اللاهوت العقيدي

خامساً: الحقيقة الإفخارستية التي وراء كل هذه الأبحاث المضنية



خامساً: الحقيقة الإفخارستية التي وراء كل هذه الأبحاث المضنية

خامساً:
الحقيقة الإفخارستية التي وراء كل هذه الأبحاث المضنية

يقيناً
لو كان هؤلاء العلماء قد درسوا الطقس القبطي عملياً ولو كانوا على وعي من جهة
أصالة التقليد الليتورجي في مصر، ومقدار الدقة المتناهية في تسليم الميراث
التقليدي التي اختص بها الأقباط كعنصر أساسي في مزاجهم اللاهوتي الموروث منذ آلاف
السنين، لكانت قد أسعفتهم هذه الدراسات العلمية الدقيقة المضنية لاكتشاف أصل
“إفخارستية عشاء الرب” الضائعة من أفق رؤيتهم فقط، والموجودة بكل أصولها وملامحها
وحركاتها في طقس تقديم الحمل في مصر.

ولا
ندَّعي أن هذا الأمر كان هيِّناً يسيراً علينا عند اكتشافنا لهذه الحقيقة، فلولا
أننا عبرنا على كل أبحاث هؤلاء العلماء المضنية جدًّا، وجزنا معهم كل دقائق تطوُّر
الإفخارستيا في كل كنائس العالم بكل تأنٍّ وصبر، ولولا أننا وقفنا معهم حائرين
مهمومين أمام لغز ضياع ليتورجية أُورشليم الأُولى” أي “إفخارستية عشاء الرب”،
بل ولولا أننا طرحنا الأمر بكل يأسه وعنائه على الرب بصلاة وتوسُّل أن يفتح
بصيرتنا ويلهمنا الوصول إلى هذه الحقيقة، ما كنا وصلنا إلى هذا الاكتشاف الحيوي
الذي نعتبره بكل ثقة أنه المفتاح الوحيد لدراسة الإفخارستيا دراسة جديدة كفيلة بأن
تقلب كل النظرية التقليدية المدرسية السائدة الآن رأساً على عقب، بل وتجعل كل ما
عداها من الدراسات عتيقة بالية قائمة على فراغ.

والآن
نتدرَّج مع القارئ خطوة خطوة لنحدِّد أمامه:

1
موضع
إفخارستية تقديم الحمل الذي هو أصلاً إفخارستية عشاء الرب (ليتورجية أُورشليم أو
الرسل) داخل القداس القبطي الآن.

2
موقف
إفخارستية تقديم الحمل (عشاء الرب) من قداس الموعوظين.

3
انتقال
إفخارستية تقديم الحمل (عشاء الرب) من المساء إلى الصباح.

4
إشارات
عابرة تفصح عن أن ما يُسمَّى الآن بطقس تقديم الحمل هو بعينه قدَّاس الرسل.

5
وضوح
الاعتماد المطلق على “إفخارستية تقديم الحمل” (عشاء الرب) في كلٍّ من إفخارستية
سيرابيون وإفخارستية مرقس الرسول.

6
آثار
إفخارستية عشاء الرب (تقديم الحمل) في كنائس البلاد الأخرى.

1
موضع
إفخارستية “تقديم الحمل” داخل القداس القبطي الآن:

إفخارستية
“تقديم الحمل” هي الجزء الأساسي الذي يبتدئ به الكاهن خدمة القداس العام مهما كان
هذا القداس، سواء الباسيلي أو الغريغوري أو الكيرلسي (مرقس الرسول)، وهو موجود في
الخولاجي (الإفخولوجيون) كبادئة حتمية لا تتبع أي قداس معيَّن.

وقد
يبدو لأول وهلة للباحث المتخصِّص في دراسة الإفخارستيا إنه عمل إضافي على
الإفخارستيا، لأن كل إفخارستية في العالم لها بداية رسمية محدَّدة، كل ما يأتي
قبلها يعتبر إضافياً، وهذه البداية الرسمية هي ما يقوله الأسقف (أو الكاهن) وما
يرد به الشعب هكذا:

“الرب مع جميعكم، ومع روحك أيضاً”.

“ارفعوا قلوبكم، هي عند الرب”.

فلنشكر الرب، مستحق وعادل”.

ومعلوم
أن “طقس تقديم الحمل” الوارد بالخولاجي يأتي كله قبل هذه البداية، إذن فهو في حكم
القانون الإفخارستي طقس خارج عن صُلب الإفخارستيا. لذلك وبحكم قانون الدراسة
والتحليل الإفخارستي، وضعه العلماء والدارسون كطقس خارج عن الإفخارستيا، وهكذا
وبحكم هذا التحديد القانوني انكمش هذا الطقس تحت عنوان “تقديم الحمل”. و“تقديم
الحمل”
معروف في القانون الليتورجي أنه مجرَّد “وضع القرابين على المذبح”.

ولكن
برجوع القارئ الدارس إلى جدول المقارنة الذي قدَّمناه في صفحة (19) بين طقس تقديم الحمل وطقس
إفخارستية مرقس الرسول، يجد أن الأمر يستحيل بأي حال من الأحوال أن ينطبق عليه
مجرَّد وضع قرابين على المذبح. فهو إفخارستية كاملة كمالاً متقناً دقيقاً، [يبدأ
بغسل اليدين، واختيار الحمل، ثمَّ إعطاء المجد للثالوث، وتقريب القرابين، ثمَّ
أواشي مطابقة لأطول إفخارستية: السلامة
المرضى المسافرين المنتقلين القرابين الخديم والموصِّين
الاجتماعات
الطلبة التسبيح
الذي يسبق رسم السر (التأسيس) بالبركة على الخبز وعلى الكأس، ثمَّ الشكر على الكأس،
الاستدعاء ليصير الخبز جسداً والخمر دماً، طلب مواهب الجسد والدم
السجود
للذبيحة، إحناء الرأس لقبول التحليل، خلصت حقا، أوشية السلامة والآباء والاجتماعات،
الاعتراف بالإيمان، صلاة الصلح، القبلة، تقدَّموا (تقرَّبوا) تقدَّموا
ذبيحة
التسبيح] انتهى!

إلى
هنا ينتهي هذا القدَّاس السري العجيب المختصر كل الاختصار والكامل كل الكمال. ولكن
لا ينتهي بالتناول بل يغطِّي الكاهن الذبيحة عند الخروج من الهيكل، بعد أن يغطِّي
الأسرار بالستر الخاص المسمَّى خطأ “بالابروسفارين”، في حين أن كلمة
بروسفارين تعني في اليونانية “تقرَّبوا. تقرَّبوا”، ولكن بدل أن يتقرَّب الشعب في
هذه اللحظة يتوقَّف هذا القداس المختصر أو هذه الإفخارستيا الصغيرة، وتغطَّى
الأسرار وتُحرس بواسطة شماسين (لأنها أسرار تقدَّست) لحين البدء بالقداس الشرحي
الكبير المسمَّى بالإفخارستيا الكبرى. حيث يحتسب الآن أن كل الذي تمَّ في
هذه الإفخارستيا المختصرة هو مجرَّد تقديم الحمل. ولكن من الملابسات التي سنشرحها
بدقة سيتضح للدارس أكثر فأكثر سرّ هذه الإفخارستيا الفائقة الكرامة.

2
موقف
إفخارستية تقديم الحمل من قداس الموعوظين:

معروف
أنه بحسب الطقس الكنسي لا يجوز بأي حال من الأحوال تقديم الصعيدة (الذبيحة) في
حضور الموعوظين، بل وتمنع الكنيسة بصورة قاطعة تكميل أي عمل سرائري من أي نوع
بوجود الموعوظين أي غير المعمَّدين. وبالأخص جدًّا ذكر كلمة “أكل الجسد” و“شرب
الدم” بسبب احتمال المفهوم الخاطئ الذي يتولَّد في ذهن الغريب عن الكنيسة أنه أكل
جسد إنسان أو شرب دم إنسان.

لذلك
كانت الكنيسة تستخدم هيكلاً جانبياً خاصاً ب“تقديم الحمل” أو تقديم الصعيدة
وكان يسمَّى “هيكل التقدمة
Prothesis” ولا يزال هذا الهيكل مستخدماً باسمه هذا إلى الآن عند الروم لهذا
الغرض ويسمَّى أيضاً الساكريستي
Sacristy، أي موضع إعداد الذبيحة، وكان يسمَّى عند الأقباط: “موضع الذورون”
أي “موضع الذبيحة”
([1]).

وورد
هكذا بهذا الاسم في قوانين القديس أثناسيوس الرسولي باسم عربي محرَّف قليلاً: “موضع
الظفير”، حيث كان يُستخدم أيضاً في أكل بقايا الذبيحة بواسطة الكهنة
([2]).

كما
ورد وصفه في مؤلَّف ابن سباع المعروف بالجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة الذي نشره
وطبعه الأب الفرنسيسكاني منصور مستريح
صفحة 179.
حيث يذكر أنه كان يجرى فيه طقس التقديم: [وبعد ذلك يمضي إلى هيكل التقدمة
الصغير
ويأخذ منه الحمل وينظر فيه …].

علماً
بأن في كليَّا
Kellia أي برية القلالي وُجِدَت هياكل جانبية ليس لها باب على صحن الكنيسة
بل متصل فقط بهيكل الكنيسة.

وفي
نهاية خدمة قداس القراءات = قداس الموعوظين وخروجهم، يتقدَّم الكاهن والشماس عند
الروم ويرفعون “الذبيحة” من “هيكل التقدمة
Prothesis
ويدخلون بها الهيكل الكبير باحتفال وتكريم فائق، وذلك بأن يدوروا دورة خاصة ما بين
الهيكلين في وسط الشعب حيث يبتدئ القداس الكبير أو الإفخارستيا الكبرى.

هذا
كان هو النظام في الطقس القديم أيام الموعوظين، لأننا نقرأ في كتابات القديس
أثناسيوس أن الهيكل الكبير (الأوسط) ما كانت
توضع عليه مواد الإفخارستيا طالما كان الموعوظون داخل الكنيسة.

ولكن بعد هذا بدأت الكنيسة تستغني عن الهيكل الجانبي
وتستخدم الهيكل الكبير مباشرة في تقديم الحمل وتقديسه عليه، وذلك بعد انقضاء عصر
الوثنية في مصر، وبالتالي انتهاء زمن الموعوظين الذي كان في نهاية القرن الخامس
تقريباً، حيث أبطل من الطقس أيضاً هتاف الشماس بخروج الموعوظين.

وهذا
بحد ذاته من الأمور التي لفتت نظر العلماء وحيَّرتهم جدًّا، أي غياب نداء الشماس
بخروج الموعوظين نهائياً من القداس القبطي، فجميع مخطوطات الليتورجيات التي قام
ببحثها العالِم رينودوت وسجَّلها عن الطقس القبطي، تخلو جميعاً من نداء الشماس
التقليدي لخروج الموعوظين بعد الأواشي التي تلي قراءة الإنجيل والتي تنتهي بأوشية
الموعوظين، علماً بأن أوشية الموعوظين نفسها لم تحذف ولم تتغيَّر قط عن موضعها هي
ومردها المطوَّل الذي يقوله الشماس، ثمَّ مرد الشعب ..

أمَّا
العالِم جون ماسون نيل، فهو يظن أن خروج الموعوظين كان يحدث ليس بعد قبلة السلام
كما يتصوَّر العالِم رينودوت، بل بعد قراءة الإنجيل وقبل صلاة الحجاب.

فالكنيسة
القبطية أغفلت عن عمد منذ القرن الخامس النداء بخروج الموعوظين في المكان المذكور
أعلاه
ولا حتى
على سبيل الحفاظ على التقليد
وإلاَّ تقع
في مأزق لأنها تعلم أن على المذبح توجد ذبيحة كاملة، فكيف تنادي بخروج
الموعوظين؟ ولو حتى على سبيل التقليد فقط (لأن الموعوظين غير موجودين أصلاً)، لأن
النداء هو اعتراف طقسي بوجود الموعوظين، ووجود الموعوظين يتنافى قطعاً مع وجود
ذبيحة على المذبح.

لذلك
نجد الكنيسة القبطية تتخذ نداءً آخر بهذا المعنى تقريباً، بعد الأواشي والاعتراف،
فيه التحذير كل التحذير تلميحاً وتصريحاً أن لا يتقدَّم أحد إن كان على مستوى
الموعوظ في عدم الطهارة:
[مَنْ كان طاهراً فليدنُ من السرائر المقدَّسة
(يُلاحظ هنا أن القداس الكبير لم يبدأ بعد) ومن كان غير طاهر فلا يدنو منها لئلاَّ
يحترق بنار اللاهوت] (مصباح الظلمة لابن كبر باب 17)، حيث كلمة “طاهر” هنا تنصبّ
بصفة عامة في المفهوم الآبائي القديم على المعمَّد، وغير الطاهر على غير المعمَّد.
وهي مقتبسة من صلوات إفخارستية الديداخي (فصل 12: 10). ولكن في اعتقادنا أنها ترقى
في منابعها الأُولى إلى قول الرب نفسه في إنجيل يوحنا بعد غسل الأرجل استعداداً
للدخول إلى الإفخارستيا:
» أنتم طاهرون ولكن ليس
كلكم
«(يو 10: 13). حيث
يحدِّد الرب هنا الطهارة بمحدودية الأمانة أو الخيانة للمسيح.

3
انتقال
إفخارستية تقديم الحمل (عشاء الرب) من المساء إلى الصباح:

لقد
أسَّس الرب سر الإفخارستيا أثناء العشاء على أن يُقام في العشاء أي المساء.

ولقد ظلَّت الكنيسة الأُولى تمارس إقامة الأسرار في المساء.
ونقرأ هذا بوضوح لكليمندس الإسكندري:

[في
حالة الأغابي العامة كان الشمامسة يقومون أولاً بتوزيع الخبز المقدَّس والخمر
المقدَّس (الإفخارستيا) ثمَّ بعد ذلك العشاء (الأغابي).]
([3])

وقد
سبق أن شرحنا
([4]) مراحل
تداخل الأغابي في سر “إفخارستية عشاء الرب” المسائية وكيفية انفصال الأغابي
وبقاء “سر العشاء” وحده كإفخارستية قائمة بذاتها تُقام في المساء. وقد أورد
لنا بولس الرسول إشارة واضحة عن ذلك في رسالته الأُولى إلى كورنثوس، ويعلِّق عليها
العالِم ريتشادسن هكذا:

[اليهود
المسيحيون الذين كانوا من طبقة الكادحين كان يتعذَّر عليهم أن يجتمعوا إلاَّ
متأخراً في المساء، وعندنا إشارة واردة عنهم في رسالة كورنثوس الأُولى:
» لأن كل واحد
يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل (قبل حضور الفقراء) فواحد يجوع وآخر يسكر (في
الكنيسة) … لابد أن يكون بينكم بدع أيضاً ليكون المزكون (من الطبقة الغنية)
ظاهرين بينكم … أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها
وتشربوا، أم تستهينون بكنيسة الله وتخجلون الذين ليس لهم
«(1كو 11: 1922).]([5])

ولقد
احتفظ لنا التاريخ بأقوال متفرِّقة عن استمرار احتفاظ الكنيسة القبطية بإقامة سر
الإفخارستيا في المساء حتى القرن الخامس
([6]).

وفي
اعتقادنا أن الديداخي، وهي من مؤلَّفات القرن الأول، تعتبر أهم وثيقة عندنا لتثبت
قيام طقس إفخارستية العشاء في المساء في أي يوم بعد وليمة الأغابي (كطقس بولس
الرسول في كورنثوس)، وقيام طقس إفخارستيا صباحية في كل يوم أحد بدون أغابي، وكل
واحدة قائمة بذاتها. فالديداخي تقصد أن تحدِّد طقسين متمايزين للإفخارستيا واضحين
كل الوضوح، واحداً
وهو الأصلي مسائياً
لكل يوم، وآخراً منبثقاً منه صباحياً ليوم الأحد فقط. المسائي يأتي بعد وليمة محبة
وعشاء وامتلاء بدون ليتورجيا بمعناها الكامل أي بدون خدمة الكلمة، والآخر الصباحي
بدون أكل وبعد ليتورجيا لخدمة الكلمة بعد اعتراف بالخطايا ومصالحة أخوية.

وكاتب
الديداخي قصد استبدال اسم “أغابي” التي كانت تطلق على وليمة العشاء كلها،
وقسمها إلى قسمين: قسم يخص الأكل والامتلاء، وقسم يخص السرّ وسمَّاه
“إفخارستيا”. وهذه هي المرَّة الأُولى الذي يطلق فيها هذا الاسم على سر العشاء.
وقصد أيضاً وضع نظام أو ترتيب للإفخارستيا الصباحية الجديدة وما ينبغي أن يُقال
فيها خصوصاً من جهة الاعتراف والمصالحة،
أي الحث على التوبة بصورة جماعية أي
شعبية، وهذا في عرفنا هو أول تقنين لطقس الإفخارستيا العامة الصباحية، كذلك وصف
إفخارستية الصباح أنها ذبيحة، مشيراً بذلك إلى أول تعليم شرحي لاهوتي يربط سر
الإفخارستيا بالخلاص وغفران الخطايا.
علماً بأن إفخارستية المساء لم تكن موضع
تعليم ولا تقبل إضافات. وفي هذه النقطة بالذات يقول العالِم ريتشاردسن:

[إن
ليتورجية الديداخي يمكن فقط تعليل قيامها على أنها امتداد لممارسة العشاء الذي
تسلَّم منذ بدء قيام المسيحية، أو بمعنى آخر إن كاتب الديداخي متمسِّك بأمانة
بتقليد إفخاريستي نشأ قبل أن تصل الأناجيل المكتوبة إلى تداولها العام …

وبهذا يكون اعتبار العشاء الأخير في تقليد الديداخي ليس طقساً للإعادة كعشاء
يتكرَّر قانونياً، ولكنه “تأسيس” عهد ختم بعد ذلك بدم المسيح، وأنه أسبغ
على كل الذين دخلوا فيه حالة جديدة بالنسبة للخطية وغفران الخطايا]
([7])

وذلك نراه من واقع صلوات الديداخي التي شملت كل آيات “صلاة
أبانا الذي” ماعدا “اغفر لنا ذنوبنا”.

هنا
يوضِّح هذا العالِم الإفخارستي بجهد رائع تطبيق “أبانا الذي” آية آية على صلوات
الديداخي، ويستخلص من ذلك أنها أول محاولة لتكوين أو تأليف إفخارستيا كاملة على
أساس “أبانا الذي”. انظر البحث المطوَّل الوارد عن الديداخي
([8]).

وينقل
لنا مار إسحق أسقف نينوى صورة من عصر القديس مقاريوس عن ازدواج عمل الإفخارستيا
مرَّة في المساء، أي مساء السبت، ومرَّة أخرى في صباح الأحد، حيث كانت إفخارستيا
المساء بطبيعة زمانها وظروفها هي “عشاء الرب”، الإفخارستيا المسمَّاة الآن تقديم
الحمل، وهي الإفخارستيا التي تنطبق عليها كل أوصاف إفخارستية عشاء الرب.

ويذكر
مار إسحق بكل وضوح أن الآباء الرهبان كانوا يأتون من مغائرهم وقلاليهم البعيدة كل
يوم سبت صائمين حتى المساء، صيفاً شتاءً بلا استثناء، ويتقرَّبون مساء السبت ثمَّ
يظلون طول الليل يسبِّحون ويتبادلون كلمات الوعظ وشرح الكتاب حتى الصباح، فيقام
القداس الكبير الذي ينتهي في الساعة الثالثة من النهار (أي التاسعة صباحاً)، والذي
من بعده يشتركون في مائدة الأغابي، ثمَّ ينصرفون إلى قلاليهم.

ولكن
منذ بداية القرن الخامس بدأ يتوقَّف هذا النظام المسائي حيث انتهى بانتهاء هذا
القرن.

وفي
هذا يعطينا العالِم ريتشاردسن صورة باهتة عن رؤيته لهذا الوضع هكذا:

[وقرب
نهاية القرن الثاني كان قد تأسَّس طقس الصباح (صباح الأحد)، بل وكان قد تطوَّر إلى
صورة مختلفة عن الأصل
(هنا لا يدري ريتشاردسن ما هو الأصل، وهو طبعاً
إفخارستية عشاء الرب)، وذلك تحت تأثير دخول “
صيغة التأسيس” حيث بدأ
يظهر في الوجود طقسان. ونعلم من ترتليان وكليمندس وهيبوليتس أن هذين الطقسين ظلاَّ
منفصلين: طقس يوستين، وطقس الديداخي، بالرغم من أنه لا يوجد حاجز فاصل بينهما. فكل
منهما إفخارستيا، وكل منهما منبثق من طقس آخر “للعشاء المسيحي” … ونحن محقون
عندما نعتقد أن كلا الطقسين ربما يكونان نابعين من أصل جذر واحد.]([9])

ويعطينا
العالِم ريتشاردسن تدرُّجاً في دخول طقس إفخارستية الصباح هكذا:

[بدأت
المسيحية بالاحتفال بالقيامة بعد سهر طول الليل، وكذلك في الاحتفال بتذكار الشهداء
بعد ذلك حيث ينتهي السهر بوليمة إفخارستية عند الفجر، ولكن يوجد في سفر الأعمال
سهر مثل هذا (بدون مناسبة) يمهِّد لهذا (الطقس)، ففي سفر الأعمال 7: 20 امتد سهر
بولس حتى الفجر وانتهى بوليمة إفخارستية كانت ولابد على طقس 1كو 11. حتى في أيام
ترتليان فيبدو أن الإفخارستيا الصباحية كانت لا تزال استثنائية.]
([10])

ولكن
منذ بداية القرن الخامس بدأ يتوقَّف هذا النظام المسائي حيث انتهى بانتهاء هذا
القرن تحت تأثير عوامل عديدة منها:

1
صدور قانون
مسكوني عام يمنع الصوم منعاً باتاً أيام السبوت.

2
وقد سبق
ذلك صدور قانون إمبراطوري يحظر إقامة ولائم في الليل إمعاناً في التضييق والضغط
على المسيحيين حتى لا يجتمعوا في الظلام خوفاً من تكتلاتهم. ويسجِّل لنا المؤرِّخ
بليني سنة 117م كيف أصدر الإمبراطور تراجان أمراً بخصوص مسيحيي بيثينية أن يكفوا
عن الاجتماعات التي يأكلون فيها معاً (ليلاً)، وهذا يحدِّد لنا أول محاولة لنقل
الوليمة المقدَّسة إلى خدمة الصباح عوض أن كانت في المساء (السبت)،
ومن الواضح
أيضاً أن وليمة المساء ظل يُحتفل بها في الأماكن الأخرى التي لم يضيق عليها
القانون
([11]).

3
صعوبة
اشتراك السيدات والأطفال في قداسات المساء.

4
صدور
قرارات من مجامع مسكونية بمنع الأغابي الليلية.

5
دخول عادة
السهر الليلي طول ليلة السبت استعداداً لقداس الصباح.

ولكن
لم تستطع الكنيسة أن تلغي قداس المساء، أي “إفخارستية عشاء الرب” التقليدية
بسبب كرامة طابعها المسائي كتسليم الرب وكتسليم رسولي، الذي يدخل كعنصر
جوهري في مفهوم التذكار أن يكون في موضعه أي في وقته التقليدي، فعوَّضت عنه
بالعشية، ونقلته بكامله إلى خدمة الصباح، وهكذا أضافت قداس المساء إلى قداس
الصباح الكبير.

وهنا
بدت حكمة الكنيسة كيف استطاعت أن تحتفظ بطابعه المسائي المنفرد حتى إلى آخر لحظة!!
وذلك بأن وضعته قبل خدمة قداس الصباح للموعوظين المعروف بقداس الكلمة. وهكذا وقف
قداس الصباح لخدمة الكلمة الذي للموعوظين حاجزاً زمنياً بين قداس المساء إفخارستيا
عشاء الرب التقليدية
المنقول إلى الصباح وبين
القداس الصباحي الكبير.

ثمَّ
استطاعت الكنيسة أن تجمع
بالرغم من ذلك بين قداس
عشاء الرب والقداس الصباحي في إفخارستيا واحدة كبرى أو في ليتورجية واحدة كبرى،
وذلك بأن جعلت قداس عشاء الرب بمثابة تقديم (تقديم الحمل) لقداس الإفخارستيا
الكبرى، ثمَّ رفعت الجزء الخاص “بالقسمة” من قداس عشاء الرب (تقديم الحمل)،
وضمَّته إلى نهاية الإفخارستيا الكبرى. وهكذا تمَّ التحام الإفخارستيتين بمهارة
مذهلة للعقل، وهكذا أيضاً احتفظت الكنيسة القبطية دون جميع كنائس العالم
بإفخارستية عشاء الرب المعروفة بأنها “إفخارستيا أُورشليم أو قداس الرسل”
([12]) في صميم
ليتورجيتها الكبرى دون أي نشاز، على أنها لم تستطع أن تتلافى التكرار الكثير
(في الأواشي
وفي التقديم وفي الاستدعاء … إلخ) الذي ظل طابعاً مميزاً لليتورجيا القبطية
عامة بسبب ضم إفخارستيتين متساويتين في كافة مراحلهما في إفخارستية واحدة.

4 إشارات عابرة تفصح عن أن ما يسمَّى الآن بطقس تقديم الحمل هو بعينه “قداس
الرسل”:

لقد
وقع تحت نظرنا عبارة وردت في مخطوط رقم 1 لاهوت في مكتبة دير القديس أنبا مقار
([13])، قمنا
بتصويرها
([14]) تعتبر أن
صلاة “الشكر” أي “صلاة الإفخارستيا” التي تقال على الكأس في طقس تقديم الحمل هي في الحقيقة إفخارستية قداس قائم
بذاته هو هو بعينه
“قداس الرسل” [ونكرِّر هنا أن قداس الرسل هنا هو القداس الذي
قدَّس به الرب في ليلة عشاء ليلة الخميس].

تقول
المخطوطة في الباب الثاني عشر (ورقة 193):

[ثم
إن الكاهن يغطِّي الجسد والكأس بالخرق (اللفائف)، ثمَّ يقرأ الكاهن قداس
الرسل الذي فلنشكر صانع الخيرات،
وعند تمامها ينزل الكاهن من الهيكل].

وهنا
نكون قد وصلنا إلى قرينة ثمينة تعتبر في غاية الأهمية إذ تعطينا القناعة واليقين
أن ما يتم في طقس تقديم الحمل هو هو قداس الرسل كما أثبتنا.

 

5
وضوح
الاعتماد المطلق على “إفخارستية تقديم الحمل

(=
عشاء الرب) في كل من إفخارستية سيرابيون وإفخارستية مرقس الرسول”:

إفخارستية
سيرابيون:

(أ)
أنافورا سيرابيون بحسب تركيبها الإفخارستي لا تأخذ شيئاً من النص الإفخارستي
الوارد في الأناجيل، لا في المقدِّمة، ولا في التقديس على الخبز والخمر، ولا في
تسجيل عبارة “اصنعوا هذا لذكري”. وبالرغم من أن هيكلها العام موازٍ لتسجيلات
الأناجيل الأربعة إلاَّ أنها لا تلتزم قط بالحرف.

(ب)
كذلك وبالتالي نجد أن أنافورا سيرابيون لا تلتزم بالخطوط الثابتة التي وقفت عليها
كافة الليتورجيات في القرن الرابع.

(ج)
النصوص الثابتة للتأسيس في الأناجيل والمحددة الخاصة بالتقديس “أخذ خبزاً وأخذ
كأساً” تأتي في أنافورا سيرابيون على هيئة رواية، فهي تعتبر غير أساسية، أي ليست
في صميم التركيب المتسلسل، ويعتبرها العالِم ليتزمان عنصراً غريباً مضافاً على
الأصل، والدليل على ذلك أن رواية الخبر تدخل في أوصاف خارجة عن مفهوم التقديس
تباعد بين خبر الخبز وخبر الكأس، وبذلك تشذ عن الطقس المسجَّل في الأناجيل. لذلك
فإن العالِم ليتزمان لا يعتبر رواية التأسيس في أنافورا سيرابيون مركز تقديس
الإفخارستيا.

(د)
كذلك فإن أنافورا سيرابيون لا تعطي انطباعاً عن أنها تصوُّر تذكار عشاء الرب
الأخير، بل نجد أنها تهدف منذ أول كلمة أن تكون هي بحد ذاتها ذبيحة تحمل كل سر
العشاء الأخير، لذلك نجدها تطلب حلول اللوغس كلمة الآب، أي المسيح نفسه، ليجعل
الخبز جسداً والخمر دماً.

(ه)
وأيضاً فإن أنافورا سيرابيون تخلو تماماً من “التذكار” بمفهومه الليتورجي
والإنجيلي، غير أنها تعتبر نفسها قائمة على أساس التذكار دون أن تذكره بأية ألفاظ
معيَّنة. فهي تؤكِّد أنها ذبيحة بالفعل، تحمل سر موت الرب على الصليب كجسد مكسور
فعلاً ودم مسفوك فعلاً، على مثال ما صنع المسيح نفسه ليلة العشاء الأخير. وهي
تتشبَّث لتحقيق ذلك بكل إصرار [هكذا نحن إذ نصنع مثال موته نقدِّم هذا
الخبز
مثيل الجسد،
وهذا الكأس مثيل الدم (المسفوك على الصليب) ونتضرَّع إليك أن “بهذه الذبيحة”
تتصالح
معنا].

هنا
تؤكِّد الأنافورا أنها على مستوى ذبيحة الصليب تماماً، لذلك لا تتنازل عن أن تطلب
التصالح بها مع الآب!

من
هذا كله يتبيَّن لنا أن التركيب الإفخارستي لأنافورا سيرابيون مختلف تماماً عن كل
الأنافورات النموذجية الأخرى على الإطلاق مثل الواردة عن هيبوليتس أو قوانين الرسل
أو غيره؛ لأنه بينما نجد أن كل الليتورجيات
تعتمد اعتماداً مطلقاً على كلمات الرب التأسيسية ثمَّ الاستدعاء لتكميل
الذبيحة، نجد أن أنافورا سيرابيون لا تعتمد
في جوهرها على كلمات الرب التأسيسية ولا على الاستدعاء!

فما
هو السر في ذلك؟ وما هو العنصر الأساسي إذن الذي تعتمد عليه أنافورا سيرابيون في
التقديس لتكون أنافورا على الإطلاق؟ هذا هو السؤال الذي حيَّر جميع العلماء.

أمَّا
الرد على ذلك فهو بما أن أنافورا سيرابيون إفخارستية وصفية صباحية، فهي تجيء بعد
تقديم الحمل المحسوب أنه “تقديس للقرابين” بالدرجة الأُولى، وأقوى دليل على
ذلك أن أنافورا سيرابيون المسجَّلة بدقائقها تخلو من تقديم القرابين، لذلك فهي
تعتمد على تقديس القرابين الذي تمَّ في إفخارستية تقديم الحمل التي هي
إفخارستية عشاء الرب التقليدية التي هي ذبيحة بحد ذاتها.

لذلك
فإن أنافورا سيرابيون تصف القربان المقدَّم قبل الدخول في التأسيس أو الاستدعاء
بأنه ذبيحة!! [املأ هذه الذبيحة بقوتك وشركتك لأننا لك قد قدَّمنا
([15]) هذه
الذبيحة الحية والصعيدة غير الدموية].

ثمَّ
تعود وتقدِّم هذه الذبيحة
وأيضاً قبل الدخول في
التأسيس وقبل الاستدعاء
تقدِّمها لله الآب
باعتبارها جسد ودم المسيح وتتوسَّل للآب بأن يجعل هذه الذبيحة واسطة مصالحة
ورحمة!! [لقد قدَّمنا لك
([16]) هذا الخبز
(المتقدِّس) مثيلاً لجسد الوحيد، مثيلاً للجسد المقدَّس،
نحن نصنع مثال موته. قدَّمنا لك هذا الخبز ونتضرَّع إليك أن
بهذه الذبيحة تتصالح معنا جميعاً وتكون
رحيماً].

ولكن
مما يثير العجب أيضاً في أنافورا سيرابيون أنها في فقرة من فقراتها تقول: [لأننا
دعونا باسمك أنت (الآب) غير المخلوق (الأبدي) بواسطة وحيد الجنس (الابن) وبالروح
القدس]. والحقيقة أننا لا نجد إطلاقاً في كل أنافورا سيرابيون أي “دعاء باسم الآب
والابن والروح القدس”، علماً بأنه يشدِّد على أهمية هذا الدعاء باسم الثالوث
باعتباره عنصراً جوهرياً في التقديس، ونحن نعلم أن هذا الدعاء هو قانون التقديس في
المعمودية أيضاً وكل سر، فما معنى هذا؟

ولكن
واضح أن أنافورا سيرابيون تشير إلى الدعاء بالبركة باسم الآب والابن والروح القدس
الذي يُقال في تقديم الحمل الذي سبق التقديس به على الخبز والخمر قبل البدء
بأنافورا سيرابيون، ولكن ليس الأمر مجرَّد إشارة بل تأخذ أنافورا سيرابيون
باعتباره إجراءً جوهرياً تعتمد عليه اعتماداً مطلقاً في متابعة صلواتها كأساس.

هذا
هو السر الذي دوَّخ العلماء، ولم يعطِ عالِم واحد حلاًّ أو رأياً ذا قيمة على
الإطلاق، لأنه معروف في التقليد الإفخارستي أن التقديس لا يمكن أن يتم قبل
التأسيس وقبل الاستدعاء. وقد أيَّد الآباء جميعاً هذا وصار قانوناً إفخارستياً
محدداً أن قبل التأسيس وقبل الاستدعاء يظل الخبز خبزاً ساذجاً والخمر خمراً ساذجاً،
فكيف وقبل أن يأخذ الكاهن الخبز على يديه تصفه أنافورا سيرابيون بأنه “ذبيحة
حية وصعيدة غير دموية”؟ بل ويطلب بهذه الذبيحة باعتبارها جسد ودم المسيح أن نتصالح
مع الآب؟

والآن
أصبح هذا اللغز محلولاً، وأصبحت هذه الحقيقة مفهومة وواضحة، وأن الذي أربك العلماء
ودوَّخهم هو عدم اكتشافهم هذه الحقيقة وهي أدق وأهم عنصر من عناصر التكوين
الإفخارستي منذ أن نشأت إفخارستية الصباح المركبة. فالإفخارستيا أصبحت تقدَّم على
مرحلتين متداخلتين ومتضمنتين في طقس واحد: مرحلة تقديم الخبز والخمر ليصيرا جسداً
ودماً للابن الوحيد، ثمَّ المرحلة الثانية لتقديم الجسد والدم لله الآب باعتبارهما
الذبيحة الحية والصعيدة غير الدموية التي بها يتم الصلح وننال رحمة.

ولكن
ظل الفصل والإيضاح بين هاتين المرحلتين دقيقاً للغاية مع أنه موجود وواضح بصورة
خفية في رواية الإفخارستيا التي جاءت في الأناجيل، وهي لا تفوت ملاحظة أي إنسان
دقيق مرهف، وعلى القارئ الآن أن ينتبه للتفريق بين المرحلتين في رواية الأناجيل:

[أخذ
خبزاً وبارك
وكسر وقال هذا جسدي] [الذي يُقسم عنكم].

[أخذ
كأساً وشكر
وقال هذا دمي] [الذي يُسفك عنكم].

واضح
أن البركة والشكر على الخبز والخمر أتمَّت المرحلة الأُولى وصار الخبز والخمر في
يد المسيح جسداً ودماً.

ثمَّ
هذا الجسد وهذا الدم سيقدَّمان لله الآب عنكم، وهنا تتم المرحلة الثانية.

إذن،
فالمرحلة الأُولى تتم في “تقديم الحمل” حيث يتقدَّس الخبز والخمر ويصيران جسداً
ودماً (ذبيحة)، والمرحلة الثانية تتم في الإفخارستيا الكبرى، حيث تقدَّم الذبيحة
لله الآب للمصالحة.

قداس
مار مرقس الرسول:

تقول
أنافورا مار مرقس الرسول في بدء مطلعها في أول فقرة بعد “الرب مع جميعكم” هكذا: [وخلقت
الكل بابنك الوحيد. هذا الذي من قبله نقدِّم هذه الإفخارستيا، ونقرِّب لك معه
ومع الروح القدس هذه الذبيحة الناطقة وهذه الخدمة غير الدموية]. وهذا يُشبه
نص الكلمات التي تستخدمها أنافورا سيرابيون مشيرة إلى إفخارستية تقديم
الحمل. ثمَّ بعدها مباشرة وقبل التقديس وقبل الحلول يقول: [لأن اسمك عظيم .. ومن
أجله نقدِّم هذه الذبيحة وهذا القربان].

ويعود
الكاهن ويقول
قبل التقديس، بل وقبل أن يأخذ الخبز على يديه
هكذا: [املأ هذه الذبيحة التي لك بالبركة التي من قبلك بحلول روحك القدوس
عليها، قرابينك هذه المكرَّمة المبدوء بوضعها أمامك (السابق وضعها
أي تقديسها
في تقديم
الحمل)].

مواضع
أخرى:

(أ)
في تقليد هيبوليتس عن الإفخارستيا
([17]): تبدأ
الإفخارستيا بقوله: [ويضع الأسقف يده مع الكهنة على “الصعيدة”]، ولا يقول
“على الخبز والخمر”.

هنا
إشارة ضمنية إلى أنه يسبق إفخارستية هيبوليتس طقس آخر انتهى بالحصول على “صعيدة”،
التي تصفها كل من إفخارستية سيرابيون ومرقس الرسول “بصعيدة غير دموية”، أي
أنها ذبيحة الجسد والدم التي للمسيح.

كذلك
في الاستدعاء تقول إفخارستية هيبوليتس [ونحن نتوسَّل إليك لكي ترسل روحك القدوس على
هذه الذبيحة التي لكنيستك المقدَّسة
t¾n qus…an tÁj
¡g…aj ™kklhs…aj
].

ولا
تطلب إفخارستية هيبوليتس أن يتحوَّل الخبز إلى جسد والخمر إلى دم بسبب وعيها أن
الموضوع على المذبح هو جسد ودم، بل تطلب أن تصير الذبيحة بحلول الروح القدس لها
قوة وسلطان جسد المسيح الحي المقام “لكي تجمع وتوحِّد معك (مع الآب) كل الذين
يتناولون منها حتى يمتلئوا بالروح القدس الذي يثبت إيمانهم في الحق”.

(ب)
في مخطوط العالم ابن كبر المعروف بمصباح الظلمة في إيضاح الخدمة في الباب السابع
عشر في شرحه لسر القربان يقول: [وبعد أن يقول الشعب الأمانة (قبل الدخول في
القداس) يأخذ الكاهن المبخرة ويبخِّر فوق الهيكل والجسد وقدام المذبح …].

إذن،
واضح أمامنا أن كلاًّ من أنافورا سيرابيون وأنافورا مرقس الرسول، بل وإفخارستية
هيبوليتس كانت منذ البدء على وعي دقيق وواضح بقيمة إفخارستية تقديم الحمل، واعتمدت
كل منها اعتماداً مطلقاً على التقديس الذي تمَّ في هذه الإفخارستيا على كل من
الخبز والخمر، وقد أصبح في عرف أنافورا سيرابيون وأنافورا مرقس الرسول أن الخبز
والخمر هما الآن
بعد تقديم الحمل، ومنذ
بدء الليتورجيا
جسد ودم، ذبيحة حية وصعيدة غير دموية مقدَّمة
للآب!

ولكن
لشدة الأسف فإن هذا الوعي بقيمة “إفخارستية تقديم الحمل” والاعتماد المطلق عليها
مفقود نهائياً من ليتورجية القديس باسيليوس وليتورجية القديس غريغوريوس في الطقس
القبطي وفي كل الليتورجيات (وكل الطقوس لكل الكنائس الأخرى طبعاً)، وذلك بسبب
البعد الزمني الكبير بين صياغة كل منهم وبين عصر الرسل عصر التقليد المتقن والوعي
الإفخارستي الرائع.
لأنه ينبغي أن لا يتوه عن بالنا قط أنه بقدر ما
بدأت تنمو الإفخارستيا في الوعي اللاهوتي وتستخدم المفهومات الخلاصية وتشرح سر
الفداء، بقدر ما كانت تنسلخ عن وعيها بتقليدها القديم المسلَّم من يد المسيح في
بساطة السرّ وروعة الإتقان الذبائحي.

ولكن
ظلَّ على كل حال في ختام طقس تقديم الحمل ما يشهد لعراقة وأصالة هذا الطقس بصورة
واضحة كل الوضوح، وذلك بواسطة النداء الذي ينادي به الشماس حتى اليوم في نهاية
تقديم الحمل
بعد الصلح والقبلة، وقبل أن يبدأ الكاهن بأيَّة كلمة من
ليتورجيا الإفخارستيا الكبرى
أي قبل أن
يقول الكاهن “الرب مع جميعكم” و“ارفعوا قلوبكم”
ينادي الشماس قائلاً: [أيها
الإكليروس وكل الشعب، بطلبة وشكر بهدوء وسكوت ارفعوا أعينكم إلى ناحية المشرق لتنظروا
المذبح وجسد ودم عمانوئيل إلهنا موضوعين عليه
].

يُلاحظ
هنا أن الكنيسة تعلن بأن الذي على المذبح هو جسد ودم عمانوئيل، وذلك قبل البدء
في الدخول في القداس رسمياً
(حسب قانون الإفخارستيا). وواضح جدًّا أن هذا
الجزء من الليتورجيا، أي صلاة الصلح، لا تتبع الإفخارستيا الصباحية قط، لأن
الإفخارستيا الصباحية لا تبدأ رسمياً إلاَّ بقول الكاهن: “الرب مع جميعكم،
ارفعوا قلوبكم، فلنشكر الرب”.

هكذا
فإن هذا النداء بقي كأقوى شاهد ينبهنا بشدة إلى ضرورة تفهم قيمة وكرامة إفخارستية
تقديم الحمل وأهميتها المطلقة كجزء جوهري في التقديس وفي مفهوم قيام
الإفخارستيا ككل.

6
آثار
إفخارستية عشاء الرب (تقديم الحمل) في كنائس البلاد الأخرى:

وهي
المعروفة عندهم الآن بالتقدمة
Offertory ومكانها المذبح الجانبي Prothesis والمسمَّى أيضاً Sacristy أي موضع إعداد الذبيحة.

طقس
كنيسة أنطاكية في القرن الرابع:

سوف
نسرد للقارئ على لسان ثلاثة من علماء الليتورجيا ليتزمان ودكس وريتشاردسن كل
الظروف التي مرَّت بالتقدمة، أي “تقديم الحمل” في الكنائس الأخرى. وكيف ضاع
من كافة الكنائس قوة التقديس الحادثة في الطقس الأصلي باعتباره إفخارستية عشاء
الرب التقليدية
ولم يعد إلاَّ خبزاً ساذجاً وخمراً ساذجاً وضاع مع
الطقس مفهومه وشرحه السليم، ولم يتبقَ منه إلاَّ ملابسات التوقير الفائق له
ومعاملة الخبز والخمر (هكذا) معاملة الأسرار نفسها وعلى أعلى مستوى.

ثمَّ
سوف يرى القارئ مدى البلبلة والتضارب بسبب هذا عند الكنائس وعند كل دارسي
الليتورجيا وعند كبار اللاهوتيين شرقاً وغرباً، إلى درجة نعت الكنائس بالكفر لأنها
توقِّر وتسجد للخبز والخمر (هكذا) في مرحلة التقديم.

ولكن
من وسط هذا التشويش والبلبلة، لا نعدم صوتاً يقترب من الحقيقة دون أن يضع يده
عليها، فيشرح ويعلِّل ويصالح برؤيا معتمة كمن يرى شيئاً من وراء الضباب، وهو
الأسقف ثيئودور أسقف موبسوستا (350
428م) صديق العمر
للقديس يوحنا ذهبي الفم (347
407م)، ولكن نسبق
ونحذِّر القارئ لأنه يحاول أن يجعل من سر الإفخارستيا تمثيلية (ونجح بالفعل في
تلويث فكر بيزنطة) الأمر المبغوض لدينا جدًّا، والذي أخذ به للأسف الشديد
بعض رجال
كنيستنا القبطية!

والآن
إليك أيها الباحث قصة التقديم في كنائس سوريا وأنطاكية وأرمينيا وبيزنطة باختصار
شديد. وسوف نجعل هنا تعليقاتنا في الهامش.

يقول
العالِم ريتشاردسن:

[الاستدعاء
Epiclesis وهو طلب حلول الروح القدس في الليتورجيات الشرقية ليحوِّل التقدمة
على المذبح إلى جسد ودم المسيح، هذا في الحقيقة يُعتبر عملاً مكمِّلاً لإجراء طقسي
آخر له طابع المأساة بحسب الليتورجيا البيزنطية فقط (يقصد البروثيسيس
Prothesis أي تقديم القرابين قبل بداية القداس). وفيه يقطع الكاهن الجزء
الأوسط من القربانة المختمرة، وهذا يسمَّى “الحمل المقدَّس” ثمَّ يطعنه بحربة
ليمثل معاملة جسد الرب في آلامه على الصليب. هذا طقس تمهيدي يجري في بدء الأنافورا
([18]). وقد يحسب
أيضاً أن عملية مزج الخمر بالماء هي بمثابة طعن الجنب وخروج دم وماء ممزوجين.

وأقدم
مخطوطة تسجِّل لنا هذا الطقس هي المخطوطة المعروفة “بخولاجي البربريني” من القرن
التاسع، ويأتي هذا الطقس فيها في مقدِّمة الخدمة، أو مدخل الخدمة. وتقول
الليتورجيا إنه يتم خارج الهيكل الكبير وليس على المذبح، بل في مكان جانبي مجاور
للهيكل
([19]). والعملية
كلها مع المكان المخصَّص لها أصبحت تسمَّى الآن
Prothesis
أي “مقدِّمة الذبيحة”. ولكن ذكر الحربة لم
يدخل الطقس إلاَّ بعد ذلك بكثير (أي في القرن العاشر أو الثاني عشر
)
([20]).

هذا
الطقس المأسوي (عملية طعن الحمل) له منذ القدم أصله العقائدي وبصورة تفصيلية
وبأسلوب واقعي وذلك في زمن ثيئوذور أسقف مبسوستا
Mopsuesta
(350
428م): حيث
تكشف عظاته في الليتورجيا وشروحاته الأخرى أن هذا الطقس كان يجرى في ذلك الزمان
على المذبح.
]
([21])

والآن
نكمِّل هذه القصة من مصدر آخر هو العلاَّمة دكس:

[وفي
نفس منطقة أنطاكية (سوريا) وليس بعيداً عنها، وفي زمان ذهبي الفم نجد ثيئودور أسقف
مبسوستا يشرح الموضوع هكذا: “علينا أن نفكِّر في الشمامسة الذين (عند التقديم)
يحملون الخبز الإفخارستي ويقدِّمونه للذبيحة، فإنهم يمثِّلون الخدام غير المنظورين
القائمين على الخدمة الذين يختلفون في كونهم بخدمتهم هذه التذكارات لا يخرجون
المسيح ربنا إلى آلامه المخلصة ولكن يضعونها (الصعيدة وقت التقديم) على المذبح
لتمثيل تكميل الآلام حتى نبدأ نفكِّر فيه وهو على المذبح وكأنه موضوع في القبر بعد
أن قبل آلامه. وهذا هو السبب في كون الشمامسة الذين يفرشون المفرش (من الكتان) على
المذبح، يمثِّلون منظر لفائف الكتان وقت الدفن. الشمامسة يقفون على كلا الجانبين
يروِّحون على الجسد بالمراوح
([22])، فيعلنون
بهذا عن عظمة الجسد المسجَّى على المذبح، لأنه من عادة تكريم أجساد العظماء في
العالم أن يروِّحوا عليها. أمَّا هنا، فالجسد المقدَّس الذي يقدَّم له
الرعدة والخشية في القلوب البعيد عن الفساد، الجسد الذي سيقوم لوجود حيّ غير مائت
(القداس)، الشمامسة يلتفون حول المذبح يروِّحون ويقدِّمون الكرامة والعبادة للجسد
المقدَّس المهيب المسجَّى
([23]). تذكاراً
للملائكة الذين لم يكفوا عن خدمة الرب وقت الآلام والموت، وهذا إنما يعمله
الشمامسة ليكشفوا عن عظمة الجسد الراقد وهيبته وقداسته أنه حقا للرب باتحاده
بالطبيعة الإلهية وأنه بالمخافة العظمى ينبغي أن يرى ويراعى”].

[هذه
الأمور تُجرى بينما يكون الجميع صامتين، لأنه قبل أن تبتدئ الليتورجيا ينبغي على
الجميع أن يراقبوا استحضار القرابين ووضعها أمام الله، هذا الأمر العظيم والعجيب،
وذلك بهدوء وخوف ووقار وبسكون وبلا أي ضوضاء، فعندما مات الرب رجع الرسل وبقوا في
العلية بسكون عظيم وخوف كثير، فعندما نرى الصعيدة على المذبح (التقديم) التي تشير
إلى وضع الجسد في ا لقبر بعد الموت، فإن سكوناً عظيماً يقع على جميع الحاضرين.
وعليهم أن ينظروا إليه بسكون وخوف ووقار كثير، لأنه حتماً سيقوم المسيح ربنا من
خلال صلوات الليتورجيا المذهلة التي ستكمل بواسطة الخدمة الكهنوتية حيث يعلنون
شركتنا في خيراتها غير المنطوق بها.]
([24])

وهنا
يعقِّب العالِم دكس هكذا:

[ولكن
هنا شيء غير منسجم إطلاقاً، لأن هذا الوصف يتعلَّق بالجزء الأول من مجرَّد التقديم
offertory، ولم يأتِ التقديس بعد، فكل هذا الخوف وهذه الرعدة والعبادة التي
يؤكِّد عليها ثيئوذور والترويح والتكريم، كل هذا مقدَّم للخبز والخمر؟ غير
المقدَّسين؟ بل وقبل أن تبدأ الليتورجيا؟ ولكن كل الكلام يؤكِّد هذا أمامنا! لأن
ثيئودور ينطلق من هذا إلى وصف كيف يعلن الشمامسة بعد ذلك عن القبلة المقدَّسة
وعن غسيل الكاهن ليديه
Lavabo ([25])، ثمَّ ذكر
لوحي (صفحتي) الأموات والأحياء، ثمَّ يذكر بعض الصلوات التحضيرية للكاهن ثمَّ
مخاطبة الكاهن للشعب: الرب مع جميعكم، ثمَّ تبدأ صلوات الإفخارستيا!]
([26])

والآن
واضح أمامنا هذه البلبلة التي دخل فيها العالِم دكس، وكيف وقف حائراً لا يستطيع أن
يفسِّر كيف يعطي للخبز الساذج والكأس هذه الكرامة والمهابة والخوف والرعدة
والعبادة.

ولكن
يا قارئي العزيز، ليس فقط قد صارت هذه البلبلة لدى العلماء في القرن العشرين، بل
وإن ثيئوذور نفسه يقف متعارضاً مع نفسه، فهو ورث هذه المهابة والخشية فقط في هذا
الجزء من الطقس، دون أن يفهم أو يدري سرها الحقيقي، لأنه في هذا القرن بالذات، أي
القرن الرابع، كانت قد بدأت عملية انطماس أصل الإفخارستيا الأُولى وتقليدها
الموروث حيث طغت الليتورجيا الوصفية على
“إفخارستية عشاء الرب” البسيطة والعميقة جدًّا، وأخفتها تحت عنوان ما يسمَّى

“بالتقديم” ثمَّ ألغته نهائياً في كل
البلاد ما عدا مصر، البلد الوحيد الذي يقيم “التقديم” بأصله الإفخارستي بكل صلوات أواشيه وتقديسه وصلوات الشكر
والاستدعاء إلخ
… وهو المدعو بقداس الرسل.

الطقس
البيزنطي:

ثمَّ
يستطرد العالِم دكس، ويطبِّق ما هو حادث في الطقس البيزنطي، مظهراً اندهاشه وحيرته
بسبب هذه البلبلة التي بقيت أمامه بلا حل.

[ولكن
هذه الحقائق التي يرويها ثيئوذور عن مفهوم التقديم
offertory
تعطي لنا المفتاح أو طرف الخيط الذي به يمكن فهم بعض الصفات الخاصة والغريبة جدًّا
التي نشاهدها في الطقس والتقليد البيزنطي من جهة العادة المعروفة في الطقس
ب“الدخول الكبير”
(دورة التقديم). فالشمامسة والكهنة القائمون بالتقديم
واشتراك
الكهنة هنا في التقديم كفيل بأن يدمِّر كل المفهوم الرمزي
يحضرون
المواد غير المقدَّسة من على المائدة الجانبية
Prothesis([27])، حيث
يكونوا قد أعدوها سابقاً بأعمال موسعة قبل أن تبدأ الليتورجيا (تقسيم القربانة
وطعن الحمل … إلخ)
يحضرونها بمسيرة رسمية
(دورة) إلى المذبح. وفي أثناء ذلك يقدِّم الشعب عبادة وسجوداً للمواد المحمولة
أمامهم. وللوقت يسبِّح الخورس تسبحة الشاروبيم
([28]) وهي تسبحة
دخلت (في الطقس البيزنطي) في القرن السادس.

ولكن
هذا التوقير العميق والعبادة والسجود الحقيقي المقدَّم “للمواد غير المقدَّسة بعد”
أثناء هذه المسيرة (الدورة) كانت مصدر حيرة وارتباك لكل لاهوتيي الشرق ولغزاً لا
يزال قائماً في وجه علماء الليتورجيا الذين وضعوا لهذا تفاسير عديدة. وبعض العلماء
فسَّر هذا بأنه كان قديماً الذي يُحمل في هذه المسيرة (الدورة) هي أسرار محفوظة
سبق تقديسها. ولكن شرح ثيئوذور يكشف لنا عن هذا الأصل القديم الحقيقي.
]([29])

(انتهى
كلام دكس)

وهكذا
يتكشَّف أمامنا بكل إتقان ووضوح لا يمكن التشكُّك فيه، أن حيرة هذه الكنائس وحيرة
علماء الليتورجيا جميعاً بخصوص التكريم والعبادة والرعدة المقدَّمة لمواد التقديم
هو في الحقيقة معلوم لدينا جدًّا سببه، وبكل يقين، بحسب الطقس القبطي التقليدي
المتحفِّظ الذي لا يزال محتفظاً بطقس التقديس بالبركة والشكر على الخبز والخمر
والاستدعاء في تقديم الحمل، بحيث أنه بانتهاء طقس تقديم الحمل يكون قد تمَّ تقديس
الخبز والخمر إلى “ذبيحة حية وصعيدة غير دموية” واجبة التكريم والعبادة والسجود،
لأن المسيح يكون قائماً فيها.

وهكذا يكشف لنا كل من طقس أنطاكية في القرن الرابع والطقس
البيزنطي اللاحق عن بقايا طقس
إفخارستية عشاء الرب التي وإن ضاعت معالمها عندهم،
فقد بقيت آثارها في معاملة الإكليروس والشعب
لمواد التقديم، وكذلك في شرح ثيئودور الذي يؤكِّد حدوث تقديس كامل في
تقديم
الحمل.

الطقس
الأرمني:

وحتى
طقس الكنيسة الأرمنية لا يزال موجوداً به آثار هذا الترتيب في الصلوات والمردات
فقط لأن “التقديم
offertory” يتم عندهم الآن بعد الأواشي التي تقال بعد قداس الموعوظين، ولكن
بالرغم من ذلك فإنه قبل الدخول في القداس وقبل تقديم القرابين يردِّد الشعب بعد أن
ينذر الشماس بخروج الموعوظين هذا المرد: [الجسد المقدَّس الذي لربنا والدم الذي
لمخلِّصنا هو أمامنا،
القوات السمائية غير المنظورة تنشد وتقول قدوس قدوس قدوس
رب الصباؤوت].

وكان
تعليق العالِم “جون ماسون نيل” على هذا المرد في هذا الموضع: [إن هذا شذوذ فائق
الغرابة ومذهل، فليس فقط التقديس نفسه لم يبتدئ بعد بل وتقديم القرابين أيضاً لم
يبدأ.]
([30])

أمَّا
في الطقس (الرومانو
أرميني) أي الطقس
الأرمني الإيطالي فقد انتبه العلماء مؤخَّراً لهذا التعارض، فجعلوا الشعب يرد
قائلاً
بدلاً من “الذي
لمخلِّصنا هو أمامنا”
حولوه إلى القول
“المزمع أن يحضر أمامنا” وهذا تشويه للتقليد.

نستخلص
من هذا كله:

أن
جميع ليتورجيات الشرق سواء في سوريا أو بيزنطة أو أرمينيا، احتفظت بآثار واضحة
غاية الوضوح لقداس كامل كان يتمَّم فيه بالفعل تقديس الخبز والخمر تقديساً كلياً
قبل البدء بالأنافورا الوصفية الصباحية التي تبدأ بعد قداس الموعوظين.

وإن
هذه الآثار قائمة في صميم العبادة وتكريم مواد الإفخارستيا بصورة لا تقبل الشك
بالرغم من ضياع الطقس ومفهومه.

وبذلك
يكون وجود قداس عشاء الرب بإفخارستيته الكاملة داخل مضمون طقس “تقديم الحمل” في
مصر له ما يثبته في كافة الكنائس الأخرى.



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى