[ أما رؤية القديسين فهي لا تقترن بالاضطراب أو الارتباك لأنهم " لا يخاصمون ولا يصيحون ولا يسمع أحد في الشوارع صوتهم " ( أنظر مت 12 : 19 ) ، فرؤيتهم تأتي بهدوء ورقة حتى أنه في الحال يحل في النفس الفرح والبهجة والشجاعة ، لأن الرب الذي هو فرحنا هو الموجود معهم مع قوة الله الآب ، فتظل أفكار النفس غير مشوشة أو منزعجة ، حتى إنها تُعاين بنفسها الذين يظهرون لها وكأنها قد استنارت بأشعة نورانية ، لأن محبة الإلهيات والأمور العتيدة تتملكها ، فتشتهي بإرادتها أن تنضم إليهم بكليتها إن استطاعت أن ترحل معهم .
ولكن إن كان البعض كبشر يخافون من رؤية الصالحين فإنهم بظهورهم ينزعون الخوف في الحال ، كما فعل الملاك جبرائيل مع زكريا ( لو 1 : 13 ) ، وكما فعل الملاك الذي ظهر للنسوة عند القبر المقدس ( مت 28 : 5 ) ، وكما فعل ذاك الذي قال للرعاة في الإنجيل : " لا تخافوا " ( لو 2 : 10 ) ، ذلك لأن خوفهم لم يتأتَّ ( أي لم ينتج ) عن جُبن بل عن إحساس بحضور كائنات عُليا . إذن فهذه هي طبيعة الرؤى التي يظهر فيها القديسون .
أما أغارات الأرواح الشريرة واستعراضاتها فهي تكون مقترنة بالاضطراب والطنين وأصوات وصرخات مثل الشغب الذي يحدث من الصبية الأردياء أو اللصوص ومن ذلك ينشأ الخوف في القلب والاضطراب وتشويش الفكر والكآبة والكراهية للذين يعيشون حياة النسك ، وعدم المبالاة والحزن وتذكر الأهل والخوف من الموت ، وأخيراً الرغبة في الشرور وعدم احترام الفضيلة والعادات غير المستقرة .
لذلك كلما رأيتم أي شيء وخفتم ، فإن انتُزع خوفكم في الحال وحلَّ مكانه فرح لا يُعبَّر عنه وابتهاج وشجاعة وقوة متجددة وهدوء للفكر وكل ما ذكرته سابقاً ، والجرأة والمحبة نحو الله ، فتشجعوا وصلوا ، لأن الفرح واستقرار النفس وطمأنينتها تدل على قداسة ذاك الذي هو حاضر في الرؤية ، هكذا كان فرح إبراهيم عندما رأى الرب ( يو 8 : 56 ) ، ويوحنا المعمدان أيضاً فرح وارتكض بابتهاج عندما سمع صوت مريم حاملة الإله ( لو 1 : 41 ، 44 )
أما إذا حدث عند ظهور أي شخصية اضطراب وصخب ومظاهر دنيوية وتهديد بالموت والأمور الأخرى التي سبق أن ذكرتها ، فاعلموا أن هذا هو هجوم من الأرواح الشريرة . ولتكن هذه أيضاً علامة لكم :
إذا ظلت النفس منزعجة كان هذا معناه وجود الأعداء ، لأن الشياطين لا تنزع الخوف المنبعث من حولها كما فعل رئيس الملائكة العظيم جبرائيل مع العذراء مريم وزكريا ، وكما فعل ذاك الذي ظهر للنسوة عند القبر . ولكنها كلما رأت الناس خائفين ازدادت بالحري في خداعاتها لكي يزدادوا رُعباً ، وفي نهاية الهجوم تهزأ بهم قائلة " خروا واسجدوا " ... هكذا أضلَّت اليونانيين ( الوثنيين ) ، وهكذا اعتبروها آلهة زوراً وبهتاناً . أما الرب فلم يسمح بأن يُضلَّلنا إبليس ، لأنه كلما صوَّب نحوه ضلالات كهذه كان ينتهره قائلاً : " أذهب عني يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " ( مت 4 : 10 ) . إذن فلنحتقر المضلّ أكثر فأكثر ، لأن ما قاله الرب تممه من أجلنا ، حتى إذا ما سمعت الشياطين منا كلمات مماثلة هربت من قِبَل الرب الذي انتهرها بتلك الكلمات . ]
( عن عظة للقديس الأنبا أنطونيوس الكبير تحت عنوان حياة – عن كتاب فردوس الآباء ( بستان الرهبان الموسع ) الجزء الأول – إعداد رهبان ببرية شيهيت – الطبعة الثالثة 2008 – ص 121 و ص 122 ؛ فقرة 16 و 17 )