مقالات

القداس الإلهي سر الشركة – طعام حياة الخلود

القداس الإلهي سر الشركة
طعام الحياة الخلود

القداس الإلهي هو سر عشاء الرب المقدم لنا منذ العصر الرسولي وإلى يوم مجيئه في نهاية الزمان ، وفيه يقدم لنا ذاته طعاماً للحياة الأبدية: [ كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي ] (يوحنا 6: 57)، وهذا ما يُسمى عند الآباء ترياق الخلود، لأن في المسيح وحده لنا الحياة الأبدية التي لا تزول فنحيا للأبد فيه وبه …

القداس الإلهي سر الشركة - طعام حياة الخلودأن اتحاد الأطعمة بالجسم البشري لها فعل وعمل حيوي وضروري إذ تتحول لغذاء يغذي خلايا الجسد كله ويمده بالقوة اللازمة للحياة والصحة، وفي العهد القديم حينما أخرج الله شعب إسرائيل من تحت نير العبودية في مصر إلى البرية أعطاهم طعام المن لكي يتقووا في الطريق ويقدروا أن يواصلوا طريقهم لأرض الميعاد حسب وعد الله، ولذلك إذ شاء الرب يسوع لعظمة محبته التي لا تُحدّ أن يصيرنا معه واحد لنحيا به ونقوى على المسير في برية هذا العالم ورحله صعودنا معه للمجد، أعطانا ذاته بشكل طعام وشراب في سر الشكر أي الإفخارستيا، سرّ لا يُشرح ولم يشرحه قط، بل سرّ نناله وندخل فيه ونحياه كما هو بلا فحص، نأخذه بالإيمان وتمسك بكلمته [ من يأكلني يحيا بي ] !!!

ولكن الفرق ما بين الطعام الإلهي والطعام العادي، هو أن الطعام العادي يتحول إلينا ويدخل في خلايانا البشرية الجسدانية ويدخل في مرحلة الهضم والتوزيع على الأعضاء لتغذيتها وفي النهاية ينتهي بالفائدة منه والذي ليس له حاجة في الجسم ينتهي لفضلات نتخلص منها !!!
بينما الطعام الإلهي عندما نتناوله يحولنا إليه، أي نتغير إليه سراً، وتسري فينا حياة الله، فتنبض في داخلنا قوة حياة تعتقنا من سلطان الخطية والموت وتفكنا منه، ويُمكنا أن نردد في هذه الحالة على مستوى الخبرة مع الرسول : [ أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ ] [ غلاطية 2: 19 ]

[ هذا هو الخبز الذي نزل من السماء ليس كما أكل آباؤكم المن و ماتوا، من يأكل هذا الخبز فانه يحيا إلى الأبد ] (يوحنا 6: 58)

فالرب يسوع المسيح في سر الإفخارستيا لا يتحول فينا إلى ما هو زائل كطعام عادي مثلما نأكل أي طعام أرضي، بل هو طعام سماوي يحولنا إليه ويطبع فينا ملامحه الخاصة بسر عظيم يفوق الفحص والشرح والتفسير، وتقول صلاة القسمة للقديس كيرلس عامود الدين في القداس الإلهي :
[ اشفِ أيها الرءوف نفوسنا الشقية بمراهم أسرارك المُحيية … عند استحالة الخبز والخمر إلى جسدك ودمك تتحول نفوسنا إلى مشاركة مجدك وتتحد نفوسنا بألوهيتك …
لكي بذوق لحمك نؤهل لذوق نعمتك، وبشرب دمك نؤهل لحلاوة محبتك.
وهبت لنا أن نأكل لحمك علانية، أهلنا للاتحاد بك خفية (سراً).
وهبت لنا أن نشرب كأس دمك ظاهراً، أهلنا أن نمتزج بطهارتك سراً.
وكما أنك واحد في أبيك وروحك القدوس نتحد نحن بك وأنت فينا … ] ( القداس الإلهي – قسمة القديس كيرلس الكبير )

هذا هو السرّ العظيم الذي للتقوى ولطاهرة أنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، والذي يعطينا اتحاد مستيكي سري مع المسيح يسوع الذي من فرط حبه وحنانه أعطانا ذاته قوت الحياة للأبد، ولنا أن نعلم علم اليقين أن دم المسيح يسوع هو دم ابن الله الحي الذي لا يمت بصلة للدم الذي نعرفه من جهة الفحص الميكروسكوبي، ولا يسري فينا مثل الدم البشري الذي يفنى، بل هو دم ابن الله الذي يحمل قوة الحياة، أي الحامل حياة يسوع الذي تسري فينا يتناوله فندخل في سر العتق من ناموس الخطية والموت، ومستحيل أي خدش في الجسد أو جرح بعد التناول، يجعلنا نفقد دم المسيح !!! ولو حتى تم قطع الرقاب مثل الشهداء بعد التناول، فلن نفقد دم ابن الله الحي، وذلك لأنه لا يتحول لدم ترابي قابل للسفك والفناء أي الفساد حاشا ، بل هو الذي أعطانا قوة الخلود، وهو سر قيامتنا وامتداد حياتنا للأبدية !!!

فالحقيقة الأرثوذكسية هي التي يُعبَّر عنها القديس بولس الرسول: بأن المائت يُبتلع بالحياة [ حتى يُبتلع المائت بالحياة ] ( 2 كورنثوس 9: 13 – 14 )
وأن دم المسيح [ يُطهر ضمائرنا من الأعمال الميتة ] ( عبرانيين 9: 13 – 14 )
ويقول القديس كيرلس الأورشليمي [ هذا الخبز المقدس الذي يوزع لغذاء النفس. هذا الخبز لا ينزل إلى الجوف، ولا يُدفع إلى المخرج (مت15: 17). ولكنه يتوزع على كل بنيتك لفائدة النفس والجسد ] ( عظة23: 15 )

إيماننا الحي هو أننا بالإفخارستيا نصبح أبناء القيامة حسب ما قال الرب نفسه، وحسب ما سلمنا الآباء، وحسب ما تشهد القداسات الإلهية، بل قد تعلمنا أن نقول دائماً: [ أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له ]، ويُشرح هذا القول في ثيئوطوكية الجمعة قائلة : [ هو أخذ جسدنا وأعطانا روحه القدوس وجعلنا واحداً معه من قِبَل صلاحه ]، ولهذا السبب يقول الآباء اننا تألهنا أي تقدسنا وسَرَت فينا حياة الله لنحيا مثله للأبد، نحيا معه في سر التقوى وملء المحبة التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا، الذي هو ذاته وبشخصه ساكن في كل واحد فينا بدون أن يتعدد او ينقسم أو يكون جزء منه موجود في واحد وفي الآخر جزء ثانٍ، حاشا، لأن هذا تفكير البشر الضعيف الذي لم يعرف الله بعد… فلنفرح ونحتفل كل أيام حياتنا بالإفخارستيا التي هي ترياق الخلود الذي منه وفيه حياتنا كلنا…
المجد لك ايها السيد الرب الكائن معنا اليوم وكل يوم، تعطينا ذاتك مأكل حق ودمك مشرب حق، لنصير في وحدة السرّ مع شخصك العظيم القدوس، فأهلنا أن ننال طهارتك سراً ونحيا بالإيمان الحي العامل بالمحبة، المجد لك آمين

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى