12ظهراً) حتى المساء وبدا القمر مثل
‏الدم ولم يضئ طوال الليل برغم أنَّ البدر كان في تمامه. وناح أوريون ‏
Orion‏ ‏والنجوم أيضًا علي اليهود للشرِّ الذي فعلوه “.

 

رابعاً: واليهود، من رؤساء كهنة وفريسيين وكتبة وغيرهم،
الذين شاهدوا هذه ‏الظواهر الإعجازيّة، وخاصّة ما حدث في الهيكل، آمنوا بالمسيحيّة
بعد قيامة ‏المسيح وبعد حلول الروح القدس يوم الخمسين وانضموا إليها بالآلاف
وكانوا هم ‏أوَّل من حملوا لواءها إلي العالم أجمع. وهذا ما دُوِّن لنا في سفر
أعمال الرسل ‏وفي تاريخ الكنيسة في القرون الأولي. ويُعلِّق هيلد ‏
Held‏ علي هذه الحقائق ‏الإنجيلية وما حدث في الهيكل بقوله أنَّ هذا
النذير ذا المغزي كان بلا شك التفسير ‏لحقيقة أنَّ عدد كبير من الكهنة تحوّلوا إلي
المسيحيّة في الأزمنة الرسوليّة الأولي.‏

‏ أما من جهة قيامة كثير من أجساد القديسين الراقدين لحظة موته
وظهورهم ‏لكثيرين بعد قيامته فقد سجل لنا القديس أغناطيوس تلميذ بطرس الرسول الذي
‏أستشهد سنة 107م أنَّ المسيح أقام أنبياء من الموت عند مجيئه إلى العالم ”
أنَّ ‏أنبياء كتلاميذه بالروح كانوا ينتظرونه كمعلم ولأنَّه رجاؤهم فقد أقامهم عند
مجيئه ‏‏”
(25).
كما سجَّل بابياس الذي عاش في بداية القرن الثاني الميلادي (70-155م) ‏وكما نقل
لنا عنه المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري أنَّه سمع ” قصة عجيبة من ‏بنات
فيلبس (الرسول). لأنّه يقول أنَّ واحدًا قام من الأموات في عصره (عصر ‏فيلبس)
(26).‏

 

‏8 ‏‏ إيمان قائد المئة وبقية الجنود الرومان الذين كانوا يحرسون
‏الصليب: ‏

‏ وكما آمن الآلاف من اليهود وانضموا إلي المسيحيّة بسبب ما حدث من
قوات ‏وعجائب وقت صلب المسيح وموته، هكذا أيضًا آمن الكثيرون من الرومان بسبب
‏حدوث هذه المعجزات والعجائب، يقول الكتاب ”
وَأَمَّا
قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا
الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: «حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ
اللَّهِ».
” ‏‏(مت27/54
لقد أدرك قائد المئة والجنود أنَّ ما حدث علي الصليب وأثناء عملية
‏الصلب وما حدث عن موت السيّد المسيح يدلّ علي أنَّ المصلوب لم يكنْ مُجَرَّد
‏إنسان عاديّ، بلّ أكثر من ذلك وأعظم، فقد سمعوا بآذانهم كلمات المسيح علي ‏الصليب
وشاهدوا بعيونهم ما حدث ومن ثم فهموا ما قاله رؤساء الكهنة وهم ‏يسخرون منه ”
إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!
(
مت27/40)، وربما كانوا أيضًا ‏قد سمعوا قولهم لبيلاطس

يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ
اللَّهِ
” (يو19/7)، فآمنوا ‏أنَّه حقًا كان ” ابْنَ اللَّهِ “.‏

 

‏9 ‏‏ أقوال
المصلوب وتصرفاته هل يمكن أن تكون لغير المسيح؟

‏ بعد أنْ استعرضنا عمليّة الصلب من جميع جوانبها نأتي إلي هذا السؤال
الهام: ‏

هل يمكن أنْ تحدث تلك الظواهر الإعجازيّة لو كان المصلوب إنسان آخر غير
‏المسيح؟

وهل يمكن أنْ يتصرف هذا الآخر نفس التصرّفات وتخرج منه نفس ‏الأقوال
التي صدرت من فم المصلوب؟

والإجابة بالقطع كلا، فلا يمكن أنْ تغيب ‏الشمس في عزّ الظهيرة ولا أنْ
تتزلّزل الأرض ولا أنْ تنشق الصخور ولا أنْ ‏ينشقّ حجاب الهيكل لموت أيّ إنسان
مهما كان، إلاَّ لموت المسيح فقط، فهو البار ‏وربّ المجد.‏

ولا يمكن أنْ تخرج الكلمات التي خرجت من فمه الطاهر من فم مصلوب آخر،
فقد ‏كان ينتاب المصلوبين نوبات من الهلع والجنون والصرع والتشنج وكان يخرج من
‏أفواههم، نتيجة لذلك، سبّ وتجديف وصراخ، وهذا ما فعله اللصَّان اللذان صُلِبَا
‏معه والتي وصلت بهما درجة الهلع واليأس إلي التجديف علي المسيح ذاته حتي ‏أدرك
اللصّ اليمين، في لحظات نورانيّة خطأه وتاب، بينما كان المسيح برغم كثرة ‏الآلام
وسكرات الموت هو الحمل الوديع محبّ البشر، فقد غفر لصالبيه وشفع فيهم ‏لدي الآب،
وقَبِلَ توبة اللصّ التائب ووعده بالفردوس في نفس اليوم، وترفَّق بأمِّه ‏العذراء
وسلَّمها لتلميذه الحبيب، وفي ساعات الظلمة صرخ معلنًا احتجاب وجه ‏الآب عنه بسبب
اجتيازه الآلام الروحيّة كنائب عن البشريّة، وفي النهاية أعلن أنَّ ‏كلّ ما جاء
لأجله قد أُكمل، وعندما أسلم روحه البشريّة بإرادته استودعها في يَدَيّ ‏الآب.‏

والغريب أنَّ المعارضين لصلب المسيح أدركوا ذلك ولم يعترضوا علي أي
تصرّف ‏أو قول صدر من المسيح أو نسبوه لغيره ولكن أحدهم زعم ” أنَّ التلاميذ
كانوا ‏واقفين من بعيد ولم يقترب أحد منهم إلي المصلوب ولم يتحدّث إليه “، وإعتبر
أنَّ ‏ما ذُكر في الإنجيل هو من روايات التلاميذ أنفسهم!! ونقول لهذا وأمثاله هل
يقبل ‏عقل إنسان مؤمن بوحي الله والكتب الموحي بها أنَّ التلاميذ الحواريّين الذين
قيل ‏عنهم ”
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ
آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي (المسيح) قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ ‏بِأَنَّنَا
مُسْلِمُونَ “
(المائدة: 111).
وأنَّهم
” أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ ” (آل
عمران: 52
)، ‏وأنصار المسيح، وأنَّهم قالوا ” رَبَّنَا
آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ (المسيح) فَاكْتُبْنَا ‏مَعَ
الشَّاهِدِينَ
” (آل عمران: 53).
والذين قال لهم المسيح ”
وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي
أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى
الأَرْضِ
” (أع1/8)، هل يمكن أنْ ‏يكونوا ملفّقي
روايات؟!! بالطبع كلا وحاشا.‏

‏ كما أنَّ كثيرين من أتباع المسيح كانوا قريبين من الصليب بدرجة
كافية ليروا كل ‏شئ ويسمعوا كل ما قاله وعلي رأس هؤلاء مريم العذراء التي خاطبها
مباشرة ‏وعندما سلَّمها لتلميذه يوحنا وتلميذه الحبيب ابن زبدي الذي تسلَّم منه
مباشرة أُمه ‏العذراء والذي تابع محاكمة المسيح وصلبه عن قرب ودون خوف لأنه كان
معروفاً ‏عند رئيس الكهنة (
يو15/18)، وكان
هناك أيضًا العشرات من تلاميذ المسيح غير ‏المعروفين
(27)والذين
قصُّوا لبقيَّة التلاميذ ما حدث أثناء عمليّة الصلب. وكذلك ‏العشرات من رؤساء
الكهنة الذين آمنوا ولكن خفية بسبب الخوف من الطرد من ‏المجمع اليهودي (
يو12/42
ولكنهم علي أيَّة حال كانوا تلاميذه وانضموا إلي ‏المسيحيّة بعد
قيامته، هؤلاء كانوا واقفين دون خوف وشاهدوا كل شئ وسمعوا كل ‏ما قيل بكل دقة وقصُّوه
علي بقيّة التلاميذ. وهذه الحقائق تؤكِّد بصورة جازمة أنَّ ‏المصلوب لم يكن سوي
شخص السيد المسيح. كما أنَّ كثيرين من الجماهير التي ‏كانت محتشدة حول الصليب
وشاهدوا ما حدث وسمعوا ما قاله السيد ندموا لأنهم ‏وافقوا رؤساء الكهنة على صلبه
وَكُلُّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا
الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ.

(
لو23/48)، ‏حزنًا وندمًا وأسفًا.

 ‏

‏10 – دفن جسد المسيح وشهادة يوسف الرامي ونيقوديموس: ‏

أ – التأكد من موته وطعن جنبه بحربة: ‏

‏ حسب عادة الرومان كان يجب أنْ يظلّ المصلوبين علي الصليب حتي يموتوا
‏ويتعفّنوا أو يدفنهم أحد. ولكن حسب الناموس اليهودي كان يجب أنْ لا تبيت جثث
‏المصلوبين علي الصليب، ونظرًا لأنَّ عمليّة الصلب تمّت يوم الجمعة وكان يوم
‏استعداد واليوم التالي هو يوم السبت المقدّس عند اليهود وكان هذا السبت بالذات هو
‏بداية عيد الفصح العظيم والذي كان يوم الجمعة استعدادًا له لذا كان يجب أنْ يموت
‏المصلوبين ويُدفنوا قبل غروب شمس يوم الجمعة؛ ”
وَلَمَّا
كَانَ الْمَسَاءُ إِذْ كَانَ الاِسْتِعْدَادُ – أَيْ مَا قَبْلَ السَّبْتِ –

(
مر15/42). وكانت عمليّة كسر سيقان المصلوبين ‏عمليّة
قانونيّة في القانون الروماني تسمى ” بضربة الرحمة”، وكذلك كان الطعن
‏بالحربة، وكانت هذه العمليّة تتمّ بضرب الساقين بمطرقة خشبيّة ثقيلة، وبرغم
‏فظاعة هذه الضربة كانوا يرون أنَّها تُعجّل بموت المصلوبين وتُنهي عذابهم علي
‏الصليب ”
فَأَتَى الْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ
الأَوَّلِ وَالآخَرِ الْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا
إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ.

(
يو19/32-33)، لقد مات ‏المسيح في زمن قياسي ولم
يبقَ علي الصليب إلا ستّ ساعات فقط فلمَّا أتي العسكر ‏إليه ليكسروا ساقيه ليعجلوا
بموته وجدوه قد مات، نعم مات هكذا سريعًا لسببين ‏الأول هو أنَّه قَبِلَ الموت
بإرادته واَسْلَم روحه للآب بإرادته كما سبق أن أكد ”
لِي
سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً.

” (
يو10/18)، والثاني راجع لما عاناه ‏طوال حوالي 20 ساعة
متواصلة من آلام نفسيّة وجسديّة، خاصّة وأنَّه قُبض عليه ‏وحُوكم ليلاً وأُهين إلي
جانب ما لاقاه من ضربٍ ولطمٍ ولكمٍ والذي انتهي بجلده ‏جلدات وحشيّة قطعت لحمه في
معظم أجزاء جسده إضافة إلي إكليل الشوك الذي ‏إنغرست أشواكه في رأسه. وبرغم أنَّ
الجنود تأكدوا تمامًا من موته بخبرتهم إلاَّ ‏أنَّ واحد منهم أراد أنْ يكون مطمئن
تمامًا إلي موته، خاصَّة وأنَّ الأمر بالتعجيل ‏بموت المصلوبين كان صادرًا من
الوالي الروماني، كما أنَّ المصلوب ذاته كان ذا ‏أهميّة قصوي لكل من اليهود
والوالي، لذا طعن جنبه بحربة اخترقت القلب ومزقته ‏تمامًا ”
لَكِنَّ
وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ
وَمَاءٌ.
” (يو19/34)‏، كان
الجندي مدربًا علي هذه الطعنة. والتي يقول العلماء أنَّها ‏كانت تُطعن من اليمين
إلي اليسار لكي تخترق القلب وتمزّقه، وعلي إثر هذه ‏الضربة التي اخترقت القلب
ومزقته ”
خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ.” من جنبه بالرغم من أنَّه
كان ‏قد مات، وهذه علامة أخري تؤكِّد لنا أنَّه بالرغم من أنَّ الجسد كان ميتًا
إلاَّ أنَّه لم ‏ير فسادًا ؛ يقول العلامة أوريجانوس (185-254م): ” في
الأجساد الميتة الأخري ‏يتجمد الدم ولا يخرج منه ماء نقي. ولكننا نجد العجب في
حالة الجسد الميت ‏ليسوع فإنَّه حتي بعد الموت كان في الجسد دم وماء، خرجا من جنبه
(28)، ويقول ‏وستكوت العالم وأسقف كرسي
درهام بإنجلترا: ‏

‏ ” نحن نؤمن أنَّه من اللحظة التي مات فيها المسيح بدأ جسد الرب
يأخذ استعداده ‏بالتغيرات التي انتهت بإستعلان القيامة. وأنَّ خروج دم وماء من
جنبه يلزم أنْ ‏يُعتبر كعلامة حياة من موت “
(29).

 

والعجيب أنَّ ما طلبه رؤساء اليهود هنا صار شهادة عليهم وعلي من يزعمون
‏الآن أنَّ المسيح لم يمتْ علي الصليب، لأنَّه بإصرارهم علي إنهاء حياة المصلوبين
‏بكسر سيقانهم كذلك طعن الجندي المدرب جيدًا لجنب المسيح بحربة مدببة اخترقت
‏القلب ومزّقته فقد حرموا من موقف كان يمكن أنْ يستغلوه ويزعموا، بعد قيامته، ‏مع
القائلين الآن، أنَّ المسيح لم يمتْ علي الصليب وإنما كان قد أغمي عليه فقط ثم
‏فاق من غيبوبته في القبر، ولكن بعدما حدث وتأكَّد بصورة قاطعة لا لبس فيها أنَّ
‏المسيح قد مات حقًا علي الصليب فقد حرم كلاهما من هذه الفرصة التي تناسب ‏خبثهم
المعهود وأفكارهم الضالة، حيث إنَّهما، كليهما، يقولون ما لا يؤمنون به ‏لمجرد
التشكيك.‏

 

ب ‏‏ الدفن: ‏

‏ بعد ذلك جاء يوسف الرامي وطلب من بيلاطس الإذن بدفن جسد المسيح،
وهذا ‏الرجل كان غنيًا ومشيرُا وشريفًا وصالحًا بارًا وعضوًا في السنهدرين، كما
كان ‏أيضًا منتظرًا لملكوت السموات وتلميذًا خفيًّا للسيّد المسيح ومن ثمَّ فلم
يكن موافقًا ‏علي القبض علي المسيح ومحاكمته وصلبه، يقول الكتاب: ”
وَلَمَّا
كَانَ الْمَسَاءُ جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ – وَكَانَ
هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ.
” (مت27/57
” ‏
جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ مُشِيرٌ شَرِيفٌ وَكَانَ
هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ اللَّهِ
” ‏‏(مر15/43
وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً
صَالِحاً بَارّاً – هَذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَهُوَ
مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ
مَلَكُوتَ اللهِ.
” (لو23/50-51
” ‏
ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ وَهُوَ تِلْمِيذُ
يَسُوعَ وَلَكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ

” (
يو19/38). هذا الرجل الذي ‏كان تلميذًا للسيد المسيح ولكن
لم يعلنْ الحقيقة مثله مثل المئات من رؤساء اليهود، ‏فقد

آمَنَ بِهِ
(المسيح) ذَلِكَ كَثِيرُونَ مِنَ
الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ
يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ
” (يو12/42
هذا الرجل تجاسر ‏عند موته ”
فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى
بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ.
” ‏‏(مر15/43).

 

كان لابد أنْ يحصل علي إذن الوالي التي كانت الأمور في يده فدخل علي
بيلاطس الوالي ‏الروماني، بحكم موقعه كأحد رؤساء اليهود وكأحد أثريائهم ”
وَطَلَبَ
جَسَدَ يَسُوعَ
” ‏، إذ أنَّه بعدما شاهد بنفسه ما حدث من عجائب ومعجزات حدثت
عند صلب المسيح ‏وموته زال عنه كل خوف وعمل ما لم يستطيع تلاميذ المسيح عمله غير
عابيء بما ‏سيُقال عنه أو يُتخذ ضده، فقد كان الله قد أعدَّه لهذه المهمّة لأنَّه
لو لم يفعل ذلك ‏لكان اليهود قد دفنوا السيد في إحدي المقبرتَين العامّتَين وكان
طلب يوسف الرامي ‏هذا سبب تعجّب واندهاش من الوالي فلما تأكد من قائد المئة أنَّه
مات هكذا سريعًا ‏وعلي غير المعتاد أمر ”
فَأَمَرَ
بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ.
” (مت27/58
فَتَعَجَّبَ بِيلاَطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا
قَائِدَ الْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: «هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» وَلَمَّا عَرَفَ
مِنْ قَائِدِ الْمِئَةِ وَهَبَ الْجَسَدَ لِيُوسُفَ.
” (مر
15/44-45
) دون تردّد.‏

‏ “ وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ
الَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ
وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً.
” (يو19/39)، وكان نيقوديموس هذا
مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ 000 رَئِيسٌ
لِلْيَهُودِ.
‏‏” (يو3/1)، وكان من المؤمنين
بيسوع المسيح وسبق له أنْ قابله ليلاً ”
هَذَا
جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ
أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ
هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ».
” (يو3/2)، وإستفسر منه عن أمورٍ روحيّة، كما سبق ‏له أنْ دافع عنه في
مجلس السنهدرين الذي كان عضوًا فيه عندما أدانوا السيد دون ‏أنْ يستمعوا له فقال
لهم، “
وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: أَلَعَلَّ
نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا
فَعَلَ؟
” (يو7/50-51)، ولكنّه صمت أمام إرهابهم. ‏

‏ هذا الرجل ظهر علي مسرح الأحداث دون خوف أو تردّد وقام بعملية تحنيط
‏الجسد ودهنه بالأطياب، فقد توزّعت الأدوار بينه وبين يوسف الرامي الذي حصل ‏علي
إذن الوالي بدفن الجسد وإشترى كفنًا من الكتان الفاخر وأنزل الجسد عن ‏الصليب (
مر15/46)
بينما ذهب هو إلي المدينة وإشترى كميّة كبيرة من الأطياب ‏غالية الثمن جدًا “
مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ
وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ
يُكَفِّنُوا.
” (يو19/39-40).‏

 

كانت عادة اليهود أن~ يدهنوا موتاهم بالأطياب والحنوط عند تكفينهم
وذلك لحفظ ‏الجسد سليمًا لفترة ولكن ليس كالمصريين القدماء الذين أخذوا عنهم هذه
العادة بل ‏لمجرّد تكريم الجسد ومن ثم فلم ينزعوا من الجسم المخ والأحشاء والأجزاء
القابلة ‏للفساد بل كانوا يدهنون الجسد من الخارج فقط.‏

‏ وقد إستخدم نيقوديموس في دهان جسد المسيح بالأطياب كمية كبيرة من
” المر ” ‏والذي له مفعول طبي مطهر، وكان يُستخدم كأحد مواد التحنيط
الأساسيّة عند ‏قدماء المصريين
(30)،
و” العود ” وكان غالي الثمن جدًا وله رائحة نفّاذة تظلّ عالقة ‏بالجسد
لسنوات عديدة، “نحو مئة منًا ” أي حوالي 36 كيلو.‏

‏ وبعد دهن الجسد بالأطياب ولفُّه بالكتّان والأربطة وضعاه في قبر
يوسف الرامي ‏الجديد والمنحوت في الصخر والذي لم يدفن فيه أحد من قبل (
مت27/60؛
ولو 23/53
). ‏وهذا القبر كان في نفس موقع الصليب مما جعله مناسبًا ليتمّ دفن
جسد المسيح فيه ‏قبل غروب الشمس وبداية سبت الفصح العظيم ”
وَكَانَ
فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ
جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ
اسْتِعْدَادِ الْيَهُودِ لأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ قَرِيباً.

(
يو19/41-42). ثم وضع حجرًا ضخمًا علي ‏القبر (مت27/60)
لمنع أيّ خطر قد يتعرّض له الجسد المقدّس سواء من إنسان أو من ‏حيوان.‏

 وكان هناك بعض النساء اللواتي كنّ يتابعنّ دفن الجسد المقدس ” وَتَبِعَتْهُ
نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ
وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً
(إضافية)
وَفِي السَّبْتِ اسْتَرَحْنَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ
” (لو23/55-56).‏

 

‏12 – ختم القبر ووضع حراسة مشددة عليه: ‏

‏ عاد رؤساء اليهود من كهنة وفرّيسيين إلي منازلهم سعداء ليستعدّوا
للفصح بعد أنْ ‏ظنُّوا أنَّهم قضوا علي المسيح، خاصّة وأنَّهم تأكَّدوا من صلبه
وموته ودفنه، ولكن ‏كان بداخلهم شعور غير مريح من أنَّه قد يظهر ثانية كما قال،
فقد تذكّروا ما سبق ‏أنْ أعلنه وردّده مرّات كثيرة من أنَّه سيقوم من الموت في
اليوم الثالث. فقرّروا أنْ ‏يطلبوا من الوالي الروماني بيلاطس البنطي أنْ يختم
القبر ويضع حراسة عليه ” ‏
وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ
الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى
بِيلاَطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ
قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ
الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِئَلا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً
وَيَسْرِقُوهُ وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ فَتَكُونَ
الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ:
«عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا
وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ.

(
مت27/62-66). وهكذا وضعوا حراسة مشددة علي
القبر وختموا الحجر ‏بالشمع حتي لا يمكن أنْ يتحرّك من مكانه بدون كسر هذه
الأختام، وقد تصوّروا ‏أنَّهم بذلك قد منعوا تحقيق نبواته وقيامته في اليوم الثالث
دون أنْ يدروا أنَّ ما فعلوه ‏كان برهانًا علي حقيقة موته واستحالة خروج جسده من
القبر سواء بالسرقة أو ‏التواطؤ لأنَّ الجنود الرومان حرسوا القبر بأوامر مشدّدة
من السنهدرين وتحت ‏قيادته مع موافقة الوالي وسلطانه، وهؤلاء جميعًا أعطوا البرهان
الأوَّل لحقيقة ‏قيامته من الموت فقد حرسوا جسده بكل عناية ولما قام من الموت كان
من ‏المستحيل عليهم جميعًا أنْ يمنعوا خروجه من القبر وهو الذي انتصر علي الموت
‏والهاوية.‏

 

‏‏13 – انتحار يهوذا: ‏

‏ بعد أن برهنَّا تفصيليًا علي صحَّة موت المسيح علي الصليب يتبقّي
لنا أنْ نُعَلِّق ‏علي الزعم القائل بأنَّ الذي صُلِبَ هو يهوذا وليس المسيح، يقول
لنا الكتاب ”
حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي
أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ
إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ قَائِلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ
سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً». فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!»
فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ.
فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا: «لاَ يَحِلُّ أَنْ
نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ». فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا
بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهَذَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ
«حَقْلَ الدَّمِ» إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
” (مت27/3-8).
فقد إنتحر يهوذا ندمًا وحزنًا بأنْ خنق نفسه، ويقول الكتاب ‏أيضًا أنَّه سقط
وانسكبت أحشاؤه “
إِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ
انْشَقَّ مِنَ الْوَسَطِ فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا.

“، وكان جميع سكان أورشليم يعرفون هذه الحقيقة ”
وَصَارَ
ذَلِكَ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ
“، كما
أن الحقل الذي تم شراؤه بالثلاثين من ‏الفضة كان معروفاً أيضا لجميع سكان أورشليم
حَتَّى دُعِيَ ذَلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ «حَقْلَ دَمَا»
(أَيْ: حَقْلَ دَمٍ).
” (أع 1/18-19).‏

‏ كان صلب المسيح وموته علي الصليب معروفًا لجميع سكان أورشليم كما
كان ‏انتحار يهوذا أيضًا وانسكاب أحشائه وشراء حقل الدم الذي جُعل مقبرة للغرباء
‏بالثمن الذي باع به المسيح معروفًا لجميع سكان أورشليم وكلا الحادثتَين تمَّا في
‏مكانَين مختلفَين وبعلم ومعرفة جميع سكان أورشليم، وهذا في حدّ ذاته يردّ علي ‏كلّ
إدّعاء ويُبْطِل الأقوال المبنيّة علي الخيال والأوهام والبعيدة تمامًا عن الحقيقة
‏والواقع.‏

 

(1)
Herodotus 3: 125

(2) Ibid 4: 43

(3)
Ibid 3: 159 & Thucydides 1: 110

(4)
Josephas
Ant. 2: 261, 266. 267: 17: 295; 20: 102. 161; Wars 5: 449-451

(5)
See Arenaeus Ag. 2: 24, 4
.

(6)
أكتشف سنه 1968م في جيف آت ها – مفتار بأورشليم بقايا عظام من القرن الأول
الميلادي في معظمه (كان تجمع فيه عظام الموتى) تعطينا تفصيلات عن طرق الصلب زمن
المسيح، تضم عظمتين لعقب قدم شخص صلب في القرن الأول ما يزالا مثبتين معاً بمسمار
حديد وأخد بطول 14سم.
the International St. B. Ency. VOL. 1, P, 829.

‏(7) كانت بعض سيدات أورشليم الرحيمات يحضرون هذا المشروب ليعمل كمخدر
ومخفف لآلام بعض المصلوبين عملاً بقول سليمان الحكيم “أعطوا مسكراً لهالك
وخمراً لمرى النفس” أم 6: 31.

(8) J.D
wight Pentecost, The Words and Works of Jesus. ch. P. 488

(9) The Jewish Wars B. 5: 4, 5.

(10) أولئك الموتى الذين عادوا إلى الحياة يرى البعض أنهم من قديسي
العهد القديم (أنظر 2بط 4: 3)، ويرى البعض الآخر أنهم من الذين شاهدوا المسيح
وآمنوا أنه المسيح الآتي إلى العالم وقد ماتوا قبل صلبه، ولما قاموا من الموت
ظهروا للكثيرين الذين كانوا يعرفونهم وهم أحياء. بينما يرى كثيرون من أباء الكنيسة
ومن مفسري العصر الحديث أن أولئك الموتى هم الذين بشرهم المسيح عند نزوله إلى
الهاوية بعد موته (1بط 19: 3) واصطحبوه إلى المجد عندما صعد إلى السماء.

(11) يقول الكتاب انه ” كان عندهم مثل نبي ” (مت5: 14؛46:
21).

(12) متى 11: 21 ولم يطلب السيد من تلاميذه أن يذهبوا إلى العالم أجمع
وإلى أقصى الأرض كلها إلا بعد قيامته (متى29: 28؛ أع8: 1). كما أن طلب منهم أن لا
يبرحوا أورشليم إلا بعد أن يحل عليهم الروح القدس (لو 49: 24).

(13)
Antes N.F. Vol.6 p. 137
.

(14) Ibid p. 136.

(15) Apology: 21.

(16) The Pulpit com. Vol. 15 p.
594
.

(17) N. T. Apoc. Vol. 1p. 150.

(18) Ibid 153.

(19) Jos. The Jewish W. B6: 5,299.

(20)
المسيح في يوسيفوس ص49.

(21)
Jos. The Jewish
W. B6: 5, 288-295.

(22) Apol. 1: 21.

(23)
يوسابيوس ك 2ف 1: 2،2.

(24) Ante N.F. vol. 8p. 4632.

(25) Magnesians ch.9.

(26)
يوسابيوس ك 3ف 9: 39

(27) يذكر القديس بولس الرسول أن السيد المسيح بعد قيامته ظهر دفعة
واحدة لأكثر من خمسمائة أخ (1كو 6: 15) وبالطبع كان العشرات من هؤلاء عند الصليب
وقريبين منه جداً دون خوف لأنهم كانوا غير معروفين لرؤساء الكهنة’.

 (28) Ag. Celsus 2: 36.

(29)
شرح إنجيل القديس يوحنا، الأب متى المسكين ج 1226: 2

(30) كانت عملية تحنيط جثة الميت عند قدماء المصريين تتم بسحب المخ من
الجمجمة بإدخال آلة حديدية من فتحتي الأنف ثم بتنظيف الجمجمة وغسلها بالعقاقير،
وكذلك إخراج محتويات البطن من خلال فتحة تُعمل بطول الخاصرة وغسلها بالعرقي (خمر
النخيل) ثم بسكب العطور المسحوقة، وبعد ذلك يملأ تجويف البطن بالمر مع السنا
Cassia ومختلف الأطياب، عدا البخور، وتغلق الفتحة وتنقع الجثة في النطرون
مدة سبعين يوماً، وبعدها تغسل وتلف وتربط بالكتان الفاخر الذي يثبتونه في الجثة
باللبان، الذي يستخدمه المصريين عامة بدلاً من الصمغ العربي، وتوضع الجثة في تابوت
خشبي على شكلها ثم يوضع التابوت قائماً أمام حائط المقبرة. (
Herodotus B. 2: 86).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى