علم

شرح قانون الإيمان



شرح قانون الإيمان

شرح
قانون الإيمان

كيرلس
الأسكندرى

الرسالة
55 من القديس كيرلس عن شرح قانون الايمان

1.كيرلس
يهدي تحياته في الرب إلى المحبوبين والمشتاق إليهم جداً أنسطاسيوس، ألكسندروس،
مارتينيانوس، يوحنا، باريغوريوس القس، مكسيموس الشماس، وإلي آباء الرهبان
الأرثوذكس الباقين، وإلي الذين يعيشون معكم الحياة التوحدية المتأسسين في إيمان
الله.

 

مقدمة
عن قانون إيمان مجمع نيقية:

يمكنني
الآن أن أمدحكم مدحاً ليس بقليل علي حبكم للتعلم وحب التعب الذي لمحبتكم، وأعتبر
أنه جدير بكل تقدير. فمن لا يبتهج كثيراً بسبب شوقكم للدروس الإلهية وحب الاشتراك
في التعاليم المقدسة الكلية الاستقامة؟ هذا يساعدنا لنصل إلى حياة أبدية ومغبوطة،
فالغيرة في هذه الأمور ليست بدون مكافأة.

أهمية
الإيمان الصحيح:

 

2.لأن
ربنا يسوع المسيح يقول — في موضع ما — لله أبيه في السماء: “هذه هي الحياة
الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو 3: 17).
لأن الإيمان الصحيح والذي لا يُسخر به بسبب ما له من بهجة التلازم مع الأعمال
الصالحة، فهو يملؤنا بكل صلاح ويظهر أولئك الذين قد حصلوا مجد متميز. وإن كان بهاء
أعمالنا يبدو أنه لا يرتبط بالتعاليم الصحيحة والإيمان الذي بلا لوم، فإنها (هذه
الأعمال) لن تنفع نفس الإنسان بحسب رأيي. فكما أن “الإيمان بدون أعمال
ميت” (يع 20: 2)، هكذا أيضا نحن نقول إن العكس صحيح. لذلك فليقترن الإيمان
الذي بلا عيب ويشرق مع أمجاد الحياة المستقيمة. بذلك نصير كاملين بحسب ناموس موسى
الحكيم جداً الذي يقول: “وتكون كاملاً أمام الرب” (تث 13: 18).

 

3.وأولئك
الذين بسبب الجهل قد قللوا من قيمة امتلاك الإيمان المستقيم ممجدين حياتهم بسبب
أعمال الفضائل، يشبهون أناساً ذوي ملامح حسنة في وجوههم ولكن نظرة عيونهم مصابة
بتشويه وحَوَل.وينطبق عليهم قول الله بصوت أرميا إلى أم اليهود وأعني أورشليم: “لأن
عينيك ليست مستقيمة وقلبك ليس صالحاً” (أنظر أر 17: 22). لذلك فمن الضروري
قبل كل شيء آخر أن يكون لكم ذهن سليم في داخلكم وأن تهتموا بالأسفار المقدسة التي
تخاطبكم قائلة: “لتنظر عيناك باستقامة” (أم 25: 4س). فالنظر الصحيح
للعيون الخفية الداخلية هو أن يكون قادراً. علي النظر إلى جميع النواحي بوضوح ودقة،
بقدر ما هو ممكن فيما يختص بالكلمات التي تُقال عن الله. “لأننا ننظر في مرآة
في لغز ونعرف بعض المعرفة” (أنظر 1كو 12: 13)، ولكن الذي يكشف أعماق الظلام
(أنظر أي 22: 12)، ويرسل نور الحق إلى أولئك الذين يرغبون في أن يحصلوا علي معرفة
سليمة عنه. فمن الضروري إذن أن ننطرح أمام الله قائلين: “أنر عيني لئلا أنام
نوم الموت” (مز 4: 12س)، لأن الابتعاد عن استقامة التعاليم المقدسة، من
الواضح أنه لن يكون شيئاً أخر سوي أن ننام نوم الموت. ونحن نسقط مبتعدين عن هذه
الاستقامة حينما لا نتبع الكتب الإلهية الموحي بها، إما بسبب أفكار خاطئة غير
ممدوحة أو بسبب تعصبنا للبعض الذين لا يسلكون باستقامة من جهة الإيمان. ونحن ننغلب
بسبب أننا نتبعهم في ميولهم الذهنية، وفوق كل شيء آخر فإننا نؤذي أنفسنا.

 

4.لذلك
ينبغي أن نصدق أولئك الذين يهتمون بالاستقامة في التفكير من جهة الكرازة المقدسة،
والتي سلمها إلينا بالروح القدس أولئك الذين كانوا من البدء معاينين وخداماً
للكلمة (أنظر لو 2: 1)، والذين كان آباؤنا الممجدون جدا يتبعون أثار خطواتهم بغيرة،
هؤلاء (الآباء) الذين اجتمعوا في نيقيا في ذلك الوقت وحددوا اعتراف الإيمان المكرم
المسكوني، والمسيح نفسه كان جالساً معهم في المجمع لأنه يقول “حيثما اجتمع
اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (مت 20: 18).

 

5.كيف
يكون هناك شك في أن المسيح كان يرأس ذلك المجمع المقدس العظيم بطريقة غير منظورة.
فهناك قاعدة معينة، وأساس لا يتزعزع ولا يهتز لكل الذين علي وجه الأرض، كان هذا
الأساس يلقي به بعيداً أو بالحري يُقضي عليه، وأعني اعتراف الإيمان النقي والذي
بلا لوم. وإذن فكيف لا يكون المسيح حاضراً إن كان هو نفسه الأساس بحسب قول بولس
الحكيم جداً: “فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذي وضع هو يسوع
المسيح” (1كو 11: 3).

 

6.لذلك
فالآباء القديسون الذين جاءوا بعدهم (بعد آباء نيقية)، وكانوا رعاة للشعب وأنواراً
للكنائس ومعلمين مهرة جداً للأسرار، هؤلاء قد حفظوا الإيمان الموضوع والمحدد منهم
(من آباء نيقية) بدون نقص، ونحن لا نري في اعترافات وشروح الآباء — أي شيء مهما
كان — محذوفاً أو مهملاً مما هو ضروري لمنفعتنا، لأنهم صاغوها من جهة الإيمان
المستقيم والذي بلا غش لأجل دحض وهدم كل بدعة وثرثرة غير مقدسة، ولأجل مساندة
وتأمين أولئك الذين يسيرون باستقامة من جهة الإيمان. هؤلاء قد أشرق عليهم المصباح
الحامل للنور “وانفجر النهار” (2بط 19: 1)، وهو النعمة التي بواسطة
المعمودية المقدسة.

 

دوافع
شرح القانون:

7.ولأن
وقاركم قد كتبتم أن البعض يحرفون كلمات قانون الإيمان إلى غير معناها – إما لسبب
أنهم لا يفهمون معني (قوة) الكلمات التي فيه، فهماً واضحاً أو لأنهم محمولون إلى
تفكير مرفوض بميلهم نحو كتابات بعض الأشخاص، لذلك فكرت أنه من الضروري بالنسبة لي
أيضا أن أوجه كلماتي إليكم في هذه الأمور وأفسر معني قانون الإيمان وأوضح باختصار
الأفكار التي تأتي إلى ذهني.

 

إتباع
الآباء:

نحن
نتبع من كل وجه اعترافات الآباء القديسين وتعاليمهم ونحن نُثْبت باستقامة وبدون
انحراف ما قالوه. وإن المجمع المقدس الذي اجتمع في أفسس بحسب مشيئة الله، حينما
أصدر قراراً مقدساً ودقيقاً ضد التعليم الشرير الذي لنسطوريوس، فإنه أدان معه ووضع
عقابا معادلاً علي ابتداعات الآخرين الباطلة (أنظر 1تي 20: 6) الذين قد يأتون بعده،
أو ربما كانوا موجودين قبله، وذلك لأن لهم نفس الأفكار التي له وتجاسروا أن
يتكلموا ويكتبوا عنها. وعلي ذلك حيث إن إنساناً واحداً قد أدين مرة بسبب مثل هذه
الابتداعات الباطلة، فهذه الإدانة ينبغي أن تصير ليس فقط ضد إنسان واحد بل ضد كل
هرطقتهم أي الافتراء الذي صاغوه ضد العقائد المقدسة التي للكنيسة بمناداتهم بابنين،
مُقَّسمين الذي لا ينقسم، ومُسَّجلين (علي أنفسهم) أمام السماء والأرض، تهمة عبادة
الإنسان.

 

8.فجمهور
الأرواح العلوية المقدس يسجد معنا للرب الواحد يسوع المسيح. ولكي لا يكون مجهولا
عن البعض معني قانون الإيمان الذي ساد وكُرز به في جميع كنائس الله المقدسة، فإني
وضعت التعاليم، أي بيانات الآباء القديسين، في التفاسير الموجودة هناك، لكي يعرف
أولئك الذين يقرءونها ما هي الطريقة الصحيحة لفهم عرض الآباء القديسين الذي هو
القانون النقي للإيمان الصحيح. وأظن أن محبتكم أيضاً قرأتم الكتاب الذي كتبناه
معاً عن هذه الأمور. فبعد أن أضع أمامكم الآن كما قلت القانون نفسه كلمة كلمة،
فإني سأنتقل بمعونة الله إلى تفسير واضح لكل ما يحويه النص، لأني أعلم أن بطرس
المجيد جداً قد كتب: “مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرخاء
الذي فيكم” (1بط 15: 3).

 

نص
قانون الإيمان في نيقية

9.(نؤمن
برب واحد الآب ضابط الكل، خالق الكل ما يُرى وما لا يُرى).

وبرب
واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب أي من جوهره. إله من إله، نور
من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، من نفس الجوهر الذي للآب، الذي به
خلقت كل الأشياء التي في السماء وعلي الأرض. الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا
نزل، وتجسد، وتأنس، وتألم، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السموات، وسيأتي لكي
يدين الأحياء والأموات.

وبالروح
القدس.

 

10.أما
الذين يقولون إنه “كان هناك وقت لم يكن فيه موجوداً، وإنه لم يكن قبل أن يولد،
وأنه خلق من العدم، أو يزعمون أنه من أقنوم أو جوهر أخر، أو أن ابن الله متغير أو
متحول”، فهؤلاء تحرمهم الكنيسة الجامعة الرسولية.

 

شرح
قانون الإيمان

الإيمان
بوحدانية الله:

11.قال
الآباء إنهم يؤمنون بإله واحد، لأنهم كما لو كانوا يهدمون آراء اليونانيين من
أساساتها: “وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء. وأبدلوا مجد الله الذي
لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات” (رو 22: 1،23).
“وعبدوا المخلوق دون الخالق” (رو 25: 1). وصاروا عبيداً لأركان العالم
ظانين أنها آلهة كثيرة بلا عدد. لذلك فلكي يهدموا ضلالة تعدد الآلهة قال الآباء
بإله واحد تابعين الكتب المقدسة من كل جهة ومظهرين جمال الحق لكل إنسان يُسمى تحت
الشمس. وهذا ما فعله موسى الحكيم جداً أيضا قائلاً بكل وضوح “أسمع يا إسرائيل
الرب إلهك رب واحد” (تث 4: 6). وأيضا خالق الكل وربهم يقول في موضع آخر
“لا يكون لك آلهة أخرى أمامي” (خر 3: 20). وأيضا يتكلم بصوت الأنبياء
القديسين: “أنا الأول وأنا الأخر ولا إله غيري” (إش 6: 44). لذلك
فالآباء الممجدون جداً فعلوا أمراً ممتازاً إذ وضعوا قاعدة للإيمان بضرورة أن نفكر
ونقول إن الله واحد متفّرد بالطبيعة وبالحق، ومن ثم أعلنوا أنهم يؤمنون بإله واحد.

 

الله
الآب:

12.وأيضا
لقبوه بالآب ضابط الكل لكي بذكرهم الآب يظهرون الابن معه الذي به هو أب (وهو أي
الابن) قائم معه وكائن معه دائما. لأن الآب لم يصر أباً في زمن، بل كان دائماً ما
كأنه أي أباً. وهو كائن دائماً فوق كل ما هو مخلوق وهو في أعلي الأعالي. ولأنه
يضبط ويسود رباً علي الكل فهذا يجعل له مجداً لامعاً لا يُقارن.

 

الله
خالق:

13.وأيضا
يؤكد الآباء أنه خلق كل الأشياء التي في السموات والتي علي الأرض وهكذا يكون
اختلافه عن كل الخليقة أمراً معروفاً. لأنه لا يمكن المقارنة بين الخالق والمخلوق،
ولا بين غير الحادث و الحادث، ولا بين الطبيعة الخاضعة لنير العبودية والطبيعة
المزدانة بكرامات السيادة والمالكة لمجد إلهي لا يوصف وأعلي من مجد العالم.

 

يسوع
المسيح الابن، إله من إله:

14.ولكن
عندما تكلموا عن الابن، ولكي لا يظهر أنهم ينسبون إليه اسماً مشتركاً مثل الاسم
الذي يمكن أن يُنسب إلينا نحن أنفسنا — لأننا نحن ندعي أيضا أبناء (غلا 6: 4) —
فبكل فطنة وصفوة بتلك الأسماء التي بواسطتها يمكن أن يُدرك لمعان المجد الطبيعي
الذي فيه، والذي هو أعلا من الخليقة. لأنهم قالوا أنه “مولود غير مخلوق”
مدركين أنه من جهة الجوهر لا يُصَّنف مع المخلوقات، بل بالحري أكدوا بيقين أنه
مولود من جوهر الله الآب خلّواً من زمن وبطريقة تفوق الإدراك لأنه “في البدء
كان الكلمة” (يو 1: 1).

ثم
حينما يذكرون حقيقة الولادة بطريقة جيدة جدا (لنشرح هذه الحقيقة علي مستوي إنساني
لأجل المنفعة)، فإنهم يقولون إن الله الابن مولود من الله. لأنه حيثما تكون ولادة
حقيقية فيلزم من كل جهة تبعاً لذلك، أن نفكر وأن نقول إن المولود ليس من جوهر آخر غير
جوهر الوالد بل هو من نفس جوهر الذي ولده لأنه يناسب ويلائم منطقياً كونه من هذا
الجوهر.

 

15.فغير
الجسداني لا يلد بحسب الجسد بل بالحري بهذه الطريقة، أعني مثل (ولادة) النور من
النور، حتى أن النور الذي أشع يُعرف أنه في النور الذي أومض، وأنه منه بحسب الصدور
الذي لا يُنطبق به ولا يُعبّر عنه وأنه فيه بحسب وحدة الطبيعة وتطابقها. وهكذا نحن
نقول: إن الابن في الآب، والآب في الابن. فالابن يرسم في طبيعته الخاصة ومجده، ذلك
الذي ولده. وقد قال بوضوح لواحد من تلاميذه القديسين وهو فيلبس “ألست تؤمن
أني أنا في الآب والآب فيَّ. الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 9: 14،10). وقال
أيضاً “أنا والآب واحد” (يو 30: 10). وتبعاً لذلك فهو من نفس الجوهر مع
الآب. وهكذا أيضا فإننا نؤمن أنه إله حق وُلد من إله حق.

 

16.وإننا
سنجد أن اسم الولادة يُطلق أيضا علي المخلوقات وأعني ما قاله الله عن الذين من دم
إسرائيل: “ولدتُ بنين ونشأتهم..” (إش 2: 1س). إلا أن الخليقة تكتسب هذه
الدعوة في نظام النعمة. أما في حالة الذي هو ابنه بالطبيعة فإن هذا الاسم
(الولادة) لا يُستعمل علي سبيل المجاز، بل هو حقيقي من كل جهة. وبسبب هذا فهو وحده
بين الكل الذي قال “أنا هو الحق” (يو 6: 14). وهكذا فإن كل أحد يستعمل
اسم الولادة والبنوة عنه فإنه لا يتكلم بالكذب مُطلقاً لأن هذا هو الحق. وتبعاً
لذلك فكل معلمي أسرار الإيمان القديسين يحموا نفوسنا بكلامهم في كل مكان عن الآب
والابن وعن الولادة، وبقولهم إله حق من إله حق، وإن النور ينبعث من النور حتى أن
الولادة تكون غير جسمانية وبسيطة وتُفهم علي أنها منه وفيه، وأن كلاً منهما موجود
بشخصه الخاص. لأن الآب هو آب وليس ابناً والابن هو المولود وليس هو آباً. وكل
منهما يكون ما كان عليه، ولهما في وحدتهما نفس الطبيعة..

 

الابن
خالق:

17.ولكنهم
بعد أن أكدوا أن الآب هو خالق كل الأشياء، ما يُرى وما لا يُرى، فإنهم قالوا إن كل
الأشياء قد خلقت بالابن، لا بسبب أنهم نسبوا للابن نصيباً أقل من المجد، حاشا.
لأنه كيف يمكن أن يُرى ما هو أقل أو أكثر في وحدة الجوهر؟ ولكنهم يقولون إن الله
الآب بطبيعته لا يخلق أو يدعو أي شيء إلى الوجود بأي طريقة أخري سوى بالابن في
الروح أي بقوته الذاتية وحكمته لأنه مكتوب “بكلمة الرب تأسست السموات وبنسمة
فيه كل جندها” (مز 6: 32س). ويوحنا الحكيم جداً بتأكيده بالقول “في
البدء كان الكلمة والكلمة كان نحو الله وكان الكلمة الله” (يو 1: 1)، يضيف بالضرورة
“كل شيء به صار وبغيره لم يصر شيء مما صار” (يو 3: 1).

 

التجسد
والتأنس:

18.وتبعاً
لذلك فبعد أن أثبت الآباء أن الابن من نفس الجوهر مع الآب ومساو له في المجد وفي
العمل، كان من المفيد أن يذكّرونا بتأنسه. وأعلنوا سر التدبير بالجسد محدّدين
بصواب تام أن تقليد (تسليم) الإيمان سيكون بسبب هذا كاملاً وكافياً في ذاته. فليس
كافياً للذين يؤمنون به أن يوقنوا ويفكروا أن الإله وُلد من الله الآب وهو من نفس
الجوهر معه ورسم أقنومه (عب 3: 1). بل كان من الضروري أن يعرفوا بالإضافة إلى ذلك
أنه تنازل مخلياً نفسه من أجل خلاص الكل وحياتهم، وأخذ صورة عبد وجاء إنساناً
مولوداً من امرأة (غلا 4: 4) بحسب الجسد.

 

19.وبسبب
هذا قالوا: “الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل وتجسد وتأنس”.
لاحظوا كيف تصير هذه العبارة بنظام وترتيب مناسب جداً. وقد قالوا إنه نزل لكي نعرف
بهذا أن الرب هو فوق الكل بالطبيعة وبالمجد، وأيضا نزل من أجلنا، وأنا أعني أنه
كانت له الرغبة أن يأتي إلى مشابهتنا ويضئ علي العالم بالجسد لأنه مكتوب في سفر
المزامير “سيأتي الله إلهنا ظاهراً ولن يصمت” (مز 3: 49س).

 

20.ولكن
يمكن لمن يريد أن يفسر نزوله بصورة أخرى، أي كنزول من السماء أو من فوق أو من أبيه،
فمن عادة الكتب المقدسة أن توضح ما يعلو علي أفكارنا بكلمات مناسبة لنا، ولذلك قال
الرب حينما كان يتحدث مع التلاميذ القديسين: “” خرجت من الآب وأتيت
وأيضا أترك العالم وأذهب إلى الآب” (يو 28: 16)، وأيضا “أنتم من أسفل.
أما أنا فمن فوق” (يو 23: 8). وبالإضافة إلى ذلك “خرجت من الآب
وأتيت” (يو 42: 8). ويوحنا الموحى إليه من الله يكتب “الذي يأتي من فوق
هو فوق الجميع” (يو 31: 3). ورغم أنه كائن في أعلى الأعالي وهو بحسب الجوهر
فوق الكل مع أبيه إذ أنه متوج معه بوحدة الطبيعة، فهو “لم يحسب خلسة أن يكون
معادلاً لله لكنه أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس، وإذ وُجد في
الهيئة كإنسان وضع نفسه” (في 6: 2-8).

 

21.لأن
الكلمة الذي هو الله أخذ جسدنا ومع ذلك فقد بقى إلهاً ولهذا السبب يقول بولس
المقدس جداً أنه صار في شبه الناس ووُجد في الهيئة كإنسان، لأنه كان الله — كما
قلت — في شكلنا البشري مماثلاً لنا، ولم يأخذ جسد بلا نفس كما ظن بعض الهراطقة بل
بالحري جداً تحييه نفس عاقلة. لذلك قال الآباء إن الكلمة الذي خرج من جوهر الآب،
الابن الوحيد الجنس، الإله الحق من الإله الحق، النور من النور، الذي به خُلقت كل
الأشياء، نزل وتجسد وتأنس، أي أنه احتمل الولادة بحسب الجسد من امرأة وجاء في
شكلنا، وهذا هو معنى أنه تأنس.

 

22.لذلك
يوجد رب واحد يسوع المسيح هو بذاته الكلمة الوحيد الجنس للآب، الذي صار إنساناً
وهو لم يَتَخلَّ عن ما كان عليه لأنه بقى إلهاً في بشريته، والسيد في صورة عبد،
محتفظاً بملء ألوهيته في إخلائه ليكون مثلنا. وهو رب القوة في ضعف الجسد، وفى قياس
(قامة) بشريته كان يملك ما هو فوق كل الخليقة خاصاً به. لأن ما كان عليه قبل الجسد
كان خاصاً به ولا يمكن أن يُفقد، لأنه كان إلهاً، وهو الابن الحقيقي، والوحيد
الجنس، والنور، والحياة، والقوة أما ما لم يكن عليه فإنه يُرى أنه قد أخذه مضافاً
من أجل التدبير (التجسد)، لأنه جعل ما يخص الجسد خاصاً به، لأن الجسد لم يكن جسد
شخص آخر غيره بل بالحري جسده متحداً به بطريقة تفوق الوصف والتعبير. ولذلك يقول
يوحنا الحكيم: “الكلمة صار جسداً” (يو 14: 1). وهو صار جسداً لا لأنه
تغير إلى طبيعة الجسد بانتقال أو تحول أو تغير، ولا لأنه تعرض لاختلاط أو امتزاج
في الجواهر كما ثرثر بعض الناس، لأن هذا مستحيل، إذ هو بالطبيعة غير متغير ولا
متحول كما قلت، بل بالحري أخذ جسداً تحييه نفسّ عاقلة من جسد عذراوي غير دنس،
وجعله جسده الخاص.

 

23.ولكنه
من عادة الكتاب الموحى به أن يشير إلى الإنسان كله بكلمة “جسد” فقط لأنه
يقول “سأسكب من روحي على كل جسد” (يؤ 28: 2س). فإن الله لم يُعط وعداً
بأنه سيرسل روحه على جسد بدون نفس عاقلة تحييه، بل بالحري إلى الإنسان المركب من نفس
وجسد. لذلك صار الكلمة إنساناً دون أن يكف عن أن يكون ما كان عليه، ولكنه بقى هو
الكلمة حتى حينما ظهر في شكلنا.

 

24.فالمسيح
لم يُعرف أنه إنسان أولاً وبعد ذلك تقدم ليصير إلهاً، بل إن الكلمة، إذ هو الله،
صار إنساناً، لكى في نفس الكيان يُعرف هو نفسه الإله والإنسان معاً. إلاّ أن أولئك
الذين يقسمونه إلى ابنين ويجسرون أن يقولوا أن الله الكلمة اتصل بالإنسان الذي من
نسل داود وأعطاه نصيباً في استحقاق وفي كرامة وفي رتبة البنوة، وأعده ليحتمل
الصليب، وليموت، ويقوم ثانية، ويصعد إلى السماء، ويجلس عن يمين الآب، لكي يُعَبد
من كل الخليقة، وينال الكرامات بواسطة ارتباطه بالله. هؤلاء أولاً يكرزون بابنين،
وثانياً بجهل يقلبون معنى السر. لأنه، كما قلت، إن المسيح لم يصر إلهاً من إنسان
بل إذ كان الكلمة هو الله فإنه صار جسداً أي إنساناً.

 

25.وقيل
عنه أنه أخلى نفسه، حيث إنه قبل الإخلاء كان له الملء بطبيعته الخاصة، كما هو
معروف أنه إله. فهو لم يرتفع إلى الملء كواحد من الخليقة التي كانت فارغة بل
بالحري وضع نفسه في الأعالي الإلهية ومن المجد الذي لا يُنطق به، وهو لم يكن
إنساناً متواضعاً ثم رُفع بتمجيده. بل هو الحر أخذ صورة عبد، فهو لم يكن عبداً
ارتفع إلى مجد الحرية. وهو الذي إذ كان في صورة الآب ومساوياً له صار في شبه الناس.
ولم يكن إنساناً اغتنى باشتراكه في مشابهة الله. فلماذا إذن يقلبون كلام التدبير
ويزيفون الحقيقة ويحاربون جميع الكتب الموحى بها التي تعترف أنه هو الله، وبعد أن
صار الابن إنساناً تسميه في كل موضع، الابن الوحيد؟

 

26.ولذلك
كتب موسى في سفر التكوين، أن يعقوب الإلهي أرسل أولاده عبر مخاضة (يتبوق) وبقي هو
وحده وصارعه إنسان حتى مطلع الفجر. ودعا يعقوب اسم ذلك المكان “مرأى
الله” لأنه قال رأيت الله وجهاً لوجه ونجِّيت نفسي” “وأشرقت له
الشمس إذ عبر “مرأى الله” وكان يعرج من فخذه” (تك 31: 32-32).
فبواسطة البطريرك (يعقوب) سبق الله فاخبر أن كلمته الوحيد الجنس سوف يصير إنساناً
في الوقت المعين وأن إسرائيل سوف يقاومه، ولن يتصرف الإسرائيليون باستقامة من جهته
ولكن كما لو سيكون أعرجاً كما يقول الله في نغم المزمور: “الأبناء الغرباء
كذبوا عليَّ. الأبناء الغرباء قد شاخوا وخرجوا من طرقهم يعرجون” (مز 45: 17-46س).
وأظن أن هذا هو معنى أن يعقوب كان يعرج من فخذه. ولكن لاحظوا هذا: فبرغم أن
إنساناً كان يصارع معه، فقد قال أنه رأى الله وجهاً لوجه ودعا (ما رآه) “مرأى
الله”.

 

27.لأن
الابن بقى (كما هو) كلمة الله رغم أنه صار إنساناً، لكونه (أيضا) غير قابل للتغير
على الإطلاق. ولذلك قال لفليبس مُظهراً نفسه أنه “رسم أقنوم” الآب (أنظر
عب 3: 1) وهو في الجسد (بقوله): “من رآني فقد رأى الآب” (يو 9: 14).
ولكن حينما شُفى الرجل الأعمى منذ ولادته، ولما قال له “أتؤمن بابن
الله” فأجاب وقال “من هو يا سيد لأؤمن به؟ فقال له يسوع “قد رأيته
والذي يتكلم معك هو هو” (يو35: 9-38). فالرجل الأعمى لم يره غير محجوب أي
بدون الجسد بل بالحري في الهيئة مثلنا. وآمن بذلك الذي رآه لا كابن متصل بابن آخر
بل (آمن) بمن هو حقاً بالطبيعة ليس بدون جسد، وهو الذي أشرق بنوره (للناس) الذين
على الأرض.ويقول موسى الموحى إليه من الله في كلمات البركة “أعطوا للاوي
إعلانه (تميمه) وللرجل القديس حقيقته (اوريمه) الذي جربوه في التجربة (مسة)
وخاصموه على ماء الإسخاط (مريبة). وقال لأبيه ولأمه “أنا لم أبصركما”،
ولم يعترف باخوته” (أنظر تث 8: 33،9س).

 

28.لأن
إله الكل قد رتب ثوباً حتى القدمين لهارون، منسوجاً بدقة، وكان هذا الثوب لرئاسة
الكهنوت فقط وخاصاً بها. وعلى صدرة رئيس الكهنة عُلقت حجارة معينة عددها اثنا عشر
حجراً، وفى وسطها وُضع حجران آخران هما: الإعلان (تميم) والحقيقة (أوريم). وبواسطة
لغز هذه الحجارة توجد إشارة واضحة إلى خورس الرسل القديسين كما لو كانوا في دائرة
حول عمانوئيل الذي هو “الإعلان”، و”الحقيقة”، لأنه أعلن
الحقيقة بأن أبطل عبادة الله من خلال الظلال والأمثلة وكيف يمكن أن يكون هناك شك
أن كلمة الله الوحيد الجنس قد صار رئيس كهنتنا عندما صار إنساناً، لأن بولس الموحى
له من الله كتب كما يلي: “لاحظوا رسول ورئيس كهنة اعترافنا، يسوع، حال كونه
أميناً للذي أقامه” (عب 1: 3،2)، لأن كرامة الكهنوت ستُعرف بصواب أنهم ملائمة
لمقاييس بشريته، وهي بالطبع، من ناحية أقل من طبيعة كلمة الله ومجده، ولكنها من
ناحية أخرى تتفق مع تدبير الجسد، لأن الأمور البشرية قد صارت خاصة به. وتبعاً لذلك
يقول: “أعطوا للوي — أي الكاهن — الإعلان والحقيقة” (أنظر تث 8: 33س).
ولأية نوعية من لاوي — أي الكاهن — قال حينما ذكر بوضوح: “وللرجل القديس
حقيقته”، لأن ربنا يسوع المسيح لم يفعل خطية؟ (أنظر 1بط 22: 2)، ولذلك يكتب
بولس عنه: “لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد
انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات” (عب 26: 7). لأنهم “جربوه في
التجربة وخاصموه على ماء الإسخاط (مريبه)” (أنظر تث 8: 33).

 

29.يا
للأمر العجيب! فهو يقول إنه إنسان ولكنه يعلن مباشرة أن الذي أسخطه إسرائيل وجربه
في البرية على ماء الإسخاط، هو هو الله، ويشهد المرنم قائلاً: “شق صخرة في
البرية، وأعطاهم ليشربوا كأنه من لجج عظيمة وأخرج ماء من صخرة وأجرى مياهاً
كالأنهار” (مز 15: 77،16). وماذا بعد هذا؟ يقول: “جربوه في قلوبهم”
وافتروا على الله قائلين: “هل يقدر أن يهيئ مائدة في البرية، لأنه ضرب صخرة
فجرت المياه وفاضت الأودية؟، هل يقدر أيضا أن يعطي خبزاً أو يهيئ مائدة
لشعبه؟” (مز 18: 77-20س). لذلك تدر كيف تبجحوا على الله الذي صنع المعجزات
وهو الذي يقول موسى عنه إنه إنسان. وقد أدر بولس الموحى إليه ذلك أيضا فكتب: “وكانوا
يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح” (1كو 4: 10).

لذلك
فالإنسان الذي خاصموه، كان هو الذي جُرب من الذين هم من إسرائيل ولم يكن قد تجسد
بعد. لأن موسى قد أكد بدليل آخر أن الذي كان قبل أن “يصير جسداً” لم يكن
ابناً آخر، والذي من نسل داود لم يكن أبناً آخر غيره كما يتجاسر البعض أن يقولوا.
ولكنه هو واحد وهو نفسه الكلمة الذي كان عارياً (من الجسد) قبل تجسده. وهو الذي
تجسد وتأنس بالميلاد من العذراء القديسة كما كتب الآباء القديسون المُلهمون من
الله.

 

30.لأنه
كما لو أن واحداً كان يسأل ويرغب أن يعرف عن أي إنسان كان يتكلم، والذي يقول عنه
إنه قد جربه وخاصمه أولئك الذين من إسرائيل، وهو بمد يده يشير إي يسوع ويقول: “الذي
قال لأبيه ولأمه أنا لم أبصركما، ولم يعترف بأخوته” (تث 9: 33). وهذا يذكرنا
بما كتبه أحد البشيرين القديسين حينما كان المسيح يعلم ويرشد بعض الناس وجاءت أمه
وإخوته وحينئذ ركض إليه واحد من التلاميذ وقال “أمك وأخوتك واقفون خارجاً
ويريدون أن يروك” (لو 20: 8). وهو بعد أن مد يده وأشار إلى تلاميذه قال: “أمي
وأخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها” (لو 21: 8)، “لأن كل من
يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي” (مت 50: 12). وهذا ما أعتقد
أنه هو نفس ما قاله موسى: “الذي قال لأبيه ولأمه أنا لم أبصركما، ولم يعترف
بأخوته”. ودانيال الحكيم جداً يقول أيضاً إنه رأى كلمة الله الوحيد الجنس في
هيئتنا لأنه يقول إنه قد رأى القديم الأيام جالساً على عرش وربوات ربوات وقوف
قدامه وألوف ألوف يخدمونه. وبعد عدة عبارات أضاف دانيال: “كنت أرى في رؤيا
الليل مثل ابن إنسان آتياً على سحب السماء، وحينما جاء إلى القديم الأيام وقربوه
قدامه أُعَطِىَ كرامة وملكوتاً وسوف تتعبد له كل الأجناس والألسنة” (دا 13: 7،14س).انظروا
هنا عمانوئيل يرى بوضوح وجلاء صاعداً إلى الله الآب في السموات. لأن “سحابة
أخذته” (أع 9: 1) ذلك الذي يقول عنه إنه ليس مجرد إنسان بل “مثل ابن
إنسان”. لأن الكلمة الذي صار في هيئتنا كان هو الله. وبهذا الفهم يقول بولس
الحكيم إنه “صار في شبه الناس” (في 7: 2) وإنه “وُجد في الهيئة
كإنسان” (في 8: 2) وإنه ظهر للذين على الأرض “في شبه جسد الخطية”
(رو 3: 8).

 

31.ولكن
لو أنه كان إنساناً وقد كُرِّمَ كإله بسبب اتصاله بالله، لكان النبي دانيال قد قال
إنه رأى واحداً آتياً على السحب كما لو كان إلهاً أو كما لو كان ابن الله. ولكنه
لم يقل هذا بل بالحري قال “مثل ابن الإنسان”. لذلك عرف أن الابن هو إله
وقد تأنس، أي أنه صار “في شبه الناس” كما قال بولس. ورغم أنه ظهر في
الجسد، “جاء إلى القديم الأيام” (أنظر دا 13: 7،14)، أي أنه صعد على عرش
أبيه الأزلي “وأُعطي الكرامة والملكوت، وسوف تتعبد له كل الأجناس
والألسنة”. وهذا هو نفس ما قاله هو: “أيها الآب مجدني بالمجد الذي كان
لي عندك قبل كون العالم” (يو 5: 17). وكون كلمة الله المتجسد يجلس معه (مع
الله) وإنه مساو لله الآب في المجد، ورغم أنه (جاء) بالجسد، فهو ابن واحد حتى
حينما صار إنساناً، هذا ما يوضحه بولس الحكيم جداً حينما يكتب: “لنا رئيس
كهنة مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في الأعالي” (عب 1: 8). وفي الحقيقة،
فإن ربنا يسوع المسيح نفسه، حينما سأله اليهود إن كان حقاً هو نفسه المسيح، أجاب: “إن
قلت لكم لا تصدقون وإن سألت لا تجيبونني.. ومنذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن
يمين قوة الله” (لو 67: 22-69). وهكذا أيضا فإن خورس الأنبياء القديسين رأى
الابن متأنساً على عرش الألوهية.

 

32.هلم
بنا لنرى أيضا كارزي العهد الجديد، الذين هم معلموا أسرار الإيمان لكل الذين تحت
الشمس، والذين قال المسيح نفسه لهم: “لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي
يتكلم فيكم” (مت 20: 10). ولذلك سوف نجد المعمدان الموحى له يقول: “يأتي
بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي” (يو 30: 1) ولكن كيف يكون قبل المعمدان
وهو قد جاء بعده؟ ألا يكون واضحاً للجميع أن المسيح كان بعد يوحنا بحسب زمن الجسد؟
لذلك، فبماذا يُجاب على هذه الأسئلة؟ لقد أعطانا المخلص الجواب عن ما نسأل عنه،
لأنه قال حينما كان يتكلم إلى اليهود “الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون
إبراهيم أنا كائن” (يو 58: 8). لأنه كان قبل إبراهيم من جهة ألوهيته ولكنه
عُرِفَ بعد إبراهيم حينما ظهر كإنسان. وحيث الله الآب أعلن بوضوح قائلاً: “مجدي
سوف لا أعطيه لآخر” (إش 8: 42)، لأنه “ليس إله آخر غيره” (إش 5: 45)
لذلك قال لنا المسيح: “عندما يأتي ابن الإنسان بمجد أبيه مع الملائكة
القديسين” (مز 38: 8). وحيث إننا ننتظر نزول ابن الإنسان من السماء، كما كتب
أيضا بولس الحكيم جداًك “لأنه قد ظهرت نعمة الله المُخلصة لجميع الناس معلمة
إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم
الحاضر منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد إلهنا ومخلصنا العظيم يسوع المسيح”
(تي 11: 2-13). وفي موضع يقول حينما يتحدث عن أولئك الذين من دم إسرائيل: “الذين
لهم المواعيد والاشتراع والعهد، ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً
مباركاً إلى الأبد” (رو 5: 9).

 

33.وتبعاً
لذلك، إذ نقتفي آثار اعتراف الآباء بدون انحراف، نقول إن كلمة الله الآب نفسه الذي
هو الابن الوحيد المولود منه، تجسد وتأنس، وتألم، ومات، وقام من بين الأموات في
اليوم الثالث. وكلمة الله يُعترف به أنه غير قابل للألم من جهة طبيعته الخاصة
-الإلهية-. ولا أحد فقد صوابه فيظن أن الطبيعة التي هي فوق كل الأشياء يمكن أن
تكون قابلة للألم. ولكنه بسبب أنه صار إنساناً وجعل الجسد الذي من العذراء القديسة
خاصاً به، لهذا السبب فنحن نؤكد بثبات تابعين كلمات التدبير أن ذاك الذي هو غير
قابل للتألم كإله، تألم في جسده الخاص إنسانياً. وإذ هو الله الذي صار إنساناً،
فهو لم يكف مطلقاً عن أن يكون إلهاً. وإن كان قد صار خليقة فهو أيضا قد ظل فوق
الخليقة. وإن كان واضع الناموس فقد صار تحت الناموس وظل مع ذلك واضع الناموس. وإن
كان هو السيد حسب ألوهيته فقد لبس “صورة عبد” (في 7: 2) ومع ذلك فلا
يزال له مقام السيد الذي لا يقبل الفقدان. وإن كان هو الابن الوحيد وقد صار
“البكر بين إخوة كثيرين” (رو 30: 8) فهو يظل مع ذلك الابن الوحيد. فما
هي الغرابة إن كان رغم تألمه في الجسد بحسب إنسانيته فهو يُعرف أنه غير متألم بحسب
ألوهيته؟ وهذا ما يقوله بولس الحكيم جداً، إن الكلمة نفسه الذي هو “في صورة
الله” (في 6: 2). ومساو لله الآب، “أطاع حتى الموت موت الصليب” (في
8: 2).

 

34.وفي
رسالة أخرى من رسالة يقول عنه: “الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة،
فإن فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى، سواء كان
عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خُلق، الذي هو قبل كل شيء
وفيه يقوم الكل” (كو 20: 15)، “والبكر من أموات” (كو 18: 1). ومع
ذلك فكلمة الله الآب هو الحياة ومعطي الحياة، حيث إنه ولد من الحياة أي من ذلك
الذي ولده. فكيف إذاً صار البكر من الأموات وبداْة الراقدين؟ فهو جعل الجسد القابل
للموت خاصاً به. وكما يقول بولس الحكيم جداً فإنه “ذاق الموت لأجل كل
واحد” (عب 9: 2) في جسده الذي كان قادراً أن يتألم دون أن يكف هو عن أن يكون
الحياة. لذلك حتى إن كان يُقال إنه تألم في جسده فهو لم يقبل الآلام في طبيعة
ألوهيته، وهكذا فإن إشعياء النبي المبارك، إذ عرف الله المتأنس المتألم بالجسد،
يقول عنه “كخروف سيق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها. في تواضعه رُفعت
عنه الدينونة. من يخبر بجيله لأن حياته رُفعت من الأرض” (إش 7: 53،8س).

 

35.ولكن
إن كان هو إنساناً ما، وقد اعتبر ابناً على حدة متصلاً بالله – كما يدعي المدافعون
عن العقائد المضادة للتقوى فكيف يكون من الصعب أن نجد إنساناً يستطيع أن يخبر
بجيله؟ فقد ولد من نسل يسى وداود (إش 1: 11). ولكن من هو الذي يستطيع أن يخبر
بميلاده كلمة الله أي كيفية ميلاده؟ فإن “حياته رفعت من الأرض”، أي
وجوده، لأنه قد بذل حياته وليس وجوده. فقد رُفع عالياً وصار فوق جميع الذين على
وصار فوق جميع الذين على الأرض (أنظر أف 8: 4-10). لأن الكلام عن تلك الطبيعة
الفائقة أمر يفوق الفهم وليس في متناول عقول البشر.

وأضيف
أيضا هذه الكلمات لما سبق وقلته “ربٌ واحدٌ، إيمانٌ واحدٌ، معمودية
واحدة” كما يقول بولس المقدس جداً (أف 5: 4). لذلك إذ أن هناك رب واحد وإيمان
واحد ومعمودية واحدة، فمن هو الرب ومن هو ذاك الذي آمنا به واعتمدنا باسمه؟ ولكن
ربما يقول أحد إنه من المناسب تماماً أن تتحقق الربوبية والإيمان الذي لنا،
والمعمودية المخلِّصة؛ في الكلمة الذي هو من الله الآب. ولهذا أوصى رسله القديسين
قائلاً: “أذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”
(مت 18: 28،19).

 

36.وبولس
الموحى إليه يوضّح مجد ربوبيته والاعتراف بالإيمان وقوة المعمودية المقدسة بقوله
“لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية
ليُصعد المسيح من الأموات، وكلن ماذا يقول الكتاب؟ الكلمة قريبة منك، في فمك وفي
قلبك.. لذلك إن اعترفت أن يسوع رب، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الموت، فسوف
تخلص” (رو 6: 10-9).

 

37.ويكتب
أيضاً ألستم تعلمون أننا كل من أعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته” (رو 3: 6).
وها بولس يضع بوضوح ومهارة الاعتراف بربوبية وبالإيمان ونعمة المعمودية المقدسة
نفسها في ذاك الذي عانى الموت وقام من بين الأموات. إذن هل يا ترى نحن نؤمن
بابنين؟ هل ننصرف عن الكلمة الذي اشرق من الله الآب وننسب مجد الربوبية والاعتراف
بالإيمان نفسه ومعموديتنا السماوية إلى ابن آخر مختلف عنه، أي إلى الابن الذي
تألم؟ ولكن التفكير والكلام بهذه الطريقة أليس هو حماقة أكيدة بل أكثر من ذلك هو
كفرٌ لا جدال فيه؟

 

38.وإذاً
ماذا نقول؟ “رب واحد بالحق، وإيمان واحد، ومعمودية واحدة” (أف 5: 4).
لأنه ابن ورب واحد، وليس أن الكلمة اتخذ إنساناً بحسب الاتصال وأعلن أنه شريك
لكرامته الخاصة، ونقل إليه البنوة والربوبية، كما يقول ويكتب بعض الذين يهزون.
ولكن هو الكلمة الذي من الله، النور الذي من النور، الذي تأنس وتجسد. ونحن نعتمد
في موت ذاك الذي تألم إنسانياً في جسده الخاص، ولكنه ظل غير متألم إلهياً وحياً
على الدوام، لأنه هو الحياة من حياة الله الآب. لذلك، هُزِمَ الذي تجاسر أن يهاجم
جسد الحياة، وهكذا أيضا أُبيد الفساد الذي فينا وضعف سلطان الموت نفسه، ولذلك يقول
المسيح: “الحق الحق أقول لكم، إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه،
فليس لكم حياة فيكم” (يو 53: 6).

 

الإفخارستيا
تعطي الحياة:

39.لذلك
فجسد المسيح ودمه المقدسان هما معطيان للحياة. وكما قلت فهذا الجسد ليس جسد إنسان
ما يشترك في الحياة بل بالحري هو نفس جسد الحياة حسب الطبيعة. وبوضوح هو جسد الابن
الوحيد.إن خورس الآباء القديسين المحبين للمسيح يعتقدون معنا بهذه التعاليم كما
يعتقد بها أيضا ذلك الذي يزين الآن عرش كنيسة القسطنطينية المقدسة، أخونا المقدس
جداً والمتقي لله جداً والشريك معنا الأسقف بروكلس. لأنه هو نفسه كتب أيضا لأساقفة
الشرق المحبين لله جداً بهذه الكلمات الآتية: “والذي بلا شكل منظور تجسد بدون
تغيير، والذي هو بلا بداية وُلد حسب الجسد، والذي هو كلي الجمال بالطبيعة ينمو في
السن” (لو 52: 2) حسب الجسد، والذي يعلو فوق الآلام يحتمل الآلام، ويحتمل
الإهانات ليس في ذاك الذي كان عليه بل قَبِلَ الآلام الجسدية في ذاك الذي صار إليه.
وتبعاً لذلك فالإيمان الرديء الذي لأولئك الذين يفكرون أو يكتبون أشياء مخالفة لهذا،
يتبرهن من كل جهة أنه إيمان مريض بما هو دنس وغير متوافق مع تعاليم الحق.

 

الروح
القدس:

40.وبعد
أن أنهى الآباء المثلثو الغبطة كلامهم عن المسيح، فإنهم ذكروا الروح القدس لأنهم
قالوا إنهم يؤمنون به كما يؤمنون — بداهة — بالآب والابن. لأنه من نفس الجوهر
معهما، وهو ينسكب أي أنه ينبثق من ينبوع الله الآب ويُمنح للخليقة بواسطة الابن.
لهذا نفخ في الرسل القديسين قائلاً: “أقبلوا الروح القدس” (يو 22: 20).
لذلك فالله الروح هو من الله وليس غريباً عن الجوهر الذي هو أعلى من الكل، بل هو
من ذلك الجوهر وهو كائن فيه وهو خاص به.

 

41.ولذلك
فهذا هو إيمان الآباء القديسين القويم والثابت، أي اعتراف الإيمان ولكن كما يقول
بولس: “إله هذا الدهر أعمى أذهان غير المؤمنين لكي لا تضئ لهم إنارة إنجيل
مجد المسيح” (2كو 4: 4). وهكذا فالبعض بعد أن تركوا السير في طريق الحق
المستقيم، اصطدموا بالصخور، “لأنهم لا يفهمون ما يقولونه، ولا ما
يقرّرونه” (1تي 7: 1). لأنهم بعد أن ينسبوا مجد البنوة للكلمة المولود من
الله الآب فقط، يقولون إن ابناً آخر الذي هو من نسل داود ويسى قد اتصل به وشارك في
البنوة وفي الكرامة اللائقة بالله وفي حلول الكلمة نفسه وأنه يأخذ منه كل شيء،
وأنه ليس له شيء خاص به إطلاقاً.

 

42.وأعتقد
أن تلاميذ المخلص كتبوا بخصوص مثل هؤلاء هكذا: “دخل خلسة أناس قد كُتبوا منذ
القديم لهذه الدينونة، فجّار يحولون نعمة إلهنا إلى الدعارة وينكرون السيد الوحيد
والرب يسوع المسيح” (يهوذا 4). ولكن يسوع المسيح يجب أن يدعى بحق، الكلمة
الذي ظهر في هيئة إنسان. إذن دع أولئك الخصوم، الذين بغباء كثير لا يتخلون عن
التفكير والكلام بتعاليم نسطور وثيؤدورس، أن يجيبوا على من يسألونهم هذا السؤال: “هل
ترفضون التعليم بأن الذي من العذراء القديسة هو إله وهو الابن الحقيقي لله فالآب
لأنكم تنسبون الآلام له وحده ولا تعترفون به أنه كلمة الله لكي لا يُقال أن الله
قابل للتألم؟ لأن هذا هو ما اكتشفوه بادعائهم التدقيق وهذه هي فظاظة أفكارهم. لذلك
فلا ينبغي لهم أن يدعوا كلمة الله الآب – على حدة – بالمسيح. لأنه كما أن الآلام
هي غريبة عنه حينما يُنظر إليه بدون الجسد، هكذا أيضا المسحة هي أمر لا يليق به بل
هي غريبة عنه لأن “الله مسح يسوع الناصري بالروح القدس” (أع 38: 10)،
أما كلمة الله فهو كامل تماما فأفرح ذاته ولا يحتاج للمسحة بالروح القدس. وهكذا
أنكروا التدبير، وحولوا الابن الوحيد بعيداً عن محبته للعالم، ولا تدعونه بالمسيح!
ألم يكن أمراً صغيراً بالنسبة له أن يصير فأفرح القامة مثلنا. وتبعاً لذلك فحيث إن
هذا أيضا غير لائق به، فلا تدعوا أحداً يعترف أنه صار إنساناً، كى يقول لهم المسيح
هم أيضا “تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله” (مت 29: 22).

 

43.وتبعاً
لذلك، فلنهرب من ابتدعاتهم الهدامة أولئك الذين دبروا أن يفكروا هكذا، لأننا
نعتبرهم أعداء الحق. ودعونا بالحري نتبع تعاليم الآباء القديسين وتسليم الرسل
والإنجيليين السابقين. فالكلمة المتأنس نفسه قد تكلم فيهم، الذي به ومعه لله الآب،
الكرامة والمجد والقوة مع الروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى