علم

الأنبا أنطونيوس كوكب البرية



الأنبا أنطونيوس كوكب البرية

الأنبا أنطونيوس كوكب البرية

مؤسس الرهبنة فى مصر والعالم

 

مقدمة

يمثل تاريخ المسيحية حقبة هامة من حلقات التاريخ القومى
المجيد لمصر، إلا أن عناية قدامى الكتاب والمؤرخين وحتى الحديثين منهم كانت هزيلة،
والأقباط أنفسهم قصروا فى تدوين تاريخهم، فكان لهذا التهاون المعيب أثره الضار
بفقدان العديد من جلائل الأعمال التى امتاز بها تاريخ مصر القبطى.

وعندما شرع الغرب فى دراسة التاريخ المصرى القديم، وقد بهرتهم آثار
الفراعنة وحضارتهم العظيمة التى خلبت عقولهم، فكان اهتمامهم بها بالغا حتى حجب
بريقها عن أبصارهم الحضارات الأخرى التى ترعرعت على ضفاف وادى النيل مثل مظاهر
الحضارة القبطية..

ومن أروع مظاهر الحضارة القبطية مثلا: تاريخ الرهبنة المصرية! وأديرتها وزعمائها وآباء الكنيسة المصرية وكل ما يتعلق بهذا التراث
الهائل الخالد، والذى يجب أن يأخذ حقه من العناية والبحث الدقيق.

ينبغى أن نلفت أنظار الجميع بأن دراسة تاريخ العصر القبطى لا
يعتبر مسألة طائفية بحتة، بل هى دراسة قومية بكل معانيها، وعلى الأخص فيما يتعلق
بموضوع ” إحياء تراثنا القومى ” فى شتى مراحله، ومما لا ريب فيه أن
أعمال الرهبنة المصرية وزعمائها وتعاليم الآباء المصريين فى هذا المضمار من
تاريخنا القومى هى من أعظم المخلفات التى جادت بها القرائح المصرية على العالم
المتمدين أجمع.

كان للرهبنة المصرية دور بالغ الأهمية فى التأثير على المجتمع المصرى، فى
مجالات استراتيجية تهم الوطن المصرى ككل:

+ كان لزعماء الرهبنة وآباء الكنيسة دور
كبير فى مناهضة الأستعمار وتحملوا أبشع صنوف العذاب والتنكيل بهم برباطة جأش، كان
للرهبنة دور كبير فى إيقاظ الروح القومية بين جموع الشعب ومناهضة الأستعمار البغيض،
كان لآباء الكنيسة نظرة ثاقبة حتى فى الأمور السياسية التى يغفل عنها القادة
السياسيون، ومازال هذا الدور قائما فى عهد قداسة الباب شنودة الثالث.

+ كان للرهبنة القبطية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية دورها الحاسم فى اقتلاع جذور الوثنية من مصر! التى استمر تاريخها لقرون
طويلة سبقت دخول المسيحية إلى أرض مصر.

+ كان للرهبنة القبطية دورها الأجتماعى والروحى فى اقتلاع الخرافات وأعمال السحر من عقول أبناء الوطن، كانت الأديرة
بمثابة المنائر المضيئة فى وسط جو عام يموج بالغموض والظلام، كما قدمت الأديرة كل
ما يحتاجه المواطن المصرى من علاج وطعام، كانت الأديرة هى الملاذ الآمن لكل نفس
تبحث عمن يهدىء من روعها..

+ لا ننسى دور المكتبات (بالأديرة) التى
امتلأت بكتب وكتابات آباء الكنيسة، فى شتى المجالات الدينية والروحية والفلسفية
والعلمية،.. والتى كان لها دور كبير كمرجع خاصة بعد احتراق مكتبة الأسكندرية فى
القرن السادس الميلادى.

+ الثابت أن تلك الحقبة من التاريخ القومى متشعبة الأبواب، متعددة الفروع والأدوار، حافلة بكثير من عجائب الأخبار ونوادر المثل
العليا وبدائع الكنوز العلمية والأدبية، وتحتاج فى بحثها واستجلاء غموضها إلى
جماعة وفيرة من الدارسين والباحثين والمؤرخين، على أن يتضافروا جميعهم تحدوهم
الغيرة والأخلاص والحماس ليظهروا تلك الحقبة فى الصور المشرفة الناصعة اللائقة
بعظمتها ومجدها.

وقد يكون من بواعث نجاح تلك الدراسة وأبحاثها أن يتفرغ كل فريق من
الباحثين والكتاب إلى فرع خاص منها فمنهم من يتولى اتمام دراسة تاريخ زعماء
الرهبنة باستفاضة، وعلى سبيل المثال: كالأنبا بولا، والقديس أنطونيوس، والأنبا
شنودة رئيس المتوحدين، والقديس باخوميوس، والقديس مكاريوس الكبير،… الخ، على أن
تصدر هذه الأبحاث فى سلسلة.كتب ومراجع مترابطة يسهل على أبناء الكنيسة دراستها
بسهولة ويسر.

 

تمهيد:

من هو
الراهب المسيحى؟

هو انسان
يثقل قلبه بمحبة المسيح..

فيغوص فى
أعماقه الجوانية، ويكتشف داخله عريسه وعرسه ويجد لقاءه مع محبوبه مستحيل وسط الناس
وصخب المسئوليات المتلاحقة فيختار البعد عن الكل ليرتبط بضابط الكل. لذا يختار
السكنى فى الهدوء.. فى الجبال والصحارى والمغاير، من هنا نجده فى الموضع الجديد،
يعطى أسم جديد، وثياب جديدة،

فى بكر يوم جديد، وبعد
رقوده أمام باب هيكل الله يقوم آخذا بركة وأذن الجماعة التى يسكن بينها.. ليجد
نفسه فى مواجهة باب الهيكل.. فمع أنه محب للاله إلا أنه يرتعد ويرهب الوقوف قدامه..
فيخرج بعد تناول القربان فى الصباح يحمل رهبة لله كل أيام حياته.

لذا يسمونه راهب لأنه
يرهب الله: فى نومه ويقظته، فى مشيه ورقوده، فى صمته وحديثه، فى خموله ونشاطه، فى
أكله وصومه، فى ضعفه وفى نصرته

 وما هى الرهبنة فى المسيحية

هى ليست رتبة فوق
الأيمان المسيحى..

إنما هى تطبيق للأيمان
المسيحى، وسلوك نحو الملكوت الأبدى، وهى بذلك عشرة مع يسوع، فتصبح ملامحها خاشعة
لسمات العشرة الصادقة ليسوع.

الراهب
يعيش الأعتزال، وينكر الأنعزال، ويقدس الجمال

فالرهبنة
فى الراهب محب المسيح تضيف إلى روحه المجاهدة جمال

وتعطى
لجسده الممات جمال وتكسو مسكنه البسيط بالجمال..

 

القديس
انطونيوس

مقدمة

من
واجبنا أن نتساءل عن الثمار التى جناها الفكر الإنسانى من حياة الصحراء، وهذه
الثمار تبدو لأول وهلة قليلة إذا قيست بالعدد غير المحصى من الذين عاشوا فى
البرارى القاحلة، ومما يزيد فى ندرتها الظاهرية أن فطاحل المسيحية أمثال أثناسيوس
الرسولى وباسيليوس وذهبى الفم لم يقضوا بها إلا فترة من الزمن ثم تركوا سكينتها
وعاشوا فى صخب هذا العالم.

غير أن من يدقق النظر
فى حياة النساك يجد أن الثمار التى جنتها الأنسانية من حياة الصحراء لا تقع تحت
حصر. لأن أولئك النساك وإن لم يقدموا لنا كتبا مستفيضة تضارع ما كتبه فلاسفة المسيحية
إلا أنهم قدموا لنا حياتهم مثلا حيا لإيمان راسخ وعقيدة ثابتة ويكفى للتدليل على
صحة هذه الحقيقة التاريخية أن أحد هؤلاء النساك كان يملك نسخة واحدة من الكتاب
المقدس ؛ فباعها ليوزع ثمنها على الفقراء، ولما سئل عما فعل قال: ” لقد نفذت
الأمر الإلهى القائل (بع كل ما لك وأعطه للفقراء) “.. ولو أن العالم سار على
منوالهم وأبدل القول بالعمل لتحول بين عشية أو ضحاها إلى جنة النعيم من جديد، وهذه
الحقيقة دليل ساطع على أن الذين اعتزلوا العالم وسكنوا الصحارى قد بلغ السلام
أعماق نفوسهم فتذوقوا متعة الخلوة مع الله – وبالتالى كانت حياتهم المثل الفعلى
لهذا السلام الذى ينبع من الداخل.

وهذه
الصفة هى التى حببت الجماهير فيهم فتقاطروا عليهم، ولم تلبث الصحارى أن تحولت إلى
جنات من الخير والبركات تقدست بأنفاس لباس الصليب،

 وهكذا
وجد الأنبا أنطونى أبو الرهبان نفسه محاطا بجمع غفير قطع عليه الخلوة التى كان
ينشدها.

وأن البار الأنبا بولا
– مع أنه يعد أول النساك – إلا أن الذى أنار السبيل أمام البشرية لحياة النسك فى
عزلة الصحراء هو العظيم الأنبا أنطونى.

تمتاز كنيستنا القبطية
الأرثوذكسية عن بقية كنائس العالم بالآتى:

(1) الفلاسفة العالميين
الذين عملوا على دفع كل فرية توجه صوب عبادتهم المقدسة دفعا علميا قويا لا يوجد
معه أى ثغرة للخصم يستند عليها.

(2) شهدائها الأبطال: الذين
استعذبوا الموت حبا فى فاديهم ومخلصهم رب المجد يسوع، عالمين أن: ” الآم
الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا ” رو 8: 18

(3) نشأة ” الدعوة
الرهبانية ” فيها، فما أن بزغ فجر القرن الرابع الميلادى حتى لمع فى سماء
البرية ذلك الكوكب الوضاء: ” الأنبا أنطونيوس ” الذى اعتزل العالم مؤثرا
الوحدة والأنفراد عاكفا على تقديم العبادة خالصة لله، مجاهدا ضد العالم والجسد
والشيطان، وبقدر تجاربه وآلامه خرج منتصرا وظافرا!

لقد رأينا حياة النصرة
الحقيقية من خلال جهاده الروحى.. رأينا أساليب محاربة العدو وحيله..

لهذا نجد أن كل الكنائس
شرقا وغربا تتخذ من القديس أنطونيوس أبا ومعلما ومرشدا.. يقول القديس أثناسيوس: ”
إننى أعد مجرد التذكر بأنطنيوس من جليل المنافع لنفسى!. والوقوف على صفات أنطونيوس
لمن اكمل السبل التى ترشد إلى الفضيلة “.

كم
كان تأثير حياة القديس أنطونيوس عظيما فى النفوس! لقد وصل القليل منها لمسامع
القديس أغسطينوس فكان كافيا لأنتشاله من سقطته وانتقاله من حياة الشر إلى حظيرة المسيح
القدوس!

قال القديس ايرونيموس: ”
انه لما ذهب أثناسيوس الرسول إلى رومية أخذ معه موجز سيرة القديس أنطونيوس الذى
كان قد ألفه، وأن أناسا كثيرين بعد أن قرأوا الخبر هجروا العالم وترهبنوا “.

 

حياة كوكب
البرية

النشأة الصالحة:

ولد الأنبا أنطونيوس
حوالى عام 251 م، فى بلدة تسمى قمن العروس (إحدى قرى بنى سويف).. من أبوين تقيين
مسيحيين فى عهد داريوس الملك، وقد اعتنيا والداه كل الأعتناء بتربيته وتهذيبه،
حسبما تقتضى الوصايا الألهية واضعين نصب أعينهما قول الحكيم: ” رب الولد فى طريقه فمتى شاخ أيضا لا يحيد عنه، أبو
الصديق يبتهج ابتهاجا ومن ولد حكيما يسر به “
(أم 23: 24).

حقا، ما أحلى التربية
وقت الصغر، وما أعظم التهذيب فى الحداثة، إن البيت هو المدرسة الأولى التى يتلقن
فيها الطفل ما يكفى لصقل شخصيته واظهارها إما فى صورة ملك جليل، أو فى هيئة شيطان
رذيل!!..

ما الطفل.. إلا وديعة
طاهرة نتسلمها من الرب فإذا بواجبات تفرض على أبويه إزائه.. هو عجينة لينة تصاغ
كيفما نريد.. منها نصنع تمثالا عجيبا جميلا.. ومنها نصنع شكلا مخيفا قبيحا..، فاذا
فلتت الفرصة من والديه فعليهم أن يقدموا حساب وكالتهم..!.

من أمثلة العهد القديم أم موسى النبى، التى سقت أبنها فى سنى حياته الأولى لبن
الأيمان مع لبن ثدييها، وهذبته حسب مخافة الله، ومع أنه لم يبق مع أمه سوى سنى
الطفولة الا أن أربعين سنة كاملة سلخها فى قصر فرعون لم تكن لتغير من خلقه أو
تحوله ولو قيد أنملة عما تشبع به وقت الصغر!!.. وليس أدل على ذلك من أنه لما كبر
أبى أن يدعى أبن أبنة فرعون مفضلا بالحرى أن
يذل مع شعب الله
من أن يكون له تمتع وقتى
بالخطية “
.. وما الخطية هذه فى نظر موسى النبى ؛ هى شعوره بتميزه فى
معيشته عن بقية أخوته العبرانيين.. الذين نظر إليهم فى أثقالهم وذلهم على يد
المصريين.. ثم نراه يدافع عن العبرانى الذى من جنسه ويقتل المصرى ويطمره فى التراب.

عرف بولس الرسول قيمة
التربية والتهذيب فى الصغر فقال يمتدح تلميذه تيموثاوس:
إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالأيمان الذى فى
المسيح يسوع “
(2 تى 3: 15).

وكم يدرك الآباء
والأمهات عاقبة الأهمال وسوء التربية فى وقت الصغر عندما يعرضون لحياة عالى الكاهن
الذى قضى لأسرائيل أربعين سنة (1 صم 4: 18).. لقد أهمل تربية ولديه حفنى وفنحاس
اللذين سارا على حسب أهوائهما وعبثا ببيت الله، واذ أراد عالى ردعهما فى وقت الكبر
لم يستطع الى ذلك سبيلا وعندئذ جاءه رجل الله وقال له:
هكذا يقول الرب لما تدوسون ذبيحتى وتقدمتى التى أمرت بها فى المسكن وتكرم بنيك على
لكى تسمنوا أنفسكم بأوائل كل تقدمات إسرائيل شعبى، لذلك يقول الرب إله إسرائيل إنى
قلت إن بيتك وبيت أبيك يسيرون أمامى إلى الأبد والآن يقول الرب حاشا لى، فإنى اكرم
الذين يكرموننى والذين يحتقروننى يصغرون هوذا تأتى أيام اقطع فيها ذراعك وذراع بيت
أبيك حتى لا يكون شيخ فى بيتك وترى ضيق المسكن فى كل ما يحسن به الى اسرائيل…
وهذه لك علامة تأتى على ابنيك حفنى وفنحاس فى يوم واحد يموتان كلاهما وأقيم لنفسى
كاهنا أمينا يعمل حسب ما بقلبى ونفسى وابنى له بيتا أمينا فيسير أمام مسيحى كل
الأيام ويكون ان كل من يبقى فى بيتك يأتى ليسجد له لأجل قطعة فضة ورغيف خبز!.
(1 صم 2: 27 – 36).

++ كبر أنطونيوس قليلا
وما كاد يتم دور الطفولة حتى كان قد تعود على الذهاب الى بيت الله للصلاة فى كل
أوقات العبادة، دخل الكنيسة فطبعت محبتها فى قلبه وقال حقا: ” ان الوقوف على عتبة بيتك خير من الجلوس فى خيام
الأشرار “
(مز 84: 10). سمع كلام الحياة فقال ما أحلاه.. نظر إلى
الصبية أترابه ورأى طريقهم المعوج فابتعد عنهم مؤثرا العزلة عالما أن: ” المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة “
(1 كو 15: 33).

وقد وهبه الله حكمة
وفهما عظيمين حتى أنه كان يحفظ كلام الله بمجرد سماعه!.

يقول عنه القديس
أوغسطينوس: ” إن انطونيوس الراهب المصرى الذى كان
رجلا قديسا قد تعلم عن ظهر القلب كل الكتب المقدسة لمجرد سماعه الآخرين يقرأون وقد
فهم كنة معانيها بالتأمل والأفتكار فيها مليا “.

وهكذا كان أنطونيوس:

” ينمو فى النعمة وفى معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح
(2 بط 3: 18).

 قسوة الحياة!!:

 ”
إن فرح العالم ليس فيه شىء يعتبر راهنا ثابتا ولكنه زائل جميعه، وهو يشبه النهر
الذى يجرى عند انسكاب الأمطار على الأودية فيظن من يراه أنه ثابت يدوم وهو
بالحقيقة نهر مستعارة مياهه وتنتهى بغتة مع أنتهاء المطر!. ”
(يوحنا ذهبى
الفم).

ما أن وصل الفتى
أنطونيوس إلى الثامنة عشر من عمره حتى تعرض لتجربة وفاة والده! وهنا كانت الصدمة!
بل هنا كانت التجربة.. انه يافع صغير وله أخت أصغر منه،.. ولم يعتد مثل هذه الآلام،
كما أنه لا يقوى على تحمل أعباء العائلات بعد، فماذا يفعل أنطونيوس؟.. لم تزده
التجربة إلا إيمانا وثباتا ورسوخا

ولم يكد يفيق من تجربة
رحيل والده حتى انتقلت والدته أيضا، فحرم من الأثنين.. وعندئذ ازدوجت التجربة! نظر
فإذا به وحيدا ليس له فى البيت سوى أختا صغيرة..

حرم من والده ؛ فحرم من
التربية الأسرية والنصائح والأرشادات، ووجد هذه الجوانب فى عطف والدته ومحبتها
ورعايتها له ولأخته، ثم شاءت الأقدار أن يحرم من والدته أيضا.. فأصبحا وحيدين، إلا
أن احساسهم بأبوهم السماوى لم يفتر.. وكذلك عوضتهم الكنيسة وارتباطهما بها عن حنان
الأم وعطفها.. بل زادت عن الأم الجسدية بالبركات الروحية، وكأنى بأنطونيوس وأخته
يناجيان أباهما السماوى

” إننا
نعلم أن اسمك برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع “
(أم 18: 10).

إن القديس أنطونيوس فى
صدمته هذه يرينا كيف يجب على المؤمن الحقيقى أن يقبل التجربة بشكر دون أن تفل من
عزمه أو أن تؤثر فى إيمانه إذ: ” كثيرة هى بلايا
الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب “
(مز 34: 19).. “.. لأننى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى “
(2 كو 12: 9، 10).

فى صفحات التاريخ نجد
أن أعظم الرجال قد اجتازوا بين الضيق والألم

فايديسون مخترع
الكهرباء باع الجرائد والمجلات فى الشوارع والطرقات!!

وملتون الشاعر العظيم
كتب أبلغ قصائده بعد أن فقد بصره!

وبيتهوفن وضع أعظم
مقطوعة موسيقية وهو أصم!!

 ومن شخصيات
الكتاب المقدس:

أبونا
يعقوب
..
رأى باب السماء عندما كان هاربا وبلا مأوى من وجه أخيه عيسو.. وتحمل مشقة العمل مع
خاله لابان لمدة أربعة عشر عاما من أجل راحيل المحبوبة.

ويوسف
الصديق
..
قبل أن يكون الرجل الثانى فى بلاط فرعون.. الذى أدار منطقة الشرق الأوسط فى سنوات
القحط والجوع.. واجه اكثر من تجربة.. من تجربة إلقاءه فى بئر مهجور بيد أخوته، إلى
بيعه للأسماعيليين كعبد.. إلى رميه فى السجن بسبب ظلم زوجة فوطيفار له..

لقد غرس الله بذور
الدموع فى الأرض ليخصب بها مادة حياتنا، إنه يحق بنا أن نشبه الألم واللوعة
والحرمان والأضطهاد بجواهر ثمينة مختلفة يزدان بها تاج حياتنا.. إن التجربة هى
للأنسان كالبوتقة للذهب تمحصه وتنقيه وتقوى الرابطة بينه وبين إلهه، وحينئذ يناديه
الرب من وسط التجربة قائلا: ” لا تخف لأنى
افتديتك، دعوتك بإسمك أنت لى، إذا اجتزت فى المياة فأنا معك، وفى الأنهار فلا
تغمرك، إذا مشيت فى النار فلا تلدغ واللهيب لا يحرقك لأنى أنا الرب إلهك قدوس
اسرائيل مخلصك “
(أش 43: 1 – 3).

ويسوع
الذى تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين فى تجاربهم

وكما أن الزيتون لا
يخرج زيته اللذيذ الطعم الذكى النكهة إلا بعد عصره، هكذا المؤمن لن يصل إلى الكمال
إلا بعد أن يعصر تحت الآلام.. هذه هى فوائد الألم، والمسيحيون الذين جازوا فى
التجارب وخرجوا منها بروح شكر، يشهدون لهذه النتائج المباركة يقولون لنا إنهم لا
يمكن أن يؤمنوا إلا بعد التذلل، والآلام لها الفضل فى تحريرهم من خداع العالم وفك
طلاسمه عن قلوبهم، لها وحدها الفضل فى تجديد الأمور الروحية إلى نفوسهم، وبطبيعة
الحال مثل هذه الأختبارات لا يمكن أن تكون نتيجة غضب الله بل محبته، ومهما يكن من
حدة اللهجة التى يخاطبنا بها الله فإن صوته صوت أب ووراءه قلب أب، وكل القصد منه
أن يدفعنا للأحتماء به والألتجاء إلى شخصه، والله الذى يعد الدودة وهو يستعمل
كليهما فى بناء الأيمان فى القلب البشرى.

 

نظر الفتى أنطونيوس إلى
الحياة ومباهجها بعد فقد والديه فإذا بها سراب وخيال.. ولم ينفع الغنى والثروة
التى يمتلكها والده فى أن تمنع الموت، أو تعطى السعادة للأنسان.. ونظر وتأمل فى كل
شىء حوله فلم يرى من الحياة سوى:

” شهوة الجسد
وشهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضى وشهوته “..

برغم أن والده ترك له
ثروة كبيرة إلا أنه:

+ كان ذا
قلب مفتوح، ذو بصيرة روحية، حتى أنه لما شهد جثمان أبوه، ناداه ” أنت خرجت من
العالم مرغما، أما أنا فسأخرج منه بارادتى! “.

 أنطونيوس والمال:

” ما
أعسر دخول ذوى الأموال المتكلين على أموالهم إلى ملكوت الله! “
(مر 10: 24)

 ”
لأنه لا يمكن للأنسان أن يخدم سيدين الله والمال!!. “
(مت 6: 25).

انتقل والدا أنطونيوس
وتركا له ثروة طائلة إذ كانا من أغنياء عصرهما، ترى هل ينمى هذه الثروة وهو يدرك ” أن المال أصل لكل الشرور الذى اذا ابتغاه قوم ضلوا عن
الأيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة؟! “
(1 تى 6: 10).. كم كان يخشى
الفتى أنطونيوس أن تكون هذه الأموال سببا لفقد حياته الروحية الهادئة والنامية..
هل احتفاظه بالمال يتفق مع رغبته فى الوحدة والأنفراد والعبادة؟

أليس الأحتفاظ بالمال
دليل على أنه مازال ينظر إلى الحياة وملذاتها ومباهجها!

كان اتجاهه للوحدة
والعبادة أقوى من كل إغراء..

ان أشد ما كان يقلقه هو
مصير ومستقبل أخته فى هذه الفترة من حياته.. ولكنها هى الأخرى توافقه على رغبته
وتود أن تنذر نفسها للرب!.. بقى بعد ذلك كيفية التصرف فى ماله، لقد كان يدرك تماما
قول السيد المسيح: “.. لا تكنزوا لكم كنوزا على
الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا فى
السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون لأنه حيث يكون كنزك
يكون قلبك أيضا “
(مت 6: 19 – 21)..

وأيضا وضع أمام عينيه
قول السيد المسيح له المجد: “.. لا تهتموا
لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون.. لكن أطلبوا أولا ملكوت
الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم “
(مت 6: 25 – 33).

كان متأثرا بتلك الروح
الواحدة أيام الرسل عندما كان الناس يبيعون حقولهم وبيوتهم ويأتون بأثمان المبيعات
ويضعونها عند أقدام الرسل، فكان يوزع على كل واحد كما يكون له إحتياج،

تلك التعليمات الثمينة
التى لمخلصنا الصالح.. وأعمال الرسل.. وتعاون المسيحيين الأوائل فى أمورهم المادية..
كانت نصب عينى الشاب أنطونيوس.

اضافة لذلك قول السيد
المسيح: ” ماذا ينتفع الأنسان لو ربح العالم كله
وخسر نفسه، أو ماذا يعطى الأنسان فداء عن نفسه؟! “
(مت 16: 26).

كم كان المال سببا فى
هلاك كثيرين وفقدهم لحياتهم الأبدية! يفقد الأنسان أقرب الناس له بسبب الطمع ومحبة
المال.. خاصة ما يتعلق بالأعمال التجارية أو بالميراث..، وفى العهد القديم نجد
أمثلة كثيرة لهلاك أناس أحبوا المال.. مثل:

عخان بن كرمى.. الذى
أخذ لنفسه رداء شنعاريا نفيسا ومئتى شاقل فضة ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلا، وطمرها
فى خيمته..، والنيجة لم يتمكن بنو اسرائيل من الثبوت أمام أعدائهم ” (يش 7: 11،
12). وكانت نهايته أن رجمه جميع الأسرائيليين مع ماله وبنيه وبناته وبقره وحميره
وغنمه وخيمته.. وأحرقوهم بالنار وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة!!

وجيحزى تلميذ أليشع
النبى: اذ ركض وراء نعمان السريانى مسرعا وأخذ منه وزنتى فضة فى كيسين وحلتى
الثياب ثم أودعهما فى بيته دون علم سيده.. كان حكم أليشع النبى أن يلصق به برص
نعمان السريانى هو ونسله إلى الأبد (2 مل 5: 25 – 27).

وفى العهد الجديد مثل
الغنى الغبى: الذى شعر بوفرة محصوله وكثرة خيراته، فأراد أن يبنى ويوسع من مخازنه..
(ليس لغرض معاونة الفقراء والمحتاجين.. أو لخدمة الكنيسة).. إنما ليستريح ويأكل
ويشرب ويلهو.. ظانا أن عمره طويل، فسمع ذلك القضاء المحتوم: ” يا غبى فى هذه
الليلة تطلب نفسك منك.. فهذه التى أعددتها لمن تكون؟! “.

وحنانيا وسفيرة: إذ
أرادا أن يوفقا بين السير حسب قانون التلاميذ الأولين وبين حبهما للمال، باعا ملكا
وأختلسا من الثمن وأتيا بجزء ووضعاه عند أرجل الرسل،.. فكانت النتيجة موتهما عند
أرجل الرسل وأمام الجميع. (أع 5: 1 – 12).

صلى الشاب أنطونيوس إلى
الله أن يرشده، وفى يوم الأحد ذهب إلى الكنيسة وهو واثق بأن الله سوف يرشده إلى
الطريق الصحيح.. لقد كان الأنجيل فى ذلك اليوم عن الشاب الغنى الذى ذهب إلى رب
المجد مستفسرا عما يوصله إلى الحياة الأبدية،.. قال له السيد المسيح:

” إن
أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال
اتبعنى “

أدرك انطونيوس أن ذلك
الشاب أصبح ضحية للمال الذى أستهوته محبته..، كما سمع أيضا – عن أوجه البر التى
يجب أن تصرف الأموال فيها – وأهمها قول السيد المسيح لتلميذه القديس بطرس:

” كل
من ترك بيوتا أو أخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا من أجل
اسمى يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية ”
(مت 19: 29).

إذ اعتبر انطونيوس من
هذه الرسالة جوابا من الله لطلبته وكشفا منه تعالى عن الطريق المستقيم، خرج من
البيعة وقد وطد العزم على السير حسبما سمع حرفيا حتى لا يحرم من الكنز السماوى!

ما أعظمك
يا أنطونيوس فى ثقتك بإلهك! وما أحوجنا إليك الآن لتلقى على أغنيائنا عظة صامتة،
علهم يستطيعون تحديد موقفهم بإزاء المال حاسبين – مع الرسول – كل شىء نفاية،
ليربحوا المسيح!!.
(فى 3: 8).

لا يجب أن نستصعب موقف
هذا القديس، لأن محبة الله ملأت قلبه.. لننظر إلى الأرملة الفقيرة، التى انتظرت
حتى ألقى الجميع عطاياهم.. ثم تقدمت هذه المسكينة ماديا – الغنية روحيا – وألقت
” فلسين ” فى الخزانة؟ هوذا الرب يكشف الستار عما فعلته ويقول: ” الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر
من جميع الذين ألقوا فى الخزانة! لأن الجميع من فضلتهم ألقوا وأما هذه فمن أعوازها
ألقت ما عندها، كل معيشتها!! “
. (مر 12: 43، 44). وزكا العشار حصل على
الخلاص هو وأهل بيته عندما أعطى نصف أمواله للمساكين، ورد أربعة أضعاف للذين أوشى
بهم.. وربما يكون قد استدان لسداد هذا التعهد!

أجل.. إن الذى لا يقو
على العطاء فى وقت الفقر لايمكن أن يعطى فى حالة الغنى، والذى لا يقدم لله اليوم
من ثروته الصغيرة، يزداد بخلا وجشعا ومحبة للمال غدا إذا نمت ثروته وأصبحت كبيرة!!

 

2- كوكب
البرية

 هجر العالم:

انتهى انطونيوس من
توزيع أمواله ومقتنياته على الفقراء والمساكين، وصمم على ترك العالم وهجر الحياة
الدنيا ذاكرا أن: ” محبة العالم عداوة لله “.

قام بضم شقيقته إلى أحد
ديارات الراهبات (* من الثابت تاريخيا أن ديارات العذارى قد وجدت منذ العصر
الرسولى – أى أنها سبقت أديرة الرجال) – وما أقسى تلك اللحظة التى ألقى انطونيوس
فيها نظرة الوداع على شقيقته.. كانت لحظة قاسية على الطرفين.. لقد حرما من
والديهما، وهاهما الآن يفترقان.. ليس من اليسير أن تصبح فتاة صغيرة بين عشية
وضحاها محرومة من رؤية شقيقها ومن عطفه ومحبته، الآن يجمعهما محبتهما للسيد المسيح
الفادى.. وتجمعهما روح العبادة.. ويجمعهما جوهر المحبة الخالصة.

اختلى انطونيوس وذهب
يطلب الله فى البرية.. لقد كان هناك أناس آثروا العبادة على الأنغماس فى أمور
الحياة الفانية.. وكانوا يقطنون أطراف المدن ملازمين على العبادة، ويقتاتون من عمل
أيديهم… لعل الأنبا أنطونيوس قد مر على هؤلاء واحدا بعد الآخر ليرى نظرة كل منهم
للحياة وليدرب نفسه على التقوى العملية.

استقر انطونيوس فى
بداية حياته الرهبانية عند أحد الشيوخ الوقورين.. هذا الشيخ هجر الدنيا منذ صباه،
وقضى أغلب سنى حياته فى تلك العزلة الجميلة، جاءه انطونيوس يريد أن يتتلمذ له.. لا
شك أن هذا الشيخ بين له وعورة الطريق ومتاعب العزلة، ولكنه إذ رأى إصرارا من الفتى
لم يكن بد من قبوله.

لقد تحصن أنطونيوس فى
مشواره الروحى بأسلحة روحية هامة.. مثل:

 

أولا: الصلاة

كان
يصرف الليل كله فى الصلاة.. كان يعلم أنها أول الأسلحة التى سوف ينتصر بواسطتها،
هى حبل الأتصال بينه وبين خالقه.. ” فكل ما
تطلبونه فى الصلاة مؤمنين تنالوه! “
. (مت 21، مر 11).

لقد أوصانا رب المجد
قائلا: ” صلوا كل حين ولا تملوا “ (لو
18: 1).

ما أعظم
قوة الصلاة.. هى مفتاح السماء، بها استطاع إيليا أن يغلق السماء ويفتحها.. بالصلاة
حول دانيال الأسود المفترسة إلى حيوانات مستأنسة.. بالصلاة انكسرت أقفال السجن
وخرج بطرس وانفكت قيوده الحديدية.. كما تزعزعت أمام صلاة بولس أركان السجن وفتحت
أبوابه العالية القوية!

الصلاة هى
وليمة الكنيسة وهى حياة الملائكة

الصلاة هى
صدى صوت حياة المسيحى مرتدا من الأرض إلى السماء

الصلاة هى
مخزن القوة المقتدرة وملجأ الخاطىء الأثيم

الصلاة هى
المن السماوى الذى يشبع وينعش ويبهج

الصلاة هى
طريق المجد فى الفلك الروحى وهى عصفور الجنة

الصلاة..
هى نواقيس الكنيسة يدوى صوتها إلى ما وراء السحب!!

إذا كانت تلك بعضا من
قوة وبركات الصلاة.. فعلينا أن نتقدم للرب بصلوات حارة بروح الأنسحاق، وقلوب
منكسرة.. وبكل تواضع حتى لا يرذلنا الله، طالبين على الدوام قائلين:

” يارب علمنا أن نصلى “  (لو
11: 1).

 

ثانيا: الصوم

لم
يغفل أنطونيوس السلاح الثانى العظيم وهو ” الصوم ” بل مارسه وتمسك به
وحاز قصب السبق فى ميدانه، فقد ذكر عنه أنه كان يصوم أياما متوالية دون طعام ولا
ماء، ذلك لأنه يعرف تماما أن:

 ” هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشىء إلا بالصلاة والصوم

(مر 9: 29).

والكتاب المقدس يبين
لنا فائدة الصوم وقوته، فأهل نبنوى نالوا عفوا من الله عندما صاموا ولبسوا المسوح،
وأول وصية كانت من الله لأبونا آدم هى الصوم.. فقد سمح له أن يأكل من جميع شجر
الجنة ما عدا شجرة واحدة.. أراد الله أن يدرب أبوينا آدم وحواء على الصوم والطاعة..

أدرك جماعة الرهبان
والنساك قيمة الصوم.. مع الصلاة، فنجد غالبيتهم يصومون أياما طويلة بدون طعام،
وعند الضرورة يأكلون القليل على قدر حاجة الجسم فقط.

والصوم هو
حال السمائيين من الملائكة والقديسين.. فطعامهم هو التسبيح الدائم لله، ونحن عندما
نصوم فكأننا نشارك السمائيين حياتهم ونظامهم.. ويكون لنا فرصة حقيقية للصلاة
والأندماج معهم فى التسبيح.

 

ثالثا: الصدقة

ذلك
هو السلاح الثالث تقلده قديسنا العظيم فى خلوته، كان يصرف أوقات فراغه فى العمل
اليدوى، وكان هذا يدر عليه ربحا بسيطا لا يستبقى منه سوى شيئا ضيئلا جدا، أما
الباقى فيوزعه على الفقراء والمحتاجين، منفذا قول مخلصنا: ” لا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه، ويكفى اليوم شره “
(مت 6: 34).

 الأنسان الذى
يقدم للفقير صدقة فى الخفاء.. لا بد أن يكون إيمانه ثابتا قويا إذ هذه هى الديانة
الطاهرة النقية! (يع 1: 27).

والمسيحيين الأوائل لم
يتوانوا عن تقديم المساعدة لبقية الكنائس التى كانت تحتاج لمعونة بسبب الأضطهاد
والضيق من سلب أموالهم، ويظهر ذلك فى مساعدة كنيسة أنطاكية لفقراء أورشليم، (أع 11:
27، 28).

تلك الأسلحة الثلاث: صلاة.. وصوم.. وصدقة.. يحتاج إليها كل مؤمن يسير فى
الطريق الروحى وحياة النمو..

 

الحرب الأولى!!

 لم تمض فترة
كبيرة على تتلمذ الأنبا انطونيوس لذلك الشيخ المتوحد حتى ظهرت فضائله وشاع جميل
صفاته، فأنزله معلمه من نفسه منزلة كبيرة ونظر إليه نظرة ملؤها الرجاء والأمل
وابتدأ يهتم به الأهتمام كله.. لاحظ هذا الشيخ الروحانى أن الأنبا أنطونيوس يحفظ
ويتلى أمامه من فصول الكتاب المقدس بمجرد القراءة الأولى لها!

لم يهمل انطونيوس دراسة
كلمة الله دواما، بل فلنقل انها كانت تعزيته فى وحدته وفى أوقات فراغه، وكان على
الدوام يقول: ” سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى
(مز 116: 105) ” الوصية مصباح
والشريعة نور “
(أم 6: 23) – ودراسة الكتاب المقدس من أهم مستلزمات
الأنسان المؤمن إذ بها: ” يعرف الكتب المقدسة
القادرة أن تصيره حكيما للخلاص بالأيمان بيسوع المسيح “
(2 تى 3: 15).

نظر الشيطان إلى حالة
الأنبا انطونيوس وفضائله فوجد أنه ينمو دواما فى النعمة والمعرفة، ولكن أيتركه على
هذه الحال؟! لقد أدرك الشيطان أنه إذا ما نجح القديس فى رسالته هذه، فسوف تتحول
البرارى والقفار إلى جنات مقدسة تمتلىء بالعابدين، وفى هذا ما فيه من خذلان وسقوط
له، فماذا يفعل؟

تجربة الطعام:

تلك هى حملة الشيطان
الأولى ” تجربة الطعام “.. حاول الشيطان أن يذكر انطونيوس بملذات الطعام،
الذى كان يأكله فى بيت أبيه.. بالأضافة إلى مباهج الحياة.. نفس الحرب التى أمكن
للشيطان أن يتغلب فيها على أبونا آدم وأمنا حواء..! وصاحب السيرة إذ كان يعرف
تماما ” أنه ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان بل بكل
كلمة تخرج من فم الله “
(مت 4: 4).. انتصر على تلك التجربة بكل سهولة،
واستطاع أن يشتت هذه الحملة الأولى، إذ كان يقول:


لقد تدربت أن أشبع وأن أجوع “
(فى 4: 12)..


وقد تعلمت أن اكون مكتفيا بما أنا فيه!.. “
(فى 4: 11).

وتجربة الطعام تجربة
قاسية، جرب بها اسرائيل عند خروجهم من أرض مصر بذراع رفيع ويد قوية، فلم يقووا على
تحملها.

هذا شعب
جرب عن طريق الطعام وسقط، لهذا جاء السيد المسيح وصام عنا أربعين يوما وأربعين
ليلة وتغلب على الشيطان، ليعطينا أن نغلب نحن أيضا على المحاربات الروحية.

تجربة المال:

انتصر القديس فى تجربة
الطعام.. حاول الشيطان أن يحمله على التفكير فى حالته الأولى ولكنه وجد عدم اهتمام
من الفتى الذى كان يقول دواما: ” أنسى ما هو وراء
وامتد إلى ما هو قدام “
. (فى 3: 13)

ويذكر فى بعض الميامر
أن الشيطان كان يكشف للقديس عن بعض الكنوز الذهبية التى واراها التراب لعله يتأثر
ببريق الذهب ولمعانه وعندئذ يصبح على قاب قوسين أو أدنى من السقوط، إلا أن
انطونيوس كان يناجى نفسه عندما يرى مثل هذه الكنوز قائلا: ” حد عنه واعبر “ (أم 4: 15).
إهرب لحياتك “
(تك 19: 17) ” إذ لا
يمكن للأنسان أن يخدم سيدين الله والمال! “
(مت 6: 25)، يفعل هذا وفى
الوقت عينه يزيد فى تقشفاته وأماناته وسهره وصلواته، وبذلك كتب له النصر فى هذه
الحملة الثانية!!

وكم من أناس يغريهم
الشيطان بمحبة المال فيسقطون، تاركين كل شىء وراء ظهورهم عدا عبادتهم لأموالهم،
دون أن ينصتوا لقول الرسول: ” هلم الآن أيها
الأغنياء أبكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلها العث،
ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصداهما يكون شهادة عليكم ويأكل لحومكم كنار، قد كنزتم فى
الأيام الأخيرة.. قد ترفهتم على الأرض وتنعمتم وربيتم قلوبكم كما فى يوم الذبح
(يع 5: 1 – 5).

لهذا حق للقديس
أنطونيوس أن يحذر تلاميذه قائلا: ” إن الراهب لا يكون راهبا صادقا ما لم يتمم
قول المخلص للشاب الطالب الكمال: ” إن أردت أن تكون كاملا اذهب بع مالك واعطه
للمساكين ” (مت 19: 21).

مما يذكر عن الأنبا
أنطونيوس أن شابا غنيا رغب يوما فى الزهد والعبادة، فوزع جزءا من أمواله على
الفقراء واحتفظ بالباقى لنفسه، ثم ذهب ليتتلمذ للأنبا أنطونيوس الذى إذ علم بما فعله
قال له: إننى لا يمكننى أن أقبلك راهبا إلا إذا ذهبت إلى المدينة وأحضرت مقدارا من
اللحم وحملته فى ثيابك إلى ههنا، ولرغبة الشاب فى متابعة القديس أطاع، وما أن وضع
اللحم فى جلبابه وسار به حتى ابتدأت الكلاب تنهشه والطيور الجارحة تحوم حوله وتنقض
عليه، ولما وصل إلى القديس شرح له ما حدث فقال له:

 ”
لقد حفظت لنفسك مالا وأردت أن تكون ناسكا زاهدا، ولا يمكن يا ابنى الجمع بين
الرغبتين! لأن العابد الذى يسعى فى إحراز المال والسير مع العالم لا بد أن يصبح
هدفا لأنياب الكلاب الجهنمية ومخالب الطيور الجحيمية! “

 وللحال قام الشاب
بتوزيع كافة أمواله وعاش ناسكا زاهدا حقيقيا.

 

تجربة الأهتمام بشقيقته:

بدأ الشيطان يشغل تفكير
انطونيوس فى أخته والتفكير فى حالها وفى معيشتها.. أهى آمنة مطمئنة؟ أهى فرحة
مستريحة؟ أم تعيش فى آلام، وتسير بين أشواك؟!

تقبل أنطونيوس هذه
الحملة بثبات تام ورباطة جأش، متأكدا أنها وديعة مقدسة تسلمها رب المجد وهو كفيل
بالعناية بها والمحافظة عليها إذ إن نسيت الأم رضيعها فأنا لا أنساكم يقول الرب،
وما دامت حياتها الروحية فى نمو وتقدم، فهذا كل ما يبغيه أتباع السيد المسيح الذى
يأمرنا قائلا: أطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها
تزاد لكم
(مت 6: 33).

وهكذا استراح تفكير
انطونيوس عندما تذكر قول المخلص: ” من لا يبغض
أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه فلا يقدر أن يكون لى تلميذا؟!

(لو 4: 26) إذن:

 ”
دع الموتى يدفنون موتاهم! “.
(مت 8: 22، لو 9: 60).

 

الحرب الثانية:

” ان قلمى لم يسطر من فضائل القديس انطونيوس الكثيرة وتقشفاته
الشاقة.. وحروبه وانتصاراته الباهرة إلا واحدا من مائة!.. ولكن هذا المقدار كاف
لأن تعلموا كيف تدرج رجل الله منذ نعومة أظفاره حتى نهاية أيام شيخوخته، وكيف داس
تحت أقدامه كل غواية شيطانية!! “
(أثناسيوس الرسولى).

خرج الأنبا انطونيوس من
حربه الأولى مع الشيطان فائزا منتصرا، غير أن انتصاره لم يمنعه من أن يتحصن اكثر
فأكثر، لعلمه أن عدوه أللدود لن يتوقف عن محاربته ومهاجمته، ففضلا عن صلواته
وأصوامه وعبادته كان يسهر جل الليل – إن لم يكن كله – ذاكرا: ” إن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء، مع
السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية فى السماويات
(أف 6: 12).

 
الحملة الأولى: الشهوات الشبابية

بدأ الشيطان حملته
الأولى بأن ترآى للقديس فى شكل نساء جميلات.. أو فى محاربات فكرية وأحلام ورؤى
وغيرها.. تأمل القديس هذه الحروب وهنا تذكر قول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: ” أما الشهوات الشبابية فاهرب منها “
وهنا أمسك بترس الصلاة، فلم يكد يبدأ بها حتى تلاشى من أمامه هذا المنظر الشرير!.

ثمة مناظر كثيرة كهذه
تتمثل للفرد فى كل يوم، يغريه بواسطتها الشيطان على السقوط فى الخطية، وخير مثل
لنا نحتذيه فى هذا الصدد هو يوسف البار الذى إذ تجسمت الخطية أمام عينيه رفضها فى
إباء وتعفف عظيمين، قائلا: ” كيف أفعل هذا الشر
العظيم وأخطىء إلى الله؟!”.

 
الحملة الثانية: الضرب والتعذيب

على
اثر انتصار انطونيوس فى حملته الأولى هذه، انتقل من مكانه واعتزل فى قبر قديم هو
أشبه بمغارة صغيرة، وهناك كان يصرف وقت فراغه فى عمل السلال من الخوص، وعندما كان
يعاوده صاحبه الذى كان يتعاهده بالطعام بين الحين والآخر، كان يحمل عمل يدى القديس
معه ليبيعه ويشترى بثمنه خبزا.

دهش الشيطان من قوة
احتمال القديس وشدة تحصنه، وفى ذات ليلة وثب عليه وابتدأ يضربه بكل قوته!، ولم
يتركه إلا بعد أن خارت قواه وسقط على الأرض أشبه بميت منه بحى!..

وعندما جاء صاحبه ووجده
على هذه الحال.. حمله وأوصله إلى كنيسة القرية المجاورة.. حضر الجميع ليروا القديس
وكم كان الهم شديدا عندما أبصروه على هذه الحال ظانين أنه قد أشرف على الموت.

وبعد أن فتح عينيه..
وتذكر ما حدث طلب من صاحبه أن يعيده دفعة ثانية إلى المكان الذى كان فيه، فرضخ
صاحبه للأمر وتمم رغبته.

وما أن اختلى القديس
أنطونيوس بنفسه حتى شرع يصلى بصوت الواثق المطمئن قائلا: (مز 27)

الرب نورى
وخلاصى ممن أخاف!

الرب حصن
حياتى ممن أرتعب..

عندما
اقترب إلى الأشرار ليأكلوا لحمى..

مضايقى
وأعدائى عثروا وسقطوا..

 إن
نزل على جيش لا يخاف قلبى..

وإن قامت
على حرب ففى ذلك أنا مطمئن.. ”

 
الحملة الثالثة: الرعب والتخويف

تظاهر الشيطان للقديس
أنطونيوس على شكل وحوش مفترسة يحاولون مهاجمته.. كل هذا والقديس فى مكانه لم يتحرك!
بل قال: ” حتى شعور رؤوسنا محصاة أمامه “
(مت 10، لو 12).

بدأ القديس يسخر من
أبليس قائلا لهم: لو كانت لكم قدرة على إيذائى لكفى واحدا منكم لمحاربتى!.. ثم رشم
علامة الصليب، فإذا بكل ما حدث كأنه لم يكن!!

إن روح التواضع التى
عاشها القديس أنطونيوس غلبت الشياطين، وهربت منه.

لقد عرف
أثناسيوس الرسولى أن يرسم صورة خلابة لحياة معلمه العجيب أنطونى فى هذه الفترة
فبين للعالم أجمع كيف تكتلت عليه الشياطين لعلهم يظفرون به، فيدفعوه إلى العودة عن
الطريق الذى أختطه لنفسه فسار وراءه الملايين، فصور لنا أثناسيوس الرسولى كل تلك
التجارب والحروب التى تعرض لها القديس أنطونى، ولا يزال الناس يتأملون هذه الصورة
التى صورها أثناسيوس لمعلمه فتخلب ألبابهم ويقفون أمامها حائرين متعجبين: إنها
صورة غير المستطاع وقد أصبح مستطاعا، وصورة الآيات والعجائب تحدث يوميا، وخلف هذه
الصورة الأخاذة يرن صوت أنطونى:
” لا يزعمن انسان ترك العالم
أنه أتى عملا عظيما، فالعالم كله مقابل السماء والأبدية ليس سوى نفاية “.

 ولقد وصف مؤرخ
غربى هذه الفترة من حياة الأنبا انطونى بقوله: ” لقد تعرض القديس وهو فى
خلوته الأولى لتلك المحاربات الشيطانية التى جعلت من حياته موضع السخرية للمتشككين،
والشفقة للمتساهلين، والدهشة للمؤمنين المتيقنين من وجود عدو يزار كالأسد ومن قوة
غير منظورة تنصر الكنيسة بلا أنقطاع، ومن يتشكك فى هذه المحاربات إنما ينكر كل
حادث خارق للطبيعة ويزدرى بشهادة عدد عديد من الناس الذين لا يتطرق الشك إلى
قداستهم، ولسنا هنا نحاول الدفاع عن هذه المحاربات الخارقة، ولكن الذى لا يمكن
الشك فيه مطلقا هو أن العيشة التى قضاها أنطونى ورهبانه المصريون هى انكار لكل
الغرائز والميول الطبيعية. وهذه الحياة الخارقة للطبيعة التى عاشها هؤلاء الرهبان
فى خطر مستديم، وفى جوع وألم، هى أعجب ما عرفه الأنسان، وهم كانوا يتحملون كل هذه
الضيقات والمخاطر من غير أن يمتدحهم إنسان – أى أنهم لم يطلبوا مجدا من الناس
لأنهم عاشوا فى معزل عن الناس.

 

إلى البرية

كان نصر انطونيوس على
الشيطان فى الحربين الأولى والثانية، سببا فى ازدياد ثباته. ووثوقه فى سيده وفاديه
يسوع المسيح، لذا رغب فى ترك عزلته، والتوغل فى البرية اكثر ليتمتع اكثر فأكثر
بعذوبة العبادة وجلال الوحدة.

اجتاز انطونيوس نهر
النيل، وسار متكلا على قوة الله، مرددا ما ذكره اشعياء النبى: ” اجعل فى البرية طريقا، فى القفر انهارا، يمجدنى حيوان
الصحراء، الذئاب وبنات النعام، لأنى جعلت فى البرية ماء، انهارا فى القفر لأسقى
شعبى مختارى هذا الشعب جبلته لنفسى يحدث بتسبيحى “
(أش 43: 19، 20)

وبعد فترة عثر على
اطلال قصر قديم فطاب له المقام فيه، وما أن دخله حتى هجرته الوحوش المفترسة
والحشرات السامة التى كانت قد ملأته من قبل!

أعد القديس لنفسه مكانا
فى داخل البرج، وكان قد حمل معه من الخبز الجاف ما يكفى لسد حاجته ستة أشهر كاملة،
أما الماء فكان يستقيه من عين تنبع فى أحدى الصخور القريبة من المكان، وهكذا عاش
أعذب عيشة مجتهدا فى نسكه ومكثرا من صلواته وأصوامه وتقشفاته..

 

البرية والكتب السمائية:

ودارس الكتب السماوية
يعرف تماما ما للبرية من الأهمية، إذ فيها تخرج أعظم الأنبياء، فموسى كليم الله
قبلما يرسل إلى الديار المصرية ليكون زعيما للأمة الأسرائيلية عاش مختليا مع ربه
فى البرية حيث استمد منه تعالى قوة صنع المعجزات، وتلقن أول درس عن سر التجسد
المجيد عندما أبصر العليقة تشتعل بالنيران وأغصانها لم تحترق!

وإيليا النبى رجل
الغيرة، كان يسكن فى البرية أغلب أوقاته، وهناك أعاله الرب بواسطة الغربان التى
كانت تحضر له فى كل يوم قوته (1 مل 17: 3 – 6).

ويوحنا المعمدان ذكر
عنه الكتاب المقدس انه: ” يأكل جرادا وعسلا بريا،
وكان فى البرارى إلى يوم ظهوره لإسرائيل “
(لو 1: 80)

وشاول الطرسوسى قبلما
يبدأ فى الكرازة بأسم السيد المسيح اعتزل العالم إلى البرية التى تسمى ”
العربية ” حيث هناك تلقن أسرار الديانة المسيحية، وأعاد دراسة ” روح
” الناموس ليصحح ما علق فى ذهنه من عبودية ” الحرف “. وقد شهد عن
نفسه قائلا: ” ولما سر الله الذى أفرزنى من بطن
أمى ودعانى بنعمته أن يعلن أبنه فى لأبشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحما ودما،
ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلى بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضا
إلى دمشق ”
(غل 1: 15 – 17).

وفى البرية أعال الله
شعب إسرائيل أربعين سنة، وفوق أحد جبال سيناء لقنهم الشريعة الموسوية ثم أعطاهم
إياها مكتوبة فى ” لوحى العهد ” بيده الإلهية.

والرب يسوع
المسيح نفسه، قبلما يبتدىء فى خدمته الجهارية، خرج ليجرب من ابليس فى البرية (مت 4:
1 – 10، مر 1: 12 – 13، لو 4: 1 – 12).. وهناك رسم لنا طريق الأنتصار ووضع
فريضة الصوم المحيية!..

 

البرية والرهبنة
القبطية

كان لهذه الأختبارات
الروحية لحياة البرية التى سطرها الكتاب المقدس بين ثناياه، أعظم التأثير فى قلوب
آبائنا السابقين، والذين لمسوا ما فيها من مزايا كثيرة.. حيث لم يجدوا مكانا أعظم
منها من حيث الأبتعاد عن العالم مع الوحدة الكاملة، فنزح كثيرون منهم إليها
متفرغين فيها لتقديم العبادة الحقيقية، مفضلين أن يذلوا أنفسهم فيها عن أن يكون
لهم فى العالم تمتع وقتى بالخطية… ومن هنا نشأت فضيلة الرهبنة! وعندما كثر
الرهبان تحولت البرية المخيفة إلى أرض مقدسة تصعد فيها للرب فى كل وقت العبادة
النقية والصلوات الحارة.

 
البرية والحياة الروحية

إن منظر القفر
والأنفراد فيه سواء أكان بالأقامة أو بالطواف، يوجد فى العبادة إحساسات وعواطف
روحية تشعرهم كأنهم قريبين من الله، وقليلون هم الذين يدركون لذة الحياة النسكية
والتعلق بأهداب العزلة والتخلص من تكاليف هذه الحياة المضنية التى لا تزيد الأنسان
إلا تعبا وشقاءا، فهناك فى تلك العزلة لا يشغل الأنسان شاغل عن الصلاة والعبادة
ودراسة الكتب المقدسة والتبحر فى العلوم والفنون والوصول إلى درجة سامية من العلم
والتقوى..

لقد اختار السيد المسيح
الجبال العالية والبرارى الشاسعة للصلاة فيها مع تلاميذه.. أو لتعليم الجموع الغفيرة
التى كانت تترسم خطواته.(مت 5، 14،.. ولو 9: 10، 11، ويو 6: 3 – 5).

قال مار اسحق المتوحد: ” السكون جوا يصلح لعمل الله ولأجل هذا قبض القديسون
حواسهم أولا من العالم، وبعد ذلك اهتموا باستعداد القلب بعمل الله الخفى لأنه إن
لم يرتبط الجسد أولابعمل الفضيلة لا يتفاوض الفكر بفلاحة الفضيلة، لأن الجسد
المنفرد يصلح كثيرا لعمل الفضيلة لأن منه يقتنى ذهنا مجموعا وضميرا هادئا وافكارا
غير مضطربة بمناظر العالم “.

 
انطونيوس والتعليم

لم ينعم طويلا بالخلوة
التى تاقت نفسه إليها، لأن صيته ذاع، وفاح عبيره، فتقاطرت عليه الناس من مصر أولا
ثم من كافة أنحاء العالم، وحين وصلت إليه أول جماعة منهم رفض أن يراهم، ولكنهم
اقتحموا الباب بقوة مندفعين نحوه بدافع غيرتهم لرؤيته، والأغتراف من روحانيته،
والحصول على بركته، ومن تلك اللحظة لم ينعم بالخلوة مع الله إلا فى فترات متقطعة،
وروض نفسه على استقبال الجماهير المتقاطرة عليه بوجه مضىء وابتسامة هادئة، ولم
يكتف بذلك بل كان يسأل عن احتياجاتهم، ويشفى مرضاهم، ويعزى الحزانى منهم، ويهدىء
النفوس الثائرة.

اعتاد القديس انطونيوس
أن يترك عزلته بين الحين والآخر ليجتمع بتلاميذه العديدين ويلقى عليهم دروسه وارشاداته،
حاثا إياهم على النمو فى النعمة، ومثبتا أقدامهم فى هذا الطريق الوعر – طريق
الرهبانية الذى أرتضوه لأنفسهم طوعا واختيارا، ومشددا عزائمهم على المضى فى جهادهم
دون ضجر أو ملل.. وكثيرا ما يقص عليهم طرفا من جهاده ومحارباته، لا لشىء إلا لينير
السبيل أمامهم لئلا ينخدعوا بحيل الشياطين فيسقطوا، وقد بلغ بعض هؤلاء التلاميذ
قمة القداسة، وصاروا ضمن القادة الروحيين الذين أناروا السبيل أمام الأنسانية
المتطلعة نحو مجد الله.

نقتطف هنا بعضا من
أقواله التى ورد ذكرها فى كتاب بستان الرهبان، وتاريخ الكنيسة القبطية للقس منسى
يوحنا:

 

فى المحبة:

قال القديس يوما
لتلاميذه: ” أنا لا أخاف الله! “
فدهشوا وقالوا له وكيف ذلك؟ فقال: ” لأننى أحبه يا
أولادى، والمحبة تطرد الخوف إلى خارج! “.

” لا
خوف فى المحبة، بل المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج، لأن الخوف له عذاب، وأما
من خاف فلم يكتمل فى المحبة “
(1 يو 4: 18).

 
فى التواضع

قال
الأنبا أنطونيوس: أبصرت فخاخ الشياطين مبسوطة على كل الأرض فتنهدت وقلت: من يستطيع
أن يفلت من كل هذا يارب؟ فاتانى صوت من السماء قائلا: المتضعون يقلتون منها!..
فقريب هو الرب من المنكسرى القلوب ويخلص المنسحقى الروح (مز 34: 18).

 
عن دينونة الغير

قال: لا تدن أخاك ولو
رأيته عاجزا عن تأدية جميع الفرائض لئلا تقع فى أيدى أعدائك إذ من أنت يا من تدين
غيرك؟! (يع 4: 12)

 
عن الأحلام الشيطانية

جاء بعض الأخوة إلى
القديس ليخبروه عن أحلام يرونها ليعلموا هل هى حقيقة أم من الشياطين، فأوضح لهم
القديس أن الشياطين ليس لهم سابق معرفة بالأمور، وإنما إمكانياتهم (كأرواح) فهم
سريعو التنقل فى الهواء، فإذا علموا نية أحد فى الأتيان بأى أمر فأنهم يسرعون
بالأخبار به قبل وقوعه، وعندما لا ينفذ صاحب الفكرة ما أنتوى عليه.. هنا يكتشف كذب
الشياطين، لأن علم الغيب لله وحده.

 
وقال معزيا

كان القديس انطونيوس
صديقا حميما لديديموس (ناظر المدرسة اللاهوتية بالأسكندرية فى عصر القديس أثناسيوس
الرسولى) الذى فقد بصره، وإذ صادفه عند ذهابه إلى الأسكندرية للدفاع عن الأيمان
ووجده متألما أراد تعزيته فقال:

” إنى
لمتعجب من حزنك على فقد ما تشترك فيه معك أحقر الحيوانات كواسطة للشعور بها، ما
دام لا شعور عندها غير البصر، ولا تفرح متعزيا لأن الله خولك نظرا آخر لا يهبه
تقدس أسمه إلا لمحبيه، فأعطاك عينين كأعين الملائكة تبصر بهما الروحيات بل
بواسطتهما عرفت الإله نفسه وسطع نوره أمامك فأراح دياجير الظلام عن عينى قلبك
فاستنرت “.

ويقال أن ديديموس قد
تعزى بهذا القول، وكان يردده طيلة حياته

 
وقال منشطا تلاميذه

الشياطين يفزعون جدا من
الصلوات والصوم والسهر والتقشفات، لا سيما احتقار العالم والفقر الأختيارى وكسر
حدة الغضب لأن هذه الفضائل تسحق رأس ابليس، كما أن أسلحة محاربتنا لأعدائنا هى
الأيمان الحى والسيرة النقية.

 
وقال لاظهار وسائل الأنتصار

” إن
السلوك فى سبيل الفضيلة هو أفضل من فعل المعجزات، والأنسان يستطيع أن ينتصر بسهولة
على الشيطان إذا أخلص العبادة لله من كل قلبه بسرور باطنى روحى مستحضرا الله فى
ذهنه كل حين لأن هذا النور يمزق ذلك الظلام ويزيل تجارب العدو سريعا، ومما يفيدنا
فى ذلك النظر إلى سير القديسين واقتفاء آثارهم فإن فيها تحريضا على الأقتداء بهم
“.

 
تعاليم روحية ووصايا مقدسة

يا إبنى قبل كل شىء لا
تعد نفسك شيئا، فهذا هو والد الأتضاع، والأتضاع يلد التعليم، والتعليم يلد الأمانة،
والأمانة الرجاء، والرجاء المحبة، والمحبة الطاعة، والطاعة تلد الثبات بغير تزعزع،
يا أبنى تعر عن الشر وألبس الوداعة، واترك عنك العين الخبيثة واتخذ لك عينا بسيطة،
لا تتشبه فى الروحيات بمن هو أضعف منك بل بمن هو مختار أكثر منك، لا تخف من شتائم
الناس، ابغض كل شىء يكون فيه خسران نفسك، ولا تعدل عن مشيئة الله إلى مشيئة الناس،
لا تنم ولا تشتم أحدا، لا تحسد من يتقدم بالظلم، أجعل جميع الناس أعلى منك لكى
يكون الله معك، لا ترجع إلى ورائك فيما ابتدأت به من الأعمال الصالحة، لا تمل من
محبة الله واصبر فى كل ما تريد أن تصنعه، فإن صبرت فإن الله يعضدك فى كل أعمالك،
لا ترجع إلى ورائك فى طريق وحدتك، ابغض الحديث الباطل، ضع جل اهتمامك بالفضيلة فلا
تغفل، ياابنى إن عملت بكل هذه فإنك ترى ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولم يخطر
على قلب بشر. (1 كو 2: 9).

احتسب الذى هو دونك فى
الفضيلة أنه مختار وأفضل منك فى النمو، يا ابنى لا تضجر من الأفكار التى تأتى عليك،
واعلم أن الرب لا ينسى شيئا من أتعابك، ومنها يكون لك النمو ونعمة الله تعضدك، يا
ابنى ليكن القوم الذين أحبوا الرب من كل قلوبهم وداموا فى العمل صورة ومثالا لك،
لا تستح لأن تطلب منهم ما يؤول إلى خلاص نفسك لأنهم قد تكلموا فى الفضيلة، لا
تتشبه بالذين يطلبون لذة الدنيا لأنهم لا يتقدمون أبدا، بل تشبه بالذين كانوا
تائهين فى الجبال والبرارى من أجل الله (عب 11: 38) فتأتيك القوة من العلاء ويطيب
قلبك فى كل شىء تصنعه ولا ترجع إلى ورائك فى شىء من هذه الوصايا الإلهية فيعطيك
الرب راحة القلب وتكمل كل ما أبتدأت به من الأعمال بسلامة.

ياأبنى لا
تكن مهذارا فتبعد روح الله منك، ولا تمل إلى الشر ولا تدن أحدا، يا أبنى لا تكن
مرائيا ولا كذابا ولا تتكلم بغضب بل ليكن كلامك بحكمة ومعرفة وحافظ على السكوت
فهذه كانت صفات آبائنا الذين كانت شفاههم تقطر الحكمة.

يا أبنى
كن متواضعا كل أيام حياتك
(1 بط 5: 6) وتمسك بكل شىء حسن ولا تسأل عن
الأشياء الرديئة بل أجعل طريقك بعيدة عنها، كن لين الكلام لأن المجد والهوان
يتأتيان عن حب الرحمة، تدرع بالأمانة، يا ابنى لا تجعل قلبك رديئا بالتفكير فى
الشر بل صيره صالحا واطلب الصلاح وتسامى فى جميع الأعمال الحسنة، لا ترفع صوتك
وإذا مضيت إلى أحد فليكن خوف الله فى قلبك واحفظ فمك لترجع إلى موضعك بالسلامة، لا
تكثر الكلام عند من هو اكبر منك، يا ابنى حب آبائك الروحانيين الذين يهتمون بك
لوجه الله اكثر من محبتك لآبائك الجسدانيين، يا ابنى إذا جلست فى وسط الأخوة لا
تكثر الكلام، وإذا سئلت منهم عن أمر فقله باتضاع، يا ابنى إذا شتمت فلا تبغض شاتمك
(مت 5: 44) بل قل إنى مستحق إنى مستحق أن اشتم من جميع الأخوة، وإذا أتى إليك أحد
الأخوة فى أمر فواضع ذاتك فى كل شىء، اسمع له لأجل الله ولا تتكبر، إذا رتبك أبوك (أى
رئيس الدير) لخدمة المرضى فاخدم بكل قلبك لتقبل الأجر مضاعفا من الله لسماعك
وخدمتك، إن وبخك أحد بسبب خطيئة وأنت برىء فتواضع لتنال الأكليل لا تنصت لتسمع
الشر ولا تجازى الشر بمثله لأنه مكتوب إذا أنت لم تنتصر لنفسك فأنا انتصر لك قال
الرب.

يا ابنى لا تكن متكبرا
ولا تفتخر، لا تصرخ بصوتك ولا تتكلم بسرعة لأنه مكتوب: أن
كثرة الكلام لا تخلو من معصية
(أم 10: 19)، يا ابنى لا تبغض أحدا من الناس
بل حب قريبك كنفسك، يا ابنى اذكر من يكلمك بالتعليم الصالح واحفظ منه الوصايا
لتحيا ويطول عمرك فى إرادة الرب.. يا ابنى اجعل لك تعبا قليلا بجسدك فى قلايتك
وليكن قلبك متضعا وفمك ينطق بالحق

 

تذكار نياحه الأنبا
أنطونيوس
:
22 طوبة

بركة
صلواته، وشفاعته تكون معنا آمين

 

المراجع:

+ كوكب البرية.. (القمص كيرلس الأنطونى)

+ رسائل القديس أنطونيوس.. (اصدار دير القديس أنبا مقار)

+ حياة القديس انطونيوس.. (رسائل القديس أثناسيوس)

+ قصة الكنيسة القبطية…
(ايريس حبيب المصرى)

+ الأنبا أنطونيوس،
حتمية روحية وكنسية..
(د. راغب عبد النور)

+ الرهبنة.. (للقس يوسف
أسعد)

+ تاريخ الرهبنة
الديرية فى مصر،
وآثارهما الأنسانية على العالم، (د. رءوف حبيب:
مدير المتحف القبطى سابقا)

+ شخصية القديس أثناسيوس الرسولى والجو الكنسى، القمص تادرس يعقوب ملطى.

+ عصر البابا أثناسيوس الرسولى، (اعداد أمير نصر)

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى