اللاهوت الدفاعي

الفصل الثاني عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل
الثاني عشر

طريقة
القدّيس بولس في التبشير

مقدّمة

يُدهشنا
جدّاً ما حقّقه مار بولس، إن في النوعيّة أو في الكمّية، في حياته الرسوليّة
القصيرة نسبيّاً (ثلاثون سنة). ويطرح علينا سؤالاً أساسيّاً: ما هو سرّ نجاحه وما
هي الفرادة التبشيريّة التي تركها مكتوبة في طيّات رسائله والتي حاول القديس لوقا
أن يدوّن بعضاً منها في كتاب الأعمال؟

من
خلال دراسة تحليليّة لسفر الأعمال والرسائل في قراءة مثلّثة تقرأ استعماله للزمان
والمكان واللغات وتعاطيه مع المستجدّات، واهتماماته اللاهوتيّة والإنسانيّة
والكنسيّة وطريقة استعماله للكتب المقدّسة، وصلنا إلى الإستنتاج أنّ سرّ الطريقة
البولسيّة في التبشير يكمن في التناغم العميق والكامل والدائم بين ثلاثة أقطاب:
قُطب الشهادة
temoignage، بتعبير آخر صدق العيش الذي يُعطي مصداقيّة للكلمة. وهذا البُعد
يُعبّر عن نفسَه في الفكر والتعليم والمعنى الجديد لتخصُّصه الطويل في علم الشريعة
والكتب المقدّسة، وهذا ما نسمّيه قُطب المعنى
intelligence. وهذان البعدان يحتاجان إلى طريقة تعاطي

procedure تفتح أبواب الآذان والقلوب للذي يُبشّر به بولس. وهذه الأقطاب
الثلاثة هي في نوعيّة علاقة ملفتة مع السيّد ومع الناس. هذه الرؤية جعلته في كلّ
آن وفي كلّ ظرف إنساناً موحَّداً يجمع في تناغم مدهش بين ما اختبره وما يؤمن به
وطريقة إيصاله إلى الآخرين.

 

1
– القطب الأوّل: الشهادة

النوعيّة
في الكيان تبدأ في الخبرة الشخصيّة والعلاقة الوجوديّة بشخص السيّد والربّ وإيمانه
أنه وحده القادر على الإعتاق من كلّ العبوديّات، لأنه وحده الذي مات لأجله وقام.
هذه الخبرة الشخصيّة هي الأساس لأنها النَفَس والوجه العميق الذي يقول قبل أن يبدأ
بولس بالكلام، بتعبير آخر صار بولس مشهداً: (الذي كان يضطهدُنا هو الآن يبشّر
بالإيمان الذي كان يريد أن يدمّره). (غل1: 23). ويعتبر بولس هذه الخبرة، الرحم
التي ولدته إلى نور جديد يلوّن كلَّ فكر وتحليل وتعليم وعيش. ولا يني يُخبر عنها
في المفاصل المهمّة من حياته وفي دفاعه عن حقيقة البشارة (أمام اليهود، أع 22:
5-16؛ أمام الملك أغريباس، أع 26: 10-18؛ 1كور 15: 9-11؛ غلا 1: 12-17؛ فل 3:
5-6).

لقاؤه
الشخصيّ بالمعلّم الذي كان يضطّهده أزاح القشور عن عينَيه فرأى ذاته أولاً (لا
أفهم ما أعمل، لأنّ ما أريده لا أعمله وما أكرهه أعمله.. الويل لي أنا الإنسان
الشقيّ) (روم 7: 15 و24)؛ ورأى مسيرة إيمان شعبه (قراءة جديدة للكتب المقدسة، نعود
إليها لاحقاً)؛ ورأى الجديد الذي يطلبه المعلّم: (الحقيقة هي في المسيح) (كول 2:
17) هو حجر الأساس (1كور 3: 11). وفهم أن هذه الرؤية المثلّثة سوف تقلب الأمور
رأساً على عقب بدءاً بشخصيّته، وصولاً إلى كلّ الذين يبشّرهم.

من
الفرّيسيّ المتعصّب والمتسلّط إلى (أنا أصغر الرسل، السِقْط، لأني اضطّهدت كنيسة
الله)(1كور 15: 9) ويَعُدُّ كلّ شيءٍ خسارة من أجل الربح الأعظَم وهو معرفة الربّ
يسوع المسيح (فل3: 7) ولا يُهمّه إلاّ امر واحد وهو أن ينسى ما وراءه ويجاهد إلى
الأمام ويجري إلى الهدف للفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويّة في المسيح
يسوع (فل3: 13). ويعدُّ “كلَّ العلم السابق كصنجٍ يطنّ (1كور13: 1)، ويفهم
أننا أسرى محبّة المسيح، بعدما أدركنا أنّ واحداً مات من أجل الجميع (2كور 5: 14)،
ويفرح بالآلام (كول1: 24) ويُمارس ضبط النفس (1كور9: 25)، ويعرف أن يعيش في الضيقة،
كما يعرف أن يعيش في السعة، وفي جميع الظروف يختبر الشبع والجوع والفرج والضيق.
وهو قادر على تحمّل كلّ شيء بالمسيح الذي يقوّيه (فل 4: 12-13). ولا يفاخر إلا
بصليب الربّ يسوع المسيح، به صار العالم مصلوباً بالنسبة إليه، وصار هو مصلوباً
بالنسبة إلى العالم (غل6: 14)، ويتعرّض للموت مراراً ويجلدهُ اليهود ويَضربه
اليونانيّون ويرجمه الناس وتنكسر به السفينة ويتعرّض لخطر الأنهار واللصوص ويُعاني
الكدّ والتَعَب والسَهر الدائم والجوع والعطَش والصوم الكثير والبَرد
والعُري(2كور11: 23-27)، ويتعلّم كيف يكون الجندي الصالح الذي يريد أن يُرضي قائده
فلا يشغل نفسه بأمور الدنيا (2تم2: 3-4)، ويختبر قوّة الضعف ومجدهُ، هذه الآنية من
خزَف التي تحمل هذا الكنز (2كور4: 7)

لقاؤه
الشخصيّ بالربّ يسوع طاول الفكر والطبع والقصّة الخاصة التي جعلت منه هذا الإنسان:
شاول. وهو بُعدٌ عاموديّ يَصِلُه بالمبدأ، بالخالق الذي يدعوه (أبا الأنوار وإله
كلّ تعزية) (2كور1: 3)، وبالإبن الذي مات لأجله (لما كّنا بعد خاطئون، روم 5: 8)،
وبالروح الذي انفتح عليه وعلى علاماته وصار يُجيد قراءتها فيترجم لوقا: منعنا
الروح (أع16: 6-7)، قال لنا الروح (13: 2)، فَهِم بولس (رؤيا الرجل المكدوني،
أع16: 9-10).

هذا
الإتصال العميق والدائم بالسيّد هو مكانُ ولادته الدائمة وتجدُّده وصبره وتحمُّله
وإبداعه وإيجاده للحلول وتدبيره وصقل شخصيّته، وهو الذي جعل فيه الرغبة الكبيرة
لإعلان البشرى. وهو يقول أكثر، يقول: (إذا بشّرتُ، فلا فخر لي، لأنّ التبشير ضرورة
فُرضت عليّ، والويل لي إن كنت لا أبشّر.. إذا كنت لا أبشّر بإرادتي بل أقوم بوصيّة
عُهدت إليّ، فما هي أجرتي؟ أجرتي هي أن أبشّر مجاناً) (1كور9: 16-18).

 

2
– القطب الثاني: المعنى

اختبار
بولس للمسيح يسوع حرّر طاقة الفكر الثاقب الباحث عن الحقيقة في الكتب المقدّسة،
وجعله يجد ملء اللاهوت والفلسفة في شخص السيّد. فَهِمَ أنّ تجسّد ابن الله الذي
مات لأجله وقام هو غاية الشريعة والنور الذي يفكّ كلّ رموزها وألغازها. هو قلبها
وحياتها. ونقرأ نتيجة هذا الإختبار في كلّ حياته وتبشيره ورسائله (أسعى لعلّي أفوز
بما لأجله فاز بي المسيح يسوع.. يهمّني أمر واحد وهو أن أنسى ما ورائي وأجاهد إل
الأمام، فأجري إلى الهدف، للفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويّة في المسيح
يسوع) (فل 3: 12). فالمسيح يسوع هو صورة الله وبكر الخلائق كلّها..لأنّ الله شاء
أن يحلّ فيه الكنال كلّه (كول 1: 15-19).

صار
كلّ المعنى متجسّداً في شخصٍ حيّ، لا في ممارسات وتقاليد وتفسيرات جامدة لا تُعطي
الحياة. صار شخص يسوع الحقيقة الكاملة والجذريّة والتي لا تتجزأ: بشارة كاملة لا
نصف بشارة ولو في الإضطهاد، إمّا يسوع من غير استثناءات ولا شروط وإمّا الموت في
حرف الشريعة وصنمية الوثنيّة.

نقرأ
هذا من خلال اهتماماته اللاهوتيّة:

1-
الشربعة عاجزة عن التبرير وإعطاء الحياة ومعنى الحياة (فقبل أن يجيء الإيمان كنّا
محبوسين بحراسة الشريعة إلى أن ينكشف الإيمان المنتظَر. الشريعة كانت مؤدّباً لنا
إلى أن يجيئ المسيح حتى نتبرّر بالإيمان. فلمّا جاء الإيمان، تحرّرنا من حراسة
المؤدّب) (غل 3: 23-25).

2-
الإيمان بيسوع المسيح يبرّر ويُعطي النعمة والخلاص للجميع (نعرف أنّ الله لا يبرّر
الإنسان لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأنه يؤمن بيسوع المسيح) (غل 2: 16)، ويجعل
منّا أبناء: (حين كنّا قاصرين، كنّا عبيداً لعناصر العلم الأوّليّة. فلمّا تمّ
الزمان، أرسل الله ابنًَه مولوداً لامرأةٍ، وعاش في حكم السريعة ليفتديَ الذين هم
في حكم الشريعة، حتى نصير أبناء الله.. فما أنت بعد الآن عبد بل ابن، وإذا كنت
ابناً فأنتَ وارث بفضل الله) (غل 4: 3-7).

3-
المسيح آدم الثاني وحكمة الله..(..فبالأولى أن تسود الحياة بواحد هو يسوع المسيح
أولائك الذين ينالون فيض النعمة وهبة البرّ) (روم5: 17) (وأمّا للذين دعاهم الله
من اليهود واليونانيّين، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله) (1كور1: 24). (أمّا نحن
فلنا فكر المسيح) (1كور2: 16)، (فلو بشرّناكم نحن أو ملاك من السماء ببشارة غير
التي بشرناكم بها، فليكن ملعوناً) (غل 1: 8). قيامة المسيح “لكنّ الحقيقة هي
أنّ المسيح قام من بين الأموات هو بكرُ مَن قام من رقاد الموت”ونحن نقوم معه
(1كور 15: 12-20).

4-
الإفتخار بالصليب (أمّا أنا فلن أفاخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح) (غل 6: 14)،
(إن كان لا بدّ من الإفتخار فأنا أفتخر بضعفي) (2كور11: 30)

5-
الإنسان الجديد والقيَم الجديدة والحياة الجديدة في المسيح لا تطفئوا الروح (1تس5:
19- 22)، الحريّة الجهاد الروحيّ (أف6: 11-18) ثمر الحياة الجديدة، ثمر الروح (غل
5: 22-26)، مَن أراد أن يحيا في المسيح يسوع حياة التقوى أصابه الإضطهاد) (2تم 3:
12)

6-
الكنيسة جسد المسيح ونحن أعضاء هذا الجسد (1كور12: 14-31). المسيح هو سلامنا، جعل
اليهود وغير اليهود شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة..
ليخلُقَ في شخصه من هاتين الجماعتين، بعدما أحلّ السلام بينهمان إنساناً واحداً
جديداً.. وجعلهما جسداً واحداً) (أف2: 14-16)، ونظرة جديدة للكنيسة (فما أنتم بعد
اليوم غرباء أو ضيوفاً، بل أنتم مع القدّيسين رعيّة واحدة ومن أهل بيت الله،
بُنيتم على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح يسوع نفسُه..لتصيروا
مسكناً لله في الروح) (أف 2: 19-22).

7-
أولويّة المحبّة (1كور 12)، والتفرّغ للبشارة (1كور 7).

8-
مجيء الربّ: ننتظِرُه ونحن نعمل ونعيش (فلنكن صاحين، لا بسين درع الإيمان والمحبّة
وخوذة رجاء الخلاص (1تس5: 8)، (نوصيكم إيها الإخوة، باسم الربّ يسوع المسيح أن
تتجنّبوا كلّ أخٍ بطّال يخالف التعاليم التي أخذتموها عنّا.. فما كنّا بطذالين حين
أقمنا بينكم، ولا أكلنا الخبز من أحد مجاناً، بل عمِلنا نهاراً وليلاً بتعبٍ وكدّ
حتى لا نثقّل على أحد منكم..) (2تس3: 6-11).

9-
ومجّانيّة البشارة (نتكلّم عنها لاحقاً)

 

3
– القطب الثالث: طريقة التعاطي

أخذ
القديس بولس بعين الإعتبار في طريقة تعاطيه التبشيريّة معاير أساسيّة وضروريّة
وعرف كيف يستعملها ومتى يستعملها تماماً كما يفعل قائد الأوركسترا السمفونيّة:
يحتاج إلى كلّ الآلات وإلى أحلى ما عندها ويعرف متى يُعطيها وقت العزف المنفرد
ومتى يُعيدها إلى الإئتلاف والتناغم مع الجماعة.

سرّ
نجاح تعاطيه يعود إذاً إلى نظرته في الفَهم أنّ الله حبّ والحبّ له أصولُه في
التعاطي. والرابح الأكبر يكون طبعاً معلّمه. بولس إنسان له قضيّة وقضيّتها اسمها
يسوع، وليس عنده أي شيء يخسره. هذه القضية تتطلّب التفرّغ التام والتخلّي التام
وتصير أهميّة كلّ الحاجات والطموحات هي بمدى ارتباطها بالقضيّة.

يكون
إذاً المقياس الأوّل: كيف نربح الكلّ للمسيح، وكيف يكون المسسيح الأوّل في كلّ شيء
وأن يصير كلّ واحد في المسيح. بتعبير آخر كيف يساهم في ولادة منطق المحبّة (صرتُ
لليهود يهودياً) (1كور9: 20).

والمثال
التبشيريّ الذي يُنَشِّىء عليه الرسول بولس يكتبه لأهل كولوسي: (ننادي ونبشّر جميع
الناس ونعلّمهم كلّ حكمة لنجعل كلّ إنسان كاملاً في المسيح يسوع) (كول1: 28)،ولأهل
غلاطية: (وتتكوّن فيهم صورة المسيح) (غل 4: 19)، ولأهل كورنتس: (نتحوّل إلى تلك
الصورة) (2كور3: 18).

هذا
المقياس هو بالحري موقف الإنطلاق والنوعيّة الأساسيّة المطلوبة ليكون الإنسان
مؤهّلاً أن يكون رسولاً.

دراسة
سفر الأعمال تكشف لنا بالتتالي الأولويّات التي واكبت عمَله التبسيري

1-
إستعماله للزمان والمكان، 2 – تقنيّة التقرّب من الذين يبشّرهم، 3- لغّات التعاطي،
4- التعاطي مع الكتب المقدّسة.

 

5-
المرافقة في الإيمان

 

أ-
استعماله للزمان والمكان

بعد
لقاء الربّ الذي غيّر حياته نراه يُمضي ثلاث سنوات في بلاد العرب، ولو أننا نجهل
الذي عمله هناك من خلال سِفر الأعمال والرسائل، غير أنّنا نفهم أنّ هذه المدّة هي
في خبرة الأنبياء، يتأهّبون للدعوة التي تنتظرهم وينضجون في الرؤيا التي أُنعم بها
عليهم.

بعدها
نراه يمُضي خمس سنوات في طرسوس، بلده. حبّة القمح تنتظر الوقت الذي تأخذها يد
الفلاّح (من خلال برنابا) لتذهب بها إلى أنطاكية ومنها إلى أقاصي الأرض. ويبدأ
بعدها رحلاته، ونراه يقيم مع الذين يبشّرهم الوقت الذي يناسب البشارة، أحياناً
يمرّ مروراً بسيطاً وأحياناً يقيم أشهراً أو سنة أو حتى سنتين (18: 11؛ 19: 9).

بولس
ذهب إلى الناس ولم ينتظر منهم أن يأتوا، وإذا جمعنا المسافات التي قطعها، إمّا
مشياً على الأقدام أو في البحر، تكون اثنَي عشر ألف كلم(1) (ما عدا ذهابه إلى بلاد
العرب وإلى طرسوس)، والمحطّات التي زارها وبشّرها وأقام فيها 27 محطّة(2). الأمكنة
التي زارها ليست فقط أقاصي الأرض بالنسبة لأيامه، بل هي أيضاً كلّ الأمكنة: الطريق
(طريق الشام)، البيت (بيت التلاميذ – بيت ليديا – بيت السجّان – بيت أكيلا
وبرسكيلا- بيت ملاصق للمجمع – بيت فيليبس المبشّر – بيت مناسّون القبرصيّ – البيت
الذي استأجره)، المجمع، في المدينة وخارجها، ضفّة النهر، السجن، الساحات العامة،
البحر، مجلس المدينة (الأريوباغوس)، السفينة، غرفة المريض في مالطة (بلغة اليوم
المستشفى)، مدرسة رجل اسمه تيرانّوس، الهيكل، القلعة، أمام مجلس اليهود، قصر
هيرودوس.

تكون
الصورة البيانيّة لتنقّله في الجغرافية: إنطلاقاً من المجمع مروراً بكلّ الأمكنة
وصولاً إلى بيتٍ استأجره.

رؤية
بولس للعالم تجعلنا نتساءل: كيف أنّ هذه القرية الكونيّة لم يصلها نور البشارة بعد
اليوم، رغم كلّ التسهيلات في المواصلات، في الأرض والجوّ وفي الإتصالات السلكيّة
واللاسلكيّة.

 

ب
– تقنيّة التقرّب من الذين يُبشّرهم

هذه
التقنيّة هي بمثابة المفتاح، فإن عرفنا استعمالها استطعنا الدخول والإقامة
والبشارة. وإلاّ فنحن نحكم على أنفسنا بالبقاء خارجاً وتخسر البشارة. تخسر لأننا
حجّمناها وجعلناها عاجزة، ولأنها خسرت الناس الذين لم نُحسن الدخول إليهم.

نذكر
طبعاً مُراقفة الربّ لتلميذَي عمّاوس: دنا منهما ومشى معهما وفهم أنهما حزينَين
وسألهما وسمع لهما وبعد كلّ هذه المسيرة بدأ يعاتبهما ويفسّر لهما.

هذا
ما عاشه بولس مع كلّ الذين ذهب إليهم، بدأ معهم من حيث هم، وضع نفسه مكانهم، فهم
مَن هم وما هي أفكارُهم وظروفهم ولمس انتظاراتهم الحياتيّة والمدنيّة والعقائديّة.
إهتمامه بهم هو اهتمام شامل ومتكامل. بتعبير آخر اكتشف المفتاح الذي يسمح له
بالدخول إلى هذا الإنسان وهذه البلاد وهذه الحضارة. مع اليهود بدأ من المجمع ومن
الكتب المقدّسة، مع الفلاسفة في أثينا، بدأ من الساحات العامة والمناقشات والإله
المجهول (17: 16-32) وقولُهم إنهم يستمعون إليه في وقت لاحق لا يعني بالضرورة أنه
فشل معهم، مع السجّان بدأ بالتسبيح والرضى ورفْض الهرب (16: 25-28)، وذهب إلى ضفّة
النهر وجلس يتحدّث إلى النساء المجتمعات هناك ويقول سفر الأعمال: (فتح الله قلبها
لتُصغي إلى كلام بولس) (16: 13-14).كيف تكلّم بولس حتى قال لوقا إن الله فتح
قلبها؟ بولس تكلّم مع كلّ إنسان إنطلاقاً من حالته ولم يغفل عن أي إنسان: نراه في
حضرة الملك أغريباس يدافع عن نفسه- بل قل يبشّر- وهولم ينسَ أن يتوجّه إلى كلّ
الحاضرين (26: 29) ويتكلّم مع كلّ الإنسان (فكر، قلب، ذاكرة، إرادة، حضارة).

أولى
الخطوات في التبشير هي أن يؤمن الآخر أنّنا نحبّه ونحترم فرادته، عندها يُزيل
القناع الذي يخبّئ وجهه الحقيقيّ ويرمي من يديه سلاح الدفاع. من هنا نفهم أنّه لا
يبشّر حيث سَمِع الناس باسم يسوع (روم15: 20). والمرّة الوحيدة التي يذكر سفر
الأعمال أن بولس بشّر فيها على أساس غيره هي أفسس (19: 1-10) وبادر فيها بالأسئلة
المباشرة: (هل نلتم الروح القدس؟ أي معموديّة تعمّدتم؟) ومن هنا نفهم أنّه يتعهّد
غرسة الإيمان ويربّي كالأم “ما تمكّنت أن أكلّمكم مثلما أكلّم أناساً
روحانيّين، بل مثلما أكلّم أناساً جسديّين هم أطفال بعد في المسيح. غذّيتكم باللبن
الحليب لا بالطعام، لأنكم كنتم لا تطيقونه ولا أنتم تطيقونه الآن (1كور3: 1-2).
ومن هنا أيضاً نوعيّة العلاقة العميقة التي صارت بين بولس والذين بشّرهم فصاروا
شركاء معه وحاملين همّ البشارة.

ج
– لغات التعاطي

استعمل
بولس لغة التعبير الشاملة: لغة الفكر والقلب والجسد والكلام، لوعيهِ الإرتباط
الجوهريّ بين المعنى والتعبير. استعمل لغة الشهادة والمَثَل والمعاملة كما استعمل
لغة الكلام في مستوياتها العديدة.

أولى
كلماته أنّه صار مشهداً، وهذا التعبير التبشيريّ كان محبّباً عنده ونراه يستعمله
حتى نهاية حياته: يترك نفسَه يُنزَل في قفّة في أورشليم (9: 25)، ويقوده التلاميذ
إلى قيصريّة هرباً من اليهود المحاولين قتله (9: 29-30)، ويرفض أن يفدي نفسه
بالمال مع فيليكس الحاكم (24: 26)، ويعمل مع برسكيلا وأكيلا في صناعة الخيام (18:
3)، ويجمع الحطب في مالطة (28: 3). رسول يضع يده في العجين هذه هي أولى لغّات
التعاطي عنده.

طريقته
الثانية هي لغة التعاطي مع المناسبات وعيشها على أنّها لغة قادرة على حمل البشارة.
لم يترك حَدَثاً عاشه إلاّ ونقل من خلاله فرح اللقاء بالقائم من الموت: إستعمل
جنسيّته الرومانيّة وخبرة سجنه والعاصفة التي تعرّض لها قبل وصوله إلى مالطة.
التعاطي مع المناسبات هو فنّ اصطياد الوقت المناسب والمكان المناسب واللغة
المناسبة. وهو يفترض أن الرسول يرى وينتبه إلى التفاصيل ويحلّلها ليستنتج من
خلالها.

والتعاطي
مع المناسبات يعني حتماً التأقلم السريع مع المستجدّات: أمام تأليه الناس له في
لسترة بعدما شفى الكسيح أخذ يعلن إيمانه بالله الحيّ الخالق (14: 14)، ويتحدّى
الروح العرّاف (16: 16-24)، تركه برنابا فاختار سيلا (15: 40)، تعرّض لخلاف وجدال
شديد مع اليهود في شأن الختان فذهب إلى أورشليم يراجع الرسل والشيوخ (15: 1-2)، سمع
أنّ اليهود تآمروا على قتله فغيّر طريقه (20: 3)، ورفع دعواه إلى القيصر (25: 11).

وطريقته
الثالثة تأتيه من غنى علمه ومعرفته للّغات المتداولة في عصره، فيستعمل العبريّة أو
اليونانيّة بحسب ما يريد فتح الحوار. وينتقل فيها من الكلام الإخباريّ، إلى كلام
الشهادة، إلى السؤال، إلى الأخلاقيّات، إلى تفسير الكتاب المقدّس، إلى شرح
العقيدة.

 

د
– التعاطي مع الكتب المقدّسة

معرفته
الواسعة للكتب المقدّسة التي كانت في أساس اضطهاده لمذهب الربّ كما يقول لوقا، هي
الحظّ الكبير الذي اغتنى منه شخصيّاً للوصول إلى الفَهم، وهي الجسر الذي قدّمه
لليهود ليعبروا من الشريعة إلى شخص الربّ يسوع.

إنطلق
من الكتب المقدّسة على أنّها الشريعة ولكنه التقى في النهاية بوجه حيّ، حاضر وفاعل
من خلال كلمته وكنيسته. ويعود الفضل طبعاً لتدخّل الربّ في هذا التغيير العميق
ولكن أيضاً لمحبّة بولس للكلمة ولصدقه في التفتيش عن عميق معناها ودرسها والإختصاص
بها. هذا أوّل اتّصال له بالكتب المقدّسة، وهو في أولويّة برنامجه الرسوليّ: (أجعل
كلمة الله معروفة تمام المعرفة) (كول1: 25ب) وتصير الكلمة رسالة مكتوبة في القلوب
(2كور3: 2). وهذا ما يوصي به تلميذه تيموتاوس: (ناشدك أمام الله الرب يسوع
المسيح.. أن تُبشّر بكلام الله وتُلحّ في إعلانه بوقته وبغير وقته وأن توبّخ
وتُنذر وتعظ صابراً كلّ الصبر في التعليم) (2 تيم 4: 1-2)، (لأنها- الكتب
المقدّسة- قادرة على أن تُزوّدك بالحكمة التي تهدي إلى الخلاص بالإيمان بالمسيح
يسوع. فالكتاب كلّه من وحي الله يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في
البرّ) (2تم 3: 15-16). والتعاطي مع الكتاب المقدّس هو للبنيان لا للمماحكات
والمناقشات التي يصدر عنها الحسد والشقاق والشتائم والظنون السيّئة (1تم 6: 4)،
وهو للتعليم والتنبيه والصلاة: (لتحلَّ فيكم كلمةُ المسيح بكلّ غناها لتعلّموا
وتنبّهوا بعضكم بعضاً بكلّ حكمة..رتّلوا المزامير) (كول 3: 16). لأنّ كلمة الله هي
سيف الروح (أف 6: 17).

يبدأ
تبشيرَه مع اليهود من الكتاب: يُخبر، يقرأ التاريخ، يفسّر، يشهد، يطرح سؤال،
(يفجّر الموقف بين الفرّيسييّن والصدوقيّين ليصلوا إلى عمق المعنى ويتخطّوا
الشريعة (ربما الذي يقوله بولس من الله) (23: 6-9)، يُرجع سامعيه إلى الكتاب كما
حصل في بيريه (أخذوا يفحصون الكتب المقدّسة كلّ يوم ليعرفوا صحّة تعاليم بولس
وسيلا) (17: 11).

ويصل
إلى استنتاجات إيمانيّة عقائديّة، يربط كلّ الكتاب بوجه يسوع الذي اختبَرَه،
(ويبيّن لهم كيف كان يجب على المسيح أن يتألّم) (17: 1-9). ويستعمل صور من الكتاب
ليوضح تعليمه: هاجر وساره (غلا 4: 24). وينتقي الألفاظ لئلاّ تكون حجر عثرة لهم،
فيقول عن حننيا إنه رجل تقيّ متمسّك بالشريعة، يشهد له جميع اليهود في دمشق (22:
12) ولا يذكره أمام الملك أغريبّاس (26: 12-18) وبينما لوقا يقول إنه تلميذ للربّ
(9: 10)، ويستعمل كلمة إله آبائنا في حديثه مع اليهود (22: 14) بدل كلمة الربّ
يسوع (9: 17) ويضع على فم الربّ: قال لي سأرسلك إلى غير اليهود (22: 21).

ومع
غير اليهود، يقدّم بولس الكتاب من غير أن يرجع إليه مباشرة. يقدّم القيَم والمبادئ
و”يتحدّث عن الصلاح والعفّة ويوم الدينونة فيرتعب فيلكس الحاكم (24: 25)،
وينتقل من الدفاع عن نفسه إلى التبشير المباشر ما يجعل الملك أغريباس يسأله
(أبقليل من الوقت تريد أن تجعل منّي مسيحيّاً (26: 28) ويجعل فستس الحاكم يختصر
كلّ بشارته بجملة: رجل مات اسمه يسوع وبولس يدّعي أنّه حيّ) (25: 9).

تعاطيه
مع الكتاب يختصر شخصيّته وروحانيّته: هو المعلّم الفرّيسيّ بجدارة، وهو الإناء
المختار ليقول الجديد الذي ما قالته الشريعة، وقاله الإبن الذي اختاره وجعله
رسولاً.

ومن
هذا المنطلَق نرى في اختبار بولس مع الكتاب مدرسة لنا في التعاطي التبشيري: لا
بشارة خارج عن الكلمة، ولكن لا أية طريقة في استعمال كلمة الله.

 

ه
– المرافقة في الإيمان

يتعامل
القديس بولس مع نقل البشارة إلى الاخرين تعامله مع كائن حيّ: يحضّر له المكان
والقلوب ويبقى يتعهّده لينمو وينضج ويعطي الحياة. البشارة هي كائن حيّ والآخرون
أيضاً.

من
هنا نراه يمرّ مروراً أوّل، يقيم مع الناس ويتكلّم ويبشّر ويُثير البلبلة وتنقسم
المدينة بسببه.. وينسحب ولكنّه يبقى على علمٍ بكلّ ما يصير، ويُرسل المعاونين
والرسائل. ويعود شخصيّاً “يتفقّد الإخوة ويطّلع على أحوالهم) (15: 36)،
ويشجّع (14: 22) ويقوّي العزائم (15: 41) ويوبّخ (غلا 3: 1) و(يجمع الكنيسة ويخبر
بكلّ ما أجرى الله على يده ويد برنابا) (14: 27) ويبلّغ رأي كنيسة أورشليم (16:
1-5) ويخلق جماعة رسوليّة (20: 1-11). يُنظّم الجماعة والعمل الرسوليّ: (أرسل إلى
مكدونية اثنين من معاونيه أمّا هو فتأخّر مدّة في آسيا) (19: 22)، (سبقونا إلى
ترواس وانتظرونا هناك أمّا نحن فسافرنا في البحر من فيليبّي) (20: 5-6)، ويختار
سيلا (15: 36) وتيموتاوس (16: 1-5)، ويعلّم التنظيم لدرجة أنّ مرافقيه صاروا ينظّمون
أموره “أنزلونا في بيت مناسون القبرصيّ وهو تلميذ قديم(21: 16). ويعرف كيف
يحافظ بحكمة على التوازن مع السلطة المدنيّة ويبرهن بحياته أنها من قلب مخطط
البشارة، ويوصي باحترامها.

وينفرد
بالتلاميذ في أفسس ويحادثهم كلّ يوم في مدرسة رجل اسمه تيرانوس ودامت هذه الحال
مدة سنتين (19: 9)، ويقيم في كورنتس سنة وستة أشهر يعلّم الناس (18: 11). ويعيّن
قسوساً (14: 23) ويصلّي ويصوم مع الجماعة ويلتقي شيوخ الكنيسة في أفسس (20: 17)
ويكسر الخبز في ترواس ويُطيل الكلام إلى منتصف الليل (20: 7).

وقلب
خدمة التدبير ومحرّكها هو أنه يصغي إلى الروح ويفهم ويبدأ بالتنفيذ ويُحمّس الكلّ
معه.

وتأتي
مجّانيّة البشارة لتأخذ المقام الأول في العيش وفي التعليم والتنشئة على سرّ
المسيح، نسمعه يقول:

(جاء
في شريعة موسى: لا تضع كمامة على فم الثور وهو يدرس الحبوب..من أجلنا كُتب ذلك
ومعناه: على الذي يفلح الأرض والذي يدرس الحبوب أن يقوما بعملهما هذا على رجاء أن
ينال كلّّّ منهما نصيبه منه..ألا تعرفون أنّ من يخدم المذبح يأخذ نصيبه من
الذبائح؟ وهكذا أمر الربّ للذين يُعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة. أما
أنا، فما استعملت أيّ حقّ من هذه الحقوق..أنا أفضّل أن أموت على أن يحرمني أحد من
هذا الفخر. فإذا بشّرت، فلا فخر لي، لأنّ التبشير ضرورة فُرضت عليّ، والويل لي إن
كنت لا أُبشّر. إذا كنت لا أبشّر بإرادتي بل أقوم بوصيّة عُهدت إليّ، فما هي
أجرتي؟ أجرتي هي أن أبشّر مجاناً وأتنازل عن حقّي من خدمة البشارة) (1كور9: 9-18).

بالنسبة
لبولس، لا يُعقل أن يكون للبشارة بدل أتعاب أو مكافأة من الناس، وحتى السَنَد
والمعونة الماليّة لم يكن ليقبلهما بسهولة. يذكر سفر الأعمال أنه قَبِل دعوة ليديا
إلى بيتها بعد سجنه وقَبِل استضافة السجّان له ومعونة من كنيسة فيليبّي (يذكرها هو
نفسه في الرسالة) ولكنه يُضيف: فرحت في الربّ عندما رأيت أنكم عدتم أخيراً إلى
إظهار اهتمامكم بي..ولا أقول هذا عن حاجة، لأني تعلّمت أن أقنع بما أنا عليه..(فل
4: 10-11). نفهم شيئين أساسيّين: أنه لا يقبل بسهولة عطيّة من أحد، وإن قَبِل فهو
يقول شيئاً آخر – وهنا بالتحديد لأهل فيليبّي، حيث عانى الأمرّين – هو يقول صفحه
عنهم ومحبّته لهم لأنه يقبل معونتهم. هذا الموقف الجذريّ من المال في العمل
التبشيريّ، يعتبره بولس من الأساسات الجوهريّة، لا من الأخلاقيّات والنصائح، لئلاّ
يُعطََّل الفخر بالبشارة وليبقى رأسها مرفوعاً ويدها حرّة وصوتها عالٍ.

لكن،
في الموضوع نفسه، نراه يهتمّ جداً بالإعانات للإخوة القدّيسن في أورشليم، ويشجّع
على العطاء السخيّ، ويوبّخ ويُحرج البخلاء وغير المتحمّسين على العطاء: (قيامكم
بهذه الخدمة المقدّسة لا يقتصر على سدّ حاجات الإخوة القدّيسين، بل يفيض منه حمد
جزيل لله. وهذه الخدمة امتحان لإيمانكم، يجعلهم يمجّدون الله على طاعتكم في
الشهادة ببشارة المسيح وعلى سخائكم في إعانتهم وإعانة الآخرين جميعاً) (2كور 9:
12-13).

 

خاتمة

المثال
التبشيريّ الذي يقدّمه بولس يجمع بين ديناميّتين:


ديناميّة النوعيّة التي تطاول الشهادة والمعنى، وحركتها تصاعديّة، تأتيه من الربّ
وينمو فيها في انشداد صوب الربّ، ويصل إلى نضج اإنسان الروحيّ الموحّد.

وديناميّة
النوعيّة التي تطاول طريقته في التعاطي والتي تجمع حبَّ القضيّة والتقنيّة،
وحركتها أفقيّة: يخرج إلى الآخر ويُخرجه من صمته وجموده فيدخل في العلاقة
الإيمانيّة.

والتقاء
هاتين الحركتين هو في شكل صليب.

والديناميّة
الثانية هي الحركة اللولبيّة المتكاملة بين الشهادة والمعنى وطريقة الإتّصال.

وسرُّ
نجاحه يكمن في التوازن الدائم بين هاتين الديناميّتين، وهو فعلاً مدرسة أمامنا
ليكون لنا رغبة في التبشير والتعب من أجل السيّد، وليكون عندنا فنّ جذب الآخرين
إلى المعلّم فنحبّه كما يليق أن يُحبّ ونخدمه بأفضل الطرق والوسائل.

(إنّ
الله يعمل فيكم ليجعلكم راغبين وقادرين على إرضائه) (فل 2: 13)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى