علم المسيح

حماة ومحميون



حماة ومحميون

حماة ومحميون

. إن
من يعنى بتاريخ المسيح ينبغي ألا يفوته وجود أولئك القاهرين في أرض فلسطين. فمن
خلال صفحات الإنجيل، تتراءى صورة الجندي الروماني بخوذته، وقميصه الأحمر. ولا بد
من أن نوجس وقع أصوات العسكر الروماني، في ليالي أورشليم؟ هاجعاً فوق مرتبات حصن
“أنطو نيا “. وإن محاكمة المسيح، وخاتمتها الفاجعة، لا تفهمان إلا إذا
تذكرنا ما كان لبيلاطس من صلاحيات ضخمة. فاليهودية لم تكن فقط أرضا محتلة، استقرت
فيها جيوش غريبة. بل كانت أشبه بمستعمرة بات فيها المستعمرين يمارسون رقابتهم على
جميع ماله صلة بمصالحهم، ولكن من غير أن يختلطوا بسكان البلاد

 

.
وكان الرومانيون، فى أسلوب تنظيمهم الاستعماري، يعمدون إلى تلك الواقعية التي
ترتكز عليها نفوذهم. فقد كان عملاؤهم يستعبرون الفوارق المحلية للسيطرة على البلاد
المحتلة وضبطها بوجه أوثق. فما كانوا يسوسون صقلية وسر دينية -مثلا- وقد ألفتا،
منذ سالف الأزمان، جور القراطجة “، كما كانوا يسوسون فلسطين؛ وكانوا يعلمون
حق العلم أن لا سبيل إلى استئصال ما كان ناشبا، في نفسية أهلها، من عزة قومية،
ترقى جذورها إلى آلاف السنين. فكانوا يعملون على تعزيز شعور اليهود بأنهم ما زالوا
يتمتعون بمطلق حرياتهم في جميع القضايا التي كانوا يتمسكون بها، ولا سيما قضايا
الدين. بيد أن ذلك لم يكن ليصرفهم عن تنحية الأحبار العظام عن مناصبهم، إذا لم
يلزموا جانب الخضوع؛ وقد عزلوا منهم ثمانية فى الفترة الممتدة بين سنة 6 وسنة 410
وأما الضرائب -وكانت باهظة- فكانوا يعهدون بجبايتها إلى ” العشارين “،
وهم موظفون، من أهل البلاد، كان عليهم سخط الشعب. وكان الرومانيون -إذا اقتضى
الأمر- يعملون على إثارة الخصومة بين مختلف الأحزاب، وقد باتت، في أورشليم، على
تناحر عنيف

 

.
وإذا كان لا بد من الإفصاح، فإن أقوى شعور كان يضمره الرومان لليهود، إنما هو شعور
بالازدراء التام، وشبه مزيج من الامتهان وقلة الاكتراث بل من التنكر المتعمد، نوعا
ما.. لقد كان بيلاطس، ولا شك، يرى في رعاياه،!شبه بهائم غريبة، أو شبه أولاد
متخلفين لا بد من تأديبهم، بين حين وآخر، تلافيا للمشاكل، ولكن من غير أن يكترث
لهم اكتراثا جديا! وقد اتضح ذلك في موقفة” من الجمهور، يوم جرت محاكمة يسوع.
وكان بيلاطس، عن حكمة وعن ميل معا، يتوقى المكوث في أورشليم، وسط ذاك الشعب الهائج
وصياحه الدائم. فقد كان أهنأ له أن يعيش قيصرية، تلك الحاضرة الحديثة المبنية على
شاطئ البحر؛ فما كان يشخص إلى المدينة المقدسة إلا في المواسم، إذ كان الحجاج
يتقاطرون إليها، فتصبح كثرتهم فيها، مبعثاً دائماً للفوضى

 

. ومن
الثابت إذن أن الشعب المختار، بعظمته الراهنة، وصبوته الدهرية إلى التماس ديانة
أخلص، ورسوخ معتقداته التوحيدية، ولجاجته الدائبة في مجابهة القدر، قد جهله أولئك
الموظفون الرومانيون جهلاً مطمئناً

 

!
ولكن اليهود كانوا يواجهون ذاك الاحتقار المضمر، بعاطفة من الكبرياء ما كانوا
ليبطنوها. كانت كبرياؤهم، نوعا ما، هي الحصن الذي تحصنت به الأمة اليهودية،
واحترزت به، منذ خمس مائة عام، من الانقياد لضغط الوثنية وتسويلاتها. وكانت ترتكز
على يقينهم من أن امتياز إسرائيل، يعدو كل سلطة بشرية، وأن الملابسات السياسية لن
تتمكن منه، ولا بوجه من الوجوه. لقد قال يسوع لأتباعه يوما: ” وتعرفون الحق
والحق يحرركم “؛ ولكن اليهود احتجوا عليه قائلين: ” إننا ذرية إبراهيم،
ولم نستعبد لأحد قط. كيف تقول أنت: أنكم تصيرون أحرارا؟ ” (يوحنا 8: 31، 35).
فالوالي، والجنود الرومانيون، والضرائب المفروضة للقاهرين، كل ذلك لم يكن لليهود
به كبير شأن: فالاستقلال الصحيح إنما يقوم في الداخل

 

أجل!
لقد كان شعب يعقوب وموسى والأنبياء، وهر في بأسه، متيقناً، أكثر منه في أي وقت آخر،
من أن الله يذود عنه. وقد ورد لرابي أليعازر، في تفسيره لأحد نصوص ” سفر
التثنية “، قوله على لسان الله: ” كما تعترفون بي إلها وحيدا في الكون،
أعترف بكم شعبا وحيدا على وجه الأرض “، فلئن كان الرومان يحتقرون اليهود، فقد
كان اليهود يأبون أن يتوسموا في الرومان خلائق بشرية. ولسوف يصف بولس -وقد خرج من
صلب ذاك الشعب عينه – تلك الحالة الذهنية، وصفا كاملا: ” هو ذا أنت تسمى
يهودياً، وتتكل على الناموس، وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميز الأمور المتخالفة
متعلماً من الناموس، وتثق أنك قائد للعميان، ونور للذين في الظلمة، ومهذب للأغبياء،
ومعلم للأطفال، ولك صورة العلم والحق في الناموس.. ” (رومية 2: 17 – 21)

 

فبين
هاتين القوتين المتباينتين، لم تكن العلاقات على كثير من اللين والسهولة. وليس من
عجب -والحالة هذه – أن يكون قد وقع.، بينهما، حوادث كثيرة، منها ما كان في نطاق
صراع منظم ضد الرومان، أو ضد الأمراء الهيرودسيين عملائهم. وقد أشرنا إلى الحادثة
التي خضبت بالدم عرش أرخيلاوس، في مستهل ولايته، يوم تحصن الثوار داخل الهيكل،
وهبوا يردون الهجمة تلو الهجمة، وقد اضطر أرخيلاوس، يوم ذاك، أن يستعين على تحطيم
هذه المقاومة، بجميع ما كان لديه من قوى مسلحة، فكلفه ذلك مصرع ثلاثة آلاف رجل! ثم،
إذ كان أرخيلاوس في روما، تجددت الفتن، وانتشر النار والدم في جميع أطراف البلاد: ففي
اليهودية، هاجم ألفان من جنود هيرودس – كانوا في إجازة – الفيالق الرومانية. وفي
بيريه، أحرق سمعان – وكان من الموالي المعتقين – قصر أريحا، وأعلن نفسه ملكا..اضطرابات
باطلة، ومحاولات فاشلة فعندما كانت روما تطأ أرضاً، كان من الصعب جداً أن تجلو
عنها

 

. بيد
أن هناك أحداثاً باتت أقل وطأة، وإن لم تكن أقل دلالة فقد تعلم بنتيس بيلاطس – على
نفقته – إذ كان بعد في مطلع ولايته، أن يخبر ما كان لليهود من عزة نفس. وذلك أنه
كان قد استقدم إلى أورشليم، ليلاً، بنوداً تحمل صورة الإمبراطور. فانتفض اليهود
هولاً لمثل تلك الرجاسة، وهرعوا إلى قيصرية يتوسلون إلى الوالي في إزالة تلك
الشارات الكافرة. ولبث الجمع يصيح أما القصر خمسة أيام متتالية. وعبثاً توعد
بإفنائهم عن بكرة أبيهم.. فقد كشف أولئك المؤمنون بالله عن صدورهم، وأعلنوا
إيثارهم للموت على الانقياد. وظلوا حتى فازوا بمطلبهم، وعاد الوالي، مرة أخرى،
وأمر بأن تعلق في قصر هيرودس دروع تحمل اسم الإمبراطور طيباريوس؛ فتجدد الهياج
نفسه، وكاد أن يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، لولا تدخل الإمبراطور نفسه، تدخلاً
حكيماً، وأمر بإزالتها

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى