علم المسيح

ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص



ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص

ينبغي أن ذلك يزيد
وإني أنا أنقص

.
انقضت فترة التلميح والتحفظ في التبشير. فقد تجلى كيان المسيح في طبيعتيه الإلهية
والإنسانية، وقدمت للناس باكورة تعاليمه، وقامت الأدلة الأولى على القدرة التي سوف
يستخدمها، واعتلنت تباشير موته وقيامته. هذا، وقد جرت، في ذات الفترة، أحداث عجلت
وقوع الأقدار

 

. كان
يوحنا المعمدان، أثناء إقامة يسوع في أورشليم، يواصل تعميد الجماهير. وكان -على ما
جاء في الإنجيل (يوحنا3: 22 – 30) – ” وكان يوحنا يعمد في عين نون، بقرب
ساليم، لأنه كان هناك مياه كثيرة “. ويحدد لهذا الموقع، عادة، منطقة من
الينابيع لا تبعد كثيرا عن سكيتوبوليس، وتقرب كل القرب من بقعة تعرف اليوم باسم
” تل ساليم “. ولما كانت ” عين نون “، في الآرامية، تعني
” الينبوع “، و”ساليم ” تعني ” السلام ” فقد كان
اختيار الموضع موفقا، بسبب دلالته الرمزية. ولكن يسوع، هو أيضا، كان قد غادر أورشليم،
وطفق يعمد؛ أو، بالأحرى (يوحنا 4: 2)، ترك لتلاميذه مهمة القيام بشعائر التعميد،
في حضرته، من غير أن يقوم بها بنفسه: ولا عجب، فإن ساعة التعميد بالروح لم تكن بعد
قد وافت. (يوحنا 7: 39)، ولن تأزف إلا من بعد موت المسيح وتمجده

مقالات ذات صلة

 

: ولا
بد أن الجماعتين كانتا على تجاور، إذ أن أتباع يوحنا أوجسوا من نشاط يسوع غيرة.
فقد نشأ شبه نزاع، وانعقدت إحدى تلك السعايات التي تبرع فيها بطانات الأشخاص
العظام، وهي أبدا شديدة التمسك بامتيازات زعمائها. وذلك أن أحد اليهود، كان ربما
قد قبل معمودية يسوع، فأقبل إلى تلاميذ يوحنا يفاضل بين مفاعيل المعموديتين
متمادياً في الثرثرة. فوافوا إلى معلمهم يشكون إليه الأمر. ولكن المعمدان ظل، كما
كان دائماً، عظيما في تواضعه، فأجاب

 

.
” لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئا إن لم يكن قد أعطى من السماء. أنتم أنفسكم
تشهدون لي أني قلت: أني قلت لست أنا المسيح، بل إني مرسل أمامه. من له العروس فهو
العريس. أما صديق العريس الذي يقف ويسمع، فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذا فرحي
هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص ” (يوحنا 3: 27 – 30)

 

.
كلام رائع خليق بذاك الرجل السامي الذي أجاد التطوع لتلك المهمة الشاقة التي
أسندها الله إليه. كان قد صرح عن نفسه أنه لا يستحق أن يحل، للمسيح المنتظر، سيور
حذائه. وها هوذا اليوم يشبه مهمته بمهمة ” صديق العريس ” (وكان، في
الأعراس اليهودية، يعنى بلوازم الحفلة، بتضحية وتجرد كاملين). بل راح ينبئ بأنه
سوف يأفل نجمه، لكي يتمكن الوافد الجديد من البلوغ إلى أوج سنائه. أجل، لقد كان في
ذلك ما يحمل على الخيبة أشد الناس حمية؛ وإننا لنعجب بأولئك الذين ضلوا، مع ذلك،
ثابتين على ولائهم للمعمدان، حتى في وسط ذاك الانهيار الذي أنبأ به. ونعلم أن بعضا
منهم لبثوا، من بعد مصرعه، متمسكين بتعاليمه؛ منهم أولئك الذين سوف يقع عليهم
بولس، في أفسس (أعمال 19: 1 -7)

 

.
” ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص! “: كلمة كان لا بد أن تكتسب، بعد
فترة وجيزة، معنىً حافلاً بالهول والأسى.. فقد كان هيرودس أنتيباس، والي الجليل،
يعيش في تصوره عيشة الملوك، في بسطة من البذخ والترف، ويعمل على تشييد عاصمته
طبرية، عند ضفاف البحيرة الساحرة. وكان، إلى ذلك، قد طلق امرأته، ابنة ملك
الأنباط، وتزوج بهروديا امرأة أخيه. فعظمت، في فلسطين، فضيحة ذاك الحب الحرام الذي
كان يود، في نظر الشرع، سفاحا. (سفر اللاويين 18: 16؛ 20: 21). فمثل المعمدان بين
يديه، جاريا على غرار الأنبياء من قبله، وقال له: ” لا يحل لك أن تأخذ امرأة
أخيك! ”

 

. إن
داود لم يقدم على اعتقال ناثان، قديما، يوم جاء يبكته بامرأة أوريا الحثي. ولكن
أمير طبرية لم يكن من الشهامة بحيث ينصاع لضرورة التوبة، فألقى عاذله في السجن،
تفاديا من سماع صوته.. ذاك ما يورده الإنجيل، في تعليل اعتقال المعمدان (لوقا 3:
19، متى 14: 3- ه، مرقس 6: 17). بيد أن إفلافيوس يوسيفوس يرى، لذاك الاعتقال، فضلا
عما ذكره الإنجيل، بعض الدوافع السياسية: وذلك أن الأمير ” رأى الجموع تحتشد
حول المعمدان، وتغوى بتعاليمه، فخشي أن يستخدم النبي نفوذه لاستنهاض الشعب إلى
الفتنة “. ومهما يكن من أمر، فليس بين ذينك السببين من تعارض: فالشؤون
الدينية، في إسرائيل، تلابسها حتما مداخلات سياسية..

 

. إن
الموضع الذي سجن فيه يوحنا المعمدان كان يقوم في أقصى تخوم ولاية أنتيباس. فماخيرونت
هي اليوم حقل أثري في نجد متجعد. من جبال موآب، يمتد شرقا، إلى ما لا نهاية له،
شطر البيداء العربية، بينما يشرف غربا، من شاهق عامودي مخيف، على الهوة التي تهجع
فيها مياه البحر اللعين. وأما المدينة التي كانت ترتزق قديما من تجارة القوافل،
فلم يبق منها سوى طريق مفككة الصفائح، وقواعد هيكل الشمس. وأما الحصن الذي كان على
يوحنا أن يسلخ فيها أخريات حياته، فلا يزال كثير من بقاياه شاخصا فوق هضبة مجاورة،
مخروطية الشكل، عزيزة المنال. وكان للحصن ذؤابة يبلغ قطرها مائة متر، وتشرف على
سائر أبنية القلعة من علو لا يقل عن مائة وخمسين مترا. ولا تزال ترى، حتى اليوم،
أساسات الأسوار الخارجية؛ وأما في الداخل، فلا يزال يوجد بئر سحيق القاع، وصهريج،
وبرجان، يشاهد، في أحدهما، ثغر صغيرة محفورة في حجارة البناء، كانت تثبت فيها،
قديما، حلقات السلاسل التي كانوا يكبلون فيها المجرمين

 

. في
ذاك السجن قضى، المعمدان عشرة أشهر من حياته. وإنما يبدو أنه لم يكن فيه معنتا.
فقد كان هيرودس أنتيباس يوجس، بسببه، شيئا من تبكيت الضمير. ونجد في إنجيل مرقس أن
الوالي ” كان يهاب يوحنا عالماً أنه رجل بار وقديس، وكان يحفظه، وإذ سمعه فعل
كثيراً وسمعه بسرور ” (6: . 2). ولا غرو فهو لم يأمر باغتياله إلا نزولا على
طلب هيروديا. وكان قد سمح لبعض من تلاميذ يوحنا في اللحاق بمعلمهم..

 

. لقد
كان بإمكان المعمدان أن يسرح الطرف، من أعالي الأسوار، في ذاك المشهد الذي بات فيه
البحر الميت، على عمق 120. متر، كأنه قطعة من السماء هوت في قاع سحيقة. ولا بد أنه
كان يجيل النظر أيضأ، جهة الشمال، ومن فوق الرمال العسجدية والفيافي الغبراء، في
ذاك الجبل الذي بات، برسمه البارز، كأنه غمامة فوق الأفق.. إنه جبل نيبو، حيث وقف
موسى يوما، قبل أن يموت، نظر نظرة أخيرة إلى الأرض الموعودة التي قضي عليه بألا
يطأ تربتها. لقد كان المعمدان هو أيضا – مثل ذاك البشير الأول – قد رضي بأن يحل
محله رجل آخر: ” ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص.. “؛ وفوض أمره لله
خاضعا.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى