علم

الرعاه



الرعاه

الرعاه

مواعظ
أغسطينوس في الرعاة

“نحن
مسيحيون مثلكم ومترئّسون”

 

 لقد
وضَعْنا كل َّ رجائِنا في المسيح. وهو كلُّ مجدِنا الحقيقيِّ وخلاصُنا. وهذه أمورٌ
تعرفُها محبّتُكم من قديم. فأنتم خرافٌ من قطيِعه، وهو يُصغِي إلى شعبِه ويرعاه.
هناك رعاةٌ يريدون أن يُسَمِّيَهم الناسُ رعاةً، ولكنَّهم لا يريدون أن يقوموا
بمهامِّ الرعاة. فَلْنتأمَّلْ في ما يقولُ لهم الله على لسانِ النبيِّ. اسمعوا
أنتم بانتباه، فيما نسمعُ نحن برعدةٍ وخوف.

 “وكانت
إليَّ كلمةُ الرِّبِّ قائلاً: يا ابنَ الإنسانِ تنبأْ عَلَى رُعاةِ إسرائيلَ وقُلْ
لهم” (حزقيال34/1-2). لقد استمعْنا الآن إلى هذه القراءةِ تُقرأُ علينا.
نريدُ فيها شيئاً لقداستِكم. وسيساعدُنا هو نفسهُ لنقولَ الحقَّ، هذا إذا لم
نتكَّلمْ بما هو لنا. لأننا إذا تكلَّمنا بما هو لنا سنكونُ رعاةً نرعى أنفسنا، لا
الخراف. أما إذا تكلَّمْنا بما هو له، الذي يرعاكم أيّاً كان راعيكم. “هكذا
قالَ السيدُ الربُّ لِلرُّعاةِ: ويلٌ لرُعَاةِ إسرائيلَ الذينَ يرعَوْنَ أنفسَهُم.
أليسَ علَى الرُّعاةِ أن يرعَوِا الخِرافَ؟” (حزقيال 34/2). هذا يعني أنَّ
الرُّعاةَ لا يرعَون أنفسَهم بل الخراف. هذا هو السببُ الأولُ الذي من أجلهِ
يؤنِّبُ اللهُ هؤلاءِ الرعاةَ، لأنهَّم يرعَوْن أنفسهَم لا الخراف. ومَن يكونون
هؤلاءِ الذين يَرعَوْن أنفسَهم؟ يقولُ الرسولُ فيهم: “كلُهم يسعى إلى مَا
يَعُودُ لِنفسِهِ، لا إلى مَا يَعُودُ عَلَى يَسوعَ المسيحِ” (فيلبي2/21).

 

 فنحن
الذين أقامَنا الربُّ، بلطفِه لا لاستحقاقٍ فينا، في هذا المكانِ الذي سنؤدي عنه
حساباً دقيقاً، لا بدَّ من أن نميزَ بين أمرين: الأول أننا مسيحيون، والثاني أننا
مترئسون. نحن مسيحيون لأنفسنا، ومترئسون لكم. كمسيحيّين نحن نبحثُ عن نفعِنا
الروحيّ. وكرؤساءٍ فإننا لا نبحثُ إلا عن ما هو نافعٌ لكم.

 

 هناك
العديدُ من المسيحيين الذين ليسوا برؤساءَ، وقد يبلغون إلى الله بطُرُقٍ أسهلَ من
طرقِنا ويسيرون بعزمٍ وقوةٍ بسببِ قلة المسؤوليةِ التي يتحمَّلونها. أما نحن، فما
عدا الحسابَ الذي سنؤدِّيه لأننا مسيحيون، سنؤديِ أيضاً حساباً عن رعاتِنا

 

“المسيحيون
الضعاف”

 “لا
تُقوُّونَ الضَّعِيفةَ” (حزقيال34/ 4)، يقولُ الرب. يقولُ ذلك للرعاةِ
الأشرار، الرعاةِ المزيَّفين، الرعاةِ الذين يطلبون ما هو لأنفسِهم، لا ما هو
ليسوعَ المسيح، والذين يتنعَّمون بحليبِ الخرافِ وصوفِها، مع أنَّهم لا يُولُون
الخرافَ أيةَ عناية، ولا يقوون المريضة وإني أرى عَلاقةً بين الضعيفِ أعني الفاقدِ
قِواه، والمريضِ أي الفاقدِ عافيتهُ، (لأن المريضَ يُقالُ له “ضعيف”) .

 

 هذه
المعاني التي أحاولُ أن أميِّزَ بينَها، أيها الأخوة، بقَدرِ المستطاع، قد تحتاجُ
إلى جهدٍ أكبرَ لتتضحَ أمامَنا بدقةٍ أكبر. وقد يكونُ غيرُنا أكثرَ مهارةً منّا،
وفي قلبهِ مزيدٌ من النور، وقد يوَضِّحُها بصورةٍ أدقَّ . على كل حالٍ لا تنخدعوا.
ما أفهمهُ أنا من كلماتِ الكتابِ المقدَّسِ أبينهُ لكم . الضعيفُ هو الذي نخافُ
عليه أن يقعَ في التجربة فينكسر . أما المريضُ فهو مصابٌ بشهوةٍ ما، وتمنعُه هذه
الشهوةُ من الدخولِ في طريقِ اللهِ والخضوعِ لِنيرِ يسوعَ المسيح.

 

 انظروا
إلى هؤلاء الناسِ الذين يريدون أن يَحيَوْا حياةً حسنة، وقد قرَّروا ذلك، ولكنَّ
مقاومتَهم للشرَّ هي دون مقدرتِهم على عملِ الخير. لا تقومُ القوةُ المسيحيةُ
بعملِ الخيرِ فقط، بل وبمقاومةِ الشرِّ أيضاً . فالذين يندفعون إلى أعمالِ البرِّ،
ولكنهم لا يريدون أو لا يقدرون أن يصمدوا في وجهِ الأهواءِ المهدِّدة، هؤلاء هم
الضعاف . ومُحبُّوا العالمِ المصابون بشهوةٍ في النفسِ شريرةٍ تَرُدُّهم عن عملِ
الخيرِ هم المرضى والمعتلُّون، وقد أصبحوا عديِمي القوةِ بسببِ هذا المرضِ نفسِه،
ولا يقدرون أن يعملوا أيَّ خير.

 

 هكذا
كانَ المخلّعُ في نفسهِ، عندما لم يقدِرْ حاملوه أن يضعوه أمامَ الربِّ، فنقبوا
السقفَ ووضعوه أمامَه. ومثلُ المخلّعِ هو مثلُكَ . فكأنك تريدُ أن تصنعَ ذلك أنت
أيضاً في نفسك، فتفتحَ السقفَ وتضعَ نفسَك المقعدةَ أمامَ الرب، وقد تحلَّلَت
جميعُ قِواها، وخَلَتْ من كلِّ عملٍ صالح، بل أُثقِلتْ بالخطايا وأقعدَها مرضُ
الشهوة. فإذا كانتِ الأعضاءُ كلُّها متحلِّلة، وكانَ الشللُ في داخلِ النفس، وإذا
أردتَ أن تصلَ إلى الطبيبِ لتشرحَ له ما هو خافٍ، انقُبِ السقفَ وضَعِ المخلَّعِ
أمامَ الربِّ، (أي انقُبْ سقفَ نفسِك وادخُلْ) لأن الطبيبَ مختفٍ في داخلكَ: كما
أنَّ المعنى الحقيقي مختفٍ في الكتابِ المقدَّسِ.

 

 الذين
لا يعلمون ذلك أو يتردَّدون في عملِ ذلك، فقد سمعتم ما قيل لهم ليسمعوه: “لم
تُداوُوا المريضةَ، ولم تجبُرُوا المكسورة”. (حزقيال34/ 4). سبقَ وقُلنا ذلك .
وإنَّ المكسورَةَ التي نتكلَّمُ عليها هي التي حطَمتَهْا التجارب. وهنا وسيلةٌ
يعالجُ بها الكسرُ، وهي هذا الوعدُ وهذا العزاء: “إنَّ الله أمينٌ، فلن
يأذَنَ أن تُجرَّبوا بما يفوقُ طاقَتَكمُ . بَل يُؤتِيكُم مَعَ التجربةِ وسيلةً
للخروجِ مِنهَا بالقدرةِ على تَحَمُّلِهَا” (1قورنتس10/ 13).

 

في
المزامير

يسوع
يصلي من أجلنا وهو يصلي فينا وبنا

 ”
لا يقدرُ اللهُ أن يعطيَ الناسَ هبةً أكبرَ من أن يقيمَ رأساً لهم كلمته الذي به
خلقَ كل شيءٍ، ويُقيمَهم أعضاءً له، فيكونَ ابنُ اللهِ وابنُ الإنسانِ معاً، إلهاً
واحداً مع الآبِ، وإنساناً واحداً مع الناسِ. فإذا توجهنا إلى الآبِ ضارعين، لا
نفصلُ الابنَ عنه، وإذا صلَّى الجسدُ لم يَفصِلْ نفسه عن رأسه، الذي هو المخلِّصُ
الوحيدُ لجسدهِ، ربُّنا يسوعُ المسيح، ابن اللهِ الذي يصلِّي من أجلنا، ويُصلِّي
فينا ونصلِّي نحن إليه.

 

 يُصلي
من أجلنا لكونه حبرنا. ويصلي فينا لكونِه رأسنا. ونصلي نحن إليه لكونِه إلهنا.
فلنتعرف فيه على أنفسنا ولنسمعْ أصواتنا وتوسلاتنا، في صورتهِ وتوسلاته فينا. قد
نقرأ شيئاً عن يسوع المسيح، ولا سيما في النبؤات، فيه تنازلٌ وتواضعٌ قد نراه غير
لائقٍ بالعزةِ الإلهية. ومع ذلك يجب ألا نترددَ في نسبيتهِ إليه، كما أنه لم
يترددْ هو بأن يكونَ واحداً منَّا، مع أنَّ الخليقةَ كلها تخدُمُهُ، لأنَّ الكونَ
كلَّه به خُلِقَ ووجدَ.

 

 ولهذا
لدى سماعنا هذه الآيات: ” في البدء كانَ الكلمةُ، والكلمةُ كانَ لدى الله،
والكلمةُ هو الله. كانَ في البدءِ لدى الله، بهِ كانَ كلُّ شيءٍ، وبدونهِ ما كانَ
شيءٌ ممَّا كانَ ” (يوحنا1/1-3)، نتأملُ في ألوهيته وفي سموهِ، نتأملُ في
ألوهيةِ ابنِ اللهِ التي نسمَعُه أيضاً في مكانٍ آخر من الكتابِ المقدسِ يَبكي
ويُصلي ويُسَبِّحُ الله.

 

 وقد
نترددُ في نسبةِ مثلِ هذا الكلامِ إليه، لأنه يَصعبُ على فكرنا الغارقِ في التأملِ
في الألوهيةِ أن ينحدرَ فيقبلَ تنازله وتواضعَه ونشعرُ وكأننا نوجِّهُ إليه
الإهانةَ إذا ما قبِلْنا أن ننسبَ إليه تلك الكلماتِ التي تلفظَ بها كإنسانٍ،
والتي كانَ يوجِّهُها إلى الله حين كان يتوسلُ إليه، فَنحَارُ ونحاولُ تبديلَ
المعنى. مع أنَّ الكتابَ لا يَنسِبُ إليه إلا ما نَسَبَ هو إلى نَفسِه. ومن ثمَّ
لا يجوزُ فيه التحويرُ أو التبديل.

 

 لِنستِفقْ
إذاً وليتنبهْ إيماننا، فنرى أنَّ مَن كنا نتأملُ فيه قبلَ قليلٍ في صورةِ اللهِ
قد أخذَ صورةَ العبدِ. وصارَ شبيهاً بالإنسانِ وإنساناً مثل كلِّ إنسانٍ، فتواضعَ
وأطاعَ حتى الموتِ. ولما عُلقَ على الصليبِ قال بكلماتِ المزمورِ: ” إلهي،
إلهي، لماذا تركتني؟ ” (مزمور22/ 1).

 

 كإلهٍ
نصلي نحن إليهِ. وكإنسانٍ في صورةِ العبدِ هو يصلي إلى الله. وقد اتخذَ من غيرِ أن
يتبدلَ الخليقةَ التي كانَ من الواجبِ تبديلها، وجعلنا معه إنساناً واحداً، هو
الرأسُ ونحن الجسدُ. ولهذا نُصلي إليه وبه وفيه ومعه نقولُ وهو يقولُ معَنا

 

بتجربة
المسيح جُرِّبنا نحن أيضاً، وبه هزمنا إبليسَ

 ”
اللهُمَّ استمِعْ لِصُرَاخي. أصغِ إلى صَلاتِي ” (مزمور61/ 1). منِ المتكلمُ؟
يبدو أنه واحد. انظر هل هو واحد؟ يقول: “من أقاصي الأرضِ أدعُوكَ، إذا خارَ
فؤادي” (61/ 2). ليسَ شخصاً واحداً. ولكنه يَبدو كذلك، لأنَّه المسيحُ وهو
واحد، ونحن جميعاً أعضاؤه. لأنه من هو الإنسانُ الواحدُ الذي يدعو من أقاصي الأرض؟
لا يدعو من أقاصي الأرض إلا ذلك الميراثُ الذي قِيلَ فيه للابنِ نفسه: “سلني
فأعطيكَ الأممَ ميراثاً، وأقاصيَ الأرضِ مِلكاً” (مزمور2/ 8).

 

 هذا
هو مِلكُ المسيح، هذا هو ميراثُ المسيح، هو جسدُ المسيح، هي كنيسةُ المسيحِ الواحدة.
وهذه الجماعةُ الواحدة، وهي نحن، تدعو من أقاصي الأرض. ماذا تقول؟ ما قُلْتُه
سابقاً: ” اللهُمَّ استَمِعْ لِصراخي. أصغِ إلى صَلاتِي. من أقاصي الأرضِ
أدعوكَ” (مزمور61/ 1و2). أعني: حين أدعوكَ فأنا أدعوكَ من أقاصي الأرض، أي من
كلِّ مكان.

 

 ولكن
لماذا أدعوكَ هكذا؟ أدعوكَ ” إذا خارَ قلبي”. يبينُ بذلك أنَّ الأممَ
جميعَها في الأرضِ كلِّها ليستْ في مجدٍ عظيمٍ، بل في محنةٍ كبيرة.

 

 ولا
يمكنُ أن تخلوَ حياتُنا في غربتنا الأرضيةِ هذه من المحنةِ أو التجربة. لأنَّ
تقدُّمنا يتمُّ عن طريقِ التجربة. ولا أحدَ يقدرُ أن يعرفَ نفسَه إلا إذا مرَّ
بالتجربة، ولا يمكن أن يُكلَّلَ بالمجدِ إلا إذا غلَبَ. ولا يمكنُ أن يغلبَ إلا
إذا جاهد، ولا يمكن أن يجاهدَ إلا إذا عرضَ له أعداءٌ وتجاربُ.

 

 “خار
قلبُه” إذاً هذا الذي يدعو من أقاصي الأرض، ولكنه لم يُخذل لأنَ يسوعَ
المسيحَ أرادَ أن يكونَ صورةً سابقةً لنا، نحن جسدَه في ما خضعَ له في جسده: فيه
ماتَ وقامَ وصعدَ إلى السماء، حتى تطمئنَّ أنه حيثُ يكونُ الرأسُ قد سبقنا، هناك
أيضاً تتبعه ولهذا حولنا بضيائه، لما أرادَ أن يجربَ على يد إبليس. قرأنا الآن في
الإنجيل المقدس أن ربنا يسوعَ المسيحَ كانَ يُجربُ في البرية على يدِ إبليس. نعم
جربَ يسوعُ على يد إبليس. ومع المسيح أنت جُربتَ، لأن المسيحَ منكَ أخذَ لذاتهِ
جسداً، ومن ذاتهِ وهبَ لك الخلاص. منك أخذَ الموت، ومنه كانت لك الحياة

 

 منكَ
له الإهانات، ومنه لك الكرامة. منك له التجربة، ومنه كان لك النصر. فإن جربنا معه،
فمعه نحن سوف ننتصرُ على إبليس. أتعرفُ أن يسوعَ جُرِّبَ، ولا تعرفُ أنه انتصر؟
اعرفْ أنك أنت جُربتَ معه، واعرفْ أنك ستنتصرُ معه. كانَ بوسعهِ أن يمنعَ الشيطانَ
من الاقترابِ منه. ولكنه لو لم يُجربْ لما علَّمك كيف تنتصرُ حينَ تُجرَّبُ.

 

في
انجيل معلمنا يوحنا

كمال
المحبة

 أيها
الأخوةُ الأعزاء، لقد عرَّفَ الربُّ كمالَ المحبةِ التي بها يجبُ أن نحبَّ بعضنا
بعضاً حينَ قال: “ليسَ لأحدٍ حبٌ أعظمُ من أن يبذلَ نفسهُ في سبيلِ
أحبائهِ” (يوحنا15/ 13). وبناءً على ذلك قالَ القديسُ يوحنا نفسه في رسالتهِ:
” وإنما عرفنا المحبةَ بأن ذاكَ قد بذلَ نفسهُ في سبيلنا، فعلينا نحنُ أيضاً
أن نبذلَ نفوسَنا في سبيلِ إخوتنا (1يوحنا3/ 16).

 

 وهذا
ما نقرأه في سفرِ أمثالِ سليمان: “إذا جلستَ تأكلُ مع قويٍّ، فتأملْ أشدَّ
التأملِ في ما هو أمامَك، ثم اغمس بيدكَ واعلم أنك يجبُ أن تهيئَ طعاماً
مثله” (ر.أمثال23/ 1-2). وما هي مائدةُ القويِّ إلا حيث يُؤخذُ جسدُ المسيحِ
ودمُه الذي بذله من أجلنا؟ وما معنى أن نجلسَ إليها إلا أن نتقدَّمَ منها بتواضع؟
وما معنى “تأمل أشدَّ التأملِ في ما هو أمامَك”، إلا أن تتأملَ في عظمِة
هذه النعمة؟ وما معنى “اغمس بيدكَ، واعلمْ أنك يجبُ أن تهيئَ طعاماً
مثلَه”، إلا ما قلته سابقاً: أي كما أنَّ المسيحَ بذلَ نفسَه في سبيلنا كذلك
يجبُ أن نبذلَ نفسَنا في سبيل إخوتنا؟ قالَ القديسُ بطرسُ الرسول: “تألمَ
المسيحُ أيضاً من أجلِكُم، وتركَ لكم مِثالاً لتقتفوا آثارهُ” (بطرس2/ 21).
هذا ما تعنيه العبارةُ “هيئْ طعاماً مثلَه”. هذا ما صنعه الشهداءُ
الطوباويون بمحبتهم المضطرمة. وإذا أردنا ألا يكونَ إكرامُنا لهم عَبثاً، وأن
نتقدمَ نحن أيضاً من الوليمةِ التي شبعوا منها على مائدةِ الرب، يجبُ أن نهيئَ أنفسنا
كما هيأُوا هم أيضاً أنفسهم.

 

 لا
نذكرهم على المائدة المقدسة كما نذكرُ سائرَ الراقدين في سلام، فنصلي من أجلهم، بل
بالأحرى نسأُلهم أن يصلوا هم من أجلنا لنقتفي آثارهم. لأنهم هم تمموا المحبةَ التي
قالَ فيها الربُّ إنه لا يمكنُ أن يكونَ محبةٌ أعظمُ منها. فقد هيأوا لإخوتهم مثلَ
ما تناولوه من مائدة الرب.

 

 ولا
أريدُ أن أقولَ بهذا الكلام إننا نقدرُ أن نكونَ شبيهين بالمسيح، حتى لو توصلنا
إلى سفكِ الدمِ بالاستشهادِ من أجلِه. هو كان بوسعهِ أن يبذلَ نفسَه، وأن يستعيدها
من جديد. أما نحن فلا نعيشُ بقدرِ ما نريد، ونموتُ حتى وإن لم نردْ. هو لما ماتَ
أزالَ الموتَ بموتهِ، ونحن نُحرَّرُ من الموتِ بموتهِ. جسدُه لم يَرَ الفناء، وأما
جسدُنا فبعدَ أن يَغشاه الفساد، يَلبَسُ اللافسادَ في نهايةِ الدهر. هو لم يكنْ
بحاجةٍ إلينا لكي يخلصنا، وأما نحن فمن دونه لا نقدرُ أن نعملَ شيئاً. هو كانَ لنا
الكرمةَ ونحن الأغصان، ونحن من دونه لا نقدرُ أن نجدَ الحياة.

 

 وأخيراً،
ولوماتَ الإخوةُ عن الإخوة، فإنَّ الدمَ الذي يسفكه أي شهيدٍ لا يفيدُ لمغفرةِ
خطايا الإخوة، وأما هو فقد فعلَ ذلك. وبذلك منحنا لا ما نقتدي به بل ما نشكرُه
عليه. فعندما يبذلُ الشهداءُ دَمَهم في سبيلِ إخوتهم، فهذا حتى الآن سدادٌ بدلَ ما
أخذوه من مائدةِ الرب. لُنحِبَّ إذاً بعضنا بعضاً كما أحبَّنا المسيحُ وبذلَ نفسَه
من أجِلنا.

 

يوحنا
هو الصوت والمسيح هو الكلمة

 “يوحنا
(المعمدان) هو الصوت. والربُّ هو الكلمةُ الذي كانَ في البدء (يوحنا1/ 1). يوحنا
صوتٌ عابرٌ، والمسيحُ هو الكلمةُ الأزلي الكائنُ منذُ البدء.

 

 إذا
زالَ الكلمة، فماذا ينفعُ الصوت؟ حيث لا يوجدُ معنىً مفهوم، فما تبقى هو ضجيجٌ لا
معنى له. الصوتُ من غير الكلمةِِ يقعُ في الأذن، ولكنه لا يمسُّ القلب.

 

 ولننظرْ
كيفَ تَجري الأمورُ إن أردنا أن نفكرَ في قلبنا. إذا فكرتُ في ما أقولُ، فالكلمةُ
هي في قلبي. وأمَّا إذا أردتُ أن أكلمكَ، فأنا أبحثُ كيف أضعُ في قلبكَ ما هو
أيضاً في قلبي.

 

 حين
أبحثُ كيف أوصِّلُ إليكَ الكلمة، وكيف أُدخِلُها في قلبِك، أستخدمُ الصوت،
وبالصوتِ أكلمُك. رنينُ الصوتِِ يوصلُ إليكَ معنى الكلمة. وبعدَ أن يوصلَ إليك
رنينُ الصوتِ معنى الكلمة، ينقطعُ الرنينُ ويغيبُ. وأما الكلمةُ التي وصَّلَها
إليكَ الرنينُ فهي الآن في قلبكَ، وفي الوقتِ نفسه لم تَبتَعدْ عن قلبي.

 

 أولاً
يبدو لكَ أنَّ رنينَ الصوتِ الذي وصلَ إليكَ الكلمةَ ثم غابَ يُشبهُ مضمونَ هذا
الكلام: “لا بُد لهُ من أن يكبُرَ، ولا بُدَّ لي من أن أصغُرَ”.
(يوحنا3/ 30). رنينُ الصوتِ أحدثَ ضجيجاً وأدى خدمةً إذ وصلَ المعنى ثم غاب. وكأنه
يقول أيضاً: “هوذا فَرحي قد تمَّ ” (يوحنا3/ 29). لنحفظِ الكلمة. لا
نفقدِ الكلمةَ التي تكوَّنتْ في القلب.

 

 أتريدُ
أن ترى صوتاً عابراً بينما بقيتْ ألوهيةُ الكلمة؟ أين هي الآن معموديةُ يوحنا؟ لقد
أدَّى خدمةً ثم غاب. أما معموديةُ المسيح فإننا نَقْبلُها حتى اليوم. كُّلنا نؤمنُ
بالمسيح، ونرجو الخلاصَ من المسيح: هذا ما قاله الصوت. وبما أنّه من الصعبِ
التمييزُ بينَ الصوتِ والكلمة، حسبَ الناسُ أنَّ يوحنا هو المسيح. حَسبوا أنَّ
الصوتَ هو الكلمة. ولكنَّه عرَّف بنفسه أنّه الصوتُ فقط، لكي لا يكونَ عائقاً دونَ
معرفةِ الكلمة. قال: “لستُ المسيحَ ولا إيليا ولا النبي “. فأجابوه: “من
أنت “؟ قال: “أنا صوتُ منادٍ في البرية “، أنا صوتٌ يصرخ في الصمت:
“أعدُّوا طريقَ الرب “. وكأنه يقول: أنا موجودٌ لكي أدخلَ الكلمةَ في
القلب. أريدُ أن أوصِّلَ الكلمة. إلا أنّه لا يأتي إلا إذا أعددْتُمُ الطريق.

 

 ما
معنى: “أعدُّوا الطريق”؟ معناه: صلُّوا كما يجب أن تكونَ الصلاة. ما
معنى “أعدُّوا الطريق”؟ معناه تواضعوا في فكرِكم. ومنه تعلَّموا مثالَ
التواضع. حسِبَ الناسُ أنه المسيح، فقالَ إنّي لستُ كما تَحسَبُون، فلم يستغلَّ
ضلالَ غيرهِ ليصنعَ لنفسهِ مجداً.

 

 لو
قال: أنا المسيحُ لآمنوا به بسهولة، لأنهم كانوا يصدِّقون ما يقولُ حتى قبلَ أن
يتكلَّمَ. ومع ذلك لم يقلْ، بل عرَّفَ نفسَه، وميَّزَ نفسَه، ووضعَ نفسَه.

 

 رأى
أين يجدُ الخلاصَ، وعرَفَ أنه قِنديلٌ يُضيء، وخافَ أن تُطفِئه ريحُ الكبرياء.

 

جاءت
امرأة من السامرة تستقي

 “جاءتِ
امرأةٌ” (يوحنا4/ 7). هذه المرأةُ هي صورةُ الكنيسةِ، لا المبررةِ بل التي
يجبُ أن تُبررَ بعدُ. موضوعُ الكلامِ هو هذا: جاءتْ جاهلةً، فوجدتهُ، وأخذَ يسوعُ
يُكلمُها. لِنرَ كيف ولماذا جاءتِ “امرأةٌ منَ السامرةِ تستقي ماءً” لم
يكُنِ السامريونَ يَختلطون مع اليهود. كانوا غرباءَ عنهم. هذه المرأةُ قادمةٌ من
بينِ الغرباءِ، فهي لذلك صورةٌ للكنيسة. لأنَّ الكنيسةَ سوف تأتي من الأممِ
الغريبةِ عن اليهود.

 

 لنسمعْ
أنفسنا في كلامها، ولنتعرفْ على أنفسنا فيها، ولنحمدِ الله فيها من أجل أنفسِنا.
هي صورةٌ لا حقيقية. كانت هي أولاً الصورةَ ثم تَمتِ الحقيقة: فلما آمنتْ به
صارَتْ لنا رمزاً. “جاءَت تستقي”. جاءت بكل بساطةٍ تستقي ماءً كما
اعتادَ الرجالُ أو النساءُ الاستقاءَ.

 

 قالَ
لها يسوع: اسقيني. وكانَ التلاميذُ قد مضوا إلى المدينةِ ليشتروا طعاماً. فقالت له
المرأةُ السامريةُ: كيفَ تسألني أن أسقيكَ وأنتَ يهوديٌّ وأنا امرأةٌ سامريةٌ؟ لأن
اليهودَ لا يخالطونَ السامريينَ ” (يوحنا4/ 7-9).

 

 إنها
من الغرباء. ولم يكنِ اليهودُ يستخدمون حتى آنيتهم. كانَ مع المرأة دلوٌ تستقي به
الماءَ، وقد دهِشَتْ لما سمعتْ يهودياً يطلبُ منها أن يشرب: فليستْ تلك عادةَ
اليهود. أما هو الذي طلبَ أن يشربَ فقد كان عطِشاً إلى ايمانها.

 

 واسمعْ
أيضاً ماذا يطلبُ إذ طلبَ أن يشربَ. “أجابها يسوعُ: لو كنتِ تعرفينَ عطاءَ
الله، ومن هوَ الذي يقولُ لكِ “اسقيني”، لسألتهِ أنتِ فأعطاكِ ماءً
حياً” (أية10).

 

 طلبَ
أن يشربَ ووعدَ أن يسقيَ. هو محتاجٌ ويبحثُ عمن يَسقيهِ، ولكنه أيضاً غنيٌ ويبحثُ
عمن يُغنيه فيُرويه بغناه. وظلَّ يتكلمُ مع المرأةِ بكلامٍ ضمنيِّ وغامضِ. حتى
دخلَ شيئاً فشيئاً في قلبها، فأظهرَ لها نعمةَ الله. أي حديثٍ ألطفُ وأعذبُ من هذا
الحديث؟ ” لو كنتِ تعرفينَ عطاءَ الله، ومن هو الذي يقولُ لكِ ” اسقيني
“، لسألتهِ أنتِ فأعطاكِ ماءً حياً ” (أية10).

 

 وأي
ماءٍ سوف يُعطي إلا الماءَ الذي قالَ فيه المزمورُ: ” إنَّ ينبوعَ الحياةِ
عندكَ ” (مزمور35/ 10). وكيف يعطشُ هؤلاءِ الذين ” من دسمِ بيتكَ
يشبعونَ ” (مزمور35/ 9). فقد وعدَ بالماءِ الغزير، والروحِ القدسِ الذي يروي،
إلا أنها لم تفهمْ ولأنها لم تفهمْ أجابتْ فقالتْ: “ياربُّ، أعطيني هذا
الماءَ، لكي لا أعطشَ فأعودَ إلى الاستقاءِ من هنا” (أية15). حاجتها
اضطرَّتْها إلى العمل، ولكنَّ كسلها كان يرفضُ العملَ. ياليتها سمعتْ ما قالَ
قبلاً: ” تعالوا إلي جميعاً، أيها المرهقونَ المثقلونَ، وأنا أريحكم ”
(متى11/ 28). هذا ما كانَ يقولهُ لها يسوعُ الآنَ حتى لا تتعبَ بعد الآن. أما هي
فلم تفهَمْ.

 

من
الرسالة إلى بروبا

“لا
نعرف كيف نصلّي كما يجب”

 قد
تريدُ أن تسألَ لماذا قالَ الرسول: “إنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كَمَا
يَجبُ” (روما 8/ 26). لا يمكننا أن نصدِّقَ أنه كان يجهلُ الصلاةَ الربية، هو
نفسُه أو من كانَ يوجِّهُ إليهِم كلامَه.

 

 الرسولُ
نفسُه لم يستبعِدْ عن نفسِه هذا الجهلَ، لأنه هو أيضاً لم يعرفْ كيفَ يُصلِّي كما
يجبُ، لمّا ابتلاه اللهُ “بشوكةٍ في الجسدِ رسولٍ للشيطانِ وكلَ إليه أن
يَلطِمَه لئلا يتكبَّرَ” (2 قورنتس 12/ 7) بسببِ عظمة الوحيِ الذي كشفَه الله
له. “فسألَ الله ثلاثَ مراتٍ أن يُبعِدَ عنه ذلك” (2 قورنتس 12/ 8). فلم
يَعرفْ كيف يصلِّي كما يجب. حتى أجابَه اللهُ أخيراً وبيَّنَ لهذا الرجلِ العظيمِ
لماذا لا يتِمُّ له ما كانَ يسألهُ بحرارة، ولماذا لم يكُنْ من المفيدِ أن يكونَ
له ذلك، فسمِعَ الله يقولُ له: “حَسبُكَ نعمتي. فإنَّ القُدرةَ تَبلُغُ
الكَمالَ في الضُّعفِ” (روما 12/ 9).

 

 ففي
هذه الشدائدِ التي يمكن أن تُفيدَ وأن تَضُرَّ لا نعرفُ أن نُصلي كما يجب. ولكننا
أمامَ الصعوباتِ والمشقَّاتِ والضعفِ الذي فينا، فإننا جميعاً بحكمِ طبيعتِنا
البشريةِ نُصلي ونسألُ أن تبعُدَ عنا تلكَ الشدائد. ومع ذلك، إن لم يُبعِدهْا
اللهُ عنّا، تَفرِضُ علينا مشاعرُ التقوى ألا نظُنَّ أنَّ الله يُهمِلُنا لذلك، بل
بصبرنا على الشدائدِ نرجو الحصولَ على خيراتٍ أوفر. هكذا “فإنَّ القُدرةَ
تَبلغُ الكمالَ في الضعفِ” . كُتِبتْ هذه الأمورُ حتى لا يَظُنَّ أحدٌ نفسَه
شيئاً كثيراً إذا ما استُجيبَتْ صلاتُه. وقد يَطلُبُ شيئاً بإلحاحٍ وكانَ من
الأفضلِ ألا يطلُبه. وقد يصابُ بالإحباطِ أو اليأسِ من رحمةِ الله إن لم تُستَجَبْ
صلاتُه، مع أنه يكونُ قد طلبَ شيئاً لو نالَه لنجمَ له عنه مضرَّةٌ أكبرُ، أو
لكانَ النجاحُ أفسدَه فساداً كاملاً وحوَّلَه عمّا هو عليه. في هذه الحالاتِ نحن
لا نعرفُ أن نصلِّي كما يجب .

 

 فإذا
حصلَ شيءٌ عكسَ ما نطلبُ في صلاتِنا، يجبُ أن نصبرَ عليه ونحمدَ الله في كلِّ حال،
ويجبُ ألا نشُكَّ لحظةً واحدةً أن الأمرَ المناسبَ هو أن تتِمَّ مشيئةُ اللهِ لا
مشيئتنا. قَدَّمَ لنا مثالاً على ذلك وسيطُنا لدى اللهِ لما قالَ: “يا أبتِ،
إن أمكنَ الأمرُ، فلتبتعِدْ عَنّي هذهِ الكأسُ”. ثم بدَّلَ ما في إرادتهِ
البشريةِ التي اتخذَها حينَ صارَ إنساناً، فقالَ: “ولكنْ لا كمَا أنَا أشاءُ،
بَل كَمَا أنتَ تَشاءُ” (متى 26/ 39) . ولهذا بحقٍّ نقولُ: ” إنّه
بطاعةِ واحدٍ نالَ الخلاصَ كثيرون ” (ر. روما 5/ 19).

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى